في بيان أصناف الخارجين على الحاكم
وأحكام الثورات الشعبية
الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فالخروج لغةً مِن: «خرج من الشيء» إذا برز من مقرِّه أو حاله وانفصل، والثورة لغةً مِن: «ثار الشيء ثورانًا وثورًا وثورةً»: إذا هاج وانتشر(1).
والخروج على السلطان أو وليِّ الأمر يكون إذا تمرَّد عليه المحكومُ وهاج وانتشر وثار، ومن هذه العلاقة التلازمية بين المعنيين، يتجلَّى المعنى الاصطلاحي للثورة بأنه: حركةٌ جماعيةٌ تضمُّ مختلف شرائح الشعب أو عناصر الأمة، بما فيهم الدهماء والغوغاء في حركة خروجٍ على الحاكم وتمرُّدٍ عليه بقصد تغيير الأوضاع السياسية المضطربة والاجتماعية المنهارة(2).
ومصطلح الثورة قد يُطلق ويُراد به الدلالة على أحد المعنيين الآتيين:
– تغييرات ذات طابع سياسي واجتماعي تَرِدُ بصورةٍ فجائية وجذرية يصحبها عادةً استعمالُ القوَّة واستخدام العنف وحملُ السلاح، فوضعية الثورة بهذا المعنى -من حيث تكييفها- وسطٌ بين الانقلاب والعصيان والتمرُّد من جهةٍ، وبين الحرب الأهلية من جهةٍ أخرى.
– تغييرات جذرية بطيئة من العمق تكتسي طابعًا علميًّا أو ثقافيًّا أو صناعيًّا، بعيدة عن الميدان السياسي ومتجرِّدة من أساليب العنف كالثورة العلمية أو الثقافية أو الصناعية ونحو ذلك(3).
والمعنى الأوَّل هو الظاهر المتبادر إلى الذهن عند إطلاق لفظة الثورة، حيث عُرف هذا الاصطلاح مع مبدإ الثورة الفرنسية التي تُعَدُّ مقدِّمةً للثورات العالمية كالثورة الأوربيَّة والحروب المختلفة والانقلاب العثماني والانقلاب الروسي وما تلاها من الثورات الأخرى، وهذا بخلاف المعنى الثاني للثورة فهو مؤوَّلٌ يُعلم بقرينة التقييد بالعلم أو الثقافة أو الصناعة ونحو ذلك.
فمصطلح الثورة -إذن- مصطلحٌ غربيٌّ دخيلٌ على المفاهيم الإسلامية لم يصطلح عليه السلف، وإنما كانوا يعبِّرون عن الثورة باصطلاح الخروج سواء كان بتأويلٍ سائغٍ أو غير سائغٍ، مثل: خروج الحسين بن علي رضي الله عنهما، وخروج الزنج على الدولة العباسية، وخروج ابن الأشعث، وغيرهم.
وقد ذكر الشهرستاني حقيقة الخروج في الاصطلاح بقوله: «كلُّ من خرج على الإمام الحقِّ الذي اتَّفقت الجماعة عليه يسمَّى خارجيًّا، سواء كان الخروج في أيام الصحابة على الأئمَّة الراشدين، أو كان بعدهم على التابعين بإحسانٍ والأئمةِ في كل زمانٍ»(4).
وبيَّن الفقهاء أصناف الخارجين على الإمام الحاكم وأحكامَهم(5) ويظهرون على النحو التالي:
أحدها: طائفةٌ امتنعوا عن طاعة الإمام الحاكم المسلم، وخرجوا عليه بلا تأويلٍ أو بتأويلٍ غير سائغٍ، فقاموا بإحداث الفوضى، وسفك الدماء، وسلب الأموال، وهتك الأعراض، وإهلاك الحرث والنسل، فهؤلاء قُطَّاع طُرُقٍ، يروِّعون الناس في كلِّ مكانٍ، ويُظهرون الفساد في الأرض على سبيل القوَّة والغلبة، وهم المحاربون، والمستتر في ذلك والمعلن بحرابته سواء، وخروجُ هذه الطائفة تَحَدٍّ للدين والأخلاق والنظام، لذلك كانت الحِرابة معدودةً من كُبْرَيات الجرائم، وقد غلَّظ الله تعالى عقوبتَهم تغليظًا لم يجعله لجريمةٍ أخرى، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلاَفٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [المائدة: 33].
الثاني: طائفةٌ امتنعت من طاعة الإمام الحاكم المسلم، وخرجوا عليه، ولهم تأويلٌ سائغٌ إلاَّ أنهم لا مَنَعَةَ لهم لقلَّة عددهم، فهؤلاء -على الصحيح- في حكم قُطَّاع الطرق، وتجري عليهم أحكام الحرابة.
وجديرٌ بالتنبيه أنه يندرج تحت مفهوم الحرابة وقطع الطريق مختلفُ عناصر العصابات الخارجة عن نظام الحاكم والمحارِبَة للتعاليم الإسلامية القائمة على أمن الجماعة وسلامتها بالحفاظ على حقوقها، فمن ذلك: عصابة الاعتداء والقتل، وعصابة اللصوص للسطو على المنازل والبيوت، وعصابة خطف الأطفال طلبًا للفدية، وعصابة خطف البنات والعذارى للاغتصاب والفجور بهن، وعصابة إتلاف الزروع وقتل المواشي والدوابِّ، وعصابة إحراق مؤسَّسات الدولة وإتلاف منشآتها، وعصابة اغتيال الرؤساء والمسؤولين وإطارات الدولة ابتغاءَ الفتنة واضطراب الأمن ونحو ذلك.
الثالث: قومٌ من أهل البدعة يكفِّرون مرتكب الكبيرة بسبب عدولهم عن منهج أهل السنَّة والجماعة وإنزالِهم الدليلَ على غير ما يدلُّ عليه، ويرتِّبون على التكفير بالذنب استحلالَ دماء المسلمين وأموالَهم إلاَّ من خرج معهم: «انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ نَزَلَتْ فِي الكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى المُؤْمِنِينَ»(6)، فكفَّروا أهل التحكيم: عمرو بن العاص وأبا موسى الأشعريَّ وكلَّ من رَضِيَ بالتحكيم، وأهلَ الجَمَل بمن فيهم عائشة رضي الله عنها(7)، وهؤلاء هم الخوارج، ومِن عقائدهم الأساسية -أيضًا- وجوب الخروج على أئمَّة الجَوْر لارتكابهم الفسقَ أو الظلمَ، ولهم أصولٌ وعقائدُ أخرى ازدادت نتيجةَ اختلاط الفرق الكلامية بهم وتأثُّرهم بأهل الأهواء، «لكنَّ الخوارج دينهم المعظَّم مفارقةُ جماعة المسلمين واستحلالُ دمائهم وأموالهم»(8)، والخوارج فِرَقٌ مختلفةٌ لم يَعُدْ لها وجودٌ سوى فرقةِ الإباضية وبعض جماعات الغلوِّ المعاصِرة المنتسبة لأهل السنَّة التي تتبنَّى بعض أصول الخوارج مثل: «جماعة التكفير والهجرة»، ومع ذلك فإنَّ السلف لم يحكموا عليهم بالكفر، ولكنْ عَدُّوهم من الفرق الهالكة الضالَّة الاثنتين والسبعين التي أخبر عنها النبي صلى الله عليه وآله وسلم في حديث الافتراق المشهور(9).
الرابع: طائفةٌ من أهل الحقِّ يخرجون على الإمام الحاكم المسلم، ويرومون خَلْعه لتأويلٍ سائغٍ، ولهم مَنَعَةٌ وشوكةٌ، بحيث يحتاج الحاكم في ردِّهم إلى الطاعة إلى إعداد العدَّة المالية والبشرية، ويكون لهم أميرٌ مطاعٌ يكون مصدر قوَّتهم، إذ لا قوَّةَ لجماعةٍ خَلَتْ من قيادةٍ لها، فهؤلاء هم البغاة، والواجب على أهل الرأي والمشورةِ الإصلاحُ بين المتقاتلين، فإن لم ترضخِ الفئة الباغية للصلح ولم تستجبْ له؛ وجب على المسلمين جميعًا قتالُهم حتى ينتظموا في سلك الجماعة، لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الحجرات: 9].
ولا خلافَ بين الفقهاء أنَّ الفئة الباغية لا تخرج من الإسلام اتِّفاقًا؛ لأنَّ الله وصفها بالإيمان مع مقاتَلتها، ولهذا لا يُعَامَلون معاملةَ الكفَّار، فلا يُقتل مُدْبِرُهم، ولا يُجْهَزُ على جريحهم، ولا تُغْنَم أموالُهم، ولا تُسبى نساؤهم وذراريهم، وأنَّ من قُتل منهم غُسِّل وكُفِّن وصُلِّيَ عليه، أمَّا من قُتل من الطائفة العادلة فهو شهيدٌ، فلا يُغسَّل ولا يُصلَّى عليه، بل يُعامَل معاملةَ الشهيد في مقاتَلة الكفَّار؛ لأنه قاتل فيما أمر اللهُ به، فهو في سبيل الله.
وبناءً على ما تقدَّم ينتفي الفرقُ بين الثورة الشعبية والخروج على الحاكم بالمعنى العامِّ، لكن يختلفان -من جهة المعنى الخاصِّ- باختلاف أصناف الخارجين على الإمام الحاكم، ويظهر -جليًّا- حكمُ الثورات الشعبية على النحو التالي:
– إذا كانت الثورة ضدَّ العدوِّ المعتدي الكافر الذي يريد أن يحتلَّ الأرض ويستعمرَ البلاد، فهذا جهادُ دفعٍ وهو فرضُ عينٍ يجب على أهل البلد جميعًا أن يخرجوا لقتاله، ولا يحلُّ لأحدٍ أن يتخلَّى عن واجبه في مقاتلته؛ لقوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123].
– وإذا كانت الثورة بالخروج على طاعة الإمام الحاكم المسلم(10) والتمرُّد عليه بالسلاح مصحوبًا بالامتناع عن أداء الحقوق المتعلِّقة بمصلحة الجماعة أو الأفراد، بأن يكونَ القصد من وراء الخروج عزْل الإمام وخلْعه؛ فإنَّ صنف الخارجين بهذا الاعتبار هم: البغاة.
– أمَّا إذا كانت الثورة بالخروج عن طاعة الإمام الحاكم المسلم باستخدام العنف والسلاح طلبًا لحظوظ النفس من المال والرئاسة ونحوها بما يستتبع الثورة من مَفَاسِدَ ومَهَالِكَ فإنَّ الخروج بهذا المعنى يُعَدُّ: محارَبةً، ويكون للمحارِبين حكمٌ مغايِرٌ للباغين -كما تقدّم-.
– أمَّا إذا كانت الثورة صادرةً من طائفتين مسلمتين وجرى بينهما القتال لعصبيةٍ أو لحظوظ الدنيا من غير منازَعة أولي الأمر؛ كان كلٌّ من الطائفتين باغيًا، ويجري عليه حُكْم الباغي.
– أمَّا إذا كانت الثورة بالخروج عن طاعة الإمام الحاكم المسلم لمجرَّد عصبيةٍ جاهليةٍ، أو للمطالبة بإقصاء الشريعة وإحلال التشريعات الوضعية محلَّها، أو بمنع حقٍّ شرعيٍّ ثابتٍ بلا تأويلٍ، وإنما عنادًا ومكابرةً ونحو ذلك؛ فهؤلاء ليسوا من أهل البغي أو الحرابة، وإنما هم من أهل الردَّة يقاتلهم الإمام الحاكم المسلم إلى أن يرجعوا إلى الحقِّ.
– هذا، أمَّا المسيرات والاعتصامات بالساحات والمظاهرات -إن كانت ذات طابعٍ سياسيٍّ أو اجتماعيٍّ مصحوبةً بالعنف والقوَّة واستعمال السلاح-؛ فإنَّ هذه الأشكال من المظاهر الاحتجاجية تُعدُّ خروجًا أو ثورةً بالمعنى الأوَّل السالف البيان، سواء كان أصحابُها يرمون من وراء الثورة إلى عزْل الإمام الحاكم المسلم وخلْعه، أو لحظوظ النفس والرئاسة، إلا أنَّ الأوَّلين -من حيث صفتُهم- هم أهل بغيٍ، والآخرون أهل حرابةٍ.
– أمَّا إذا كانت المظاهرات سلميةً خاليةً من شغبٍ وعنفٍ وحملٍ للسلاح؛ فهي ثورةٌ بالمعنى الثاني الذي سبق تقريره لتقيُّدها بصفة السلم وصرفها عن المعنى المتبادر إلى الذهن لقرينةٍ، إلا أنها تُعَدُّ مخالَفةً منكرةً ليست من منهج الإسلام في السياسة والحكم، ولا من عمل المسلمين ولا من وسائل النهي عن المنكر البتَّةَ في النظام الإسلامي، بل هي من الأساليب المسموح بها في النظام الديمقراطي الذي يستند في حاكميَّته إلى الشعب دون مولاه عز وجل، مع احتمال تحوُّل الثورة السلمية إلى موجاتٍ من الفتن والمفاسد كما دلَّ عليه الواقع، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ هذا النمط من الثورات في العالم الإسلامي إنما هو تقليدٌ للثورة الفرنسية وما توالت من بعدها من ثوراتٍ في أوربا في العصر الحديث، الأمرُ الذي يطوِّق الأمة بطوق التبعية الغربية العمياء ويفتح مجالًا لغزوها فكريًّا وروحيًّا وحضاريًّا.
وفي الأخير أختم هذا الجواب بكلام نفيسٍ للإمام ابن القيِّم -رحمه الله- في معرض بيانه لشروط الإنكار حيث يقول ما نصُّه: «أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم شرع لأمَّته إيجاب إنكار المنكر ليحصل بإنكاره من المعروف ما يحبُّه الله ورسوله، فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه وأبغض إلى الله ورسوله؛ فإنه لا يسوغ إنكاره وإن كان الله يُبغضه ويمقت أهله، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم؛ فإنه أساس كلِّ شرٍّ وفتنةٍ إلى آخِر الدهر، وقد استأذن الصحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في قتال الأمراء الذين يؤخِّرون الصلاة عن وقتها، وقالوا: أفلا نقاتلهم ؟ فقال: «لاَ، مَا أَقَامُوا الصَّلاَةَ»(11)، وقال: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ مَا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ وَلاَ يَنْزِعَنَّ يَدًا مِنْ طَاعَتِهِ»(12)، ومن تأمَّل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار رآها من إضاعة هذا الأصل وعدم الصبر على منكرٍ، فطلب إزالته فتولَّد منه ما هو أكبر منه؛ فقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يرى بمكَّة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها، بل لَـمَّا فتح الله مكَّة وصارت دار إسلامٍ عزم على تغيير البيت وردِّه على قواعد إبراهيم، ومنعه من ذلك -مع قدرته عليه- خشيةُ وقـوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريشٍ لذلك لقرب عهدهم بالإسلام وكونهم حديثي عهد بكفرٍ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد؛ لما يترتَّب عليه من وقوع ما هو أعظم منه كما وُجد سواءً»(13).
والعلمُ عند الله تعالى، وآخر دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلّم تسليمًا.
الجزائر في: 15 ربيع الثاني 1445ه
الموافق ل : 20 مارس 2024م
منقول من الموقع الرسمي للشيخ محمد علي فركوس
بارك الله فيك
جزا الله كل جير
جزاكم الله خيرا
بارك الله فيكِ أخية.