تخطى إلى المحتوى

الإمام أحمد بن حنبل 2024.

  • بواسطة

الإمام أحمد بن حنبل
صاحب الخلق الرفيع والسجايا الحميدة

إن في تاريخ العظماء لخبرًا، وإن في سير العلماء لعبرًا، وأمتنا الإسلامية أمة أمجادٍ وحضارة وتاريخ وأصالةٍ، وقد ازدان سجلها الحافل عبر التاريخ بكوكبة من الأئمة العظام والعلماء الأفذاذ الكرام، مثلوا عقد جيدها وتاج رأسها ودريَّ كواكبها، كانوا في الفضل شموسًا ساطعة، وفي العلم نجومًا لامعة، فعُدوا بحق أنوار هدى ومصابيح دجى وشموعًا تضيء بمنهجها المتلألئ وعلمها المشرق الوضاء غياهب الظلم، وتبددها بأنوار العلوم والحكم.

وكان من أجلّ هؤلاء الأئمة ومن أفضل العلماء جبل أشم وبدر أتم وحبر بحر وطود شامخ، فريد عصره ونادرة دهره، إنه عالم العصر، وزاهد الدهر، ومحدث الدنيا، وعلمُ السنة، وباذل نفسه في المحنة، قلَّ أن ترى العيون مثله، كان رأسًا في العلم والعمل والتمسك بالأثر، ذا عقل رزين وصدق متين وإخلاص مكين، انتهت إليه الإمامة في الفقه والحديث والإخلاص والورع.

قال فيه الإمام الشافعي رضي الله عنه: "رأيتُ ببغداد شابًا إذا قال: حدثنا، قال الناس كلهم: صدقَ"، وقال فيه: "خرجت من بغداد فلما خلَّفت رجلاً أفضل ولا أعلمَ ولا أفقهَ ولا أتقى منه".

إنه إمام أهل السنة الإمام الفذّ والعالم الجهبذ والإمام المفضل والعالم المبجّل أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل رضي الله عنه، من عرفته الدنيا وذاع ذكره وشاع صيته في الآفاق، إمامًا عالمًا فقيهًا مُحدثًا مجاهدًا صابرًا لا يخاف في الله لومة لائم، يتحمل المحن في سبيل الله والذبِّ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقارع الباطل بحكمة نادرةٍ، لا تزعزعه الأهواء ولا تميد به العواصف، حتى عُدَّ قمة عصره.

إنَّ من أهم ما في حياة الإمام أبي عبد الله رحمه الله منهجه في العقيدة والتزامه نهج الكتاب والسنة وما عليه سلف الأمة في توحيد الله وتنزيهه عن الجسم والمكان والجهة والحركة والسكون، فقد نقل الإمام أبو الفضل التميمي الحنبلي في كتاب "اعتقاد الإمام أحمد" عن الإمام أحمد أنه قال: "والله تعالى لا يلحقه تغيُّر ولا تبدُّل ولا تلحقه الحدود قبل خلق العرش ولا بعد خلق العرش، وكان يُنكر –الإمام أحمد- على من يقول إنّ الله في كل مكان بذاته لأن الأمكنة كلها محدودة".

وبيّن الإمام الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في كتابه "دفعُ شبهِ التشبيه" براءة أهل السنة عامةً والإمام أحمد خاصة من عقيدة المجسمة وقال: "كان أحمد لا يقول بالجهة للبارئ".

وقد نقل الإمام الحافظ العراقي والإمام القرافي والشيخ ابن حجر الهيتمي ومُلا عليّ القاري ومحمد زاهد الكوثري وغيرهم عن الأئمة الأربعة هداة هذه الأمة: الشافعي ومالك وأحمد وأبي حنيفة رضي الله عنهم القول بتكفير القائلين بـ"الجهة والتجسيم". بل نقل أبو الفضل التميمي من الحنابلة عن أحمد أنه قال بتكفير من قال: "الله جسم لا كالأجسام".

وعبارته المشهورة التي رواها عنه أبو الفضل التميمي الحنبلي "مهما تصورت ببالك فالله بخلاف ذلك" دليل على نصاعة عقيدته وأنه على عقيدة التنزيه رضي الله عنه.

كذلك أوَّل الإمام أحمد بعض الآيات المتشابهات في الصفات، فقد روى الحافظ البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو بن السماك، عن حنبل، أن أحمد بن حنبل تأوّل قول الله تعالى: {وجاء ربك} أنه: جاء ثوابه. ثم قال البيهقي: وهذا إشناد لا غبار عليه، ونقل ذلك ابن كثير في تاريخه. وفي روايةٍ نقلها البيهقي في كتاب "مناقب أحمد" أن الإمام قال: "جاءت قدرته" أي أثر من ءاثار قدرته، ثم قال الحافظ البيهقي: "وفيه دليل على أنه كان لا يعتقد في المجيء الذي ورد به الكتاب والنزول الذي وردت به السنة انتقالاً من مكان إلى مكان كمجيء ذوات الاجسام ونزولها وإنما هو عبارة عن ظهور ءايات قدرته".

كذلك كان الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه يتبرك بآثار النبي محمد صلى الله عليه وسلم فقد قال الذهبي في سير أعلام النبلاء: "قال عبد الله بن أحمد: رأيت أبي يأخذ شعرة من شعر النبي صلى الله عليه وسلم فيضعها على فيهِ يقبلها، وأحسب أني رأيته يضعها على عينه، ويغمسها في الماء ويشربه يستشفي به، ورأيته أخذ قصعة النبي [1] صلى الله عليه وسلم فغسلها في جُبّ الماء [2]، ثم شرب فيها، ورأيته يشرب من ماء زمزم يستشفي به، ويمسح به يديه ووجهه، قال الذهبي: أين المتنطع المنكر على أحمد، وقد ثبت أن عبد الله سأل أباه عمّن يلمس رمانة منبر النبي [3] صلى الله عليه وسلم ويمسُّ الحجرة النبوية فقال: لا أرى بذلك بأسًا. أعاذنا الله وإياكم من رأي الخوارج ومن البدع" اهـ بحروفه.

ونقل البهوتي والمرداوي الحنبليان وغيرهما أن الإمام أحمد قال في منسكه الذي كتبه للمروروذي: "يُسن للمستسقي أن يتوسل بالنبي في دعائه".

ونقل عنه ابنه عبد الله: "إنه كان يكتب التعاويذ للذي يُصرع وللحمى لأهله وقرابته ويكتب للمرأة إذا عسر عليها الولادة في جام [وعاء] أو شئ نظيف، وأنه كان يعوذ في الماء ويُشربه للمريض ويصب على رأسه منه".

ونقل المروروذي عن الإمام أحمد أنه قال: "إذا دخلتم المقابر فاقرءوا بفاتحة الكتاب والمعوذتين وقل هو الله أحد واجعلوا ثواب ذلك لأهل المقابر فإنه يصل إليهم".

أيها الأحبة، صفحة أخرى في حياة هذا الإمام الهمام، صفحة العبادة وتصفية الروح وتزكية النفس بالصلاة والذكر والدعاء والتلاوة، وكذلك صفحة الخُلق الرفيع والسجايا الحميدة، زهد وحياء، تواضع وورع، تعفف وجود، بذل وكرم، حبٌّ للفقراء والمساكين، بعدٌ عن الشهرة والأضواء وحب الظهور، مجانبة للرياء وضعف الإخلاص. قال ابنه عبد الله: "كان أبي أحرص الناس على الوحدة، لم يره أحد إلا في المسجد أو حضور جنازةٍ أو عيادة مريض". وتلك والله مقامات العظماء ومناهج العلماء الأتقياء.

تلك صفحات ناصعة، وذلك غيض من فيض لا يوفيه حقه، وكم من معانٍ يعجز اللسان عن تصويرها.

عباد الله هؤلاء هم نجوم الأمة بعد محمد وأصحابه، إن سيرة واحدة منهم لعبرة وموقف، واحد منهم خير من كثير منا، ولا أقول لنفسي ولكم إلا ما قاله الشاعر:

فتشبهوا إن لم تكونوا مثلهم *** إنّ التشبه بالكرام فلاح

سلام عليك يا إمام، ورضي الله عنك وأجزل لك المثوبة وجزاك عن أمة الإسلام خير الجزاء.

أسأل الله العلي العظيم الكريم من فضله أن يُعظم أجره ويُكثر مثله وينفعنا بعلمه ويحشرنا في زمرته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
__________________________________________________
[1] أي الإناء الخشبي الذي كان يأكل به النبي [صحن خشبي].
[2] أي البئر.
[3] وهي جزء مستدير من المنبر.

جزاك الله خيراا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.