حرية التفكير
…و إذا كنا نريد أن نعمم عادة التفكير بين سائر أفراد الشعب فيجب قبل كل شيء أن نعود أنفسنا على قبول مبدأ حرية التفكير.
إن الفكر حر لا يستطيع أحد أن يقيده, ولم يجعل الله لأحد سلطانا على حركة الإنسان الداخلية, هكذا تعود الناس أن يقولوا , ولكن هذه الحرية التي يحمدون الله عليها لا قيمة لها إذا لم يكن لها الحق في أن تظهر للناس,أي في ان نعطي لصاحبها حق التظاهر بما يعن له من فكر, والإعراب عما يخطر بباله من رأي.إن عدم الإعراب عن أفكارنا من أهم أسباب خنق هذه الأفكار,وإذن فهو من أعظم وسائل الغضب لحرية التفكير, وإن الخاصة من ذوي الفكر أنفسهم لا يجدون متعة بأفكارهم إذا لم يسمح لهم بالإعراب عنها , بل قصارى حالهم أن يتعودوا الكبت الذي يفقدهم تدريجيا عادة النظر بما يستصحبها من آلام وأكدار.
إن هناك طبقة من الناس تستطيع أن تضحي بالنّفيس والغالي لكي تعبر عن رأيها ; ولقد روى لنا التاريخ ما اكده العصر الحاضر من استعداد الكثير لتقديم نفوسهم فيسبيل الآراء التي يؤمنون بها , ولكن هذه الطبقة مهما تكن قوية فهي قليلة بالنسبة للغالبية الساحقة من العوام الذين يهمهم شأن عملهم اليومي أكثر ما يهمهم التمتع بالقدرة على التعبير عن أفكارهم , ولكن هذه الطبقة نفسها لا تبخل بفكرها وبالإعراب عنه إذا عرفت أنها في مأمن من كل أذى يصيبها في نفسها أو مالها.
إني لا أريد ان أتحدث في هذ الفصل عن الإضطهاد الحكومي لحرية القول وحرية الفكر, لأن هذه الفصول لا تتناول إلا بصفة عرضية ما تفعله الحكومة, ولكنني أريد أن أتناول حظنا في مسؤولية الكبت لحرية التفكير عند لآخرين.
لقد لا حظ " جان بيوري" في كتابه عن حرية الفكر : أن الكسل العقلي الذي يعم " السواد يمنعهم من حب المعارضة إلا بمقدار", ولذلك نجد رجل الشارع يعيش في (عالم عقلي )خاص به يتكون من معتقدات سبق التسليم بها دون جدال أو نقاش فارتبطت بأعماقه إرتباطا نفسيا لم يقبل معه أي طعن أو نقد.
وقبول فكرة جديدة لذلك الرجل معناه إعادة تنسيق عالمه العقلي من جديد ,وتلك عملية تتطلب مجهودا ومشقة لأن فيها كثيرا من الهدم والبناء, فإذا أضفنا إلى هذا ما توارثناه من الخوف والحذر من كل جديد عرفنا كيف أن السواد الأعظم يعثر في كل فكرة جديدة خطرا عظيما على وجوده الخاص او على وجود المجتمع الذي يحياه.
إن هذه الملاحظات التي أبداها الكاتب الإنكليزي تنطبق كامل الإنطباق على الطبقة التي يصعب عليها ان ترى كل محاولة لتغيير ما ألفته من عادات وما ارتضته من أفكار , ولذلك فهي تضطرب إلى حد الثورة أحيانا كلما سمعت انتقادا لاذعا أو فكرا جديدا , ولاسيما إذا كان هذا النقد راجعا للنظام الإجتماعي أو ما يرتبط به من بعض الأسس التي يظن أن لها أصلا دينيا مثلا.
إن ضيق الأفق عند هذه الطبقة يجعلها ترمي كل من يحاول البحث في هذه المسائل بالطعن في دينه أو بالخروج عن مجتمعه , وإن في عداد هذه الطبقة قسما من المثقفين الذي كان يجب أن يمهدوا لحاسة النقد عند إخوانهم عوضا عن أن يتخوفوا منها.
إن حاسة الخوف التي لاحظها " جان بيوري" هي التي تعمل عملها في طبقة المثقفين أو الذين لهم جاه في وسطنا, فهذه الفئة تعتقد أن في كل تطور فكري جديد مانعا من استمرارها في مركزها أو حائلا بينها وبين ما ترمي اليه من غاية ذاتية أو عامة, ولذلك فهي لا ترى فائدة في بروز مفكرين جدد و أفكار جديدة من شأنها أن تغير الواقع أو تهدم السابق, ومع ان هذه التخوفات ليست حتمية فإنها تعمل عملها في حملنا على التقزز من آراء المخالفين ونبذهم.
وإذا أضفنا إلى هذا حاسة المحافظة التي تكيّف في نفوس قومنا الرغبة في متابعة ما ورثوه عن أسلافهم واستمرار بعض مايريدون بقاءه محترما بكل إخلاص- عرفنا كثيرا من الدوافع التي تبعث على مقاومة كل فكرة تدعو للتجديد في شؤون الأسرة ونظام الزواج وفي مسائل الضرائب والملكية والزراعية.
ولكن تبديل الحال يتوقف على تنوير الرأي العام بالنظريات الجديدة, وهذا بالطبع يستدعي وجود أشخاص يتقدمون للنقد الصريح والحديث الواضح عن كل مسائلنا الداخلية, فيضعون على محك البحث والنقد كل ما لدينا من نظام في المأكل والمشرب والملبس, وما عندنا من نظريات في الحياة وتقاليدها وشُعَبها , ومانريد أن ننتحله من غيرنا من أفكار أو من مبادئ. إن هذا العرض الصريح يفسح المجال للبحث والمناقشة والجدل من طرف الجميع,وهذا مايستدعي منا قبل كل شيء أن نستعد لتوسيع أفقنا وجعل صدرنا منشرحا لقبول كل نقد يوجه إلينا ومناقشته بالأساليب المنطقية النزيهة وتحررنا من الطبيعة التي أورثتها إياها أجيال الكبت والإضطهاد للأفكار.
لقد أوضح سقراط –في دفاعه- قيمة المناقشة وفائدتها الإجتماعية وقال :" إن الحياة لا تستحق الإعتبار إذا لم تقم بأنواع الحوار" ,كما أن " ملتون" بيّن ضرورة الجدل لتقدم المعرفة. وجعل الإسلام النظر شرطا في المعرفة التي هي أول واجب على المكلّف, ومعنى ذلك أنه لم يجعل في الأرض ولا في السماء منطقة محرّما على الفكر أن يدخلها بكل حريّة وإخلاص.
إن الأجيال المظلمة التي مرّت علينا نزعت منا كل الحقوق التي خولنا الله إياها , وحرمتنا من نعمة الفكر التي هي أساس الحياة السعيدة , وهكذا فقدنا حاسة النقد والإفكار وأصبحنا نستصعب وجودها عند البعض منا, إن التقزز الذي نحسّ به عندما يوجه الينا أحد نقدا ما , أو الإمتعاض الذي نشعر به عندما نقرأ أفكارا مباينة لأفكارنا- إن ذلك كله دليل على الإضطهاد العظيم الذي وجدته الحرية في بلادنا سواء من ذوي الأمر المكرسين للدين أو من ذوي الثورة والجاه ,لأن الذين يألفون رؤية المناظر البشعة يعتادونها فلا تنكرها أبصارهم بل ربما طلبوها عند فقدها, كذلك الذين يتعوّدون النفاق يتلهون بنسيان نفاقهم, أي يصبح ما يتظاهرون به جزءا من أفكارهم ومبادئهم.
فيجب ان نتحرّر من آثار الإضطهاد السابق في نفوسنا ومن آثار النفاق التي تسيطر علينا, ونسمح لغيرنا بإبداء آرائهم حرّة طليقة ولو كانت ضدنا.
إنه لا ضرر في أن يصرّح الكل بما يعتقد, إن العصمة لا تأتي لغير الأنبياء,ولذلك فالأفكار التي نعرضها يمكن أن تكون مجالا للنظر من الجميع, وقد يعطون من آرائهم ما يصحح أغلاطنا, وإنه مهما كانت للأفكار التي أدافع عنها من قيمة , فإن مبدأ الحرية يجب أن يعلو عليها, وقد اجد من نفسي صعوبة لقبول الإنتقاد الحر من الاخرين, ولكن يجب أن أتعوّد على ذلك ويجب أن لا يصدمني حتى يمنعني من الإستمرار في التفكير.
إنّ الذين ينشرون المبادئ في الناّس يجب أن يكونوا موضع القدوة للجميع , ولذلك يجب أن يأخذوا أنفسهم تدريجيا بتحمل الإنتقادات وقبول الأفكار المختلفة, ولكن ينبغي أن يروا في هذه الحرية , التي يعطونها للغير الثمن الوحيد لنجاح الأفكار التي يغرسونها.
إنه لا يكفي أن نطالب الحكومة بالحريات العامة , بل يجب أن نعطيها نحن قبل ذلك لأنفسنا , إن اضطهاد الحريات الفكرية لا يظهر في مظهر الكبت الإداري بأنواعه فقط, ولكن له مظاهر من انفسنا نحن. إن كلمة الإستهزاء التي نلقيها جزافا , حينما نقرأ فكرة , أو مجابهة الفرد الذي يعرض علينا رأيه بها ,كثيرا ماتكون من أشد أنواع الإضطهاد الفكري , خصوصا في وسط لايثق بنفسه مثل وسطنا.
يجب أن نشجع الكتاب والمفكرين في بلادنا أكثر مما ننتقدهم , إنهم بمثابة الأطفال الذين يستفيدون من التنويه بينما يكوّن في نفوسهم الإنكار الشديد عقد نقص صعبة العلاج. إن الحرية كسائر الأشياء الحبيبة محاطة بكثير من المكاره, وهي إما أن تكون كذلك أو لن تكون.
يجب أن نخلق الجو الذي يسمح للكل بإبداء رأيه , وأن نضع أصبع الأمة على مواطن ضعفها لتلاحظ ماينقصها, ثم يجب أن نشجعها بعد ذلك على التصريح بما تفكره به , ونعمل على أن نعطيها الوسائل التي تساعدها على التفكير والصدع به, إن خجل الكثيرين يحول بينهم وبين إبداء آرائهم, فيجب أن نساعدهم على التحرر من قيودهم , ويجب أن لا نشترط كثيرا من البلاغة ولا من البيان , لأن مهمتنا قبل كل شيء أن نكوّن الفكر الذي يمكن أن يقول ,ومتى تكوّن فإنه سيعبر عن نفسه بأي لسان.
علال الفاسي: النقد الذاتي /ص 56-60
لتحميل هذا الكتاب القيم اضغط على الرابط أدناه
https://www.4shared.com/document/6oHV3yKn/_____.html