Tweet
1249
موضوعات إسلامية – موضوعات مختصرة – الدرس ( 69): الاستخلاف في الأرض بين الوعد والشرط .
لفضيلة الدكتور محمد راتب النابلسي بتاريخ: 2024-05-29
بسم الله الرحمن الرحيم
أحاديث تبين ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في شتى أقطارهم وأمصارهم:
أيها الأخوة المؤمنون ؛ عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ مَثَلُ الْجَسَدِ الواحد إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ))
[ متفق عليه عَنْ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ]
وقال أيضاً:
(( المؤْمِنُونَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ نَصَحَةٌ مُتَوَادُّونَ، وَإِنِ افْتَرَقَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ، وَالْفَجَرَةُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ غَشَشَةٌ مُتَخَاذِلُونَ، وَإِنِ اجْتَمَعَتْ مَنَازِلُهُمْ وَأَبْدَانُهُمْ))
[ الترغيب والترهيب للمنذري، والبيهقي في شعب الإيمان ]
وقال:
(( والْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ ))
[ البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي موسى ]
وفي الحديث أيضاً:
(( والْمُسْلِمُونَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، ويَسْعَى بِذِمَّتِهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَيُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَقْصَاهُمْ، وَهُمْ يَدٌ عَلَى مَنْ سِوَاهُمْ ))
[ أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ]
وقال أيضاً:
(( إِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لاَ يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتِالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إِلاَّ عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ ))
[ انظر السيرة النبوية لابن هشام ]
هذا وصف دقيق مِن قِبَل مبعوثِ العنايةِ الإلهيةِ لِمَا عليه المؤمنون، أو لِمَا ينبغي أن يكونوا عليه في شتى أقطارهم وديارهم ؛ مِن تعاونٍ، وتناصرٍ، وتعاطفٍ، فهُمْ كالجسدِ الواحدِ، نَصَحَةٌ متوادُّون، وهمْ بنيانٌ واحد يشدُّ بعضُه بعضاً، وهمْ يدٌ على مَن سواهم، سِلمُهم واحدة، وحربُهم واحدة، هذا ما ينبغي أن يكون عليه المؤمنون في شتى أقطارهم وأمصارهم.
أوصاف المؤمنين في الكتاب والسنة مقاييسُ دقيقةٌ نقيسُ بها إيمانَنا:
أوصاف المؤمنين في الكتاب والسنة مقاييسُ دقيقةٌ نقيسُ بها إيمانَنا ، أو هي أهدافٌ نضعها نصْبَ أعيننا ، وينبغي أنْ نسعى إليها .
فلا بدَّ للمسلمِ الصادقِ أن يحملَ همومَ أخوانه المسلمين في مختلف أصقاعهم وأمصارهم، ومَن لم يهتمَّ بأمر المسلمين فليس منهم، بل إنّ تطلُّعَ المسلمِ إلى أن يكون أخوانه في شتى أقطارهم أعزّةً كرماء، يملكون أمرَهم ومصيرَهم لَهِيَ علامةٌ من علاماتِ إيمانه، وإنّ حرصَ المسلم على أن يكونَ المسلمون متعاونين متناصرين لَهِيَ علامةٌ من علاماتِ إخلاصِه، فالفرديةُ طبْعٌ، والتعاونُ الجماعيُّ تكليفٌ، والإنسانُ المؤمنُ يتعاونُ مع أخوانه المؤمنين بقدْرِ طاعته لله، وينسلخُ منهم، ويؤكِّد فرديتَه بقدْرِ تفلُّتِه مِن منهج الله، وحينما ينهى الإنسانُ نفسَه عن خصائصِ طبعِه التي هي في الأصل تُناقِضُ التكليفَ، ليكون هذا التناقضُ ثمناً للجنة، وحينما ينهى الإنسانُ نفسَه عن خصائصِ طبعه، ويحمِلُها على طاعة ربِّه يكون حينَئِذٍ قد أخَذ بسببٍ مِن أسبابِ دخولِ جنة ربه، قال تعالى:
﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى ﴾
[ سورة النازعات الآية : 41 ]
أيها الأخوة ؛ قال تعالى:
﴿ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي ﴾
[ سورة النور الآية: 55 ]
أنجزَ اللهُ وعدَه للمؤمنين يومَ عبدوهُ حقَّ العبادةِ، فأطاعوه ولم يعصوه، وشكروه ولم يكفروه، وذكَروه ولم ينسَوه، فجعل اللهُ منهم قادةً للأمم بعد أنْ كانوا رعاةً للغنم، لكنَّ الذي حدَث أنْ قَلَبَ المسلمون لدِينهم ظَهْرَ المِجَنِّ.
1ـ وصف نبينا الكريم في أحاديثه النبوية الغيَّ الذي توَّعد اللهُ به المقصِّرين وبيّن أسبابه:
قال الله تعالى في كتابه:
﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ﴾
[ سورة مريم الآية : 59 ]
من دلائل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام أنه وصف هذا الغيَّ الذي توَّعد اللهُ به المقصِّرين، وبيّن أسبابه، وكأنه صلى الله عليه وسلم بيْننا يَرى ما نَرى، ويسمع ما نسمع، فَعَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يُوشِكُ الأمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الأكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا، فَقَالَ قَائِلٌ: يا رسول الله وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ ؟ قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ، وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ، وَلَيَنْزَعَنَّ اللَّهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمُ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ، وَلَيَقْذِفَنَّ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمُ الْوَهْنَ، فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الْوَهْنُ ؟ قَالَ: حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ))
[ رواه أبو داود وأحمد عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ]
هذا وصف دقيق للغيِّ الذي توعّد اللهُ به المقصِّرين.
فالأمم اليوم يدعو بعضُها بعضاً لمقاتلةِ المسلمين، وكسرِ شوكتهم، وسلبِ ثرواتهم، وأخذِ أموالهم، واغتصابِ أراضيهم، كما تداعى الأَكَلَةُ إلى قصعتها، يأخذون منها بلا مانع ولا منازع، فيأكلونها عفواً وصفواً، ويأخذون ما في أيديهم بلا تعبٍ ينالهم، أو ضررٍ يلحقهم، أو بأسٍ يمنعهم.
فانظروا إلى هذا الوهَن الذي هو سرُّ الضعف، الذي جعل الناس عبيداً لدنياهم، عشاقاً لأوضاعهم الرتيبة، تُحرِّكهم شهواتُهم وشبهاتُهم، وتسيِّرُهم رغائبُهم ونزواتُهم، وهذا هو الوهَن، حينما يكره الإنسان لقاء ربه، ويترقب الموت كامناً في كل اتجاه، فيفزع من الهمس، ويألم من اللمس، يُؤْثِر حياةً يموت فيها كلَّ يوم موتات، على حياة كريمة عزيزة أبدية في جنة ربِّه، فالعجبُ كل العجب أن يكون النورُ بين أيديهم، والرائدُ نصْبَ أعينهم، ثم هم يلحقون منهومِين بركاب الأمم الشاردة عن الله، في نهجهم وسلوكهم، فلا يستطيعون رشاداً، ولا يهتدون سبيلاً، وحالهم لا يعدو ما وصفَ ذلك الشاعر بقوله:
كالعِيس في البيداء يقتلها الظمأُ والماء مِنْ فوق ظهورها محمولُ
* * *
2ـ ذكر ما يصيب المسلمين آخر الزمان من بأساء وضراء بسبب إعراضهم وتقصيرهم:
من دلائل نبوته عليه الصلاة والسلام، ومن خلال إعلام الله له، أنه ذكر ما يصيب المسلمين ـ في آخر الزمان ـ من بأساء وضراء بسبب إعراضهم عن ربهم، وتقصيرهم في طاعتهم له، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ قَالَ:
(( أَقْبَلَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُهَاجِرِينَ خَمْسٌ إِذَا ابْتُلِيتُمْ بِهِنَّ وَأَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ تُدْرِكُوهُنَّ: لَمْ تَظْهَرِ الْفَاحِشَةُ فِي قَوْمٍ قَطُّ حَتَّى يُعْلِنُوا بِهَا إِلا فَشَا فِيهِمُ الطَّاعُونُ وَالأَوْجَاعُ الَّتِي لَمْ تَكُنْ مَضَتْ فِي أَسْلافِهِمِ الَّذِينَ مَضَوْا، وَلَمْ يَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِلا أُخِذُوا بِالسِّنِينَ وَشِدَّةِ الْمَئُونَةِ وَجَوْرِ السُّلْطَانِ عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَمْنَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلا مُنِعُوا الْقَطْرَ مِنَ السَّمَاءِ، وَلَوْلا الْبَهَائِمُ لَمْ يُمْطَرُوا، وَلَمْ يَنْقُضُوا عَهْدَ اللَّهِ وَعَهْدَ رَسُولِهِ إِلا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ عَدُوّاً مِنْ غَيْرِهِمْ، فَأَخَذُ بَعْضَ مَا فِي أَيْدِيهِمْ، وَمَا لَمْ تَحْكُمْ أَئِمَّتُهُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ، وَيَتَخَيَّرُوا مِمَّا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلا جَعَلَ اللَّهُ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ ))
[ سنن ابن ماجه عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ]
إنها المعاصي والذنوبُ، والمجاهرةُ بالفواحشِ والآثامِ، والتعرُّضُ لسخطِ جبَّارِ السماواتِ والأرضِ، فإنه ما نزل بلاءٌ إلاّ بذنب، ولا رُفع إلاّ بتوبة، وإنه ما حصل البلاءُ العامُّ في بعض البلاد، ولا وقعت المصائبُ المتنوعةُ، والكوارثُ المروِّعة، ولا فَشَتِ الأمراضُ المستعصيةُ التي لم يكن لها ذِكرٌ في ماضينا، ولا حُبِسَ القطرُ من السماء، إلاّ نتيجةَ الإعراضِ عن طاعة الله عز وجل، وارتكابِ المعاصي، والمجاهرةِ بالمنكرات، وكلما قلَّ ماءُ الحياء قلَّ ماءُ السماء.
خطاب الرسول الكريم لقتلى بدر من المشركين:
الآن ننتقل بحضراتكم عبرَ البُعْدِ الزمانيِّ إلى السابعَ عشر من رمضان عام اثنين لهجرة النبي عليه الصلاة والسلام، وعبْر البُعْدِ المكانيِّ إلى بدر، وهو مكانٌ بيْن مكةَ والمدينةِ، جَرَتْ فيه أولُ معركةٍ بين المسلمين والمشركين، ولننظر إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد وقف أمام قَليب ـ بئر مهجورة ـ طُرِحتْ فيه جثثُ القتلى مِن صناديدِ قريش، ولنستمع إليه وهو يخاطبهم.
فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( تَرَكَ قَتْلَى بَدْرٍ ثَلَاثاً ثُمَّ أَتَاهُمْ فَقَامَ عَلَيْهِمْ فَنَادَاهُمْ فَقَالَ: يَا أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ يَا أُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ يَا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ يَا شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ أَلَيْسَ قَدْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً فَإِنِّي قَدْ وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّي حَقّاً ؟ فَسَمِعَ عُمَرُ قَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ يَسْمَعُوا وَأَنَّى يُجِيبُوا وَقَدْ جَيَّفُوا ؟ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُمْ وَلَكِنَّهُمْ لَا يَقْدِرُونَ أَنْ يُجِيبُوا ثُمَّ أَمَرَ بِهِمْ فَسُحِبُوا فَأُلْقُوا فِي قَلِيب))
[ رواه مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ]
يا لها من كلماتٍ بليغات، تلك التي خاطب بها رسولُ الله صلى الله عليه وسلم القتلى مِن كفار قريش، بَعْدَ أنْ أمرَ بطرحهم في قليبٍ ـ أي بئر ـ لدفنهم، وذلك إثرَ انتصارِ المسلمين في أولِ مواجهةٍ لهم مع أعدائهم، انتصروا وهم قلَّة قليلة مُستضعَفة، على كثرة كثيرة مِن صناديد قريش، وهم أشداءُ مستكبرون.
لقد كان جيشُ المسلمين في بدر ضئيلَ العَدد، قليلَ العُدد، فأصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خرجوا معه لا يزيدون عن ثلاثمئة، بل يَنقصون عن ذلك، ولكنَّ الواحدَ منهم كألْفٍ، والألفُ مِن أعدائهم كأفٍّ، فَهُمْ يحبُّون الموت كما يحب أعداؤهم الحياة.
نوعية القيادة التي قادت جيشَ المسلمين إلى النصر عشيةَ موقعة بدر:
استعرض الرسولُ جيشَه كما يفعل القادةُ قُبيل المعركة لاستجلاء معنوياته فقال:
((أشيروا عليِّ أيها الناس.. ويعني بذلك الأنصار، لأنهم كانوا أكثر عدداً، فقال له سعدُ بنُ معاذ: والله فكأنك تريدنا يا رسول الله؟ قال: أجلْ، فقال: قد آمنا بك وصدَّقناك، وشهدنا أنَّ ما جئتَ به هو الحقُّ، وأعطيناك على ذلك عهودَنا ومواثيقَنا على السمع والطاعة لك، فامضِ يا رسول الله لما أردتَ، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق لو استعرضتَ بنا البحر فخضتَه لخضناه معك، ما تخلَّف منا رجل واحد.. وما نكره أن تلقى بنا عدوَنا غداً وإنا لصُبُر في الحق، صُدُق عند اللقاء، فصِلْ حبال مَن شئت، واقطعْ حبال مَن شئت، وعادِ مَن شئت، وسالم مَن شئت، وخذ مِن أموالنا ما شئت، وأعطِنا ما شئت، وما أخذتَ منا كان أحبَّ إلينا ممّا تركتَ، فلعل اللهَ يُريك منا ما تقرُّ به عينُك، فسِرْ بنا على بركةِ الله))
[السيرة النبوية وكتاب الثقاة لابن حبان]
هذا نموذج مِن مقاتلِي الجيشِ عشيةَ موقعةِ بدرٍ، إنهم على أُهْبَةِ الاستعداد للتضحية بالغالي والرخيص، والنفس والنفيس، دعماً للحقِّ، ولدين الحقِّ، ولرسول الحقِّ.
أمّا عن نوعية القيادة التي قادت جيشَ المسلمين إلى النصر عشيةَ موقعة بدر فإليكم بعضَ ما روته كتبُ السيرة: لقد كان جيشُ المسلمين، فضلاً عن ضآلة العَدَد، في قِلَّةٍ مِنَ العُدَد، فليس مع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وصحبِه سوى سبعينَ بعيراً، والمسافةُ بين المدينة وبدرٍ تَرْبُو على مئة وستين كيلو متراً، فأعطَى النبيُّ الكريمُ صلى الله عليه وسلم توجيهاً، بأنْ يختصَّ كلُّ ثلاثةٍ براحلة، وقال صلى الله عليه وسلم:
(( وأنا وعلي وأبو لبابة على راحلة، فكان أبو لُبابة وعليُّ بن أبي طالب زميلَيْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فكانت نوبةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ أي دورُه في السير ـ فقالا له: نحن نمشي عنك ـ ليظل راكباً ـ فقال: لا.. ما أنتما بأقوى مني على السير، ولا أنا بأغنى منكما عن الأجر ))
[ أخرجه الحاكم وابن حبان عن ابن مسعود ]
فمشى النبي صلى الله عليه وسلم وصاحباه راكبان، فهذا الذي يمشي وصاحباه يركبان هو رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقائدُ الجيش. فهل تُدهِشُنا بعد هذا شجاعةُ أصحابه وتضحياتُهم وإقبالُهم على الموت بعد أنْ سوَّى نفسَه بهم في كلِّ شيء ؟ وهل يُدهشنا تعلُّقهم به، وتفانِيهم في محبَّته، وقد كان لهم أباً رحيماً، وأُمّاً رؤوماً، وأخاً ودوداً، ونبياً ورسولاً ؟ ولقد صدق الله العظيم إذ يقول:
﴿ وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾
[ سورة القلم الآية : 4 ]
وصف دقيق لأعداء اليوم:
والآن نعود بحضراتكم عبر البُعْدِ الزماني من السابع عشر من رمضان من العام الثاني للهجرة، إلى العشرين من رمضان من العامِ التاسع عشر بعد الأربعمئة والألف، وعبْر البعد المكاني من أرض المعركة في بدر قرب المدينة المنورة إلى فسطاط المسلمين، مدينة قرب الغوطة يقال لها دمشق، هي خيرُ بلادِ المسلمينَ للمسلمين يومئذٍ، والتي قال عنها سيِّدُ الخلق، وحبيبُ الحقِّ:
(( إنِّي رَأَيْتُ عَمُودَ الْكِتَابِ قَدِ انْتُزِعَ مِنْ تَحْتِ وِسَادَتِي فَأَتْبَعْتُهُ بَصَرِي فَإِذَا هُوَ نُورٌ سَاطِعٌ، فَعُمِدَ بِهَ إِلَى الشَّامِ، أَلاَ وَإِنَّ الإِيمَانَ إِذَا وَقَعَتْ الْفِتنُ بِالشَّام ِ))
[أحمد عن عمرو بن العاص]
أيها الأخوة الكرام ؛ هذا النصرُ المؤزَّرُ العزيزُ الذي فرِح به ويفرحُ له المؤمنون في كلِّ عَصرٍ ومَصرٍ، والذي نحن في أمسِّ الحاجة إليه، لأننا نواجه أعداءً ماتت في ضمائرهم وضمائر الذين انتخبوهم كلُّ القيمِ الإنسانية، والأعراف الدولية، وداسوا على حقوق الإنسان بحوافرهم، وبَنَوْا مجدهم على أنقاض الشعوب، وغِنَاهم على إفقارها، وقوَّتَهم على تدمير أسلحتها. إنهم يصفون المالكَ الطريدَ المشرَّدَ للأرضِ إرهابياً لا حقَّ له، والمتمسكَ بدينه القويم أصولياً، ويجعلون اللصَّ الغالبَ على المقدسات ربَّ بيتٍ محتَرماً، يملكون الأرضَ لا بالإحياء الشرعي ولكنْ بالإماتةِ الجماعيةِ والقهرِ النفسيِّ، قال تعالى:
﴿ حَتَّى إِذَا أَخَذَتْ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلا أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ﴾
[سورة يونس: الآية 24]
بل إنّ هؤلاء المستكبرين ربَّما طالبوا الشعوبَ المستضعفةَ أنْ يلْعَقوا جراحهم، ويبتسموا للغاصب، وأن يَعُدُّوا حقَّهم باطلاً، وباطلَ غيرهم حقاً، وفي مثل هذا يقول عليه الصلاة والسلام:
(( كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا لَمْ تَأْمُرُوا بِمَعْرُوفٍ وَلَمْ تَنْهَوْا عَنْ مُنْكَرٍ؟ قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وأَشَدّ مِنْهُ سَيَكُونُ، قَالُوا: وَمَا أّشَدُّ مِنْهُ؟ قاَلَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا رَأَيْتُمُ الْمَعْرُوفَ مُنْكَراً وَالْمُنْكَرَ مَعْرُوفاً ؟ قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَأشَدّ مِنهُ سَيَكُونُ، قَالُوا: وَمَا أَشَدُّ مِنْهُ ؟ قَالَ: كَيْفَ أَنْتُمْ إِذَا أَمَرْتُمْ بِالْمُنْكَرِ وَنَهَيْتُمْ عَنِ الْمَعْرُوفِ ؟ قَالُوا: وَكَائِنٌ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ وَأَشَدّ مِنْهُ سَيَكُونُ ))
[رواه أبو يعلي من حديث أبي هريرة]
ثمن النصر يتلخص بكلمتين الإيمان والإعداد:
هذا النصرُ المؤزَّرُ العزيزُ ما سرُّه ؟ ومَن يصنعه ؟ وما العاملُ الحاسمُ فيه ؟ إنّه اللهُ عز وجل، وهذا استناداً لقوله تعالى:
﴿ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ ﴾
[سورة الأنفال الآية: 10 ]
وقوله:
﴿ إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ﴾
[سورة آل عمران الآية: 60 ]
إذا كان الله معك فمن عليك ؟ وإذا كان الله عليك فمن معك ؟ والآن أليس لهذا النصرِ الذي هو مِن عند الله قواعدُ ؟ أليست له شروط ؟ أليس له ثمن ؟
إن هذه القواعدَ وتلك الشروطَ وهذا الثمنَ تتلخَّص كلها بكلمتين: الإيمان والإعداد، أمّا الإيمان فقد قال تعالى:
﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾
[ سورة الروم الآية : 47 ]
وأمّا الإعداد فقال تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
[ سورة الأنفال الآية: 60 ]
فالإيمان الذي يحمل صاحبَه على الاستقامة والعمل الصالح وحدَه شرطٌ لازمٌ غير كافٍ، والإعداد الذي يستنفد الطاقاتِ وحدَه شرطٌ لازمٌ غيرُ كافٍ، بل لا بد مِن الإيمان الحقِّ والإعدادِ الصحيح.
علاقةَ الإيمان بالنصر علاقةٌ ثابتة:
إن علاقةَ الإيمان بالنصر علاقةٌ رياضيةٌ ـ أي ثابتة ـ توضِّحها الآية:
﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضْ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مئة يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ * الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مئة صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾
[سورة الأنفال الآية : 65-66 ]
يتضح من خلال هذه الآيةِ الكريمةِ أنَّ معادلةَ النصر في حالة قوّةِ الإيمان واحدٌ إلى عشَرة، وفي حالة ضَعف الإيمان واحدٌ إلى اثنين، وفي حالة انعدام الإيمان يكون النصر للأقوى عدداً وعُدَّةً، وما يتبع ذلك، ذلك أنّ المعركة بين حقَّينِ لا تكون، لأنّ الحقَّ لا يتعدّد، والمعركة بين حقٍّ وباطل لا تطول، لأنّ الله مع الحقّ، والمعركة بين باطلين لا تنتهي، وعندئذ تحدَّثْ عن العَدَد والعُدَد، والخطط والحيل.
الإعدادُ أمرٌ إلهيٌّ قطعيُّ الثبوتِ وهو وحده شرطٌ لازمٌ غير كاف:
إن الإيمان يبدِّل طبيعةَ النفس ويغيّر قيمَها ومطامحَها، ويُصعَّد ميولَها ورغباتِها، ويخفِّف مَن متاعبِها وهمومِها، ويُقوِّي رجاءَها وأملَها، ويقلِّب أحزانَها أفراحاً، ومغارمَها مغانمَ. تؤكِّد هذه الحقيقةَ وصيةُ سيدِنا عمرَ بنِ الخطاب رضي الله عنه إلى سيدنا سعدِ بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: " أمَّا بعدُ، فإني آمرك ومَن معك من الأجناد بتقوى الله عز وجل على كل حالٍ، فإنّ تقوى الله أفضلُ العُدَّة على العدوِّ، وأقوى المكيدة في الحرب، وآمُرُك ومَن معك أن تكونوا أشدَّ احتراساً مِنَ المعاصي منكم مِنْ عدوِّكم، فإنّ ذنوبَ الجيش أخوفُ عليهم مِن عدوّهم، فإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم لله ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوةٌ، إنّ عددَنا ليس كعددهم، ولا عُدَّتنا كعدَّتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضلُ علينا بالقوة. هذا هو الإيمان.
وأما الإعدادُ فهو وحده شرطٌ لازمٌ غير كاف أيضاً، وهو أمرٌ إلهيٌّ قطعيُّ الثبوتِ لقوله عز وجل:
﴿ وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
[سورة الأنفال الآية: 60 ]
المؤمنون بمجموعهم مأمورون بإعداد العُدَّة، ليواجهوا بها قُوى البغيِ والكفرِ .
فكلمة:
﴿ مَا اسْتَطَعْتُمْ ﴾
تعني استنفادَ الجهدِ، لا بذلَ بعضِ الجهد، والقوةُ التي ينبغي أن يُعدَّها المؤمنون جاءت في الآيةِ مُنكَّرة تنكيرَ شمولٍ، ليكون الإعداد شاملاً لكل القُوى التي يحتاجها المؤمنون في مواجهة أعدائهم ؛ من قوةٍ في العَدد، وقوةٍ في العُدد، وقوةٍ في التدريب، وقوةٍ في التخطيط، وقوةٍ في الإمداد، وقوةٍ في التموين، وقوة في الاتصالات، وقوة في المعلومات، وقوةٍ في تحديدِ الأهداف، وقوةٍ في دقةِ الرمي، وقوةٍ في الإعلام، بل إن كلمة :
﴿ مِن ﴾
التي سبقت القوةَ جاءت لاستغراقِ أنواعِ القوةِ واحدةٍ إثر واحدة، فلقد أفادت استقصاء أنواع القُوى، لا اصطفاءَ بعضِها، وكلمة :
﴿وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ﴾
جاءت عطفاً للخاص المألوف وقتَ نزولِ القرآن على العامِ الذي يستغرق كلَّ الأزمان والبيئات، والتطوراتِ والتحديات، وهذا الإعدادُ يحققُ أهمَّ أهدافِه، ولو لم تقعِ المواجهةُ مع العدو، إنها رهبةُ القَويِّ التي تُقذَف في قلوب أعدائِه، لقوله تعالى:
﴿ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ ﴾
كلّ القوةِ في إحكامِ الرمي وإصابةِ الهدف:
قال تعالى:
﴿ سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ﴾
[سورة آل عمران الآية: 151 ]
وقال عليه الصلاة والسلام:
((نُصِرْتُ بالرُّعْبِ مَسِيرةَ شَهْرٍ))
[ أخرجه البخاري عن جابر ]
وحينما لا تَّتبع أمتُه سُنتَه من بعده ربما تُهزم بالرعبِ مسيرةَ عام. بل إن النبي صلى الله عليه وسلم أشار إلى أن القوةَ كلَّ القوةِ في إحكامِ الرمي وإصابةِ الهدف، وهو مقياس خالد للقوة، وهو عنصر أساسي في كسبِ المعارك مهما اختلفت أنواعُ الأسلحة وتطورت مستوياتُها الفنّيةْ، فعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ:
(( وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ أَلَا إِنَّ الْقُوَّةَ الرَّمْيُ))
[رواه مسلم عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ]
وعَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الْوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الْجَنَّةَ صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ فِي صَنْعَتِهِ الْخَيْرَ وَالرَّامِيَ بِهِ وَمُنْبِلَهُ وَارْمُوا وَارْكَبُوا وَأَنْ تَرْمُوا أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ تَرْكَبُوا لَيْسَ مِنْ اللَّهْوِ إِلَّا ثَلَاثٌ تَأْدِيبُ الرَّجُلِ فَرَسَهُ وَمُلَاعَبَتُهُ أَهْلَهُ وَرَمْيُهُ بِقَوْسِهِ وَنَبْلِهِ، وَمَنْ تَرَكَ الرَّمْيَ بَعْدَ مَا عَلِمَهُ رَغْبَةً عَنْهُ فَإِنَّهَا نِعْمَةٌ تَرَكَهَا أَوْ قَالَ كَفَرَهَا ))
[ رواه الإمام أحمد في مسنده وأبو داود والنسائي عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ]
الله جلّ جلاله لم يكلِّفْنا أن نُعِّدَ القوةَ المكافئةَ لأعدائنا ولكن كلَّفنا أن نُعِدَّ القوةَ المتاحةَ:
والآن دققوا ـ أيها الأخوة ـ في هذا الاستنباط من قوله تعالى:
﴿ وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ ﴾
إن الله جل في عُلاه لم يكلِّفْنا أن نُعِّدَ القوةَ المكافئةَ لأعدائنا، ولكن كلَّفنا أن نُعِدَّ القوةَ المتاحةَ، وهذا من رحمة الله بنا، وعلى الله أن ينجز وعده بالنصر.
كما أن من الواجبِ علينا أن نبحث في كل مظنَّةِ ضَعْفٍ عن سببِ قوةٍ كامنةٍ فيه، ولو أخلصَ المسلمون في طلبِ ذلك لوجدوه، ولصار الضعفُ قوةً، لأنّ الضعفَ قد ينطوي على قوةٍ مستورةٍ يؤيِّدها اللهُ بحفظِه ورعايته، فإذا قوةُ الضعفِ تَهُدُّ الجبال، وتدكُّ الحصون، قال تعالى:
﴿ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ﴾
[ سورة الفتح الآية : 7 ]
إن الحديثَ عن القوةِ النابعةِ من الضعفِ ليس دعوةً إلى الرضا بالضعفِ، أو السكوتِ عليه، بل هو دعوةٌ إلى استشعار القوة حتى في حالة الضعف، وربما صحَّت الأجسامُ بالعلل، فينتزع المسلمون من هذا الضعف قوةً تحيل قوةَ عدوّهم ضعفاً، وينصرهم اللهُ نصراً مبيناً، قال تعالى:
﴿ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ﴾
[ سورة القصص الآية : 5 ]
هذه الحقائقُ المستنبَطةُ من القرآن الكريمِ هي منهجُ الله لخلقِه، وتلك التوجيهاتُ التفصيليةُ والتوضيحيةُ التي جاءت في سنةُ نبيِنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم، وهذه المواقفُ الأخلاقيةُ الرائعةُ والحكيمةْ التي وقفها المصطفى صلى الله عليه وسلم أسوتُنا وقدوتُنا، وتلك البطولاتُ الفذَّةُ التي ظهرت من أصحابه الكرامِ، أمناءِ دعوتِه، وقادةِ ألويته، هذه كلُّها نضعها بين أيدي أبناءِ أمتِنا العربيةِ والإسلاميةِ، وهي تخوض المعاركَ تِلوَ المعاركِ مع أعدائها أعداءِ الحق والخيرِ.
الصدق والإخلاص مع متابعةِ الرسول صلى الله عليه وسلم هيَ سُلَّمٌ للفلاح:
لأنَّ البكاءَ لا يُحيي الميتَ، ولأن الأسف لا يَردُّ الفائتَ، ولأن الحزنَ لا يدفعُ المصيبة، ولكنَّ العملَ مفتاحُ النجاحِ، والصدقَ والإخلاصَ مع متابعةِ الرسول صلى الله عليه وسلم هيَ سُلَّمٌ للفلاح، قال تعالى:
﴿ وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾
[ سورة التوبة الآية : 105 ]
هذه الحقيقةُ الأساسيةُ أشار إليها السيدُ الرئيسُ في مؤتمر القِمة الإسلامي الثاني فقال: يواجِهُ العالمُ الإسلاميُ اليومَ تحدياتٍ كبيرةً تستهدفُ الإسلامَ وما يمثِّلُه من قيمٍ نبيلةٍ، وما يدعو إليه من أخوّةٍ وعدالةٍ ومساواةٍ وحرية، وإذا كان من واجبنا أن ندافعَ عن ديننِا فإنّ لنا فيه يَنبوعَ قوةٍ ومصدرَ إلهام في مواجهةِ كلِّ ما يقابلُنا من أخطارٍ وتحدياتٍ، وقد جاء في الحديث الشريف:
((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضاً، وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ))
[ أخرجه البخاري ومسلم من حديث أبي موسى الأشعري ]
وأما السلامُ الذي نُدعى إليه فنحن حريصون عليه راغبونَ فيه، على أن يكون سلاماً عادلاً، تُسترجَع قبلَه الأرضُ، وتُستردُّ فيه الحقوقُ، وتتوافرُ فيه الكرامة. وإن تعنُتَ إسرائيلَ أوصَلَ عمليةَ السلام إلى طريقٍ مسدودٍ ـ كما قال السيدُ الرئيسُ ـ فهي ترفض رفضاً مطلقاً كلَّ مقومات السلامِ، وتنهج نهجَ المراوغةِ والخداعِ، وتستفزّ الضميرَ الإسلاميَ والعربيَ والإنسانيَ بإنشاءِ مزيدٍ من المستوطناتِ، ويضيف السيدُ الرئيسُ قائلاً: إن الخلاص يكون في الإسلام الذي عندما كنا متمسكينَ به لم يستطع أحدٌ أن يُذلَّنا، الإسلام دين الحق والعدالة والمساواةِ بين البشر، الإسلام مصدُر قوةٍ لنا جميعاً، إن هذا يفرِض علينا أن نناضلَ بكل قِوانا وبصدقٍ و إخلاصٍ لحماية الدين الحنيفِ من هذه المؤامراتِ الاستعماريةِ، لنحفظ له مهابتَه وجلالَه، وليبقى مصدرَ عزةٍ و قوةٍ للمسلمين، وليبقى حافزاً لتقدُّمِهم في كل مجال.
والحمد لله رب العالمين