الدُّعاء ذلك الرَّابط الوشيج بين العبد وربِّه، به تتحقَّق الأمنيات، وتتحسَّن الأحوال، وتهدأ النُّفوس، ويحصل المقصود، ويُجاب السُّؤْل، وترتاح السَّريرة، وتعرف فضل ربِّها عليها.
إنَّ الدعاءَ في اللغة يُرادف الصَّلاة، فصلَّى فلانٌ على فلان: بمعنى دَعا له، وقوله تعالى للنبيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ﴿ وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ﴾ [التوبة: 103]؛ أي: ادْعُ الله لهم.
والصَّلاة في اللُّغة: العطفُ، فإنْ أُضيف إلى الله تعالى سُمِّي رحمة، أو إلى الملائكة سمِّي استغفارًا، أو إلى غيرهما سمِّي دعاءً[1].
والدُّعاء الذي نَعْرِفه هو أن يَسأل العبدُ ربَّه أن يستجيب لحاجته، ويعطيه ما يتمنَّى.
وقد كفل الله تعالى لِمَن يَدْعوه – بقلبٍ خاشع، وفؤاد حاضر، وحواسَّ مُقْبلةٍ عليه – أن يستجيب له، ويُعطيه ما يَصْبو إليه؛ قال تعالى: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]، وقال: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 62]، وقال: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]… إلى غير ذلك من الآيات التي تشجِّع على الدُّعاء وترغِّب فيه.
وكذلك، فقد رغَّبَت السنَّة المُطهَّرة في الدعاء وحثَّت عليه؛ قال رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((أفضلُ العبادة الدعاءُ))[2]، وقال: ((ليس شيءٌ أكرم على الله من الدعاء))[3]، وقال: ((إن ربكم – تبارك وتعالى – حَيِيٌّ كريم؛ يَستحيي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردَّهما صفرًا))[4].
ولكنْ للدعاء طائفةٌ من الآداب، ينبغي للمسلم أن يستحضرها ويتمثَّلها إبَّان دُعائه، سنتعرَّفها في تطبيقنا لهذا المثال الجميل من القرآن الكريم.
زكريَّا – عليه السَّلام – ذلك النَّبي الشيخ، هو من أظْهرِ الأمثلة التي لاحظتُها في توكُّله على الله تعالى في كلِّ أموره.
إنَّه رسولٌ من مجموعةِ رُسل بني إسرائيل، قال الله تعالى: ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 83 – 85].
وقد عاش – عليه السَّلام – رَدْحًا كبيرًا من الزمن لا يُنْجِب، وبلغ به العمر أقصاه، فعِظامه لانت، وقوَّته خارت، ورأسه غزاه الشَّيب، وقد كان يتمنَّى أن يُرزَق غلامًا رشيدًا نابهًا، يرث منه النبوَّة والعلم.
وكان عِمرانُ وزوجته قد تمنَّيا أن يُرزقا ولدًا؛ حتَّى يجعلاه عتيقًا مفرَّغًا لعبادة الله تعالى وخدمة البيت المقدَّس، ولكنْ رزَقَهما الله تعالى مريم – عليها السَّلام – قال تعالى: ﴿ إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ [آل عمران: 35 – 36].
فامرأة عمران تمنَّتْ أن تُرزق غلامًا؛ كي يكون موقوفًا على خدمة البيت المقدَّس، ويتخوَّله بالرعاية، ولكن لله الحِكْمة البالغة في ذلك؛ فقد رزَقها بسيِّدتنا مريم – عليها السَّلام – فأخذَتْها، وذهبَتْ بها شطْرَه حتَّى تتربَّى على الأخلاق الكريمة والتقوى، وتنشأ على عبادة الله تعالى منذ النَّشْء.
واختَلف القومُ فيمن يَكْفُلها، فكلُّهم يريد أن يتعهَّد شأنها، واختلفوا فيما بينهم، ويبدو أنَّ أصواتهم قد ارتفعت، وكلُّهم ينادي بكفالتها، وكلُّهم يرى بأحقِّيته في ذلك، إلى أن توصَّلوا إلى حلٍّ يقوم على أن يُلْقي كلُّ شخص يَرغب في كفالتها قلمًا في الماء، والقلَم الذي يجري خلاف الأقلام الأخرى يكون صاحِبُه مستأهلاً لكفالتها، وحدث هذا الأمر؛ قال تعالى: ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ [آل عمران: 44]، وجرى قلَمُ زكريَّا – عليه السَّلام – خلاف الأقلام الأخرى، ففاز بشرف رعايتها وكفالتها؛ قال تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا ﴾ [آل عمران: 37].
وبعدَ أن كفلها زكريَّا – عليه السَّلام – خصَّص لها مثوى في البيت المقدَّس تعيش فيه، ومِحْرابًا خاصًّا به لتتعبَّد فيه، وظلَّت السيدة مريم في المسجد وقتًا طويلاً تَعْبد الله وتسبِّحه وتقدِّسه في مكانها الخاص، لا تغادره إلاَّ غرارًا.
وكان – بِحُكم كفالته لها – يتأوَّبُها كلَّ حين، ويتعهَّدها، ويرعى شأنها، ويطمئِنُّ على أحوالها، وكان كلَّما دخل عليها رأى عجَبًا؛ فاكهة الشِّتاء تكون حاضرة عندها في الصيف، وفاكهة الصيف تكون إزاءها في الشتاء! فتملَّكَتْه الدهشة والاستغراب، ثُمَّ سألها: من أين لك هاته الفاكهة، وهذا الرِّزق؟ فأخبرته بأنَّه من لَدُن الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].
لقد قلنا آنفًا: إنَّ زكريَّا قد شاخ، وضوى جسمه، وضعُفَت قوَّته، وأصبح مُسنًّا لا يَقْوى على شيء، ولكن عند رؤيته العجَب العُجاب عند مريم – عليها السلام – علم أنَّ الله تعالى يستجيب دعاء عبده إذا دعاه.
فأصبح يدعو الله تعالى أن يرزقه ولدًا، قال تعالى في سورة مريم: ﴿ ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا ﴾ [مريم: 2 – 6].
فزكريا قد شرح أسباب دعائه، وعرَضَ ضعفه على القويِّ؛ فهو واهِنُ العظم، أشيب الرأس، يخاف الموالي، وامرأته – فوق كلِّ ذلك – عاقرٌ لا تُنجب، وهو يَطلب الولد!
إنَّ أيَّ شخصٍ غيرِ واثق بالله لو يعلم أنَّ شيخًا كبيرًا لا ينجب، وامرأته عاقرٌ، وقد علاه المَشيب، يدعو الله الولدَ – سيقول إذْ ذاك: لقد جنَّ الشيخ وربِّ الكعبة! ويحدث أن يستهزئ به، أو يسخر منه، ونسي المسكين أنَّ الله لا يعجزه شيءٌ.
إنَّ الله تعالى لا يَطلب منَّا أن نقدِّم لأسباب دعائنا، وأن نَشْرح أحوالنا وأمورنا؛ فهو يعلم السِّر وأخفى – لا يطلب ذلك إلاَّ لأجل أن يستحضر المُحتاج حالة ضعفه، وأن يخشع قلبه، وتَخْضع جوارحه، ويكون منكسرًا صادقًا في دعائه، وقد كان زكريَّا هكذا، فهذا أدَبٌ من آداب الدعاء، ورسنٌ من أرسان قبوله.
ومن آدابه أيضًا: عدَمُ الجهر بالصَّوت؛ فزكريَّا نادى ربَّه نداءً خفيًّا، ويدلُّ هذا الأمر أيضًا على:
1 – حُسْن التأدُّب مع الله تعالى.
2 – مناجاته ربَّه ليلاً.
3 – عدم إزعاجه لمن هم في البيت؛ فقد يكونون نائمين.
4 – صدق دعائه وإلحاحه عليه؛ إذْ لو كان غير صادق أو غيرَ مِلْحاح لما ازْوَرَّ عن النوم، وقام يدعو ليلاً.
5 – إخلاصه في الدعاء؛ لئلاَّ يُمازجه رياء.
7 – صدق توكُّله عليه وشدة ثقته به.
ومن آدابه أيضًا:
أن يُحْسِن العبد ظنَّه بالله حتى في أصعب المواقف، فزكريا حالته – كما يقولون – مستعصية أو مستحيلة! ولكنَّ الله تعالى مَن بيده مفاتِحُ كلِّ شيء إذا أراد شيئًا حدثَ لتوِّه؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ [يس: 82]، وليس على الله بعزيزٍ أن يَستجيب دعاء عبدِه إن علم فيه الصِّدق، وحسن اليقين به، حتَّى ولو كان في عُرف الناس من المستحيلات؛ لأنَّك إن استشعرتَ بأنَّك تدعو عظيمًا قادرًا؛ فإنَّه سيستجيب لك، حتَّى ولو كان القدَر يجرى على خلاف ذلك؛ فقد قال الرسول الكريم – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ولا يرد القدرَ إلا الدعاء))[5].
ومن آدابه أيضًا:
أن تُلِحَّ في الدُّعاء، وتكثر منه، ويكون دَيدنَك ودأبك، وقد نادت الملائكة سيِّدنا زكريا – عليه السَّلام – حتَّى تبشِّره بقبول الله تعالى دعاءه – وهو قائم يدعو ربَّه في المسجد؛ قال تعالى: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [آل عمران: 39].
نحن إن أحسنَّا الدعاء، فإنَّ الله سيَستجيب دعوتنا وفق ما يُرضينا، وهذا الأمر حدَث مع سيِّدنا زكريا – عليه السَّلام – فقد استجاب الله دعاءه، ولكنَّه استغرب ودُهش؛ إذْ كيف يُمْكِن أن يكون شيخٌ كبيرٌ، وامرأة طاعنة في السنِّ، وفوق ذلك عاقرٌ لا تنجب – كيف يمكن أن يحدث استجابة الدعاء؟! لقد عبَّر عنه سيِّدنا زكريا: ﴿ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا ﴾ [مريم: 8]، ولكنَّ الله تعالى يذكِّره بأنَّ كلَّ الأمور ممكنةٌ؛ ما دام العبد متوكِّلاً على ربِّه، مُحْسنًا ظنَّه به، قال تعالى: ﴿ قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا ﴾ [مريم: 9].
لقد استجاب الله تعالى دعاء زكريا وفق ما يتمنَّاه، وقد بشَّره ببشارات كثيرة:
1 – ستُنْجِب امرأتُه.
2 – تنجب غلامًا، والغلام هو الشابُّ الطارُّ الشارب، أو الكهل، فهذا يعني أنَّه سيعيش إنسانًا طبيعيًّا دون أن يكون للسنِّ الكبيرة والشيخوخة أيُّ أثر سلبي في ذلك؛ فبشارته بغلامٍ من باب اعتبار ما سيكون؛ تيمُّنًا بسلامته، ويدلِّل على ذلك اسمه "يحيَى" الذي لم يكن أحدٌ ليتسمَّى به قبله.
3 – سيكون الغلام واثقًا من نفسه، مُحاطًا برعاية الله تعالى له، داخلاً تحت كنفه ورعايته.
4 – سيكون حكيمًا وهو صبيٌّ.
5 – سيكون رحمة للناس، عطوفًا عليهم.
6 – سيكون تقيًّا مُطيعًا، مُزْوَرًّا عن الذنوب والمعاصي والآثام، مطهَّرًا منها.
7 – سيكون بارًّا بوالديه، كثير الإحسان إليهما، غيرَ عاصٍ ولا متجبِّر عليهما، ولا مخالفٍ لأمر ربِّه.
8 – سيكون زاهدًا متعففًا لا يقرب النساء.
9 – سيكون نبيًّا صالحًا.
ومن ضُروب آدابه أيضًا:
أن يكون الداعي متوضئًا، وزكريا كان يصلي ويدعو ربَّه مطهرًا.
ومن ضروبه أيضًا:
أن يدعو بما هو مباح؛ فتمنِّي زكريا الولدَ هو من قبيل المباحات، وليس من المحرَّمات أو الممنوعات.
إنَّ زكريَّا – عليه السَّلام – مثالٌ جميلٌ للعبد الملحِّ في الدعاء، غيرَ يائس ولا قانط؛ إذِ استجاب الله كلَّ دعاءٍ يدعوه؛ قال تعالى على لسانه: ﴿ وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا ﴾ [مريم: 4]، وكيف يقنط مسلِمٌ من دعائه، وقد كفل الله تعالى استجابةَ الدُّعاء له؟ وكيف يَيئس مسلمٌ من دعائه وقد قال تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]؟
لقد علم أنَّ الله تعالى بيده مقاديرُ كلِّ شيء، وقد كانت مريم – عليها السَّلام – هي المنبِّهةَ له في هذا الأمر، فالذي يجلب فَواكه الشِّتاء في سواء الصيف، قادرٌ على أن يمدَّه بغلامٍ تمنَّى لو يأتي؛ فهو لم يستغرب لِيَيئس، ولم يحسد مريم على ما آتاها الله تعالى، ولم يُكِنَّ لها مشاعر الغيظ والحنق، ولم يتخلَّ عنها ويعلن استغناءه عن كفالتها، بل ذهب يدعو، والدُّعاء متاحٌ لكلِّ النَّاس: ﴿ هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].
ما أجْملَه من دعاء! وما أحسنَه من طلب! وما أجودها من حاجة!
لقد كان زكريَّا في مكان الفيض الإلهيِّ على مريم، والمعجزة الإلهيَّة ذات الخوارق، فطمع في أن يكون له دعاءٌ مُستجابٌ أيضًا، ففي نفس المكان دعا ربَّه الولدَ، وفي نفس الموضع ألَحَّ في ذلك، وفي نفس المثابة أحسن ظنَّه به سبحانه! يدلُّ على ذلك استعمال الظَّرْف ﴿ هنالك ﴾؛ أيْ: لَم ينتظر طويلاً حتَّى يدعو الله تعالى، فلَرُبَّما توخَّى هذا المكان؛ لما فيه من خصوصيَّةِ نزول الرزق على مريم – عليها السلام.
ومن شروط استجابة الدعاء أيضًا:
أن يكون المسلم متذلِّلاً غيرَ متكبِّر، ولا مختالٍ، مُتواضعًا دونما عُجْبٍ، يُسْرِع في عمل الخير، ويدعو ربَّه في جميع الأوقات والأزمان؛ لينال شرف استجابة الله دعاءه، وزكريا كان يعمل الخير، ويدعو ربَّه في جميع الأطوار والظُّروف؛ في لحظات سعادته وحزنه، قال تعالى: ﴿ وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 89 – 90].
ولكنَّ كثيرًا من الناس – إلاَّ مَن رحم الله تعالى – يَدْعو الله في موطن الشِّدَّة، أمَّا في حال سروره وسعادته، فلا يَشكر الله تعالى ولا يحمده، بل يَصْدف عن شكره، وينأى عن عبادته، وكأنَّه لا يعرف الله تعالى إلاَّ في مواطن الرَّزايا! بل تراه يدعو الله إنْ مسَّتْه لأْواء في جميع أحواله، ويلحُّ في الدعاء، قائمًا كان أو جالسًا، أو متَّكئًا أو ماشيًا، ولكن ما أن يفرِّج الله غمَّته، وينفِّس كربته، حتَّى يعود سيرته الأولى!
قال تعالى: ﴿ وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [يونس: 12].
وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا ﴾ [الإسراء: 83].
وقال أيضًا: ﴿ إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا ﴾ [المعارج: 19 – 21].
ومنهم مَن لا يكلُّ ولا يملُّ، ولا يَفْتُر عن طلب العافية والسعة في النِّعمة، ولكن ما أن تحيق به مصيبةٌ حتَّى يَقْنَط من رحمة الله تعالى؛ قال تعالى: ﴿ لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ ﴾ [فصلت: 49].
وقد أخبَرَنا القرآنُ الكريم أنَّ كلَّ شخص يعمل وفقًا لهواه في هاته المواطن، قال تعالى: ﴿ قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا ﴾ [الإسراء: 84].
وأُشهد الله تعالى أنَّ سيِّدنا زكريَّا قد كان على السبيل السَّويِّ في دعائه؛ فهو لم يَقْنَط ولم يجزع، وبعد أن استُجِيب دعاؤه لم يستكبِر عن عبادته تعالى، بل عرف يده عنده، وفضله عليه، وإنعامه له، ورحمته به، ولم يكن داخلاً في قوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ * أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ ﴾ [التوبة: 75 – 78].
فزكريَّا لَم يَكُن منافقًا – وحاشا لله – يدعو الله أن يوسِّع عليه رزقه، ثُمَّ إذا رزقه بغى في الأرض، ونسِيَ الذي رزقه.
ولَم يكن داخلاً في قوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11]؛ فهو لم يشكَّ إطلاقًا في قدرته تعالى على استجابة الدُّعاء، ولم يَستبطِئْه، ولم يتملَّكْه الخوف والشكُّ في ذلك، بل كان يدعو دعاء متَّصِلاً حتَّى استُجِيب له.
والإنسان بِخِيمِه[6] يَشْكر الله في مواطن السَّعادة، ويُسيء الظنَّ به في مواطن البقائع والضِّيق؛ قال تعالى: ﴿ فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ ﴾ [الفجر: 15 – 16]، ولكنَّ المسلم يَنْماز عن غيره بالحمد في المواطن كلِّها؛ خيرًا كانت أم شرًّا، ويَذْكُرون دائمًا قوله تعالى: ﴿ قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ ﴾ [التوبة: 51]؛ فهم صابرون لا يريمون عنه قِيدَ أنملة.
ننتَقِش إذًا من هذا الأُنْموذج الرائع أنَّ للدُّعاء آدابًا ينبغي للمسلم أن يتمثَّلها دومًا؛ فحضور القلب وانكساره وذلُّه أمام الله تعالى سببٌ في قبول الدُّعاء واستجابته، وكذلك الطهارة أدب من آدابه، والإلحاح فيه، وعدَمُ اليأس أو القنوطِ المفضي إلى تَرْكِه… إلى غير ذلك من الآداب.
أسأل الله تعالى أن يكون دعاؤنا مُستجابًا؛ إنه وليُّ ذلك، والقادر عليه.
بارك الله فيك على المرور
بارك الله فيك
بارك الله غيك ورزقك الجنة والصحبة الطيبة وجعلك من الذين يدعون الله فيستجيب لهم
بارك الله فيكم
جزاك الله خير
ربنا تقبل دعاءنا
آمين
بارك الله فيكم أحبتي الكرام على المرور