تخطى إلى المحتوى

الصلاة وأحكام تاركها 2024.

الصلاة وأحكام تاركها

تاليف : الشيخ الإمام العالم الأوحد البارع أوحد الفضلاء، وقدوة العلماء، وإرث الأنبياء، شيخ الإسلام، مفتي الأنام، المجتهد، المفسر، المتفنن، النحوي، جرئ الجنان أبو عبد الله شمس الدين محمد بن أبي بكر المعروف بابن القيم الجوزية رحمه الله

عشرة مسائل تتعلق بالصلاة

الأولى
ذنب ترك الصلاة أعظم من القتل والزنا

بسم الله الرحمن الرحيم

قال الشيخ الإمام العلامة ناصر السنة وقامع البدعة الشيخ شمس الدين محمد بن أبي بكر الحنبلي المعروف بابن قيم الجوزية رضي الله عنه وأرضاه وجعل جنة الخلد متقلبه ومثواه.

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا من يهد الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له واشهد أن لا إله إلا الله واشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وسلم تسليما كثيرا.

لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدا من اعظم الذنوب وأكبر الكبائر وأن اثمه ثم الله أعظم من إثم قتل النفس وأخذ الأموال ومن إثم الزنا والسرقة وشرب الخمر وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة ثم اختلفوا في قتله وفي كيفية قتله وفي كفره.

فأفتى سفيان بن سعيد الثوري وأبو عمرو الأوزاعي وعبدالله بن المبارك وحماد بن زيد ووكيع بن الجراح ومالك بن أنس ومحمد بن إدريس الشافعي وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه واصحابهم بأنه يقتل ثم اختلفوا في كيفية قتله فقال جمهورهم يقتل بالسيف ضربا في عنقه وقال بعض الشافعية يضرب بالخشب إلى ان يصلي أو يموت وقال ابن سريج ينخس بالسيف حتى يموت لأنه ابلغ في زجره وأرجى لرجوعه.

والجمهور يحتجون بقوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله كتب الإحسان في كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة" وضرب العنق بالسيف أحسن القتلات وأسرعها إزهاقا للنفس وقد سن الله سبحانه في قتل الكفار المرتدين ضرب الأعناق دون النخس بالسيف وإنما شرع في حق الزاني المحصن القتل بالحجارة ليصل الألم إلى جميع بدنه حيث وصلت إليه اللذة بالحرام ولأن تلك القتلة أشنع القتلات والداعي إلى الزنا داع قوي في الطباع فجعلت غلظة في مقابلة قوة الداعي ولأن في تذكيرا لعقوبة الله لقوم الفاء بالرجم بالحجارة على ارتكاب الفاحشة.

"فصل"
وقال ابن شهاب الزهري وسعيد بن المسيب وعمر بن عبدالعزيز وابو حنيفة وداود بن علي والمزاني يحبس حتى يموت أو يتوب ولا يقتل واحتج لهذا المذهب بما رواه أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "امرت أن اقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها" رواه البخاري.
وعن ابن مسعود قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه المفارق للجماعة". أخرجاه في الصحيحين.

قالوا ولأنها من الشرائع العملية فلا يقتل بتركها كالصيام والزكاة والحج قال الموجبون لقتله قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ} فأمر بقتلهم حتى يتوبوا من شركهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ومن قال لا يقتل تارك الصلاة يقول متى تاب من شركه سقط عنه القتل وإن لم يقم الصلاة ولا آتى الزكاة وهذا خلاف ظاهر القرآن.

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال بعث علي ابن أبي طالب رضي الله عنه وهو ظاهرا إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهيبة فقسمها بين أربعة فقال رجل يا رسول الله اتق الله فقال: "ويلك ألست أحق أهل الأرض أن يتقي الله" ثم ولى الرجل فقال خالد ابن الوليد يا رسول الله ألا‎أضرب عنقه فقال: "لا لعله أن يكون يصلي" فقال خالد فكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إني لم أؤمر ان أنقب عن قلوب الناس ولا أشق بطونهم" فجعل النبي صلى الله عليه وسلم المانع من قتله كونه يصلي فدل على أن من لم يصل يقتل ولهذا قال في الحديث الآخر نهيت عن قتل المصلين أبو داود رقم والطبراني في الكبير مجمع الزوائد وهو يدل على المصلين لم ينهه الله عن قتلهم.

وروى الإمام أحمد والشافعي في مسنديهما مسند الإمام أحمد و مسند الإمام الشافعي رقم من حديث عبيدالله بن عدي بن الخيار أن رجلا من الأنصار حدثه أنه اتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو في مجلس فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أليس يشهد أن لا إله إلا الله" فقال الأنصاري: بلى يا رسول الله ولا شهادة له قال: "أليس يشهد أن محمدا رسول الله" قال: بلى ولا شهادة له قال: "أليس يصلي الصلاة" قال: بلى ولا صلاة له قال: "أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم" فدل على أنه لم ينهه عن قتل من لم يصل.

وفي صحيح مسلم رقم عن ام سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنه يستعمل عليكم أمراء فتعرفون وتنكرون فمن انكر فقد بريء ومن كره فقد سلم ولكن من رضي وتابع" فقالوا يا رسول الله ألا نقاتلهم فقال: "لا ما صلوا".
وفي الصحيحين من حديث عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله". فوجه الاستدلال به من وجهين أحدهما أنه أمر بقتالهم إلى أن يقيموا الصلاة الثاني قوله: "إلا بحقها" والصلاة من أعظم حقها.

وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ثم قد حرمت علي دماؤهم وأموالهم وحسابهم على الله". رواه الإمام أحمد المسند وابن خزيمة في صحيحه رقم فأخبر صلى الله عليه وسلم أنه امر بقتالهم إلى أن يقيموا الصلاة وأن دماءهم وأموالهم إنما تحرم بعد الشهادتين وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة فدماؤهم وأموالهم قبل بل هي مباحة.

وعن أنس بن مالك قال لما توفي رسول الله ارتد العرب فقال عمر يا أبا بكر كيف تقاتل العرب فقال أبو بكر إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". رواه النسائي وهو حديث صحيح.
وتقييد هذه الأحاديث يبين مقتضى الحديث المطلق الذي احتجوا به على ترك القتل مع‎ أنه حجة عليهم فإنه لم يثبت العصمة للدم والمال إلا بحق الإسلام والصلاة آكد حقوقه على الاطلاق.
وأما حديث ابن مسعود وهو لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث البخاري رقم مسلم رقم فهو حجة لنا في المسألة فإنه جعل منهم "التارك لدينه" والصلاة ركن الدين الأعظم ولا سيما إن قلنا بأنه كافر فقد ترك الدين بالكلية وإن لم يكفر فقد ترك عمود الدين.

قال الإمام أحمد وقد جاء في الحديث لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة راجع طبقات الحنابلة وقد كان عمر بن الخطاب يكتب إلى الآفاق إن أهم أموركم عندي الصلاة فمن حفظها حفظ دينه ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع ولاحظ في الإسلام لمن ترك الصلاة.

قال فكل مستخف بالصلاة مستهين بها فهو مستخف بالإسلام مستهين به وإنما حظهم من الإسلام على قدر حظهم من الصلاة ورغبتهم في الإسلام على القادر رغبتهم في الصلاة فاعرف نفسك يا عبدالله واحذر أن تلقي الله ولا قدر للإسلام عندك فإن قدر الإسلام في قلبك كقدر الصلاة في قلبك.

وقد جاء الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصلاة عمود الدين" المقاصد الحسنة رقم ألست تعلم أن الفسطاط إذا سقط عموده سقط الفسطاط ولم ينتفع بالطنب ولا بالأوتاد وإذا قام عمود الفسطاط انتفعت بالطنب والأوتاد وكذلك الصلاة من الإسلام.

وجاء في الحديث "إن أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة من عمله صلاته فإن تقبلت منه صلاته تقبل منه سائر عمله وإن ردت عليه صلاته رد عليه سائر عمله" مجمع الزوائد فصلاتنا آخر ديننا وهي أول ما نسأل عنه غدا من اعمالنا يوم القيامة فليس بعد ذهاب الصلاة إسلام ولا دين إذا صارت الصلاة آخر ما يذهب من الإسلام هذا كله كلام أحمد. والصلاة أول فروض الإسلام وهي آخر ما يفقد من الدين فهي أول الإسلام وآخره فإذا ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه وكل شيء ذهب أوله وآخره فقد ذهب جميعه. قال الإمام أحمد كل شيء يذهب آخره فقد ذهب جميعه، فإذا ذهبت صلاة المرء ذهب دينه والمقصود أن حديث عبدالله بن مسعود: "لا يحل دم امريء مسلم إلا بإحدى ثلاث الثيب الزاني والنفس بالنفس والتارك لدينه". من أقوى الحجج في قتل تارك الصلاة.

"فصل"
في اختلاف القائلين بقتل تارك الصلاة

واختلف القائلون بقتله في مسائل إحداها: أنه هل يستتاب أم لا فالمشهور أنه يستتاب فإن تاب ترك وإلا قتل هذا قول الشافعي وأحمد وأحد القولين في مذهب مالك وقال أبو بكر الطرطوشي في تعليقه مذهب مالك أنه يقال له صل ما دام الوقت باقيا فإن فعل ترك وإن امتنع حتى خرج الوقت قتل وهل يستتاب أم لا قال بعض اصحابنا يستتاب فإن تاب وإلا قتل وقال بعضهم لا يستتاب لأن هذا حد من الحدود يقام عليه فلا تسقطه التوبة كالزاني والسارق وهذا القول يلزم من قال يقتل حدا فإنه إذا كان حده على ترك الصلاة القتل كان كمن حده القتل على الزنا والمحاربة والحدود تجب ولا تسقطها التوبة بعد الرفع إلى الإمام.

وأما من قال يقتل لكفره فلا يلزمه هذا لأنه جعله كالمرتد وإذا أسلم سقط عنه القتل قال الطرطوشي وهكذا حكم الطهارة والغسل من الجنابة والصيام عندنا فإذا قال لا أتوضأ ولا أغتسل من الجنابة ولا أصوم قتل ولم يستتب سواء قال هي فرض علي أو جحد فرضها. قلت: هذا الذي حكاه الطرطوشي عن بعض اصحابه أنه يقتل استتابة هو رواية عن مالك.
وفي استتابه المرتد روايتان عن أحمد وقولان للشافعي ومن فرق بين المرتد وبين تارك الصلاة في الاستتابة فاستتاب المرتد دون تارك الصلاة كإحدى الروايتين عن مالك يقول الظاهر أن المسلم لا يترك دينه إلا لشبهة عرضت له تمنعه البقاء عليه فيستتاب رجاء زوالها والتارك للصلاة مع إقراره بوجوبها عليه لا مانع له فلا يمهل.

قال المستتيبون له: هذا قتل لترك واجب شرعت له الاستتابة فكانت واجبة كقتل الردة قالوا بل الاستتابة هاهنا أول ى لان احتمال رجوعه اقرب لأن التزامه للإسلام يحمله على التوبة مما يخلصه في الدنيا والآخرة وهذا القول هو الصحيح لأن اسوأ أحواله أن يكون كالمرتد وقد اتفق الصحابة على قبول توبة المرتدين ومانعي الزكاة.
وقد قال الله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وهذا يعم المرتد وغيره والفرق بين قتل هذا حدا وقتل الزاني والمحارب أن قتل تارك الصلاة إنما هو على إصراره على الترك في المستقبل وعلى الترك في الماضي بخلاف المقتول في الحد فإن سبب قتله على الحد لأنه لم يبق له سبيل إلى تداركها وهذا له سبيل الاستدراك بفعلها بعد خروج وقتها ثم الأئمة الأربعة وغيرهم ومن يقول من أصحاب أحمد لا سبيل له إلى الاستدراك كما هو قول طائفة من السلف يقول القتل ها هنا على ترك فيزول الترك بالفعل فأما الزنا والمحاربة فالقتل فيهما على فعل والفعل الذي مضى لا يزول بالترك.

المسألة الثانية:
أنه لا يقتل حتى يدعى إلى فعلها فيمتنع

"فصل"
المسألة الثانية:

أنه لا يقتل حتى يدعى إلى فعلها فيمتنع فالدعاء إليها لا يستمر ولذلك أذن النبي
صلى الله عليه وسلم في الصلاة نافلة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة حتى يخرج
الوقت ولم يأمر بقتالهم ولم يأذن في قتلهم لأنهم لم يصروا على الترك فإذا دعي
فامتنع لا من عذر حتى يخرج الوقت تحقق تركه وإصراره.

المسألة الثالثة:

بماذا يقتل هل بترك صلاة أو صلاتين أو ثلاث صلوات

"فصل"
المسألة الثالثة:

بماذا يقتل هل بترك صلاة أو صلاتين أو ثلاث صلوات هذا فيه خلاف بين الناس فقال سفيان الثوري ومالك وأحمد في إحدى الروايات يقتل بترك صلاة واحدة وهو ظاهر مذهب الشافعي وأحمد وحجة هذا القول ما تقدم من الاحاديث الدالة على قتل تارك الصلاة.

وقد روى معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله". رواه الإمام أحمد في مسنده.

وعن أبي الدرداء قال أوصاني أبو القاسم أن لا أترك الصلاة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة رواه عبدالرحمن ابن أبي حاتم في سننه مجمع الزوائد ووباله ولأنه إذا دعي إلى فعلها في وقتها فقال لا أصلي ولا عذر له فقد ظهر إصراره فتعين إيجاب قتله وإهدار دمه واعتبار التكرار ثلاثا ليس عليه دليل من نص ولا إجماع ولا قول صاحب وليس أولى من اثنتين.

وقال إسحاق بن منصور المعروف بالكوسج من أصحاب أحمد إن كانت الصلاة المتروكة تجمع إلى ما بعدها كالظهر والعصر والمغرب والعشاء لم يقتل حتى يخرج وقت الثانية لأن وقتها وقت الأولى في حال الجمع فأورث شبهة هاهنا وإن كانت لا تجمع إلى ما بعدها كالفجر والعصر وعشاء الآخرة قتل بتركها وحدها إذ لا شبهة ها هنا في التأخير وهذا القول حكاه إسحاق عن عبدالله بن المبارك أو عن وكيع بن الجراح الشك من اسحاق في تعيينه. قال أبو البركات بن تيمية: والتسوية أصح وإلحاق التارك ها هنا بأهل الأعذار في الوقت لا يصح كما لم يصح إلحاقه بهم في أصل الترك.

قلت: وقول إسحاق اقوى وافقه لأنه قد ثبت أن هذا الوقت للصلاتين في الجملة فأورث ذلك شبهة في إسقاط القتل ولأن النبي صلى الله عليه وسلم منع من قتل الأمراء المؤخرين الصلاة عن وقتها وإنما كانوا يؤخرون الظهر إلى وقت العصر وقد يؤخرون العصر إلى آخر وقتها ولما قيل له ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا" فدل على أن ما فعلوه صلاة يعصمون بها دماءهم.

"فصل"

وعلى هذا فمتى دعي إلى الصلاة في وقتها فقال لا أصلي وامتنع حتى فاتت وجب قتله وإن لم يتضيق وقت الثانية نص عليه الإمام أحمد.
وقال القاضي محمد بن الحسين أبو يعلى وأصحابه كأبي الخطاب محفوظ بن محمد الكلواذاني وابن عقيل لا يقتل حتى يتضايق وقت التي بعدها قال الشيخ أبو البركات ابن تيمية من دعي إلى صلاة في وقتها فقال لا أصلي وامتنع حتى فاتت وجب قتله وإن لم يتضيق وقت الثانية نص عليه.
قال وإنما اعتبرنا تضايق وقت الثانية في المثال الذي ذكره يعني أبا الخطاب لأن القتل بتركها دون الأولى لأنه لما دعي إليها كانت فائتة والفوائت لا يقتل تاركها ولفظ أبي الخطاب الذي أشار إليه فإن أخر الصلاة حتى خرج وقتها جاحدا لوجوبها كفر ووجب قتله فإن أخرها تهاونا لا جحودا لوجوبها دعي إلى فعلها فإن لم يفعلها حتى تضايق وقت التي بعدها وجب قتله فالتي أخرها تهاونا هي التي أخرها حتى خرج وقتها فدعي إليها بعد خروج وقتها فإذا امتنع من فعلها حتى تضايق وقت الآخرة التي بعدها كان قتله بتأخير الصلاة التي دعي إليها حتى تضايق وقتها.

هذا تقرير ما ذكره الشيخ قال وقال بعض أصحابنا يقتل لترك الأول ي ولترك قضاء كل فائتة إذا أمكنه عذر لأن القضاء عندنا على الفور فعلى هذا لا يعتبر تضايق وقت الثانية قال والأول أصح لأن قضاء الفوائت موسع على التراخي ثم الشافعي وجماعة من العلماء والقتل لا يجب في مختلف في إباحته وحظره.
وعن أحمد رواية أخرى أنه إنما يجب قتله إذا ترك ثلاث صلوات وتضايق وقت الرابعة وهذا اختيار الإصطخري من الشافعية ووجه هذا القول أن الموجب للقتل هو الإصرار على ترك الصلاة والإنسان قد يترك الوقوف لكسل أو ضجر أو شغل يزول قريبا ولا يدوم فلا يسمى بذلك تاركا للصلاة فإذا كرر الترك مع الدعاء إلى الفعل علم أنه إصرار. وعن أحمد رواية ثالثة أنه يجب قتله بترك صلاتين ولهذه الرواية مأخذان: "أحدهما" أن الترك الموجب للقتل هو الترك المتكرر لا مطلق الترك حتى يطلق عليه أنه تارك الصلاة وأقل ما يثبت به الترك المتكرر مرتين.
"المأخذ الثاني" أن الصلاة ما تجمع إحداهن إلى الأخرى فلا يتحقق تركها إلا بخروج وقت الثانية فجعل ترك الوقوف موجبا للقتل.
وأبو إسحاق وافق هذه الرواية في المجموعتين.

"فصل"

في حكم ترك الوضوء والغسل من الجنابة واستقبال القبلة وستر العورة

وحكم ترك الوضوء والغسل من الجنابة واستقبال القبلة وستر العورة حكم تارك الصلاة وكذلك حكم ترك القيام للقادر عليه هو كترك الصلاة وكذلك ترك الركوع والسجود وإن ترك ركنا أو شرطا مختلفا فيه وهو يعتقد وجوبه فقال ابن عقيل حكمه حكم تارك الصلاة ولا بأس أن نقول بوجوب قتله وقال الشيخ أبو البركات ابن تيمية عليه الإعادة ولا يقتل من أجل ذلك بحال فوجه قول ابن عقيل أنه تارك للصلاة ثم نفسه وفي عقيدته فصار كتارك الزكاة طاعة المجمع عليه ووجه قول أبي البركات ابن تيمية أنه لا يباح الدم بترك المختلف في وجوبه وهذا أقرب إلى مأخذ الفقه وقول ابن عقيل أقرب إلى الأصول [color="rgb(65, 105, 225)"]فإن تارك ذلك عازم وجازم على باطلة فهو كما لو ترك مجمعا عليه وللمسألة غور بعيد يتعلق بأصول الإيمان وأنه من أعمال القلوب واعتقادها. [/color]

"فصل"

في حكم تارك الجمعة

روى مسلم في صحيحه رقم من حديث ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لقوم يتخلفون عن الجمعة "لقد هممت أن آمر رجلا يصلي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلفون عن الجمعة بيوتهم".
وعن أبي هريرة وابن عمر أنهما سمعا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: على أعواد منبره " لينتهين أقوام عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم ثم ليكونن من الغافلين". رواه مسلم في صحيحه.
وفي السنن كلها أبو داود من حديث أبي الجعد الضمري وله البغوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ترك ثلاث جمع تهاونا طبع الله على قلبه". رواه الإمام أحمد من حديث جابر.
وأخطأ على الشافعي من نسب إليه القول بأن صلاة الجمعة فرض على الكفاية إذا قام بها قوم سقطت عن الباقين فلم يقل الشافعي هذا قط فإنما غلط عليه من نسب ذلك إليه بسبب قوله في صلاة العيد إنها تجب على من تجب عليه صلاة الجمعة بل هذا نص من الشافعي أن صلاة العيد واجبة على الأعيان.

وهذا هو الصحيح في الدليل فإن صلاة العيد من اعاظم شعائر الإسلام الظاهرة ولم يكن يتخلف عنها أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرة واحدة ولو كانت سنة لتركها ولو مرة واحدة كما ترك قيام رمضان بيانا لعدم وجوبه وترك الوضوء لكل صلاة بيانا لعدم وجوبه وغير ذلك.
و أيضا فإنه سبحانه وتعالى أمر بالعيد كما أمر بالجمعة فقال: {فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ} سورة الكوثر الآية فأمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يغدوا إلى مصلاهم لصلاة العيد معه إن فات وقتها وثبت الشهر بعد الزوال أبو داود رقم وأمر النبي صلى الله عليه وسلم العواتق1 وذوات الخدور وذوات الحيض أن يخرجن إلى العبد وتعتزل الحيض المصلي البخاري رقم مسلم رقم ولم يأمر بذلك في الجمعة قال شيخنا ابن تيمية فهذا يدل على ان العيد آكد من الجمعة

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 جمع عائق وهي البكر التي بلغت سن الزواج ولم تتزوج.

وقوله صلى الله عليه وسلم: "خمس صلوات كتبهن الله على العبد في اليوم والليلة". لا ينفي صلاة العيد فإن الصلوات الخمس وظيفة اليوم والليلة وأما العيد فوظيفة العام ولذلك لم يمنع ذلك من وجوب ركعتي الطواف ثم كثير من الفقهاء لأنها ليست من وظائف اليوم والليلة المتكررة ولم يمنع وجوب صلاة الجنازة ولم يمنع من وجوب سجود التلاوة ثم من أوجبه وجعله صلاة ولم يمنع من وجوب صلاة الكسوف ثم من أوجبها من السلف وهو قول قوي جدا.

والمقصود أن الشافعي رحمه الله نص على أن من وجبت عليه الجمعة وجب عليه العيد ولكن قد يقال إن هذا لا يستفاد منه وجوبه على الأعيان فإن فرض الكفاية يجب على الجميع لبعض بفعل البعض وفائدة ذلك تظهر في مسألتين إحداهما أنه لو اشترك الجميع في فعله أثيبوا ثواب من أدى الواجب لتعلق الوجوب الثانية لو اشتركوا في تركه استحق الجميع الذم والعقاب فلا يلزم من قوله تجب صلاة العيد على من تجب عليه صلاة الجمعة أن تكون واجبة على الأعيان كالجمعة فهذا يمكن أن يقال ولكن ظاهر تشيبه العيد بالجمعة والتسوية بين من تجب عليه الجمعة ومن يجب عليه العيد يدل على استوائهما في الوجوب ولا يختلف قوم أن الجمعة واجبة على الأعيان فكذا العيد.

والمقصود بيان حكم تارك الجمعة قال أبو عبدالله ابن حامد ومن جحد وجوب الجمعة كفر فإن صلاها أربعا مع اعتقاد وجوبها قال فإن قلنا هي ظهر مقصورة لم يكفر وإلا كفر حكم تارك الصوم والحج والزكاة وهل يلحق تارك الصوم والحج والزكاه بتارك الصلاة في وجوب قتله فيه ثلاث روايات عن الإمام أحمد:
إحداها: يقتل بترك ذلك كله كما يقتل بترك الصلاة وحجة هذه الرواية أن الزكاة والصيام والحج من مباني الإسلام فيقتل بتركها جميعا كالصلاة ولهذا قاتل الصديق مانعي الزكاة وقال: "والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة إنها لقرينتها في كتاب الله".
و أيضا فإن هذه المباني من حقوق الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم لم يأمر برفع القتال إلا عمن التزم كلمة الشهادة وحقها وأخبر أن عصمة الدم لا تثبت إلا بحق الإسلام فهذا قتال للفئة الممتنعة والقتل للواحد المقدوم عيله إنما هو لتركه حقوق الكلمة وشرائع الإسلام وهذا أصح الأقوال.

والرواية الثانية: لا يقتل الصلاة بترك غير الصلاة، لأن الصلاة عبادة بدنية لا تدخلها النيابة بحال، والحج والصوم والزكاة تدخلها النيابة.
ولقول عبدالله بن شقيق كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم شيئا من الأعمال تركه كفر إلا الصلاة الترمذي رقم ولأن الصلاة قد اختصت من سائر الأعمال بخصائص ليست لغيرها فهي أول ما فرض الله من الإسلام ولهذا امر النبي صلى الله عليه وسلم نوابه ورسله ان يبدؤوا بالدعوة إليها بعد الشهادتين.
فقال لمعاذ: "ستأتي قوما أهل كتاب فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وأن الله فرض عليهم خمس صلوات في اليوم والليلة". ولأنها أول ما يحاسب عليها العبد من عمله ولأن الله فرضها في السماء ليلة المعراج ولأنها أكثر الفروض ذكرا في القرآن ولأن أهل النار لما يسألون {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} سورة المدثر الآية لم يبدؤوا ترك الصلاة ولأن فرضها لا يسقط عن العبد بحال دون حال ما دام عقله معه بخلاف سائر الفروض فإنها تجب في حال دون حال ولأنها عمود فسطاط الإسلام وإذا سقط الفسطاط وقع الفسطاط ولأنها آخر ما يفقد من الدين ولأنها فرض على الحر والعبد والذكر والأنثى والحاضر والمسافر والصحيح والمريض والغني والفقير ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من إجابة إلى الإسلام إلا بالتزام الصلاة كما قال قتادة عن يروي لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل من اجابه إلى الإسلام إلا بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ولأن قبول سائر الأعمال موقوف على فعلها فلا يقبل الله من تاركها صوما ولا حجا ولا صدقة ولا جهادا ولا شيئا من الأعمال كما قال عون بن عبدالله إن العبد إذا دخل قبره سئل عن صلاته أول شيء يسأل عنه فإن جازت له نظر فيما سوى ذلك من عمله وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من عمله بعد ويدل على هذا الحديث الذي في المسند والسنن من رواية أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد من عمله يحاسب بصلاته فإن صلحت فقد أفلح وأنجح وأن فسدت فقط فقد خاب وخسر". ولو قبل منه شيء من أعمال البر لم يكن من الخائبين الخاسرين.

الرواية الثالثة: يقتل بترك الزكاة والصيام ولا يقتل بترك الحج لأنه مختلف فيه هل هو على الفور أو على التراخي فمن قال هو على التراخي قال كيف يقتل بأمر موسع له في تأخيره.
وهذا المأخذ ضعيف جدا لأن من يقتله بتركه لا يقتله بمجرد التأخير وإنما صورة المسألة أن يعزم على ترك الحج ويقول هو واجب علي ولا أحج أبدا فهذا موضوع النزاع والصواب القول بقتله لأن الحج من حقوق الإسلام والعصمة تثبت لمن تكلم بالإسلام إلا بحقه والحج أعظم حقوقه.

"فصل"

وأما المسألة الثالثة
:
وهو انه هل يقتل حدا كما يقتل المحارب والزاني أم يقتل كما يقتل المرتد والزنديق

هذا فيه قولان للعلماء وهما روايتان عن الإمام أحمد.
إحداهما: يقتل كما يقتل المرتد وهذا قول سعيد بن جبير وعامر الشعبي وإبراهيم النخعي وأبي عمرو الأوزاعي وأيوب السختياني وعبدالله بن المبارك وإسحاق بن راهويه وعبدالملك بن حبيب من المالكية وأحد الوجهين في مذهب الشافعي وحكاه الطحاوي عن الشافعي نفسه وحكاه أبو محمد ابن حزم عن عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبدالرحمن بن عوف وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة.

والثانية: يقتل حدا لا كفرا وهو قول مالك والشافعي واختار أبو عبدالله ابن بطة هذه الرواية ونحن نذكر حجج صليت أدلة الذين لا يكفرون تارك الصلاة قال الذين لا يكفرونه بتركها قد ثبت له حكم الإسلام بالدخول فيه فلا نخرجه عنه إلا بيقين.
قالوا وقد روى عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من شهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له وأن محمدا عبده ورسوله وأن عيسى عبدالله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل". أخرجاه في الصحيحين. وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ومعاذ رديفة على الرحل: "يا معاذ" قال: لبيك يا رسول الله وسعديك ثلاثا قال: "ما من عبد يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله إلا حرمه الله على النار" قال: يا رسول الله أفلا أخبر بها الناس فيستبشروا قال: "إذا يتكلوا" فأخبر بها معاذ ثم موته تأثما متفق على صحته.

وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أسعد الناس بشفاعتي من قال لاإله إلا الله خالصا من قلبه". رواه البخاري.
وعن أبي ذر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بآية من القرآن يرددها حتى صلاة الغداة وقال: "دعوت لامتي وأجبت بالذي لو يتحقق عليه كثير منهم تركوا الصلاة" فقال أبو ذر أفلا أبشر الناس قال: "بلى" فانطلق فقال عمر: إنك إن تبعث إلى الناس بهذا ينكلوا1 عن العبادة فناداه أن ارجع فرجع والآية: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} رواه الإمام أحمد في مسنده.
وفي المسند أيضا من حديث عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدواوين عند الله ثلاثة ديوان لا يعبأ الله به شيئا وديوان لا يترك الله منه شيئا وديوان لا يغفره الله فأما الديوان الذي لا يغفره الله فالشرك بالله قال الله عز وجل: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ} وأما الديوان الذي لا يعبأ الله به شيئا فظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه من صوم تركه أو صلاة تركها فإن الله عز وجل: يغفر ذلك ويتجاوز عنه إن شاء وأما الديوان الذي لا يترك الله منه شيئا فظلم العباد بعضهم بعضا القصاص لا محالة".

وفي المسند أيضا وعن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "خمس صلوات كتبهن الله على العباد من أتى بهن كان له ثم الله عهد أن يدخله الجنة ومن لم يأت بهن فليس له ثم الله عهد إن شاء عذبه وإن شاء غفر له". وفي المسند أيضا من حديث أبي هريرة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة المكتوبة فإن أتمها وإلا قيل انظروا هل له من تطوع فإن كان له تطوع أكملت الفريضة من تطوعه ثم يفعل بسائر الأعمال المفروضة مثل ذلك". رواه أهل السنن.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 بضم الكاف: الامتناع.

وقال الترمذي هذا حديث حسن قالوا وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة". وفي لفظ آخر: "من مات وهو يعلم أن لا إله إلا الله دخل الجنة".
وفي صحيح قصة عتبان بن مالك وفيها: "إن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله".
وفي حديث الشفاعة يقول الله عز وجل: "وعزتي وجلالي لأخرجن من النار من قال لا إله إلا الله". وفيه مجمع الزوائد: "فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط"، وفي السنن والمسانيد قصة صاحب البطاقة الذي ينشر له تسعة وتسعون سجلا كل سجل منها مد البصر ثم تخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله فترجح سيئاته ولم يذكر في الشهادة ولو كان فيها غيرها لقال ثم تخرج له صحائف حسناته فترجح سيئاته ويكفينا في هذا قوله فيخرج من النار من لم يعمل خيرا قط ولو كان كافرا لكان مخلدا في النار غير خارج منها.

فهذه الأحاديث وغيرها تمنع من التكفير والتخليد وتوجب من الرجاء له ما يرجى لسائر أهل الكبائر قالوا ولأن الكفر جحود التوحيد وإنكار الرسالة والمعاد وجحد ما جاء به الرسول وهذا يقر بالوحدانية شاهدا أن محمدا رسول الله مؤمنا بأن الله يبعث من في القبور فكيف يحكم بكفره والإيمان هو التصديق وضده التكذيب لا ترك العمل فكيف يحكم للمصدق بحكم المكذب الجاحد.

قال المكفرون: الذين رويت عنهم هذه الأحاديث التي استدللتم بها على عدم تكفير تارك الصلاة هم الذين حفظ عنهم الصحابة تكفير تارك الصلاة بأعيانهم قال أبو محمد ابن حزم:
وقد جاء عن عمر وعبدالرحمن بن عوف ومعاذ بن جبل وأبي هريرة وغيرهم من الصحابة رضي الله عنهم أن من ترك صلاة فرض واحدة متعمدا حتى يخرج وقتها فهو كافر مرتد قالوا ولا نعلم لهؤلاء مخالفا من الصحابة وقد دل على كفر تارك الصلاة الكتاب والسنة وإجماع الصحابة فصل في الاستدلال بالكتاب أما الكتاب فالدليل الأول قال الله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} إلى قوله:[color="rgb(46, 139, 87)"] {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ[/color]} فوجه الدلالة من الآية أنه سبحانه أخبر أنه لا يجعل المسلمين كالمجرمين وأن هذا الأمر لا يليق بحكمته ولا بحكمه ثم ذكر أحوال المجرمين الذين هم ضد المسلمين فقال: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} وأنهم يدعون إلى السجود لربهم تبارك وتعالى فيحال بينهم وبينه فلا يستطيعون السجود مع المسلمين عقوبة لهم على ترك السجود له مع المصلين في دار الدنيا وهذا يدل على أنهم مع الكفار والمنافقين الذين تبقى ظهورهم إذا سجد المسلمون كصياصي "أي قرون"، البقر ولو كانوا من المسلمين لأذن لهم بالسجود كما أذن للمسلمين.

الدليل الثاني: قوله تعالى: [color="rgb(46, 139, 87)"]{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ}[/color] فلا يخلو إما أن يكون كل واحد من هذه الخصال هو الذي سلكهم في سقر وجعلهم من المجرمين أو مجموعها فإن كان كل واحد منها مستقلا بذلك فالدلالة ظاهرة وإن كان مجموع الأمور الأربعة فهذا إنما هو لتغليظ كفرهم وعقوبتهم وإلا فكل واحد منها مقتض للعقوبة إذ لا يجوز أن يضم ما لا تأثير له إلى ما هو مستقل بها.

ومن المعلوم أن ترك الصلاة وما ذكر معه ليس شرطا على التكذيب بيوم الدين بل هو وحده كاف فدل على أن كل وصف ذكر معه كذلك إذ لا يمكن لقائل أن يقول لا يعذب إلا من جمع هذه الأوصاف الأربعة فإذا كان كل واحد منها موجبا للإجرام وقد جعل الله سبحانه المجرمين ضد المسلمين كان تارك الصلاة من المجرمين السالكين في سقر وقد قال: {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} فجعل المجرمين ضد المؤمنين المسلمين. الدليل الثالث: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} فوجه الدلالة أنه سبحانه علق حصول الرحمة لهم بفعل هذه الأمور فلو كان ترك الصلاة لا يوجب تكفيرهم وخلودهم في النار لكانوا مرحومين بدون فعل الصلاة والرب تعالى إنما جعلهم على رجاء الرحمة إذا فعلوها.

الدليل الرابع قوله تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} وقد اختلف السلف في معنى السهو عنها، فقال سعد بن أبي وقاص ومسروق ابن الأجدع وغيرهما هو تركها حتى يخرج وقتها، روى في ذلك حديث مرفوع قال محمد بن نصر المروذي حدثنا سفيان بن أبي شيبة حدثنا عكرمة بن إبراهيم حدثنا عبد الملك بن عمير بم مصعب بن سعد عن أبيه أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذين هم عن الصلاة ساهون، قال: "هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها".
وقال حماد بن زيد حدثنا عاصم عن مصعب بن سعد قال قلت: لأبي يا ابتا أرأيت قول الله:[color="rgb(46, 139, 87)"] {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ}[/color] أينا لا يسهو أينا لا يحدث نفسه قال إنه ليس ذاك ولكنه إضاعة الوقت سنن البيهقي وقال حيوة بن شريح أخبرني أبو صخر أنه سأل محمد بن كعب القرظي عن قوله: {الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} قال هو تاركها ثم سأله عن الماعون قال: منع المال عن حقه.
إذا عرف هذا فالوعيد بالويل اطرد في القرآن للكفار كقوله: وويل للمشركين: {الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} وقوله: {وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتَّخَذَهَا هُزُواً أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} وقوله: {وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} إلا في موضعين وهما {وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ} و {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ} فعلق الويل بالتطفيف وبالهمز واللمز وهذا لا يكفر به بمجرده فويل تارك الصلاة إما ان يكون ملحقا بويل الكفار أو بويل الفساق فإلحاقه بويل الكفار أولى لوجهين:
أحدهما: أنه قد صح عن سعد ابن أبي وقاص في هذه الآية أنه قال لو تركوها لكانوا كفارا ولكن ضيعوا وقتها.

الثاني: ما سنذكر من الأدلة على كفره يوضحه:

الدليل الخامس: وهو قوله سبحانه: {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}.
قال شعبة بن الحجاج حدثنا أبو إسحاق عن أبي عبيدة عن عبدالله هو ابن مسعود في هذه الآية قال هو نهر في جهنم خبيث الطعم بعيد القعر قال محمد بن نصر حدثنا عبدالله بن سعد بن إبراهيم حدثنا محمد بن زياد بن زبار حدثني شرقي بن القطامي قال حدثني لقمان بن عامر الخزاعي قال جئت أبا أمامه الباهلي فقلت: حدثني حديثا سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لو أن صخرة قذف بها من شفير1 جهنم ما بلغت قعرها سبعين خريفا ثم تنتهي إلى غي وأثام" قلت: وما غي وأثام قال: "بئران في أسفل جهنم يسيل فيهما صديد أهل جهنم فهذا الذي ذكره الله في كتابه" {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وأثاما قال محمد بن نصر حدثنا الحسن بن عيسى حدثنا عبدالله بن المبارك أخبرنا هشيم بن بشير قال أخبرني زكريا ابن أبي مريم الخزاعي قال سمعت أبا أمامة الباهلي يقول إن ما بين شفير جهنم إلى قعرها مسيرة خمسين خريفا من حجر يهوي أو قال صخرة تهوي عظمها كعشر عشراوات عظام سمان2 فقال له مولى لعبد الرحمن بن خالد بن الوليد هل تحت ذلك من شيء يا أبا أمامة قال نعم غي وأثام وقال أيوب بن بشير عن شفي بن ماتع قال إن في جهنم واديا يسمى غيا يسيل دما وقيحا فهو لمن خلق له قال تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً}.
فوجه الدلالة من الآية أن الله سبحانه جعل هذا المكان من النار لمن أضاع الصلاة واتبع الشهوات ولو كان مع عصاة المسلمين لكانوا في الطبقة العليا من طبقات النار ولم يكونوا في هذا المكان الذي هو أسفلها فإن هذا ليس من أمكنة أهل الإسلام بل من أمكنه الكفار ومن الآية دليل آخر وهو قوله تعالى: {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً} فلو كان مضيع الصلاة مؤمنا لم يشترط في توبته الإيمان وأنه يكون تحصيلا للحاصل.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حرفها.
2 أي حجم الصخرة كحجم عشرة نوق حوامل سمان.

الدليل السادس: قوله تعالى: {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} الروضات الزكواة فإخوانكم في الدين سورة التوبة الآية فعلق إخوتهم للمؤمنين بفعل الصلاة فإذا لم يفعلوا لم يكونوا إخوة المؤمنين فلا يكونوا مؤمنين لقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ}.
الدليل السابع: قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فلما كان الإسلام تصديق الخبر والانقياد للأمر جعل سبحانه له ضدين عدم التصديق وعدم الصلاة وقابل التصديق بالتكذيب والصلاة بالتولي فقال: {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} فكما أن المكذب كافر فالمتولي عن الصلاة يزول الإسلام بالتكذيب يزول بالتولي عن الصلاة.
قال سعيد عن قتادة {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} لا صدق بكتاب الله ولا صلى لله ولكن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى}.
الدليل الثامن: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
قال ابن جريج: سمعت عطاء ابن أبي رباح يقول هي الصلاة المكتوبة الدر المنثور ووجه الاستدلال بالآية إن الله حكم بالخسران المطلق لمن الهاه ماله وولده عن الصلاة والخسران المطلق لا يحصل إلا للكفار فإن المسلم ولو خسر بذنوبه ومعاصيه فآخر أمره إلى الربح يوضحه أنه سبحانه وتعالى اكد خسران تارك الصلاة في هذه الآية بأنواع من التأكيد:
أحدهما: إتيانه بلفظ الاسم الدال على ثبوت الخسران ولزومه دون الفعل الدال على التجدد والحدوث.
الثاني: تصدير الاسم بالألف واللام المؤدية لحصول كمال المسمى لهم فإنك إذا قلت: زيد العالم الصالح أفاد ذلك إثبات كمال ذلك له بخلاف قولك عالم صالح.
الثالث: إتيانه سبحانه بالمبتدأ والخبر معرفتين وذلك من علامات انحصار الخبر في المبتدأ كما في قوله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} وقوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} {أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً} ونظائره.
الرابع: إدخال ضمير الفصل بين المبتدأ والخبر وهو يفيد مع الفصل فائدتين اخريين قوة الاسناد واختصاص المسند إليه بالمسند كقوله: {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ

الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} سورة الحج الآية وقوله: {وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وقوله: {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ونظائر ذلك الدليل.
التاسع: قوله سبحانه: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّداً وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ} ووجه الاستدلال بالآية أنه سبحانه نفى الإيمان عمن إذا ذكروا بآيات الله لم يخروا سجدا مسبحين بحمد ربهم ومن أعظم التذكير بآيات الله التذكير بآيات الصلاة فمن ذكر بها ولم يتذكر ولم يصل ولم يؤمن بها لأنه سبحانه خص المؤمنين بها بأنهم أهل السجود وهذا من أحسن الاستدلال واقربه فلم يؤمن بقوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} إلا من التزم إقامتها.
الدليل العاشر: قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} ذكر هذا بعد قوله: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} ثم توعدهم على ترك الركوع وهو الصلاة إذا دعوا إليها ولا يقال إنما توعدهم على التكذيب فإنه سبحانه وتعالى إنما أخبر عن تركهم لها وعليه وقع الوعيد.
على أنا نقول لا يصر على ترك الصلاة إصرارا مستمرا من يصدق بأن الله أمر بها اصلا فإنه يستحيل في العادة والطبيعة أن يكون الرجل مصدقا تصديقا جازما أن الله فرض عليه كل يوم وليلية خمس صلوات وأنه يعاقبه على تركها أشد العقاب وهو مع ذلك مصر على تركها هذا من المستحيل قطعا فلا يحافظ على تركها مصدق بفرضها أبدا فإن الايمان يأمر صاحبه بها فحيث لم يكن في قلبه ما‎يأمر بها فليس في قلبه شيء من الإيمان.
ولا تصغى إلى كلام من ليس له خبره ولا علم بأحكام القلوب وأعمالها وتأمل في الطبيعة بأن يقوم بقلب العبد إيمان بالوعد والوعيد والجنة والنار وأن الله فرض عليه الصلاة وأن الله يعاقبه معاقبة على تركها وهو محافظ على الترك في صحته وعافيته وعدم الموانع المانعة له من الفعل.
وهذا القدر هو الذي خفي على من جعل الإيمان مجرد التصديق وإن لم يقارنه فعل واجب ولا ترك محرم وهذا من لأوامره المحال ان يقوم بقلب العبد إيمان جازم لا يتقاضاه فعل طاعة ولا ترك معصية ونحن نقول الإيمان هو التصديق ولكن ليس التصديق مجردا اعتقادا صدق المخبر دون الانقياد له ولو كان مجرد اعتقاد التصديق إيمانا لكان إبليس وفرعون وقومه وقوم صالح واليهود الذين عرفوا أن محمدا رسول الله كما يعرفون أبناءهم مؤمنين مصدقين.
وقد قال تعالى: {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ} أي يعتقدون أنك صادق {وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} والجحود لا يكون إلا بعد معرفة الحق قال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} وقال موسى لفرعون: {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ} وقال تعالى عن اليهود: {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.

وأبلغ من هذا قول النفرين اليهوديين لما جاءا إلى النبي صلى الله عليه وسلم وسألاه عما دلهما على نبوته فقالا نشهد أنك نبي فقال: "ما يمنعكما من اتباعي" قالا إن داود دعا أن لا يزال في ذريته نبي وإنا نخاف إن اتبعناك أن تقتلنا اليهود. فهؤلاء قد اقروا بألسنتهم إقرارا مطابقا لمعتقدهم أنه نبي ولم يدخلوا بهذا التصديق والإقرار في الإيمان لأنهم لم يلتزموا طاعته والانقياد لأمره.

ومن هذا كفر أبي طالب فإنه عرف حقيقة المعرفة أنه صادق وأقر بذلك بلسانه وصرح به في شعره ولم يدخل بذلك في الإسلام فالتصديق إنما يتم بأمرين: أحدهما: اعتقاد الصدق والثاني: محبة القلب وانقياده ولهذا قال تعالى لإبراهيم: {أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وإبراهيم كان معتقدا لصدق رؤياه من حين رآها فإن رؤيا الأنبياء وحي وإنما جعله مصدقا لها بعد أن فعل ما أمر به.

وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه". فجعل التصديق عمل الفرج لا ما يتمنى القلب والتكذيب تركه لذلك وهذا صريح في ان التصديق لا يصح إلا بالفعل.
وقال الحسن: ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ولكن ما وقر في القلب وصدقه العمل. وقد روي هذا مرفوعا الكامل لابن عدي والمقصود أنه يمتنع مع التصديق الجازم بوجوب الصلاة والوعد على فعلها والوعيد على تركها وبالله التوفيق.

"فصل"

وأما الاستدلال بالسنة على ذلك فمن وجوه:

الدليل الأول: ما رواه مسلم في صحيحه رقم عن جابر بن عبدالله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة" رواه أهل السنن وصححه الترمذي.
الدليل الثاني: ما رواه بريدة بن الحصيب الأسلمي قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر" رواه الإمام أحمد و أهل السنن وقال الترمذي حديث صحيح إسناده على شرط مسلم.
الدليل الثالث: ما رواه ثوبان مولى1 رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بين العبد وبين الكفر والإيمان الصلاة فإذا تركها فقد أشرك". رواه هبة الله الطبري وقال إسناده صحيح على شرط مسلم.
الدليل الرابع: ما رواه عبدالله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال: "من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نورا ولا برهانا ولا نجاة وكان يوم القيامة مع قارون وفرعون وهامان وأبي بن خلف". رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو حاتم ابن حبان في صحيحه وإنما خص هؤلاء الاربعة بالذكر لأنهم من رؤس الكفرة.
وفيه نكتة بديعة وهو أن تارك المحافظة على الصلاة إما أن يشغله ماله أو ملكه أو رياسته أو تجارته فمن شغله عنها ماله فهو مع قارون ومن شغله عنها ملكه فهو مع فرعون ومن شغله عنها رياسة ووزارة فهو مع هامان ومن شغله عنها تجارته فهو مع أبي بن خلف.
الدليل الخامس: ما رواه عبادة بن الصامت قال فيزورون رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تشركوا بالله شيئا وإن قطعتم أو حرقتم أو صلبتم ولا تتركوا الصلاة عمدا فمن تركها عمدا متعمدا فقد خرج من الملة". رواه عبدالرحمن ابن أبي حاتم في سننه.
الدليل السادس: ما رواه معاذ بن جبل قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خادم.

"من ترك صلاة مكتوبة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله". رواه الإمام أحمد ولو كان باقيا على إسلامه لكانت له ذمة الإسلام.
الدليل السابع: ما رواه أبو الدرداء قال أوصاني أبو القاسم صلى الله عليه وسلم أن لا أترك الصلاة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد برئت منه الذمة. رواه عبدالرحمن ابن أبي حاتم في سننه.
الدليل الثامن: ما رواه معاذ بن جبل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "رأس الأمر الإسلام وعموده الصلاة" وهو حديث صحيح مختصر ووجه الاستدلال به أنه أخبر أن الصلاة من الإسلام بمنزلة العمود الذي تقوم عليه تسقط الخيمة بسقوط عمودها فهكذا يذهب الإسلام بذهاب الصلاة وقد احتج أحمد بهذا بعينه.
الدليل التاسع: في الصحيحين والسنن والمسانيد من حديث عبدالله بن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان". رواه الإمام أحمد وفي بعض ألفاظه الإسلام خمس فذكره.
ووجه الاستدلا به من وجوه: أحدها: أنه جعل الإسلام كالقبة المبنية على خمسة أركان فإذا وقع ركنها الأعظم وقعت قبة الإسلام.
الثاني: أنه جعل هذه الاركان في كونها أركانا لقبة الإسلام قرينة الشهادتين فهما ركن والصلاة ركن والزكاة ركن فما بال قبة الإسلام تبقى بعد سقوط أحد أركانها دون بقية أركانها.
الثالث: أنه جعل هذه الأركان نفس الإسلام وداخلة في مسمى اسمه وما كان أعطى لمجموع أمور إذا ذهب بعضها ذهب ذلك المسمى ولا سيما إذا كان من أركانه لا من اجزائه التي ليست بركن له كالحائظ للبيت فإنه إذا سقط البيت بخلاف العود والخشبة واللبنة ونحوها.
الدليل العاشر: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من صلى صلاتنا واستقبل قبلتنا وأكل ذبيحتنا فهو المسلم له ما لنا وعليه ما علينا" ووجه الدلالة فيه من وجهين:
أحدهما: أنه إنما جعله مسلما بهذه الثلاثة فلا يكون مسلما بدونها.
الثاني: أنه إذا صلى إلى الشرق لم يكن مسلما حتى يصلي إلى قبلة المسلمين فكيف إذا ترك الصلاة بالكلية.
الدليل الحادي عشر: وما رواه الدارمي عبد الله عبدالله بن عبدالرحمن تعظيم قدرالصلاة رقم قال حدثنا يحيى بن حسان حدثنا سليمان بن قرم عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن جابر بن عبدالله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مفتاح الجنة الصلاة". وهذا يدل على أن من لم يكن من أهل الصلاة لم تفتح له الجنة وهي تفتح لكل مسلم فليس تاركها مسلم ولا تناقض بين هذا وبين الحديث الآخر وهو قوله: "مفتاح الجنة شهادة أن لا إله إلا الله". فإن الشهادة أصل المفتاح والصلاة وبقية الأركان أسنانه التي لا يحصل الفتح إلا بها إذ دخول الجنة موقوف على المفتاح وأسنانه. وقال البخاري: وقيل لوهب بن منبه أليس مفتاح الجنة لاإله إلا الله قال: بلى ولكن ليس مفتاح إلا وله أسنان فإن جئت بمفتاح له أسنان فتح لك وإلا لم يفتح لك.
الدليل الثاني عشر: ما رواه محجن بن الأدرع الأسلمي أنه كان في مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فأذن بالصلاة فقام النبي صلى الله عليه وسلم ثم رجع ومحجن في مجلسه فقال له: "ما منعك أن تصلي ألست برجل مسلم"؟. قال: بلى ولكني صليت في أهلي فقال له: "إذا جئت فصل مع الناس وإن كنت قد صليت". رواه الإمام أحمد المسند والنسائي.
فجعل الفارق بين المسلم والكافر الصلاة وأنت تجد تحت الفاظ الحديث أنك لو كنت مسلما لصليت وهذا كما تقول: مالك لا تتكلم ألست بناطق وما لك لا تتحرك ألست بحي؟ ولو كان الإسلام يثبت مع عدم الصلاة لما قال لمن رآه لا يصلي ألست برجل مسلم؟.
فصل:
وأما إجماع الصحابة فقال ابن زنجويه حدثنا عمر بن الربيع حدثنا يحيى بن أيوب عن يونس عن ابن شهاب قال حدثني عبيدالله بن عبدالله بن عتبة أن عبدالله بن عباس أخبره أنه جاء عمر بن الخطاب حين طعن في المسجد. قال: فاحتملته أنا ورهط كانوا معي في المسجد حتى أدخلناه بيته. قال: فأمر عبدالرحمن بن عوف أن يصلي بالناس. قال: فلما دخلنا على عمر بيته غشي عليه من الموت فلم يزل في غشيته حتى أسفر ثم أفاق فقال: هل صلى الناس؟. قال: فقلنا نعم. فقال: لا إسلام لمن ترك الصلاة. وفي سياق آخر: لا حظ في الإسلام لمن ترك الصلاة, ثم دعا بوضوء فتوضأ وصلى, "وذكر القصة". فقال هذا بمحضر من الصحابة ولم ينكروه عليه وقد تقدم مثل ذلك عن معاذ بن جبل وعبدالرحمن بن عوف وأبي هريرة ولا يعلم عن صحابي خلافهم, وقال الحافظ عبدالحق الاشبيلي رحمه الله في كتابه في الصلاة: ذهب جملة من الصحابة رضي الله عنهم ومن بعدهم إلى تكفير تارك الصلاة متعمدا لتركها حتى يخرج جميع وقتها, منهم عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل وعبدالله بن مسعود وابن عباس وجابر وأبو الدرداء, وكذلك روي عن علي بن أبي طالب هؤلاء من الصحابة. ومن غيرهم: أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهوية وعبدالله بن المبارك وإبراهيم النخعي والحكم بن عيينة وأيوب السختياني وأبو داود الطيالسي وأبو بكر ابن أبي شيبة وأبو خيثمة زهير بن حرب. قال: المانعون من التكفير يجب حمل هذه الأحاديث وما شاكلها على كفر النعمة دون كفر الجحود كقوله صلى الله عليه وسلم: "من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها". وقوله: "لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم". وقوله: "تبرؤه من نسب وإن دق كفر بعد إيمان". وقوله: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". وقوله: "من أتى امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد". وقوله: "من حلف بغير الله فقد كفر". رواه الحاكم في صحيحه بهذا اللفظ وقوله: "اثنتان في أمتي هما بهم كفر الطعن في الأنساب والنياحة على الميت". ونظائر ذلك كثيرة.
قالوا: وقد نفى النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر والمنتهب ولم يوجب زوال هذا الاسم عنهم كفر الجحود والخلود في النار فكذلك كفر تارك الصلاة ليس بكفر جحود ولا يوجب التخليد في الجحيم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا إيمان لمن لا أمانة له". فنفى عنه الإيمان ولا يوجب ترك أداء الأمانة أن يكون كافرا كفرا ينقل عن الملة. وقد قال ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}: ليس بالكفر الذي يذهبون إليه. وقد قال طاووس: سئل ابن عباس عن هذه الآية فقال: هو به كفر, وليس كمن كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله. وقال أيضا: كفر لا ينقل عن الملة. وقال سفيان عن ابن جريح عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق.

فصل:

في الحكم بين الفريقين، وفصل الخطاب بين الطائفين.

معرفة الصواب في هذه المسألة مبني على معرفة حقيقة الإيمان والكفر، ثم يصح النفي والإثبات بعد ذلك. فالكفر والإيمان متقابلان إذا زال أحدهما خلفه الآخر, ولما كان الإيمان أصلا له شعب متعددة وكل شعبة منها تسمى إيمانا فالصلاة من الإيمان وكذلك الزكاة والحج والصيام والأعمال الباطنة كالحياء والتوكل والخشية من الله والإنابة إليه حتى تنتهي هذه الشعب إلى إماطة1 الأذى عن الطريق فإنه شعبة من شعب الإيمان, وهذه الشعب منها ما يزول الإيمان بزوالها كشعبة الشهادة, ومنها ما لا يزول بزوالها كترك إماطة الأذى عن الطريق, وبينهما شعب متفاوتة تفاوتا عظيما منها ما يلحق بشعبة الشهادة ويكون إليها أقرب, ومنها ما يلحق بشعبة إماطة الأذى ويكون إليها أقرب.
وكذلك الكفر ذو أصل وشعب. فكما أن شعب الإيمان إيمان فشعب الكفر كفر, والحياء شعبة من الإيمان, وقلة الحياء شعبة من شعب الكفر, والصدق شعبة من شعب الإيمان والكذب شعبة من شعب الكفر, والصلاة والزكاة والحج والصيام من شعب الإيمان, وتركها من شعب الكفر, والحكم بما‎ أنزل الله من شعب الإيمان والحكم بغير ما أنزل الله من شعب الكفر, والمعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان. وشعب الإيمان قسمان: قولية وفعلية. وكذلك شعب الكفر نوعان: قولية وفعلية. ومن شعب الإيمان القولية شعبة يوجب زوالها زوال الإيمان, فكذلك من شعبه الفعلية ما يوجب زوالها زوال الإيمان وكذلك شعب الكفر القولية والفعلية. فكما يكفر بالإتيان بكلمة الكفر اختيارا وهي شعبة من شعب الكفر

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 تنحيته.

فكذلك يكفر بفعل شعبة من شعبه كالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف فهذا أصل, وها هنا أصل آخر: وهو أن حقيقة الإيمان مركبة من قول وعمل. والقول قسمان: قول القلب وهو الاعتقاد وقول اللسان وهوالتكلم بكلمة الإسلام, والعمل قسمان: عمل القلب وهو نيته وإخلاصه, وعمل الجوارح, فإذا زالت هذه الأربعة زال الإيمان بكماله وإذا زال تصديق القلب لم تنفع بقية الأجزاء فإن تصديق القلب شرط في اعتقادها وكونها نافعة, وإذا زال عمل القلب مع اعتقاد الصدق فهذا موضع المعركة بين المرجئة و أهل السنة.

فأهل السنة مجمعون على زوال الإيمان وأنه لا ينفع التصديق مع انتفاء عمل القلب, وهومحبته وانقياده كما لم ينفع إبليس وفرعون وقومه واليهود والمشركين الذين كانوا يعتقدون صدق الرسول صلى الله عليه وسلم بل ويقرون به سرا وجهرا ويقولون ليس بكاذب ولكن لا نتبعه ولا نؤمن به.

فإذا كان الإيمان يزول بزوال عمل القلب فغير مستنكر أن يزول بزوال أعظم أعمال الجوارح ولا سيما إذا كان ملزوما لعدم محبة القلب وانقياده الذي هو ملزوم لعدم التصديق الجازم كما تقدم تقريره فإنه يلزمه من عدم طاعة القلب عدم طاعة الجوارح إذ لو أطاع القلب وانقاد أطاعت الجوارح وانقادت, ويلزم من عدم طاعته وانقياده عدم التصديق المستلزم للطاعة وهو حقيقة الإيمان, فإن الإيمان ليس مجرد التصديق كما تقدم بيانه وإنما هو التصديق المستلزم للطاعة والانقياد وهكذا الهدى ليس هو مجرد معرفة الحق وتبينه بل هو معرفته المستلزمة لاتباعه والعمل بموجبه وإن سمي الأول هدى فليس هو الهدى التام المستلزم للاهتداء كما أن اعتقاد التصديق وإن سمي تصديقا فليس هو التصديق المستلزم للإيمان فعليك بمراجعة هذا الأصل ومراعاته.

"فصل":

وها هنا أصل آخر وهو أن الكفر نوعان:

كفر عمل وكفر جحود وعناد, فكفر الجحود أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه, وهذا الكفر يضاد الإيمان من كل وجه.

وأما كفر العمل فينقسم إلى ما يضاد الإيمان وإلى ما لا يضاده. فالسجود للصنم والاستهانة بالمصحف وقتل النبي وسبه يضاد الإيمان, وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة فهو من الكفر العملي قطعا ولا يمكن أن ينفي عنه اسم الكفر بعد أن اطلقه الله ورسوله عليه فالحاكم بغير ما أنزل الله كافر وتارك الصلاة كافر بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم, ولكن هو كفر عمل لا كفر اعتقاد, ومن الممتنع أن يسمي الله سبحانه الحاكم بغير ما أنزل الله كافرا ويسمى رسول الله صلى الله عليه وسلم تارك الصلاة كافرا ولا يطلق عليهما اسم كافر. وقد نفى رسول الله صلى الله عليه وسلم الإيمان عن الزاني والسارق وشارب الخمر وعمن لا يأمن جاره بوائقه, وإذا نفي عنه اسم الإيمان فهو كافر من جهة العمل وانتفى عنه كفر الجحود والاعتقاد وكذلك قوله: "لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض". فهذا كفر عمل. وكذلك قوله: "من أتى كاهنا فصدقه أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد". وقوله: "إذا قال الرجل لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما". وقد سمى الله سبحانه وتعالى من عمل ببعض كتابه وترك العمل ببعضه مؤمنا بما عمل به وكافرا بما ترك العمل بت, فقال تعالى: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ ُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}. فأخبر سبحانه أنهم أقروا بميثاقه الذي أمرهم به والتزموه. وهذا يدل على تصديقهم به أنهم لا يقتل بعضهم بعضا ولا يخرج بعضهم بعضا من ديارهم ثم أخبر أنهم عصوا أمره وقتل فريق منهم فريقا وأخرجوهم من ديارهم فهذا كفرهم بما أخذ عليهم في الكتاب ثم أخبر أنهم يفدون من أسر من ذلك الفريق وهذا إيمان منهم بما‎ أخذ عليهم في الكتاب فكانوا مؤمنين بما عملوا به من الميثاق كافرين بما تركوه منه, فالإيمان العملي يضاده الكفر العملي والإيمان الاعتقادي يضاده الكفر الاعتقادي.
وقد أعلن النبي صلى الله عليه وسلم بما قلناه في قوله في الحديث الصحيح: "سباب المسلم فسوق وقتاله كفر". ففرق بين قتاله وسبابه وجعل أحدهما فسوقا لا يكفر به والآخر كفر, ومعلوم أنه إنما أراد الكفر العلمي لا الاعتقادي, وهذا الكفر لا يخرجه من الدائرة الإسلامية والملة بالكلية كما لا يخرج الزاني والسارق والشارب من الملة وإن زال عنه اسم الإيمان, وهذا التفصيل هو قول الصحابة الذين هم أعلم الأمة بكتاب الله وبالإسلام والكفر ولوازمهما فلا تتلقى هذه المسائل إلا عنهم فإن المتأخرين لم يفهموا مرادهم فانقسموا فريقين فريقا أخرجوا من الملة بالكبائر, وقضوا على أصحابها بالخلود في النار, وفريقا جعلوهم مؤمنين كاملي الإيمان فهؤلاء غلوا وهؤلاء جفوا وهدى الله أهل السنة للطريقة المثلى والقول الوسط الذي هو في إذنه كالإسلام في الملل فها هنا كفر دون كفر ونفاق دون نفاق وشرك دون شرك وفسوق دون فسوق وظلم دون ظلم. قال سفيان بن عيينة عن هشام بن حجير عن طاووس عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ}. ليس هو بالكفر الذي يذهبون إليه. وقال عبدالرزاق أخبرنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه قال: سئل ابن عباس عن قوله: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} قال: هو بهم كفر وليس كمن كفر بالله وملائكته كتبه ورسله, وقال في رواية أخرى عنه: كفر لا ينقل عن الملة. وقال طاووس: ليس بكفر ينقل عن الملة. وقال وكيع عن سفيان عن ابن جريج عن عطاء: كفر دون كفر وظلم دون ظلم وفسق دون فسق. وهذا الذي قاله عطاء بين في القرآن لمن فهمه فإن الله سبحانه سمى الحاكم بغير ما أنزله كافرا ويسمى جاحد ما أنزله على رسوله كافرا. وليس الكافران على حد سواء, وسمى الكافر ظالما كما في قوله تعالى: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.

وسمى متعدي حدوده في النكاح والطلاق والرجعة والخلع ظالما فقال: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}.
وقال يونس نبيه: {لاَ إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ}. وقال صفيه آدم: {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا}. وقال كليمه موسى: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي}. وليس هذا الظلم مثل ذلك الظلم, ويسمى الكافر فاسقا كما في قوله: {وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ}. وقوله: {وَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ}.
وهذا كثير في القرآن ويسمى المؤمن العاصي فاسقا كما في قوله تعالى: {يََا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. نزلت في الحكم ابن أبي العاص وليس الفاسق كالفاسق, وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}. وقال ‎عن ابليس: {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ}. وقال: {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ}. وليس الفسوق كالفسوق.
والكفر كفران, والظلم ظلمان, والفسق فسقان, وكذا الجهل جهلان: ‎ جهل كفر كما في قوله تعالى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}. وجهل غير كفر كقوله تعالى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ}.

كذلك الشرك شركان: شرك ينقل عن الملة وهو الشرك الأكبر، وشرك لا ينقل عن الملة وهو الشرك الأصغر: وهو شرك العمل: كالرياء. وقال تعالى في الشرك الأكبر: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ}. وقال: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ}. وفي شرك الرياء: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}. ومن هذا الشرك الأصغر قوله صلى الله عليه وسلم: "من حلف بغير الله فقد أشرك". رواه أبو داود وغيره, ومعلوم أن حلفه بغير الله لا يخرجه عن الملة ولا يوجب له حكم الكفار. ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل".
فانظر كيف انقسم الشرك والكفر والفسوق والظلم والجهل إلى ما هو كفر ينقل عن الملة وإلى ما لا ينقل عنها وكذا النفاق نفاقان: نفاق اعتقاد ونفاق عمل, فنفاق الاعتقاد هو الذي أنكره الله على المنافقين في القرآن وأوجب لهم الدرك الأسفل من النار, ونفاق العمل كقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا ائتمن خان". وفي الصحيح أيضا: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر وإذا ائتمن خان".
فهذا نفاق عمل قد يجتمع مع أصل الإيمان ولكن إذا استحكم وكمل فقد ينسلخ صاحبه عن الإسلام بالكلية وإن صلى وصام وزعم أنه مسلم, فإن الإيمان ينهى المؤمن عن هذه الخلال فإذا كملت في العبد ولم يكن له ما ينهاه عن شيء منها فهذا لايكون إلا منافقا خالصا, وكلام الإمام أحمد يدل على هذا فإن إسماعيل بن سعيد الشالنجي قال: ‎سألت أحمد بن حنبل عن المصر على الكبائر يطلبها بجهده إلا أنه لم يترك الصلاة والزكاة والصوم, وهل يكون مصرا من كانت هذه حاله؟. قال: هو مصر, مثل قوله: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن". يخرج من الإيمان ويقع في الإسلام, ونحو قوله: "لا يشرب الخمر حين بشربها وهو مؤمن ولا يسرق حين يسرق وهو مؤمن". ونحو قول ابن عباس في قوله تعالى: "وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ". قال إسماعيل: فقلت: له ما هذا الكفر؟ قال: كفر لا ينقل عن الملة مثل الإيمان بعضه دون بعض, فكذلك الكفر حتى يجيء من ذلك أمر لا يختلف فيه.

فصل

وههنا أصل آخر وهو أن الرجل قد يجتمع فيه كفر وإيمان وشرك وتوحيد وتقوى وفجور ونفاق وإيمان, هذا من أعظم أصول أهل السنة, وخالفهم فيه غيرهم من أهل البدع كالخوارج والمعتزلة والقدرية.

ومسألة خروج أهل الكبائر من النار وتخليدهم فيها مبنية على هذا الأصل, وقد دل عليه القرآن والسنة والفطرة وإجماع الصحابة. قال تعالى: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ}. فأثبت لهم إيمانا به سبحانه مع الشرك. وقال تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْأِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ1 مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}. فأثبت لهم إسلاما وطاعة لله ورسوله مع نفي الإيمان عنهم وهو الإيمان المطلق الذي يستحق اسمه بمطلقه. الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله, وهؤلاء ليسوا منافقين في أصح القولين بل هم مسلمون بما معهم من طاعة الله ورسوله وليسوا مؤمنين وإن كان معهم جزء من الإيمان أخرجهم من الكفر.
قال الإمام أحمد: من أتى هذه الأربعة أو مثلهن أو فوقهن يريد: الزنا والسرقة وشرب الخمر والانتهاب فهو مسلم، ولا أسمية مؤمنا, ومن أتى دون ذلك يريد دون الكبائر: سميته مؤمنا ناقص الإيمان. فقد دل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: "فمن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق". فدل على أنه يجتمع في الرجل نفاق وإسلام.
وكذلك الرياء شرك فإذا راءى الرجل في شيء من عمله اجتمع فيه الشرك والإسلام, وإذا حكم بغير ما أنزل الله أو فعل ما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرا وهو ملتزم للإسلام وشرائعه فقد قام به كفر وإسلام, وقد بينا أن المعاصي كلها شعب من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها شعب من شعب الإيمان, فالعبد تقوم به شعبة أو أكثر من شعب الإيمان, وقد يسمى بتلك الشعبة مؤمنا وقد لا يسمى, كما أنه قد يسمى بشعبة من شعب الكفر كافرا وقد لا يطلق عليه هذا الاسم فها هنا أمران أمر اسمي لفظي وأمر معنوي حكمي, فالمعنوي هل هذه الخصلة كفر أم لا؟, واللفظي هل يسمى من قامت به كافرا أم لا؟ فالأمر الأول شرعي محض, والثاني لغوي وشرعي.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 لا ينقصكم.

فصل

وها هنا أصل آخر وهو أنه لا يلزم من قيام شعبة من شعب الإيمان بالعبد أن يسمى مؤمنا وإن كان ما قام به إيمانا ولا من قيام شعبة من شعب الكفر به أن يسمى كافرا وإن كان ما قام به كفرا, كما‎ أنه لا يلزم من قيام جزء من أجزاء العلم به أن يسمى عالما ولا من معرفة بعض مسائل الفقه والطب أن يسمى فقهيا ولا طبيبا, ولا يمنع ذلك أن تسمى شعبة الايمان إيمانا وشعبة النفاق نفاقا وشعبة الكفر كفرا. وقد يطلق عليه الفعل كقوله: "فمن تركها فقد كفر". "ومن حلف بغير الله فقد كفر", وقوله: "من أتى كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر ومن حلف بغير الله فقد كفر". رواه الحاكم في صحيحه بهذااللفظ.
فمن صدر منه خلة من خلال الكفر فلا يستحق اسم كافر على الإطلاق, وكذا يقال لمن ارتكب محرما إنه فعل فسوقا وإنه فسق بذلك المحرم ولا يلزمه اسم فاسق إلا بغلبة ذلك عليه.
وهكذا الزاني والسارق والشارب والمنتهب لا يسمى مؤمنا وإن كان معه إيمان كما أنه لا يسمى كافرا وإن كان ما أتى به من خصال الكفر وشعبه إذ المعاصي كلها من شعب الكفر كما أن الطاعات كلها من شعب الإيمان والمقصود أن سلب الإيمان من تارك الصلاة أولى من سلبه عن مرتكب الكبائر. وسلب اسم الإسلام عنه أولى من سلبه عمن لم يسلم المسلمون من لسانه ويده فلا يسمى تارك الصلاة مسلما ولا مؤمنا وإن كان شعبة من شعب الإسلام والإيمان.
نعم يبقى أن يقال: فهل ينفعه ما معه من الإيمان في عدم الخلود في النار؟ فيقال: ينفعه إن لم يكن المتروك شرطا في صحة الباقي واعتباره, وإن كان المتروك شرطا في اعتبار الباقي لم ينفعه ولهذا لم ينفع الإيمان بالله ووحدانيته وأنه لا إله إلا هو من أنكر رسالة محمد صلى الله عليه وسلم, ولا تنفع الصلاة من صلاها عمدا بغير وضوء, فشعب الإيمان قد يتعلق بعضها ببعض تعلق المشروط بشرطه، وقد لايكون كذلك فيبقى النظر في الصلاة: هل هي شرط لصحة الإيمان؟ هذا سر المسألة, والأدلة التي ذكرناها وغيرها تدل على أنه لا يقبل من العبد شيء من أعماله إلا بفعل الصلاة فهي مفتاح ديوانه ورأس مال ربحه ومحال بقاء الربح بلا رأس مال فإذا خسرها خسر أعماله كلها وإن أتى بها صورة, وقد أشار إلى هذا في قوله: "فإن ضيعها فهو لما سواها أضيع". وفي قوله: "أول ما ينظر من أعماله الصلاة, فإن جازت له نظر في سائر أعماله، وإن لم تجز له لم ينظر في شيء من أعماله بعد".
و ومن العجب أن يقع الشك في كفر من أصر على تركها, ودعى إلى فعلها على رؤوس الملأ وهو يرى بارقة السيف على رأسه ويشد للقتل وعصبت عيناه وقيل له تصلي وإلا قتلناك فيقول اقتلوني ولا أصلي أبدا! ومن لا يكفر تارك الصلاة يقول هذا مؤمن مسلم يغسل يصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين, وبعضهم يقول إنه مؤمن كامل الإيمان إيمانه كإيمانه جبريل وميكائيل فلا يستحي من هذا قوله من إنكاره تكفير من شهد بكفره الكتاب والسنة واتفاق الصحابة والله الموفق.

فصل

في سياق أقوال العلماء من التابعين ومن بعدهم في كفر تارك الصلاة ومن حكى الإجماع على ذلك,

وقال محمد بن نصر: حدثنا محمد بن يحيى حدثنا أبو النعمان حدثنا حماد بن زيد عن أيوب قال: ترك الصلاة كفر لا يختلف فيه, وحكى محمد بن نصر عن ابن المبارك قال: من أخر صلاة حتى يفوت وقتها متعمدا من غير عذر فقد كفر, وقال علي بن الحسن بن شقيق: سمعت عبدالله بن المبارك يقول: من قال إني لا أصلي المكتوبة اليوم فهو أكفر من حمار. وقال يحيى بن معين: قيل لعبدالله بن المبارك إن هؤلاء يقولون من لم يصم ولم يصل بعد أن يقر به فهو مؤمن مستكمل الإيمان, فقال عبدالله: لا نقول نحن ما يقول هؤلاء من ترك الصلاة متعمدا من غير علة حتى أدخل وقتا في وقت فهو كافر.
وقال ابن أبي شيبة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من ترك الصلاة فقد كفر", فيقال له ارجع عن الكفر فإن فعل وإلا قتل بعد أن يؤجله الوالي ثلاثة أيام.

وقال أحمد بن يسار: سمعت صدقة بن الفضل وسئل عن تارك الصلاة فقال كافر. فقال له السائل: أتبين منه امرأته؟ فقال صدقة: وأين الكفر من الطلاق. لو أن رجلا كفرلم تطلق منه امرأته.
قال محمد بن نصر: سمعت إسحاق يقول صح عن النبي صلى الله عليه وسلم "أن تارك الصلاة" كافر وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر.

المسألة الرابعة :

هل تحبط الأعمال بترك الصلاة أم لا؟

فصل
وأما المسألة الرابعة وهي قوله: هل تحبط الأعمال بترك الصلاة أم لا؟

فقد عرف جوابها مما تقدم, وإنا نفرد هذه المسألة بالكلام عليها بخصوصيتها فنقول أما تركها بالكلية فإنه لا يقبل معه عمل كما لا يقبل مع الشرك عمل فإن الصلاة عمود الإسلام كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم وسائر الشرائع كالأطناب والأوتاد ونحوها, وإذا لم يكن للفسطاط عمود لم ينتفع بشيء من أجزائه فقبول سائر الاعمال موقوف على قبول الصلاة, فإذا ردت ردت عليه سائر الأعمال, وقد تقدم الدليل على ذلك.
وأما تركها أحيانا فقد روي البخاري في صحيحه من حديث بريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بكروا بصلاة العصر فإن من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله ".

وقد تكلم قوم في معنى هذا الحديث فأتوا بما لا حاصل له. قال المهلب معناه: من تركها مضيعا لها متهاونا بفضل وقتها مع قدرته على أدائها حبط عمله في الصلاة خاصة أي لا يحصل له أجر المصلي في وقتها, ولا يكون له عمل ترفعه الملائكة. وحاصل هذا القول: إن من تركها فاته أجرها. ولفظ الحديث ومعناه يأبى ذلك ولا يفيد حبوط عمل قد ثبت وفعل, وهذا حقيقة الحبوط في اللغة والشرع ولا يقال لمن فاته ثواب عمل من الأعمال إنه قد حبط عمله وإنما يقال فاته أجر ذلك العمل.

وقالت طائفة: يحبط عمل ذلك اليوم لا جميع عمله فكأنهم استصعبوا حبوط الأعمال الماضية كلها بترك صلاة واحدة، وتركها عنده ليس بردة تحبط الأعمال فهذا الذي استشكله هؤلاء هو وارد عليهم بعينه في حبوط عمل ذلك اليوم والذي يظهر في الحديث. والله أعلم بمراد رسوله أن الترك نوعان: ترك كلي لا يصليها أبدا فهذا يحبط العمل جميعه وترك معين في يوم معين فهذا يحبط عمل ذلك اليوم فالحبوط العام في مقابلة الترك العام, والحبوط المعين في مقابلة الترك المعين, فإن قيل: كيف تحبط الأعمال بغير الردة؟ قيل: نعم, قد دل القرآن والسنة والمنقول عن الصحابة أن السيئات تحبط الحسنات, كما أن الحسنات يذهبن السيئات. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى}. [color="rgb(46, 139, 87)"]{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ}. وقالت عائشة لأم زيد بن أرقم: أخبري زيدا أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن يتوب لما باع بالعينة1. وقد نص الإمام أحمد على هذا فقال: ينبغي للعبد في هذا الزمان أن يستدين ويتزوج لئلا ينظر ما لا يحل فيحبط عمله, وآيات الموازنة في القرآن تدل على أن السيئة تذهب بحسنة أكبر منها, فالحسنة يحبط أجرها بسيئة أكبر منها.[/color]

فإن قيل: فأي فائدة في تخصيص صلاة العصر بكونها محبطة دون غيرها من الصلوات؟.
قيل: الحديث لم ينف الحبوط بغير العصر إلا بمفهوم لقب وهو مفهوم ضعيف جدا وتخصيص العصر بالذكر لشرفها من بين الصلوات ولهذا كانت هي الصلاة الوسطى بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيح الصريح.
ولهذا خصها بالذكر في الحديث الآخر وهو قوله: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". أي فكأنما سلب أهله وماله فأصبح بلا أهل ولا مال, وهذا تمثيل لحبوط عمله بتركها, كأنه شبه أعماله الصالحة بانتفاعه وتمتعه بها بمنزلة أهله وماله فإذا ترك صلاة العصر فهو كمن له أهل ومال فخرج من بيته لحاجة وفيه أهله وماله فرجع وقد احتيج الأهل والمال فبقي وترا دونهم وموتورا بفقدهم عليه أعماله الصالحة لم يكن التمثيل مطابقا.

فصل
والحبوط نوعان:

عام وخاص, فالعام حبوط الحسنات كلها بالردة والسيئات كلها بالتوبة, والخاص حبوط السيئات والحسنات بضعها ببعض وهذا حبوط مقيد جزئي وقد تقدم دلالة القرآن والسنة والآثار وأقوال الأئمة عليه, ولما كان الكفر والإيمان كل منهما يبطل الآخر ويذهبه كانت شعبة كل واحد منهما لها تأثير في إذهاب بعض شعب الآخر فإن عظمت الشعبة ذهب في مقابلتها شعب كثيرة وتأمل قول أم المؤمنين في مستحل العينة إنه قد أبطل جهاده مع رسول الله كيف قويت هذه الشعبة التي أذن الله فاعلها بحربه وحرب رسوله على إبطال محاربة الكفار فأبطل الحراب المكروه الحراب المحبوب كما تبطل محاربة أعدائه التي يحبها محاربته التي يبغضها والله المستعان.

بارك الله فيك أخي البرايجي
ورحم الله العلامة ابن القيم فاضح الجهمية والمعطلة

موضوع مميز واصل..

المسألة الخامسة

التي هى قوله هل تقبل صلاة الليل بالنهار وصلاة النهار باليل أم لا؟

فصل
وأما المسألة الخامسة التي هى قوله هل تقبل صلاة الليل بالنهار وصلاة النهار باليل أم لا؟

فهذه المسألة لها صورتان:
إحداهما يقبل فيها بالنص والإجماع وهي ما إذا فاتته صلاة النهار بنوم أو نسيان فصلاها بالليل وعكسه كما ثبت في الصحيحين من حديث أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة أو نام عنها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" واللفظ لمسلم.
وروى مسلم عنه أيضا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله يقول: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}".
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قفل من غزوة خيبر سار ليلة حتى إذا أدركه الكرى عرس, وقال لبلال:"أكلأ لنا الليل" فصلى بلال ما قدر له, ونام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه فلما تقارب الفجر استند بلال إلى راحلته مواجه الفجر, فغلبت بلالا عيناه وهو مستند إلى راحلته فلم يستيقظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بلال ولاأحد من أصحابه حتى ضربتهم الشمس فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم أولهم استيقاظا, ففزع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "أي بلال"؟ فقال بلال : أخذ بنفسي الذي أخذ بنفسك بأبي أنت وأمي يا رسول الله. قال قتادة: فاقتادوا رواحلهم شيئا ثم توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر بلالا فأقام الصلاة فصلى بهم الصبح فلما قضى الصلاة قال: "من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قال: {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}".
وفي الصحيحين من حديث عمران بن حصين نحو هذه القصة. وفي صحيح مسلم عن أبي قتادة قال: ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة قال: "إنه ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يجيء وقت الأخرى".

وفي مسند الإمام أحمد من حديث عبدالله بن مسعود قال: أقبل النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية ليلا فنزلنا منزلا دهاسا من الأرض فقال: "من يكلؤنا" فقال بلال: أنا. قال "إذا تنام". قال:"]لا. فنام حتى طلعت الشمس فاستيقظ فلان وفلان فيهم عمر فقال: اهبطوا فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم فقال:]"افعلوا كما كنتم تفعلون" فلما فعلوا, قال: "هكذا فافعلوا لمن نام منكم أو نسي". فهذا متفق عليه بين الأئمة, واختلفوا في مسألتين: لفظية وحكمية.
فاللفظية هل تسمى هذه الصلاة أداء أو قضاء؟ فيه نزاع لفظي محض فهي قضاء لما فرض الله عليهم, وأداء باعتبار الوقت في حق النائم والناسي فإن الوقت في حقهما وقت الذكر والانتباه, فلم يصلها إلا في وقتها الذي أمرنا بإيقاعها فيه وأما ما يذكره الفقهاء في كتبهم من قوله:]فليصلها إذا ذكرها فإن ذلك وقتها" فهذه الزيادة لم أجدها في شيء من كتب الأحاديث, ولا أعلم لها إسنادا, ولكن قد روى البيهقي السنن والدارقطني من حديث أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها".

فصل
وأما المسألة الحكمية:

فهل تجب المبادرة إلى فعلها على الفور حين يستيقظ ويذكر أم يجوز له التأخير؟
فيه قولان:
أصحهما وجوبها على الفور, وهذا قول جمهور الفقهاء منهم إبراهيم النخعي ومحمد بن شهاب الزهري وربيعة ابن أبي عبدالرحمن ويحيى بن سعيد الأنصاري وأبوحنيفة ومالك و الإمام أحمد وأصحابهم, و أكثر العلماء, وظاهر مذهب الشافعي أنه على التراخي, واحتج من نص على هذا القول بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يصلها في المكان الذي ناموا به بل أمرهم فاقتادوا رواحلهم إلى مكان آخر فصلى فيه وفي حديث أبي قتادة فلما استيقظوا قال اركبوا فركبنا فسرنا حتى ارتفعت الشمس نزل ثم دعا بميضأة فيها ماء فتوضأ ثم أذن بلال بالصلاة فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعيتن ثم صلى الغداة قالوا: ولو وجب القضاء على الفور لم يفارق منزله حتى يفعلها, قالوا: ولا يصح الاعتذار عن هذا بأن ذلك المكان كان فيه شيطان فلم يصلوا فيه فإن حضور الشيطان في المكان لا يكون عذرا في تأخير الواجب. قال الشافعي: ولو كان وقت الفائتة يضيق لما‎أخره لأجل الشيطان فقد صلى صلى الله عليه وسلم وهو يخنق الشيطان. قال الشافعي: فخنقه للشيطان في الصلاة أبلغ من واد فيه شيطان. قالوا: ولأنها عبادة مؤقتة فإذا فاتت لم يجب قضاؤها على الفور كصوم رمضان بل أولى؛ لأن الأداء متوسع في الصلاة دون الصوم فكانت التوسعة في القضاء أولى. وقال أبو اسحاق إبراهيم بن أحمد المروزي الشافعي إن أخرها لعذر قضاها على التراخي للحديث وإن أخرها لغير عذر قضاها على الفور لئلا يثبت بتفريطه ومعصيته رخصة لم تكن. واحتج الجمهور بما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي قتادة أنهم ذكروا للنبي صلى الله عليه وسلم نومهم عن الصلاة فقال: "ليس في النوم تفريط فإذا نسي أحدكم صلاة أو‎نام عنها فليصلها إذا ذكرها لا كفارة لها إلا ذلك". وفي صحيحه أيضا عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم"من نسي الصلاة فليصلها إذا ذكرها فإن الله قال {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي}". وعند الدارقطني في هذا الحديث:]"من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها", وهذه الألفاظ صريحة في الوجوب على الفور, قالوا: وما استدللتم به على جواز التأخير فإنما يدل على التأخير اليسير الذي لا يصير صاحبه مهملا معرضا عن القضاء بل يفعله لتكميل الصلاة من اختيار بقعة على بقعة وانتظار رفقة أو جماعة لتكثير أجر الصلاة ونحو ذلك من تأخير يسير لمصلحتها وتكميلها, فكيف يؤخذ من هذا التأخير اليسير لمصلحتها جواز تأخير سنين عددا؟.

وقد نص الإمام أحمد على أن المسافر إذا نام في منزله عن الصلاة حتى فاتت أنه يستحب له أن ينتقل عنه إلى غيره فيقضيها فيه للخبر مع أن مذهبه وجوب فعلها على الفور, وإذا كانت أوامر الله ورسوله المطلقة على الفور فكيف المقيدة ولهذا أوجب الفورية في المقيدة أكثر من نفاها في المطلقة.
وأما ما تمسكوا به من القياس على قضاء رمضان فجوابه من وجهين:

أحدهما: أن السنة فرقت بين الموضعين فجوزت تأخير قضاء رمضان وأوجبت فعل المنسية ثم ذكرها, فليس لنا أن نجمع ما فرقت السنة بينهما.

الثاني: أن هذا القياس حجة عليهم فإن تأخير رمضان إنما يجوز إذا لم يأتي رمضان وهم يجوزون تأخير الفائتة وإن أتى عليها أوقات صلوات كثيرة فأين القياس وأما قولهم لو وجب الفور لما جاز التأخير لأجل الشيطان فقد تقدم جوابه وهو أن الموجبين للفور يجوزون التأخير اليسير لمصلحة التكميل, وأما نقضهم بخنق النبي صلى الله عليه وسلم للشيطان في صلاته فمن أعجب النقض, فإن التأخير اليسير للعدول عن مكان الشيطان لا تترك به الصلاة ولا يذهب به وقتها ولا يقطعها المصلي بخلاف من عرض له الشيطان في صلاته فإنه لو تركها لأجله لكان قد أبطل صلاته وقطعها بعد دخوله فيها, ولعله إن تعرض له في الصلاة الثانية فيقطعها فيترك الصلاة بالكلية فأين إحدى المسألتين من الأخرى والله أعلم بالصواب.

فصل
وأما الصورة الثانية:

وهي ما إذا ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها فهي مسألة عظيمة تنازع فيها الناس هل ينفعه القضاء ويقبل منه أم لا ينفعه ولا سبيل له إلى استدراكها أبدا.
فقال أبو حنيفة والشافعي وأحمد ومالك يجب عليه قضاؤها ولا يذهب القضاء عنه إثم التفويت بل هو مستحق للعقوبة إلى أن يعفو الله عنه, وقالت طائفة من السلف والخلف من تعمد تأخير الصلاة عن وقتها من غير عذر يجوز له التأخير, فهذا لا سبيل له إلى استدراكها. ولايقدر على قضائها أبدا ولا يقبل منه, ولا نزاع بينهم أن التوبة النصوح تنفعه.
ولكن هل من تمام توبته قضاء تلك الفوائت التي تعمد تركها فلا تصح التوبة بدون قضائها أم لا تتوقف التوبة على القضاء فيحافظ عليها في المستقبل ويستكثر من النوافل, وقد تعذر عليه استدراك ما مضى هذا محل الخلاف.
ونحن نذكر حجج الفريقين:- قال الموجبون للقضاء: لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم النائم والناسي بالقضاء وهما معذورين غير مفرطين فإيجاب القضاء على المفرط العاصي أولى وأحرى, فلو كانت الصلاة لا تصح إلا في وقتها لم ينفع قضاؤها بعد الوقت في حق النائم والناسي. قالوا: وقد صلى صلى الله عليه وسلم العصر بعد المغرب يوم الخندق, ومعلوم قطعا أنهم لم يكونوا نائمين ولا ساهين عنها, ولو اتفق النسيان لبعضهم لم يتفق للجميع, قالوا: وكيف يكون المفرط بالتأخر أحسن حالا من المعذور فيخفف عن المفرط ويشدد على المعذور. قالوا: وإنما أنام الله سبحانه وتعالى رسوله والصحابة ليبين للأمة حكم من فاتته الصلاة وأنها لا تسقط عنه بالتفويت بل يتداركها فيما بعد. قالوا: وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم من أفطر بالجماع في رمضان أن يقضي يوما مكانه, قالوا: والقياس يقتضي وجوب القضاء فإن الأمر متوجه على المكلف بفعل العبادة في وقتها, فإذا فرط في الوقت وتركه لم يكن ذلك مسقطا لفعل العبادة عنه.
قال الآخرون: أوامر الرب تبارك وتعالى نوعان: نوع مطلق غير مؤقت فهذا يفعل في كل وقت, ونوع مؤقت بوقت محدود وهو نوعان: أحدهما ما وقته بقدر فعله كالصيام. والثاني: ما وقته أوسع من فعله كالصلاة, وهذا القسم فعله في وقته شرط في كونه عبادة مأمورا بها فإنه إنما أمر به على هذه الصفة فلا تكون عبادة على غيرها, قالوا: فما أمر الله به في الوقت فتركه المأمور حتى فات وقته لم يمكن فعله بعد الوقت شرعا وإن أمكن حسا بل لا يمكن حسا أيضا فإن إيتانه بعد الوقت أمر غير المشروع.

قالوا ولهذا لا يمكن فعل الجمعة بعد خروج وقتها, ولا الوقوف بعرفة بعد وقته. قالوا: ولا مشروع إلا ما شرعه الله ورسوله, وهو سبحانه ما شرع فعل الصلاة والصيام والحج إلا في أوقات مختصة بت, فإذا فاتت تلك الأوقات لم تكن مشروعة, ولم يشرع الله سبحانه فعل الجمعة يوم السبت ولاالوقوف بعرفة في اليوم العاشر, ولا الحج في غير أشهره.
وأما الصلوات الخمس فقد ثبت بالنص والإجماع أن المعذور بالنوم والنسيان وغلبة العقل يصليها إذا زال عذره, وكذلك صوم رمضان شرع الله سبحانه قضاءه بعذر المرض والسفر والحيض, وكذلك شرع رسوله الجمع بين الصلاتين المشتركتين في الوقت للمعذور بسفر أو مرض أو شغل يبيح الجمع فهذه يجوز تأخيرها عن وقتها المختص إلى وقت الأخرى للمعذور, ولا يجوز لغيره بالاتفاق بل هو من الكبائر العظام, كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه الجمع بين الجمع بين الصلاتين من غير عذر من الكبائر, ولكن يجب عليه فعلها وإن أخرها إلى وقت الثانية في هذه الصورة لأنها تفعل في هذا الوقت في الجملة.

وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصلاة خلف الأمراء الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها, وقيل له صلى الله عليه وسلم ألا نقاتلهم؟ قال: "لا ما صلوا", وهم كانوا يؤخرون الظهر خاصة إلى وقت العصر فأمر بالصلاة خلفهم وتكون نافلة للمصلي وأمره أن يصلي الصلاة في وقتها ونهى عن قتالهم.

قالوا: وأما من أخر صلاة النهار فصلاها بالليل أوصلاة الليل فصلاها بالنهار فهذا الذي فعله غير الذي أمر به وغير ما شرعه الله ورسوله. فلا يكون صحيحا ولامقبولا. قالوا: وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ترك صلاة العصر حبط عمله". وقال: "الذي تفوته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله". فلو كان يمكنه استدراكها بالليل لم يحبط عمله ولم يكن موتورا من أعماله بمنزلة الموتور من أهله وماله. وقالوا: وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فكذا من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح. ولو كان فعلها بعد المغرب وطلوع الشمس صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو اقل من ركعة أو لم يدرك منها شيئا؛ فإنه صلى الله عليه وسلم لم يرد أدرك ركعة صحت صلاته بلا إثم إذ لاخلاف بين الأمة أنه لا يحل له تأخيرها إلى أن يضيق وقتها عن كمال فعلها, وإنما أراد بالإدراك الصحة والإجزاء. وعندكم تصح وتجزيء ولو أدرك منها قدر تكبيرة أو لم يدرك منها شيئا. فلا معنى للحديث عندكم البتة.

قالوا: والله سبحانه قد جعل لكل صلاة وقتا محدودا الأول والآخر. ولم يأذن في فعلها قبل دخول وقتها ولا بعد خروج وقتها. والمفعول قبل الوقت وبعده أمر غير مشروع. فلو كان الوقت ليس شرطا في صحتها لكان لا فرق في الصحة بين فعلها قبل الوقت وبعده؟ لأن كلا الصلاتين صلاها في غير وقتها فكيف قبلت من هذا المفرط بالتفويت ولم تقبل من المفرط بالتعجيل؟.

قالوا: والصلاة في الوقت واجبة على كل حال. حتى أنه يترك جميع الواجبات والشروط لأجل الوقت. فإذا عجز عن الوضوء أو الاستقبال أو طهارة الثوب والبدن وستر العورة أو قراءة الفاتحة أو القيام في الوقت وأمكنه أن يصلي بعد الوقت بهذه الأمور فصلاته في الوقت بدونها هي التي شرعها الله فعلم أن الوقت مقدم عند الله ورسوله على جميع الواجبات. فإذا لم يكن إلا أحد الأمرين وجب أن يصلي في الوقت بدون هذه الشروط والواجبات. ولوكان له سبيل إلى استدراك الصلاة بعد خروج وقتها لكان صلاته بعد الوقت مع كمال الشروط والواجبات خيرا من صلاته في الوقت بدونها وأحب إلى الله. وهذا باطل بالنص والاجماع.

وقالوا أيضا: فقد توعد الله سبحانه من فوت الصلاة عن وقتها بوعيد التارك لها. قال تعالى: {فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ} , وقد فسر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم السهو عنها بأنه تأخيرها عن وقتها كما ثبت ذلك عن سعد بن أبي وقاص. وفيه حديث مرفوع. وقال تعالى {فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً} وقد فسر الصحابة والتابعون إضاعتها بتفويت وقتها والتحقيق أن إضاعتها تتناول تركها والصيام كلاهما فرض واجب ودين ثابت يؤدى أبدا إن خرج الوقت المؤجل لهما, قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دين الله أحق أن يقضى", وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها, كان المتعمد لتركها الآثم في فعله ذلك لا يسقط عنه فرض الصلاة, وأن يحكم عليه بالإتيان بها؛ لأن التوبة من عصيانه في عمد تركها هي أداؤها وإقامتها مع الندم على ما سلف من تركه لها في وقتها. وقد شذ بعض أهل الظاهر وأقدم على خلاف جمهور علماء المسلمين وسبيل المؤمنين فقال: ليس على المتعمد لترك الصلاة في وقتها أن يأتي بها في غير وقتها؛ لأنه غير نائم ولا ناس. وإنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من نام عن صلاته أو نسيها فليصلها إذا ذكرها".
قال: والمتعمد غير الناسي والنائم. قال: وقياسه عليهما غير جائز عندنا. كما أن من قتل الصيد لا يجزيه عندنا. فخالف في المسألتين جمهور العلماء. وظن أنه يستتر في ذلك برواية شاذة جاءت عن بعض التابعين شذ فيها عن جماعة من علماء المسلمين وهو محجوج بهم مأمور باتباعهم. فخالف هذا الظاهري طريق النظر والاعتبار وشذ عن جماعة علماء الأمصار. ولم يأت فيما ذهب إليه من ذلك بدليل يصح في العقول.

ومن الدليل على أن الصلاة تصلى وتقضى بعد خروج وقتها كالصيام سواء وإن كان إجماع الأمة الذين أمر من شذ عنهم بالرجوع إليهم وترك الخروج عن سبيلهم يغني عن الدليل في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح". ولم يستثن متعمدا من ناس, ونقلت الكافة عنه صلى الله عليه وسلم أن من أدرك ركعة من صلاة العصر قبل الغروب صلى تمام صلاة العصر بعد الغروب وذلك بعد خروج الوقت عند الجميع. ولا فرق بين عمل صلاة العصر كلها لمن تعمد أو نسي أو فرط وبين عمل بعضها في نظر ولا اعتبار ودليل آخر وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون من الحرب ولم يكن يومئذ نائما ولا ناسيا ولا كانت بين المسلمين والكافرين يومئذ حرب قائمة ملتحمة وصلى الظهر والعصر بالليل, ودليل آخر أيضا وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق: "لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة". فخرجوا مبادرين وصلى بعضهم العصردون بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة" فلم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدا من الطائفتين ناس ولا نائم وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فلم يقل لهم‎ إن الصلاة لم تصل في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها.
ودليل آخر وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "سيكون بعدي أمراء يؤخرون الصوات عن ميقاتها قالوا: أنفصليها معهم؟ قال: نعم. حدثنا عبدالوراث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ حدثنا إسحاق بن الحسن الحربي حدثنا أبو حذيفة موسى بن مسعود حدثنا سفيان الثوري عن منصور عن هلال بن يساف عن أبي المثنى الحمصي قال أتى إلي عن امرأة عبادة بن الصامت عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"إنه سيجيء بعدي أمراء تشغلهم أشياء حتى لا يصلوا الصلاة لميقاتها". قالوا: نصليها معهم يا رسول الله قال:"نعم".

قال أبو عمر: أبو مثنى الحمصي هو الأملوكي: ثقة. وفي هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أباح الصلاة بعد خروج ميقاتها, ولم يقل إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها والأحاديث في تأخير الأمراء الصلاة حتى يخرج وقتها كثيرة جدا, وقد كان الأمراء من بني أمية و أكثر هم يصلون الجمعة عند الغروب. وقد قال صلى الله عليه وسلم: "إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى". وقد أعلمهم أن وقت الظهر في الحضر ما لم يدخل وقت العصر.
وروي ذلك عنه من وجوه صحاح قد ذكرت بعضها في صدر الكتاب يعني الإستذكار في المواقيت, وحدثنا عبدالله بن محمد بن راشد حدثنا حمزة بن محمد بن علي حدثنا أحمد بن شعيب النسوي حدثنا سويد بن نضر حدثنا عبدالله يعني ابن المبارك عن سليمان بن مغيرة عن ثابت بن عبدالله بن رباح عن أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الأخرى". فقد سمى رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل هذا مفرطا, والمفرط ليس بمعذور وليس كالنائم والناسي, ثم الجميع من جهة العذر وقد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته على ما كان عليه من تفريطه, وقد روي في حديث أبي قتادة هذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها". وهذا أبعد وأوضح في أداء المفرط للصلاة عند الذكر وبعد الذكر, وحديث أبي قتادة هذا صحيح الإسناد إلا أن هذا المعنى قد عارضه حديث عمران بن الحصين في نوم رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الصبح بسفره,

وفيه قالوا: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا نصليها لميقاتها من الغد؟. قال: "لا إن الله لا ينهاكم عن الربا ثم يقبله منكم".
وروى من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله, وقد ذكرنا الأسانيد بذلك كله في التمهيد, وقد روى عبدالرحمن بن علقمة الثقفي وهو مذكور في الصحابة قال قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر وأقل ما في هذا أنه أخرها عن وقتها الذي كان يصليها فيه لشغل اشتغل بت, وعبد الرحمن بن علقمة من ثقات التابعين وكبارهم. وقد أجمع العلماء على أن من ترك الصلاة عامدا حتى يخرج وقتها عاص لله وذكر بعضهم أنها كبيرة من الكبائر, وأجمعوا على أن على العاصي أن يتوب من ذنبه بالندم عليه واعتقاد ترك العود إليه قال الله تعالى: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, ومن لزمه حق الله أو لعباده لزمه الخروج منه وقد شبه رسول الله صلى الله عليه وسلم حق الله عز وجل بحقوق الآدميين وقال: "دين الله أحق أن يقضي". والعجب من هذا الظاهري في نقضه أصله بجهله وحبه لشذوذه وأصل أصحابه فيما وجب من الفرائض بإجماع أنه لا يسقط إلا بإجماع مثله أو سنة ثابتة لا ينازع في قبولها, والصلوات المكتوبات واجبات بإجماع ثم جاء من الاختلاف شذوذ خارج عن اقوال علماء الأمصار فاتبعه دون سنة رويت في ذلك, وأسقط به الفريضة المجمع على وجوبها، ونقض أصله ونسي نفسه.
ثم ذكر أن مذهب داود وأصحابه1 وجوب قضاء الصلاة إذا فوتها عمدا, ثم قال: فهذا قول داود وهو وجه أهل الظاهر, وما أرى هذا الظاهري إلا وقد خرج عن جماعة العلماء من السلف والخلف عدا جميع فرق الفقهاء وشذ عنهم ولا يكون إماما في العلم من أخذ بالشاذ من العلم وقد أوهم في كتابه أن له سلفا من الصحابة والتابعين تجاهلا منه, فذكر عن ابن مسعود ومسروق وعمر بن عبدالعزيز في قوله: {أَضَاعُوا الصَّلاةَ}. أن ذلك عن مواقيتها ولو تركوها لكانوا بتركها كفارا, وهو لا يقول بتكفير تارك الصلاة عمدا إذا إذا أبى إقامتها ولا بقتله إذا كان مقرا بها فقد خالفهم فكيف يحتج بهم على أنه معلوم أن من قضى الصلاة فقد تاب من تضييعها.

قال تعالى: {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى}. ولا تصح لمضيع الصلاة توبة إلا بأدائها كما لا تصح التوبة من دين الآدمي إلا بأدائه, ومن قضى صلاة فرط فيها فقد تاب وعمل صالحا والله لا يضيع أجر من أحسن عملا, وذكر عن سلمان أنه قال: الصلاة مكيال فمن وفاه وفي له ومن طففه فقد علمتم ما قاله الله في المطففين, وهذا لا حجة فيه لأن الظاهر من معناه أن المطفف قد يكون من لم يكمل صلاته بركوعها وسجودها وحدودها, وإن صلاها في وقتها وذكر عن ابن عمر أنه قال: لا صلاة لمن لم يصل الصلاة لوقتها, وكذا نقول: لا صلاة له كاملة الأجزاء كما جاء: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد, ولا إيمان لمن لا أمانة له", ومن قضى الصلاة فقد صلاها وتاب من نسي عمله بتركها وكل ما ذكر في هذا المعنى فغير صحيح، ولا له في شيء منه حجة, لأن ظاهره خلاف ما تأوله.

فصل
قال المانعون من صحتها بعد الوقت وقبولها:

لقد أرعدتم وأبرقتم ولم تنصفونا في حكاية قولنا على وجهه ولافي نقلنا مذاهب السلف ولا في حججنا فإنا لم نقل قط ولا أحد من أهل الإسلام إنها سقطت من ذمته بخروج وقتها وإنها لم تبق واجبة عليه حتى تجلبوا علينا بما أجلبتم وتشنعوا علينا بما شنعتم بل قولنا وقول من حكينا قوله من الصحابة والتابعين أشد على مؤخر الصلاة ومفوتها من قولكم: فإنه قد تحتمت عقوبته وباء بإثم لا سبيل له إلى استدراكه إلا بتوبة يحدثها وعمل يستأنفه, وقد ذكر من الأدلة ما لاسبيل لكم إلى رده فإن وجدتم السبيل إلى الرد فأهلا بالعلم أين كان ومع من كان, فليس القصد إلا طاعة الله وطاعة رسوله ومعرفة ما جاء به ونحن نبين ما في كلامكم من مقبول ومردود؛ فأما: قولكم إن سرور ابن عباس بتلك الصلاة التي صلاها بعد طلوع الشمس لأنه كان سببا إلى أن أعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه المبلغين عنه إلى سائر أمته

بأن مراد الله من عباده في الصلاة وإن كانت مؤقتة أن من لم يصلها في وقتها يقضيها أبدا ناسيا كان لها أو نائما أو متعمدا لتركها فهذا ظن محض منكم أن ابن عباس أراده, ومعلوم أن كلامه لا يدل على ذلك بوجه من وجوه الدلالة ولا هو يشعر به.
ولعل ابن عباس إنما سر بها ذلك السرور العظيم لكونه صلاها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه وفعل مثل ما فعلوا, وحصل له سهمان من الأجر كما حصل للصحابة وخص تلك الصلاة بذلك تنبيها للسامع أنها مع كونها ضحى قد فعلت بعد طلوع الشمس فلا يظن أنها ناقصة وأنها ‎لا أجر فيها فما يسرني بها الدنيا وما فيها, وليس ما فهمتموه عن ابن عباس أولى من هذا الفهم, ولعله أراد أن ذلك من رحمة الله بالأمة ليقتدي به من نام عن الصلاة ولم يفرط بتأخيرها, فمن أين يدل كلامه هذا على أن سروره بتلك الصلاة لأنها تدل على أن من لم يصل وأخر صلاة الليل إلى النهار عمدا, وصلاة النهار إلى الليل أنها تصح منه وتقبل وتبرأ بها ذمته؟ وأن فهم هذا من كلام ابن عباس لمن أعجب العجب فأخبرونا كيف وقع لكم هذا الفهم من كلامه وبأي طريق فهمتموه؟.

فصل
وأما قولكم

إن النسيان في لغة العرب هو الترك كقوله: {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} إلخ. فنعم لعمر الله إن النسيان في القرآن على وجهين: نسيان ترك ونسيان نسيان سهو.
ولكن حمل الحديث على نسيان الترك عمدا باطل لأربعة أوجه:
أحدها: أنه قال: "فليصلها إذا ذكرها" وهذا صريح في أن النسيان في الحديث نسيان سهو لا نسيان عمد, وإلا كان قوله: "إذا ذكرها" كلاما لا فائدة فيه, فالنسيان إذا قوبل بالذكر لم يكن إلا نسيان سهو كقوله: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}, وقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا نسيت فذكروني".
الثاني: أنه قال: "فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها" ومعلوم أن من تركها عمدا لا يكفر عنه فعلها بعد الوقت إثم التفويت: هذا مما لاخلاف فيه بين الأمة, ولا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم, إذ يبقى معنى الحديث: من ترك الصلاة عمدا حتى خرج وقتها فكفارة إثمه صلاتها بعد الوقت, وشناعة هذا القول أعظم من شناعتكم علينا القول بأنها لا تنفعه ولا تقبل منه, فأين هذا من قولكم
الثالث: أنه قابل الناسي في الحديث بالنائم, وهذه المقابلة تقتضي أنه الساهي كما يقول جملة أهل الشرع: النائم والناسي غير مؤاخذين.
الرابع: أن الناسي في كلام الشارع إذا علق به الأحكام لم يكن مراده إلا الساهي وهذا مطرد في جميع كلامه كقوله صلى الله عليه وسلم: "من أكل أو شرب ناسيا فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه".

فصل
وأما قولكم:

فسوى الله سبحانه في حكمهما أي حكم العامد والناسي على لسان رسوله بين حكم الصلاة المؤقتة والصيام المؤقت في شهر رمضان بأن كل واحد منهما يقضى بعد خروج وقته فنص على النائم والساهي في الصلاة كما وصفنا, ونص على المريض والمسافر في الصوم, واجتمعت الأمة ونقلت: الكافة فيمن لم يصم شهر رمضان عامدا وهو مؤمن بفرضه وإثم تركه أشرا وبطرا ثم تاب منه أن عليه قضاءه إلى آخره, فجوابه من وجوه:

أحدها قولكم إن الله سبحانه وتعالى سوى بينهما أي بين العامد والناسي فكلام باطل على إطلاقه فما سوى الله سبحانه بين عامد وناس أصلا, وكلامنا في هذا العامد العاصي الآثم المفرط غاية التفريط فأين سوى الله سبحانه بين حكمهما في صلاة أو صيام, وقولكم فنص على النائم والناسي في الصلاة كما وصفنا قد تقدم أن النسيان المذكور في الصلاة لا يصح حمله على العمد بوجه, وأن الذي نص عليه في الحديث هو نسيان السهو الذي هو نظير النوم فلا تعرض فيه للعامد, وأما نصه على المريض والمسافر في الصوم فهما وإن أفطرا عامدين فلا يمكن أخذ حكم تارك الصلاة عمدا من حمكها وما سوى الله ولا رسوله بين تارك الصلاة عمدا أو أشرا حتى يخرج وقتها وبين تارك الصوم لمرض أو سفر حتى يؤخذ حكم أحدهما من الآخر, فمؤخر الصوم في المرض والسفر كمؤخر الصلاة لنوم أو نسيان وهذان هما اللذان سوى الله ورسوله بين حكمهما فنص الله على حكم المريض والمسافر في الصوم المعذورين ونص رسول الله صلى الله عليه وسلم على حكم النائم والناسي في الصلاة المعذورين فقد استوى حكمهما في الصوم والصلاة, ولكن أين استوى حكم العامد المفرط الآثم والمريض والمسافر والنائم والناسي المعذورين

يوضحه أن الفطر بالمرض قد يكون واجبا بحيث يحرم عليه الصوم, والفطر في السفر إما واجب عند طائفة من السلف والخلف, أو أنه أفضل من الصوم عند غيرهم أو هما سواء. أو الصوم أفضل منه لمن لا يشق عليه ثم آخرين, وعلى كل تقدير فإلحاق تارك الصلاة والصوم عمدا وعدوانا به من أفسد الإلحاق وأبطل القياس, وهذا مما لا خفاء به عند كل عالم.
وقولكم إن الأمة اجتمعت والكافة نقلت: أن من لم يصم شهر رمضان عامدا أشرا أو بطرا ثم تاب منه فعليه قضاؤه, فيقال لكم أوجدونا عشرة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فن دونهم صرح بذلك, ولن تجدوا إليه سبيلا, وقد أنكر الأئمة كالإمام أحمد والشافعي وغيرهما دعوى هذه الإجماعات التي حاصلها عدم العلم بالخلاف لا العلم بعدم الخلاف, فإن هذا مما لا سبيل إليه إلا فيما علم بالضرورة أن الرسول جاء بت, وأما ما قامت الأدلة الشرعية عليه فلا يجوز لأحد أن ينفي حكمه لعدم علمه بمن قال به فإن الدليل يجب اتباع مدلوله وعدم العلم بمن قال به لا يصح أن يكون معارضا بوجه ما, فهذا طريق جميع الأئمة المقتدى بهم. قال الإمام أحمد في رواية ابنه عبدالله من ادعى الإجماع فهو كاذب لعل الناس اختلفوا. هذه دعوى بشر المريسي والأصم ولكن يقول لا نعلم للناس اختلافا إذا لم يبلغه, وقال في رواية المروزي كيف يجوز للرجل أن يقول أجمعوا إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم لو قال إني لا أعلم مخالفا كان أسلم. وقال في رواية أبي طالب هذا كذب ما أعلمه أن الناس مجمعون ولكن يقول ما أعلم فيه اختلافا فهو أحسن من قوله أجمع الناس. وقال في رواية أبي الحارث لا ينبغي لأحد أن يدعي الإجماع. لعل الناس اختلفوا. وقال الشافعي في أثناء مناظرته لمحمد بن الحسن: لا يكون لأحد أن يقول أجمعوا حتى يعلم إجماعهم في البلدان ولا يقبل على أقاويل من نأت داره منهم ولا قربت إلا خبر الجماعة عن الجماعة. فقال لي تضيق هذا جدا قلت: له وهو مع موجود وقال في موضع آخر وقد بين ضعف دعوى الإجماع وطالب من يناظره بمطالبات عجز عنها فقال له المناظر فهل من إجماع قلت: نعم. الحمد لله كثيرا في كل الفرائض التي لا يسع جهلها وذلك الإجماع هو الذي إذا قلت: أجمع الناس لم تجد أحدا يقول لك ليس هذا بإجماع فهذه الطريق التي يصدق بها من أدعى الإجماع فيها, وقال بعد حكاه في مناظرته أو ما كفاك عيب الإجماع أنه لم يرو عن أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم دعوى الإجماع إلا فيما لم يختلف فيه أحد إلى أن كان أهل زمانك هذا. قال له المناظر: فقد ادعاه بعضكم. قلت: أفحمدت ما ادعى منه؟ قال: لا. قلت: فكيف صرت إلى أن تدخل فيما زعمت في أكثر ما عبت الاستدلال من طريقك عن الإجماع وهو ترك ادعاء الإجماع فلا تحسن النظر لنفسك إذا قلت: هذا إجماع فتجد حولك من يقول لك معاذ الله أن يكون هذا إجماعا. وقال الشافعي في رسالته: ما لا يعلم فيه خلاف فليس إجماعا فهذا كلام أئمة أهل العلم في دعوى الإجماع كما ترى.

فلنرجع إلى المقصود فنقول: من قال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إن من ترك الصلاة عمدا لغير عذر حتى خرج وقتها أنها تنفعه بعد الوقت وتقبل وتبرأ ذمته فالله يعلم أنا لم نظفر على صاحب واحد منهم قال ذلك.
وقد نقلنا عن الصحابة والتابعين ما تقدم حكايته, وقد صرح الحسن بما قلناه, فقال محمد بن نصر المروزي في كتابه في الصلاة: حدثنا إسحاق حدثنا النضر عن الاشعت عن الحسن قال: إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمدا فإنه لا يقضيها. قال محمد وقول الحسن هذا يحتمل معنيين: أحدهما أنه كان يكفره بترك الصلاة متعمدا فلذلك لم ير عليه القضاء؛ لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الفرائض في كفره.

والثاني: أنه لم يكفره بتركها, وأنه ذهب إلى أن الله عز وجل إنما فرض أن يأتي بالصلاة في وقت معلوم, فإذا تركها حتى ذهب وقتها فقد لزمته المعصية لتركه الفرض في الوقت المأمور بإتيانه فيه, فإذا أتى به بعد ذلك فإنما أتى به في وقت لم يؤمر بإتيانه فيه فلا ينفعه أن يأتي بغير المأمور به عن المأمور به, وهذا مستنكر في النظر لولا أن العلماء قد أجمعت على خلافه. قال: ومن ذهب إلى هذا قال في الناسي للصلاة حتى يذهب وقتها وفي النائم أيضا لو لم يأت الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا استيقظ". وذكر أنه نام عن صلاة الغداة فقضاها بعد ذهاب الوقت لما وجب عليه في النظر قضاؤها أيضا فلما جاء الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك وجب عليه قضاؤها وبطل حظ النظر, فقد نقل محمد الخلاف صريحا وظن أن الأمة أجمعت على خلافه, وهذا يحتمل معنيين:

أحدهما: أنه يرى أن الإجماع ينعقد بعد الخلاف.

والثاني: أنه لايرى خلاف الواحد قادحا في الإجماع, وفي المسألتين نزاع معروف.
وأما قوله إن القياس يقتضي أن لا يقتضي النائم والناسي لولا الخبر فليس كما زعمتم لأن وقت النائم والناسي هو وقت ذكره وانتباهه لا وقت له غير ذلك كما تقدم والله أعلم.
وأما قولكم إن الكافة نقلت: والأمة اجمعت أن من لم يصم شهر رمضان أشرا وبطرا أن عليه قضاءه, فأين النقل بذلك إذا جاء عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد روى عنه أهل السنن و الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي هريرة: "من أفطر يوما من رمضان من غير عذر لم يقضه عنه صيام الدهر وإن صامه". فهذه الرواية المعروفة فأين الرواية عنه أو عن أصحابه: من أفطر رمضان أو بعضه أجزأ عنه أن يصوم مثله, وأما قولكم: إن الصلاة والصيام دين ثابت يؤدى أبدا وإن خرج الوقت المؤجل لهما لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دين الله أحق أن يقضي". فنقول: هذا الدليل مبني على مقدمتين:

إحداهما: إن الصلاة والصيام دين ثابت في ذمة من تركهما عمدا, والمقدمة الثانية: أن هذا الدين قابل للأداء فيجب أداؤه؛ فأما المقدمة الأولى فلا نزاع فيها ولانعلم أن أحدا من أهل العلم قال بسقوطها من ذمته بالتأخير ولعلكم توهمتم علينا أنا نقول بذلك وأخذتم في الشناعة علينا وفي التشغيب ونحن لم نقل ذلك ولا أحد من أهل الإسلام, وأما المقدمة

الثانية ففيها وقع النزاع وأنتم لم تقيموا عليها دليلا فادعاؤكم لها هو دعوى محل النزاع بعينه جعلتموه مقدمة من مقدمات الدليل وأثبتم الحكم بنفسه فمنازعوكم يقولون لم يبق للمكلف طريق إلى استدراك هذا الفائت وإن الله تعالى لا يقبل أداء هذا الحق إلافي وقته وعلى صفته التي شرعه عليها, وقد أقاموا على ذلك من الأدلة ما قد سمعتم فما الدليل على أن هذا الحق قابل للأداء في غير وقته المحدود له شرعا, وأنه يكون عبادة بعد خروج وقته.
وأما قوله: "اقضوا الله فالله أحق بالقضاء" وقوله: "دين الله أحق أن يقضى". فهذا إنما قاله في حق المعذور لا المفرط, ونحن نقول في مثل هذا الدين يقبل القضاء, و أيضا فهذا إنما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم في النذر المطلق الذي ليس له وقت محدود الطرفين, ففي الصحيحين من حديث ابن عباس أن امرأة قالت يا رسول الله: إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ قال: "أرأيت لو كان على أمك دين فقضيتيه أكان يؤدي ذلك عنها"؟ قالت: نعم. قال: "فصومي عن أمك".

وفي رواية أن امرأة ركبت البحر فنذرت إن نجاها الله أن تصوم شهرا فأنجاها الله سبحانه وتعالى فلم تصم حتى ماتت فجاءت قرابة لها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك فقال: "صومي عنها". رواه أهل السنن وكذلك جاء منه الأمر بقضاء هذا الدين في الحج الذي لا يفوت وقته إلا بنفاد العمر.
ففي المسند والسنن من حديث عبدالله بن الزبير قال: جاء رجل من خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبي أدركه الإسلام وهو شيخ لا يستطيع ركوب رحل والحج مكتوب عليه أفأحج عنه؟ قال: "أنت أكبر ولده". قال: نعم. قال: "أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيته عنه أكان ذلك يجزيء عنه"؟ قال: نعم. قال: "فحج عنه". وعن ابن عباس أن امرأة من جهينة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: "إن أمي نذرت أن تحج فلم تحج حتى ماتت أفأحج عنها"؟ قال: "نعم حجي عنها أرأيت لو كان على أمك دين أكنت قاضيته اقضوا الله فالله أحق بالوفاء". متفق على صحته.

وعن ابن عباس أيضا قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال: إن أبي مات وعليه حجة الإسلام أفأحج عنه؟ قال: "أرأيت لو أن أباك ترك دينا عليه فقضيته أكان يجزيء عنه"؟ قال: نعم. قال: "فحج عن أبيك". رواه الدار قطني.
ونحن نقول في مثل هذا الدين القابل للأداء: دين الله أحق أن يقضى.
فالقضاء المذكور في هذه الأحاديث ليس بقضاء عبادة مؤقتة محدودة الطرفين وقد جاهر بمعصيته الله سبحانه وتعالى بتفويتها بطرا وعدوانا فهذا الدين مستحقه لا يعتد به ولا يقبله إلا على صفته التي شرعه عليها, ولهذا لو قضاه على غير تلك الصفة لم تنفعه.

فصل
قولكم

وإذا كان النائم والناسي للصلاة وهما معذوران يقضيانها بعد خروج وقتها كان المتعمد لتركها أولى. فجوابه من وجوه: أحدها المعارضة بما هو أصح منه أو مثله وهو أن يقال: لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فعل ما أمر به وقبوله منه صحته وقبوله منه متعد لحدود الله مضيع لأمره تارك لحقه عمدا وعدوانا فقياس هذا على هذا في صحة العبادة وقبولها منه وبراء الذمة بها من أفسد القياس.

الوجه الثاني: أن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها بل في نفس وقتها الذي وقته الله له, فإن الوقت في حق هذا حين يستيقظ ويذكر كما قال صلى الله عليه وسلم: "من نسي صلاة فوقتها إذا ذكرها". رواه البيهقي والدارقطني وقد تقدم.

فالوقت وقتان: وقت اختيار ووقت عذر, فوقت المعذور بنوم أو سهو هو وقت ذكره واستيقاظه فهذا لم يصل الصلاة إلا في وقتها فكيف يقاس عليه من صلاها في غير وقتها عمدا وعدوانا؟.

الثالث: أن الشريعة قد فرقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي ويبن المعذور وغيره, وهذا مما لا خلاف فيه, فإلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز.
الرابع: إنا لم نسقطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون ما ذكرتم حجة علينا بل ألزمنا بها المفرط المتعدي على وجه لا سبيل له إلى استدراكها تغليظا عليه, وجوزنا قضاءها للمعذور غير المفرط.

فصل
وأما استدلالكم

بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر". فما أصحه من حديث على مقتضى قولكم فإنكم تقولون هو مدرك العصر ولو لم يدرك من وقتها شيئا البتة بمعنى أنه مدرك لفعلها صحيحة منه مبرئة لذمته, فلو كانت تصح بعد خروج وقتها وتقبل منه لم يتعلق إدراكها بركعة, ومعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد أن من أدرك ركعة من العصر صحت صلاته بلا إثم, بل هو آثم يتعمد ذلك اتفاقا, فإنه أمر أن يوقع جميعها في وقتها, فعلم أن هذا الإدراك لا يرفع الإثم بل هو مدرك آثم, فلو كانت تصح بعد الغروب لم يكن فرق بين أن يدرك ركعة من الوقت أولا يدرك منه شيئا, فإن قلتم: إذا أخرها إلى بعد الغروب كان أعظم أثرا. قيل لكم: النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرق بين‎إدراك الركعة وعدمها في كثرة الإثم وخفته وإنما فرق بينهما في الإدراك وعدمه, ولا ريب أن المفوت لمجموعها في وقت أعظم من المفوت لأكثر ها والمفوت لأكثر ها فيه أعظم من المفوت لركعة منها.
فنحن نسألكم ونقول: ما هذا الإدراك الحاصل بركعة؟ أهذا إدراك يرفع الإثم؟ فهذا لا يقوله أحد, أو إدراك يقتضي الصحة فلا فرق فيه بين أن يفوتها بالكلية أو يفوتها إلا ركعة منها.

فصل
وأما احتجاجكم

بتأخير النبي صلى الله عليه وسلم لها يوم الخندق نوم ولا نسيان ثم قضاها. فيقال: يالله العجب! لو أتينا نحن بمثل هذا لقامت قيامتكم وأقمتم قيامتنا بالتشنيع علينا فكيف تحتجون على تفويت صاحبه عاص لله آثم متعد لحدود مستوجب لعقابه بتفويت صدر من أطوع الخلق لله وأرضاهم له وأتبعهم لأمره, وهو مطيع لله في ذلك التأخير متبع مرضاته فيه وذلك التأخير منه صلوات الله وسلام عليه إما أن يكون نسيانا منه أو يكون أخرها عمدا, وعلى التقديرين فلا حجة لكم فيه بوجه فإنه إن كان نسيانا فنحن وسائر الأمة نقول بموجبه وأن الناسي يصليها متى ذكرها, وإن كان عامدا فهو تأخير لها من وقت إلى وقت أذن فيه كتأخير المسافر والمعذور الظهر إلى وقت العصر والمغرب إلى وقت العشاء. وقد أختلف الناس فيمن أدركته الصلاة وهو مشغول بقتال العدو على ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه يصلي حال القتال على حسب حاله ولا يؤخر الصلاة. قالوا: والتأخير يوم الخندق منسوخ, وهذا هو مذهب الإمام الشافعي و الإمام مالك و الإمام أحمد في المشهور عنه من مذهبه.
الثاني: أنها تؤخر كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الخندق. وهذا مذهب أبي حنيفة. والأولون يجيبون على هذا بأنه كان قبل أن تشرع صلاة الخوف فلما شرعت صلاة الخوف لم يؤخرها بعد ذلك في غزاة واحدة. والحنيفة تجيب عن ذلك بأن صلاة الخوف إنما شرعت على تلك الوجوه ما لم يلتحم القتال, فإنهم يمكنهم أن يصلوا صلاة الخوف كما أمر الله سبحانه بأن يقوموا صفين صفا يصلون وصفا يحرسون, وأما حال الالتحام فلا يمكن ذلك فالتأخير وقع حال الاشتغال بالقتال وصلاة الخوف شرعت حال المواجهة قبل الاشتغال بالقتال وهذا له موضع, وهذا في القول كما ترى.
وقالت طائفة ثالثة: يخير بين تقديمها والصلاة على حسب حاله وبين تأخيرها حتى يتمكن من فعلها, وهذا مذهب جماعة من الشاميين وهو إحدى الروايتين عن الإمام أحمد, لأن الصحابة فعلوا هذا وهذا في قصة بني قريظة, كما سنذكرها بعد هذا إن شاء الله تعالى, وعلى الأقوال الثلاثة فلا حجة للعاصي المفرط المعتدي الذي قد باء بعقوبة الله وإثم التفويت في ذلك بوجه من الوجوه, وبالله التوفيق.

فصل
وبهذا خرج الجواب عن استدلالكم

بتأخير الصحابة العصر إلى بعد غروب الشمس عمدا حين قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يصلين أحد العصر إلا في بني قريظة". فأدركت طائفة الصلاة في الطريق فقالوا: لم يرد منا تأخيرها فصلوها في الطريق, وأبت طائفة أخرى أن تصليها إلا في بني قريظة فصلوها بعد العشاء, فما عنف رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة من الطائفتين, فإن الذين أخروها كانوا مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم معتقدين وجوب ذلك التأخير, وأن وقتها الذي أمروا به حيث أدركهم في بني قريظة فكيف يقاس العاصي المتعدي لحدود الله على المطيع له الممتثل لأمره فهذا من أبطل قياس في العالم وأفسده وبالله التوفيق.

وقد فضلت طائفة من العلماء الذين أخروها إلى بني قريظة على الذين صلوها في الطريق. قالوا: لأنهم امتثلوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحقيقة, والآخرون تأولوا فصلوها في الطريق.

فصل
وأما استدلاكم

بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلى نافلة مع الأمراء الذين كانوا يضيعون الصلاة عن وقتها ويصلونها في غير الوقت, فلا حجة فيه لأنهم لم يكونوا يؤخرون صلاة النهار إلى الليل ولا صلاة الليل إلى النهار بل كانوا يؤخرون صلاة الظهر إلى وقت العصر, وربما كانوا يؤخرون العصر إلى وقت الأصفرار ونحن نقول إنه متى أخر إحدى صلاتي الجمع إلى وقت الأخرى صلاها في وقت الثانية وإن كان غير معذور. وكذلك إذا أخر العصر إلى الاصفرار. بل إلى أن يبقى منها قدر ركعة فإنه يصليها بالنص. وقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة من غير خوف ولامطر أراد أن لا يحرج أمته. فهذا التأخير لا يمنع صحة الصلاة.

وأما قولكم قد أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة من أخر الظهر إلى وقت العصر مع تفريطه في خروج وقت الظهر, فجوابه إن الوقت مشترك بين الصلاتين في الجملة, وقد جمع رسول الله بالمدينة خوف ولا مرض وهذا لا ينازع فيه, ولكن هل أجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح في وقت الضحى من غير نوم لا نسيان.
وأما قولكم وقد روي من حديث أبي قتادة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فيمن نام عن صلاة الصبح: "وإذا كان الغد فليصلها لميقاتها". أن هذا أوضح في أداء المفرط للصلاة عند الذكر وبعد الذكر, وهو حديث صحيح الإسناد.
فيا لله العجب! أين في هذا الحديث ما يدل بوجه من وجوه الدلالة نصها أو ظاهرها أو إيمائها على أن العاصي المتعدي لحدود الله بتفويت الصلاة عن وقتها تصح منه بعد الوقت وتبرأ ذمته منها, وهو أهل أن تقبل منه, وكأنكم فهمتم من قوله: "فإذا كان الغد فليصلها لميقاتها" أمره بتأخيرها إلى الغد. وهذا باطل قطعا لم يرده رسول الله صلى الله عليه وسلم, والحديث صريح في إبطاله فإنه أمره أن يصليها إذا استيقظ أو ذكرها, ثم روى في تمام الحديث هذه الزيادة وهي قوله: "فإذا كان من الغد فليصلها لميقاتها".
وقد اختلف الناس في صحة هذه الزيادة ومعناها, فقال بعض الحفاظ هذه الزيادة وهم من عبدالله بن رباح الذي روى الحديث عن أبي قتادة أو من أحد الرواة, وقد روي عن البخاري أنه قال: لا يتابع في قوله: "فليصل إذا ذكرها لوقتها من الغد".
وقد روى الإمام أحمد في مسنده عن عمران بن حصين قال سرت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما كان من آخر الليل عرسنا فلم نستيقظ حتى الحفتنا الشمس, فجعل الرجل يقوم دهشا إلى طهوره. فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يسكنوا, ثم ارتحل فسرنا حتى إذا ارتفعت الشمس توضأ ثم أمر بلالا فأذن ثم صلى الركعتين قبل الفجر ثم أقام فصلينا فقالوا: يا رسول الله ألا نعيدها في وقتها من الغد؟ قال: "أينهاكم ربكم تبارك وتعالى عن الربا ويقبله منكم".
قال الحافظ أبو عبدالله محمد بن عبدالواحد المقدسي: وفي هذا دليل على ما قال البخاري؛ لأن عمران بن الحصين كان حاضرا ولم يذكر ما قال عبدالله بن رباح عن أبي قتادة.

وعندي أنه لا تعارض بين الحديثين ولم يأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعادتها من الغد وإنما الذي أمر به فعل الثانية في وقتها, وأن الوقت لم يسقط بالنوم والنسيان بل عاد إلى ما كان عليه, والله أعلم. قوله: وقد روى عبد الرحمن بن علقمة الثقفي قال: قدم وفد ثقيف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجعلوا يسألونه فلم يصل يومئذ الظهر إلا مع العصر إلى آخره, وقد تقدم جواب هذا وأمثاله مرارا وأن هذا التأخير كان طاعة لله تعالى وقربة وغايته أنه جمع بين الصلاتين لشغل مهم من أمور المسلمين, فكيف يصح إلحاق تأخير المتعدي لحدود الله بت؟ ولقد ضعفت مسألة نصر بمثل هذا قوله: وليس ترك الصلاة حتى يخرج وقتها عمدا مذكورا عند الجمهور في الكبائر. فيقال يا لله العجب! وهل تقبل هذه المسألة نزاعا. وهل ذلك إلا من أعظم الكبائر وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم تفويت صلاة العصر محبطا للعمل فأي كبيرة تقوى على إحباط العمل سوى تفويت الصلاة.

وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: الجمع بين الصلايتن من غير عذر من الكبائر. ولم يخالفه صحابي واحد في ذلك. بل الآثار الثابتة الصحابة كلها توافق ذلك. هذا والجامع بين الصلاتين قد صلاهما في وقت إحداهما للعذر. فماذا نقول فيمن صلى الصبح في وقت الضحى عمدا وعدوانا والعصر نصف الليل من غير عذر. وقد صرح الصديق أن الله لا يقبل هذه الصلاة ولم يخالف الصديق صحابي واحد وقد توعد الله سبحانه بالويل والغي لمن سها عن صلاته وأضاعها, وقد قال الصحابة وهم أعلم الأمة بتفسير الآية إن ذلك تأخيرها عن وقتها كما تقدم حكايته.
ويا لله العجب أي كبيرة أكبر من كبيرة تحبط العمل وتجعل الرجل بمنزلة من قد وتر أهله وماله, وإذا لم يكن تأخير صلاة النهار إلى الليل وتأخير صلاة الليل إلى النهار من غير عذر من الكبائر لم يكن فطر شهر رمضان من غير عذر وصوم شوال بدله من الكبائر, ونحن نقول بل ذلك أكبر من كل كبيرة بعد الشرك بالله. ولأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك به خير له من أن يؤخر صلاة النهار إلى الليل وصلاة الليل إلى النهار عدوانا عمدا بلاعذر, وقد روى هشام بن عروة عن أبيه عن سليمان بن يسار عن المسور بن مخرمة أنه دخل مع ابن عباس على عمر حين طعن فقال ابن عباس يا أمير المؤمنين الصلاة فقال: أجل أصلي: إنه لا حظ في الإسلام لمن أضاع الصلاة. وقال إسماعيل بن علية عن أيوب عن محمد بن سيرين قال: نبئت أن أبا بكر وعمر كانا يعلمان الناس الإسلام: تعبد الله ولاتشرك به شيئا وتقيم الصلاة التي افترض الله بمواقيتها فإن في تفريطها الهلكة

وقال محمد بن نصر المروزي وسمعت إسحاق يقول: صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أن تارك الصلاة كافر", وكذلك كان رأي أهل العلم من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا أن تارك الصلاة عمدا من غير عذر حتى يذهب وقتها كافر, وذهاب الوقت أن يؤخر الظهر إلى غروب الشمس والمغرب إلى طلوع الفجر, وإنما جعل أوقات الصلاة بما ذكرنا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الصلاتين بعرفة والمزدلفة في السفر فصلى إحداهما في وقت الأخرى, فلما جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأولى منهما وقتا للأخرى في حال والأخرى وقتا للأولى في حال صار وقتاهما وقتا واحدا في حال العذر, كما أمرت الحائض إذا طهرت قبل غروب الشمس أن تصلي الظهر والعصر وإذا طهرت آخر الليل أن تصلي المغرب والعشاء, وإذا كان صلاة الذي يؤخر العصر حتى تصير الشمس بين قرني الشيطان صلاة المنافق بنص رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يقول بأبي هو وأمي صلوات الله عليه وسلامه لمن يصليها بعد العشاء, وقد قال تعالى: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ}. فإذا اجتنب الرجل كبائر المنهيات واستمر على صلاة الصبح في وقت الضحى والعصر بعد العشاء كان على قولكم مغفورا له غير آثم البتة, وهذا لا يقول أحد.
قوله: والعجب من هذا الظاهري كيف نقض أصله فإنه يقول ما وجب بإجماع فإنه لا يسقط إلا بالإجماع, فيقال: غاية هذا أن منازعكم تناقض فلا يكون تناقضه مصححا لقولكم, وإن أردتم بذلك الاستدلال بالاستصحاب وأن الصلاة كانت في ذمته بإجماع فلا تسقط إلا بإجماع وهو مفقود, قيل لكم: ومن ذا الذي قال بسقوطها من ذمته بالتأخير, وأن ذمته قد برئت منها, فمن قال بهذا فقوله أظهر بطلانا من أن نحتاج إلى دليل عليه. والذي يقول منازعوكم إنها قد استقرت في ذمته على وجه لا سبيل له إلى أدائها واستدراكها إلا بعود ذلك الوقت بعينة, وهذا محال, ثم نعارض هذا الإجماع بإجماع مثله أو أقوى منه, فنقول: أجمع المسلمون على أنه عاص متعد مفرط بإضاعة الوقت فلا يرتفع هذا الاجماع إلا بإجماع مثله, ولم يجمعوا أنه يرتفع عنه الإثم والعدوان بالفعل بعد الوقت, بل لعل هذا لم يقله أحد.
فهذا ما يتعلق بالحجاج من الجانبين, وليس لنا غرض فيما وراء ذلك, وقد بان من هو أسعد بالكتاب والسنة وأقوال السلف في هذه المسالة والله المستعان.

فصل
فإن قيل

فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم المفطر متعمدا في نهار رمضان بالقضاء في موضعين أحدهما المجامع. والثاني: المستقيء. ففي السنن من حديث أبي هريرة قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قد جامع أهله في رمضان فذكر الحديث وقال فيه: "فأتى بعذق فيه تمر قدر خمسة عشر صاعا" وفيه قال: "كله أنت و أهل بيتك وصم يوما واستغفر الله عز وجل". وعند ابن ماجة: "وصم يوما مكانه".
وفي السنن والمسند من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ذرعه القيء وهو صائم فليس عليه قضاء ومن استقاء فليقض". قيل: الحديثان معلولان لا يثبتان. أما قصة المجامع في رمضان فقد رواها أصحاب الصحيح ولم يذكر أحد منهم هذه الزيادة, والذي ذكرها لا تقوم به الحجة فإنها من رواية عبدالجبار بن عمر الأيلي وقد ضعفه الأئمة. قال يحيى بن معين: "ليس بشيء ولا يكتب حديثه" وقال مرة: "ضعيف" وكذلك قال أبو زرعة والسعدي أي ابن سعد والنسائي, وقال البخاري: "ليس بالقوي عنده مناكير" وقال ابن عدي: "عامة ما يرويه يخالف فيه والضعف بين على رواياته" ورواه أئمة أصحاب ابن شهاب عنه كمالك وغيره فلم يذكروا قوله: "صم يوما مكانه". ورواه أبو مروان العثماني عن إبراهيم بن سعد عن الليث عن ابن شهاب عن حميد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "له في هذه القصة اقض يوما مكانه". وكذا روي عن الدراوردي عن إبراهيم بن سعد عن الليث قال البيهقي وإبراهيم عنده الحديث عن الزهري بلا هذه الكلمة, وقد رواه حجاج بن أرطاة عن إبراهيم بن علي كذا مر عن ابن المسيب وعن الزهري عن حميد عن أبي هريرة ورواه حجاج عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده وقال فيه عمرو وأمره أن يقضي يوما مكانه, وقد رواه هشام بن سعد عن الزهري عن أبي سلمة عن أبي هريرة وقال فيه: "وصم يوما مكانه واستغفر الله". فخالف هشام الناس في روايته عن أبي سلمة والحديث لحميد عن أبي هريرة.

ورواه ابن أبي اويس قال حدثني أبي أن ابن شهاب أخبره عن حميد أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمر الذي يفطر في رمضان أن يصوم يوما مكانه, ولكن هذا يخالف رواية أصحاب ابن شهاب فإنهم لم يذكروا هذه الزيادة, وقال الشافعي أخبرنا مالك عن عطاء الخراساني عن ابن المسيب قال أتى أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الحديث, وقال في آخره: "فصم يوما مكان ما أصبت". وهذا مرسل ولكنه من مراسيل ابن المسيب, ورواه داود بن أبي هند عن عطاء فلم يذكر قوله: "وصم يوما مكانه" وعطاء كذبه ابن المسيب. وقال ابن حبان: "كان رديء الحفظ يخطيء ولا يعلم فبطل الاحتجاج بت".
وأما حديث المستقيء عمدا فهو حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فلا قضاء عليه ومن استقاء فعليه القضاء". فقال الترمذي: هذا حديث حسن غريب. وقال: قال محمد يعني البخاري لا أراه محفوظا, وقال أبو داود: سمعت أحمد بن حنبل يقول: "ليس من ذا شيء". وقال الترمذي في كتاب العلل: حدثنا علي بن حجر حدثنا عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من ذرعه القيء فليس عليه قضاء ومن استقاء عمدا فليقض". قال الترمذي: سألت أبا عبدالله محمد بن إسماعيل البخاري عن هذا الحديث فلم يعرفه إلا من حديث عيسى بن يونس عن هشام بن حسان عن ابن سيرين عن أبي هريرة قال: ما أراه محفوظا قال: وقد روى يحيى ابن أبي كثير عن عمر بن الحكم أن أبا هريرة كان لا يرى القيء بفطر الصائم.
وبتقدير صحة الحديث فلا حجة فيه, إذ المراد به المعذور الذي اعتقد أنه يجوز له الاستقياء أو المريض الذي احتاج أن يستقيء فاستقاء فإن الاستقياء في العادة لا يكون وإلا فلا يقصد العاقل أن يستقيء حاجة فيكون المستقيء متداويا بالاستقياء كما لو تداوى بشرب دواء, وهذا يقبل منه القضاء أو يؤمر به اتفاقا, ‎ وقد اختلف الفقهاء في المجامع في نهار رمضان إذا كفر هل يجب أن يقضي يوما مكان الذي أفطره على ثلاثة أقوال: وهي الشافعي أحدها يجب. والثاني: لا يجب. والثالث: إن كفر بالعتق أو الإطعام وجب عليه الصيام وإن كفر بالصوم لم يجب عليه قضاء ذلك اليوم.

بارك الله فيكم على النفع
وجزى ورحم الله الشيخ ابن قيم الجوزية

جزاكم الله خيرا

جزاك الله ألف خيرا

و
الجيريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.