تخطى إلى المحتوى

إلى محترف التصنيف: 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم وبعد فهذا الكلام للعلامة بكر ابو زيد حفضه الله
قدر لرجلك قبل الخطو موضعها فمن علا زلقا عن غرة زلجا كانت العرب في جاهليتها تعاقب الشاعر الهجاء بشد لسانه بنسعة – سير من جلد مفتول – أو يشترون منه لسانه بأن يفعلوا به خيرا، فينطلق لسانه بشكرهم، فكأنما ربط لسانه بنسعة. قال عبد يغوث بن الحارث لما أسرته تيم : يوم الكلاب الثاني (انظر عقوبات العرب على المعاصي للألوسي رحمه الله تعالى) أقول وقد شدوا لساني بنسعة ٭٭٭٭ أمعشر تيم أطلقوا لي لسانيا وقد أقرت الشريعة هذه العقوبة بالمعنى الثاني، منذ أن أمر بها النبي صلى الله عليه وسلم في غزاة حنين، يوم توزيع الغنائم فقال : صلى الله عليه وسلم اقطعوا عني لسانه . وهذه سنة ماضية في مواجهة من يمس الأخوة الإسلامية بسوء من القول. ولهذا أنفذها أمير المؤمنين عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في الحطيئة: جرول بن أوس العبسي المتوفى سنة ٤٥ هـ. لما أكثر من هجاء الزبرقان بد بدر التميمي (رضي الله عنه) فشكاه إلى عمر (رضي الله عنه) فسجنه عمر بالمدينة، فاستعطفه بأبياته المشهورة، فأخرجه ونهاه عن هجاء الناس، فقال: إذا تموت عيالي جوعا. فاشترى عمر (رضي الله عنه) منه أعراض المسلمين بثلاثة آلاف درهم. فأوقع عمر (رضي الله عنه) بالحطيئة عقوبتين: حبس الأبدان، وحبس اللسان. ثم ترى هذه في تاريخ المسلمين الطويل، يبذلون العطاء، لقطع ألسنة اللسن، وكف بذاءتهم عن أعراض المسلمين. وإذا كانت هذه عوامل دفع للأذى، وتطهير للساحة الإسلامية من البذاء، فقد حفلت الشريعة بنصوص الوعيد لمن ظلم، واعتدى، تنذر بعمومها محترفي التصنيف ظلما وعدوانا، وظنا وبهتانا، وتحريشا وإيذاء. فالظالم: قد ظلم نفسه، وخسرها، متبع لهواه، قد بدل الحق إلى الباطل، يحول القول إلى غيره، مفتر، كذاب، حجته أبدا: الهوى، متعد لحدود الله، ولهذا استحق هذا الوصف البشع: الظالم كما قال الله تعالى ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون (البقرة: ٢٢٩) ٭ ومحاصرة للظلم وأهله، فقد جاءت النصوص ناهية عن معاشرة الظالم،والركون إليه، وتوليه، والقعود معه، فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين (الأنعام: ٦٨) والنهي عن السكن في مسكنه، ويخاطب بغير التي هي أحسن، وأن السبيل عليه إنما السبيل على الذين يظلمون الناس (الروم: ٤٢) والظالم: لا يفلح. وليس له أنصار. والله لا يحب الظالمين ولا يهديهم، وليس للظالم من ولي ولا نصير، ودائما في ضلال مبين. وفي زيادة خسار وتباب. وعليه اللعنة. وللظالم سوء العاقبة، وقطع دابره، والظالم وإن قوي فإن القوة لله جميعا. ولا عدوان إلا على الظالمين. وللظالم من الوعيد يوم القيامة: الوعيد بالنار، وبويل، وبعذاب كبير، وسيعض على يديه. وسيجد ما عمل حاضرا ولا يظلم ربك أحدا. ? وتجريح الناس وتصنيفهم بغير حق، شعبة من شعب الظلم، فهو من كبائر الذنوب والمعاصي، فاحذر سلوك جادة يمسك منها عذاب. وقد ثبت من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: لتؤدن الحقوق يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من القرناء . رواه أحمد، ومسلم. وعن أبي ذر – رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم أي العمل أفضل ؟ قال: إيمان بالله وجهاد في سبيله، قلت: فأي الرقاب أفضل ؟ قال: أعلاها ثمنا، وأنفسها عند أهلها، قلت: فإن لم أفعل؟ قال: تعين ضائعا، أو تصنع لأخرق. قال فإن لم أفعل ؟ قال: تدع الناس من الشر، فإنها صدقة تصدق بها على نفسك متفق عليه. وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده. وثبت أيضا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا تحاسدوا ولا تناجشوا ولا تباغضوا ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض وكونوا عباد الله إخوانا المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره ولا يخذله التقوى ههنا (يشير إلى صدره ثلاث مرات) بحسب امرئ من الشر أن يحقر أخاه المسلم كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه. وثبت أيضا من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما المفلس ؟ قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. فقال: إن المفلس من أمتي، من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة، ويأتي وقد شتم هذا، وقذف هذا، وأكل مال هذا، وسفك دم هذا، وضرب هذا. فيعطى هذا من حسناته، وهذا من حسناته. فإن فنيت حسناته، قبل أن يقضى ما عليه، أخذ من خطاياهم فطرحت عليه. ثم طرح في النار. رواه مسلم. وساق الحافظ ابن حجر (رحمه الله تعالى) في (الإصابة) عن أم الغادية (رضي الله عنها) قالت: خرجت مع رهط من قومي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما أردت الانصراف، قلت: يا رسول لله أوصني، قال: إياك وما يسوء الأذن. رواه ابن منده، والخطيب في (المؤتلف والمختلف) وساق أيضا عن عمر بن الخطاب (رضي الله عنه): لا يعجبنكم طنطنة الرجل، ولكن من أدى الأمانة، وكف الأذى عن أعراض الناس فهو الرجل. رواه أحمد في (الزهد ) وساق أيضا من محاسن شعر أبي الأسود الدؤلي: لا ترسلن مقالة مشهورة ٭٭٭٭ لا تستطيع إذا مضت إدراكها لا تبدين نميمة نبئتها ٭٭٭٭ وتحفظن من الذي أنباكها والنصوص الواردة وفيها بيان العقوبات على هذا في الدارين أكثر من أن تحصر، وربما يبتلى الجراح بمن يشينه بأسوأ مما رمى به غيره، مع ما يلحقه من سوء الذكر حيا وميتا، فنعوذ بالله من سوء المنقلب. فيا محترف الوقيعة في أعراض العلماء اعلم انك بهذه لمشاقة قد خرقت حرمة الاعتقاد الواجب في موالاة علماء الإسلام. قال الطحاوي (رحمه الله تعالى) في بيان معتقد أهل السنة في ذلك: وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين (أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنظر) لا يذكرون إلا بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل. قال شارحه (رحمه الله تعالى): قال تعالى: ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا (النساء: ١١٥) فيجب على كل مسلم بعد موالاة الله، ورسوله، موالاة المؤمنين، كما نطق به القرآن، خصوصا الذين هم ورثة الأنبياء، الذين جعلهم الله بمنزلة النجوم، يهتدى بهم في ظلمات البر والبحر، وقد أجمع المسلمون على هدايتهم، ودرايتهم؛ إذ كل أمة قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم علماؤها شرارها، إلا المسلمين فإن علماءهم خيارهم، فإنهم خلفاء الرسول من أمته، والمحيون لما مات من سنته، فبهم قام الكتاب، وبه قاموا وبهم نطق الكتاب وبه نطقوا، وكلهم متفقون اتفاقا يقينيا على وجوب اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ولكن إذا وجد لواحد منهم قول قد جاء حديث صحيح بخلافه، فلابد له في تركه من عذر – ثم ذكرها انتهى. وإني أقول: إن تحرك هؤلاء الذين يجولون في أعراض العلماء اليوم سوف يجرون – غدا – شباب الأمة إلى مرحلتهم الثانية (وهي نتيجة حتمية لمنهجهم فلهم بالأمس أسلاف في حادثة الحرم السوداء عام ١٤٠٠هـ

اختلفت الأساليب والغاية واحدة) الوقيعة في أعراض الولاة من أهل السنة، وقد قيل: الحركة ولود، والسكون عاقر . وهو أسوأ أثر يجره المنشقون وهذا خرق آخر لجانب الاعتقاد الواجب في موالاة ولي أمر المسلمين منهم. وسوف يحصد الزوبعة من حرك الريح . قال الطحاوي – رحمه الله تعالى (في شرح العقيدة الطحاوية ٣٧٩-٣٨٢) : ولا نرى الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا، وإن جاروا، ولا ندعو عليهم، ولا ننزع يدا من طاعتهم، ونرى طاعتهم من طاعة الله – عز وجل – فريضة ما لم يأمروا بمعصية. وندعو لهم بالصلاح والمعافاة. ونتبع السنة والجماعة، ونجتنب الشذوذ، والخلاف، والفرقة انتهى. فاتق الله أيها الجراح، واعلم أن احترافك التجريح بالتصنيف مختبر ينفذ منه الناس باليقين إلى وصف منك لدخائل نفسك، وما تحمله من ميول، ودوافع، فتقيم الشاهد عليك من فلتات لسانك، وإدانة المرء من فيه أقوى، فأحكم – رحمك الله – الرقابة على اللسان لا يوردك موارد الهلكة، ولا تمش براحلة العمر – الوقت – وأنت تثقلها بهذه الظاهرة الفتاكة ظاهرة الهدم والتدمير فتحرق في غمرتها: الجهد، والنشاط، وبواكير الحياة، ومقتبل العمر، بل وربما خاتمته، أعاذنا الله وإياك من سوء الخاتمة. والزم – عافاك اله – تقوى الله، ومراقبته، والإنابة إليه، واستغفاره، وإحذر صنعة المفاليس هذه، وتدبر هذه الآية: ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما (سورة النساء: ١٤٠) وقوله تعالى فمن تاب من بعد ظلمه وأصلح فإن الله يتوب عليه إن الله غفور رحيم (سورة المائدة: ٣٩ ) فبادر – يا عبد الله – إلى التوبة، وأداء الحقوق إلى أهلها، والتحلل منهم، فقد ثبت عن نبي الهدى صلى الله عليه وسلم أنه قال: من كانت عنده مظلمة لأخيه من عرضه، أو ماله، فليؤدها إليه، قبل أن يأتي يوم القيامة لا يقبل فيه دينار ولا درهم. الحديث. رواه البخاري. ولعلي بهذا كما قال صخر: لعمري لقد نبهت من كان نائما٭٭٭٭ وأسمعت من كانت له أذنان وكل عبد صالح يسمع الخير، سماع استجابة، وهذا شأن المؤمن أواه منيب، ومن لحقه الإدبار فأبى، فإليه: إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من في القبور (سورة فاطر: ٢٢ ) وأنشد ابن الشجري: إذا نهي السفيه جرى إليه ٭٭٭٭ وخالف والسفيه إلى خلاف وهذا يعاني: أزمة في الضمير و ذبحة في الصدر ؛ إذ تمكن منه الداء، وللميئوس أحكام بينها الفقهاء، نعوذ بالله من الشقاء. وما بقي لمن أبى إلا الحجر على لسانه لصالح الديانة. أما من كان وقيعته ظلما فيمن عظم شأنه في المسلمين بحق، فينبغي تغليظ عقوبة الواقع، إضافة إلى الحجر على لسانه، ولهذا نظائر في الشريعة، كوقوع الظلم في الأشهر الأربعة الحرم، والرفث والفسوق والجدال في الحج، وتغليظ الدية في النفس وفي الجراح في الأشهر الحرام، وفي البلد الحرام، وفي ذوي الرحم، كما هو مذهب الشافعي، فهذه وأمثالها محرمات على كل مسلم في كل زمان، ومكان، لكن لما عظم الجرم بتعدد جهات الانتهاك، عظم الإثم، والجزاء. ولمثل هؤلاء – كما قال عبد الله بن المبارك (رحمه الله تعالى): تقشر العصي. والله أعلم. إلى من رمي بالتصنيف ظلما: اتل ما أوحي إلى نبيك صلى الله عليه وسلم ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم (سورة فصلت:٤٣) والقرآن العظيم قد حوى قصص أنبياء الله ورسله مع أممهم وما ينالهم من الأذايا والبلايا في سبيل الدعوة ؛ ولهذا فقد وفق من أفرد قصصهم وشرحها، وأحسن كل الإحسان من ألف باسم: دعوة الرسل . وهذه سنة من الله ماضية لكل من سلك سبيلهم، واقتفى أثرهم. ألم تر سير الصحابة والتابعين وأتباعهم في كل عصر ومصر إلى عصرنا الحزين، كيف يقاومهم المبطلون، ويشنع عليهم المبطنون. وفي هذا مواقف لا تحصى، وقصص لا تنسى، وإذا قرأت كتاب: من أخلاق العلماء رأيت من ذلك عجبا. فكم في سيرهم الشريفة من إمام ضرب بل قتل، وإمام سجن، وإمام نفي، وإمام عزل وأهين، بل فيهم من جمعت له هذه كلها أو جلها، بما لبس في حقهم الملبسون، وأرجف به المرجفون، وهم منها براء، والمرجفون في قرارة أنفسهم عليها شهداء. وخذ أمثلة على هذا فيمن رمي بشناعة وهو منها بريء: فرمي جماعة من فحول العلماء بالتشيع، وآخرون بالنصب، وآخرون بالتجهم، وغير ذلك، وهم من هذه النحل الفاسدة براء. ومنهم – أجزل الله مثوبتهم – من حكى ما وقع له على سبيل ما من الله به عليه من لزوم السنة، ونصرتها، والدعوة إليها، ورجاء مضاعفة الأجر بما يصنعه الأضداد البؤساء. وفي حياة الإمام أحمد – رحمه الله تعالى – وهو يعيش بين محنة الدنيا والدين، عبرة للمعتبرين. وخذ على سبيل المثال: ابن العربي المالكي المتوفى سنة ٥٤٣ هـ (رحمه الله تعالى) إذ يقول في فاتحة كتابه (عارضة الأحوذي): فإن طائفة من الطلبة عرضوا علي رغبة صادقة في صرف الهمة إلى شرح كتاب أبي عيسى الترمذي، فصادف مني تباعدا عن أمثال ذي، وفي علم علام الغيوب أني أحرص الناس على أن تكون أوقاتي مستغرقة في باب العلم، إلا أني منيت بحسدة لا يفتنون؟ ومبتدعة لا يفهمون، قد قعدوا مني مزجر الكلب يبصبصون، والله أعلم بما يتربصون قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين ونحن نتربص بكم أن يصيبكم الله بعذاب من عنده أو بأيدينا فتربصوا إنا معكم متربصون (سورة التوبة: ٥٢) بيد أن الامتناع عن التصريح بفوائد الملة، والتبرع بفوائد الرحلة لعدم المنصف، أو مخافة المتعسف، ليس من شأن العالمين، أو لم يسمعن قول رب العالمين لنبيه الكريم فإن يكفر بها هؤلاء فقد وكلنا بها قوما ليسوا بها بكافرين (سورة الأنعام: ٨٩) انتهى. وحياة بطل الإصلاح الديني بالمشرق شيخ الإسلام ابن تيمية المتوفى سنة ٧٢٨هـ – رحمه الله تعالى – مثل أعلى للعلماء العاملين، والدعاة المصلحين من أتباع خاتم الأنبياء والمرسلين وهذا عصريه بالمغرب الإمام الشاطبي المتوفى سنة ٧٩٠هـ (رحمه الله تعالى) يحكي حاله لما قام بنصرة السنة، فجن عليه الليل والنهار بقالة السوء المظلمة، فيقول (رحمه الله تعالى ): فتردد النظر بين – أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد عليه الناس فلابد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، لا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل – وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك، إلا أني أوافق المعتاد، وأعد من المؤالفين، لا من المخالفين، فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة، وتواترت علي الملامة، وفوق إلي العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة، وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا لوجدت، غير أن ضيق العطن، والبعد عن أهل الفطن، رقى بي مرتقى صعبا، وضيق علي مجالا رحبا، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن أتباع المتشابهات لموافقة العادات أولى من أتباع الواضحات وإن خالفت السلف الأول. وربما ألموا في تقبيح ما وجهت إليه وجهتي بما تشمئز منه القلوب، أو خرجوا بالنسبة إلى بعض الفرق الخارجة عن السنة شهادة ستكتب ويسألون عنها يوم القيامة. فتارة نسبت إلى القول بأن الدعاء لا ينفع ولا فائدة فيه كما يعزى إلى بعض الناس، بسبب أني لم ألتزم الدعاء بهيئة الاجتماع في أدبار الصلاة حال الإمامة. وسيأتي ما في ذلك من المخالفة للسنة والسلف الصالح والعلماء. وتارة نسبت إلى الرفض وبغض الصحابة – رضي الله عنهم -، بسبب أني لم ألتزم ذكر الخلفاء الراشدين منهم في الخطبة على الخصوص؛ إذ لم يكن ذلك من شأن السلف في خطبهم، ولا ذكره أحد من العلماء المعتبرين في أجزاء الخطب. وقد سئل أصبغ عن دعاء الخطيب للخلفاء المتقدمين (١) فقال: هو بدعة ولا ينبغي العمل به، وأحسنه أن يدعو للمسلمين عامة. قيل له: فدعاؤه للغزاة والمرابطين ؟ قال: ما أرى بأسا عند الحاجة إليه، أما أن يكون شيئا يصمد له في خطبته دائما فإني أكره ذلك. ونص أيضا عز الدين بن عبد السلام: على أن الدعاء للخلفاء في الخطبة بدعة غير محبوبة. وتارة أضيف إلي القول بجواز القيام على الأئمة، وما أضافوه إلا من عدم ذكري لهم في الخطبة، وذكرهم فيها محدث لم يكن عليه من تقدم. وتارة أحمل على التزام الحرج والتنطع في الدين، وإنما حملهم على ذلك أني التزمت في التكليف والفتيا الحمل على مشهور المذهب الملتزم لا أتعداه، وهم يتعدونه ويفتون بما يسهل على السائل ويوافق هواه، وإن كان شاذا في المذهب الملتزم أو في غيره. وأئمة أهل العلم على خلاف ذلك والمسألة بسط في كتاب الموافقات . وتارة نسبت إلى معاداة أولياء الله، وسبب ذلك أني عاديت بعض الفقراء المبتدعين المخالفين للسنة، المنتصبين – بزعمهم – لهداية الخلق، وتكلمت للجمهور على جملة من أحوال هؤلاء الذين نسبوا إلى الصوفية ولم يتشبهوا بهم. وتارة نسبت إلى مخالفة السنة والجماعة، بناء منهم على أن الجماعة التي أمر باتباعها – وهي الناجية – ما عليه العموم، ولم يعلموا أن الجماعة ما كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون لهم بإحسان. وسيأتي بيان ذلك بحول الله، وكذبوا علي في جميع ذلك، أو وهموا، والحمد لله على كل حال. فكنت على حالة تشبه الإمام الشهير عبد الرحمن بن بطة الحافظ مع أهل زمانه، إذ حكى عن نفسه فقال: عجبت من حالي في سفري وحضري مع الأقربين مني، والأبعدين، والعارفين، والمنكرين، فإني وجدت بمكة، وخراسان، وغيرهما من الأماكن أكثر من لقيت بها موافقا أو مخالفا، دعاني إلى متابعته على ما يقوله، وتصديق قوله والشهادة له، فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت له ذلك – كما يفعله أهل هذا الزمان – سماني موافقا. وإن وقفت في حرف من قوله أو في شيء من فعله – سماني مخالفا. وإن ذكرت في واحد منها أن الكتاب والسنة بخلاف ذلك وارد، سماني خارجيا. وإن قرأت عليه حديثا في التوحيد سماني مشبها. وإن كان في الرؤية سماني سالميا. وإن كان في الإيمان سماني مرجئيا. وإن كان في الأعمال، سماني قدريا. وإن كان في المعرفة، سماني كراميا. وإن كان في فضائل أبي بكر وعمر، سماني ناصبيا. وإن كان في فضائل أهل البيت، سماني رافضيا. وإن سكت عن تفسير آية أو حديث فلم أجب فيهما إلا بهما، سماني ظاهريا. وإن أجبت بغيرهما، سماني باطنيا. وإن أجبت بتأويل، سماني أشعريا. وإن جحدتهما، سماني معتزليا .وإن كان في السنن مثل القراءة، سماني شافعيا .وإن كان في القنوت، سماني حنفيا،وإ ن كان في القرآن، سماني حنبليا، وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الأخيار – إذ ليس في الحكم والحديث محاباة – قالوا: طعن في تزكيتهم. ثم أعجب من ذلك أنهم يسمونني فيما يقرؤون علي من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يشتهون من هذه الأسامي؛ ومهما وافقت بعضهم عاداني غيره، وإن داهنت جماعتهم أسخطت الله تبارك وتعالى، ولن يغنوا عني من الله شيئا. وإني مستمسك بالكتاب والسنة، واستغفر الله الذي لا إله إلا هو وهو الغفور الرحيم. هذا تمام الحكاية فكأنه رحمه الله تعالى تكلم على لسان الجميع. فقلما تجد عالما مشهورا أو فاضلا مذكورا، إلا وقد نبز بهذه الأمور أو بعضها؛ لأن الهوى قد يداخل المخالف، بل سبب الخروج عن السنة: الجهل بها، والهوى المتبع الغالب على أهل الخلاف ؛ فإذا كان كذلك حمل على صاحب السنة، أنه غير صاحبها، ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله، حتى ينسب هذه المناسب. وقد نقل عن سيد العباد بعد الصحابة أويس القرني أنه قال: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يدعا للمؤمن صديقا، نأمرهم بالمعروف فيشتمون أعراضنا، ويجدون في ذلك أعوانا من الفاسقين، حتى – والله – لقد رموني بالعظائم، وأيم الله لا أدع أن أقوم فيهم بحقه. انتهى. وعليه فألق سمعك للنصائح الآتية:

١- استمسك بما أنت عليه من الحق المبين من أنوار الوحيين الشريفين وسلوك جادة السلف الصالحين، ولا يحركك تهيج المرجفين، وتباين أقوالهم فيك عن موقعك فتضل. وخذ هذه الشذرة عن الحافظ ابن عبد البر – رحمه الله تعالى – (ذكرها في جامع بيان العلم وفضله ٢١٣٩) قال أبو عمر: الذين رووا عن أبي حنيفة، ووثقوه، وأثنوا عليه أكثر من الذين تكلموا فيه. والذين تكلموا فيه من أهل الحديث، أكثر ما عابوا عليه الإغراق في الرأي، والقياس، والإرجاء. وكان يقال: يستدل على نباهة الرجل من الماضين بتباين الناس فيه. قالوا: ألا ترى إلى علي بن أبي طالب، أنه هلك فيه فتيان: محب أفرط، ومبغض أفرط، وقد جاء في الحديث: أنه يهلك فيه رجلان: محب مفرط، ومبغض مفتر. وهذه صفة أهل النباهة، ومن بلغ في الدين والفضل الغاية والله أعلم انتهى. ٢- لا تبتئس بما يقولون، ولا تحزن بما يفعلون، وخذ بوصية الله سبحانه لعبده ونبيه نوح (عليه السلام ) وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون (سورة هود: ٣٦) ومن بعد أوصى بها يوسف (عليه السلام) أخاه: قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون (سورة يوسف: ٦٩) ٣- ولا يثنك هذا الإرجاف عن موقفك الحق، وأنت داع إلى الله على بصيرة فالثبات الثبات متوكلا على مولاك – والله يتولى الصالحين – قال الله تعالى فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز أو جاء معه ملك إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل( سورة هود: ١٢) ٤- ليكن في سيرتك وسريرتك من النقاء، والصفاء، والشفقة على الخلق، ما يحملك على استيعاب الآخرين، وكظم الغيظ، والإعراض عن عرض من وقع فيك، ولا تشغل نفسك بذكره، واستعمل: العزلة الشعورية . فهذا غاية في نبل النفس، وصفاء المعدن، وخلق المسلم. وأنت بهذا كأنما تسف الظالم المل. والأمور مرهونة بحقائقها، أما الزبد فيذهب جفاء. إلى كل مسلم : إلى كل مسلم. إلى كل من احترف التصنيف فتاب. إلى من رمي بالتصنيف فصبر، إلى كل عبد مسلم شحيح بدينه، يخشى الله، والدار الآخرة. إلى هؤلاء جميعا مسلمين، قانتين، باحثين عن الحق على منهاج النبوة، وأنوار الرسالة – أسوق التذكير والنصيحة – علما وعملا – بالأصول الآتية: ١- الأصل الشرعي: تحريم النيل من عرض المسلم. وهذا أمر معلوم من الدين بالضرورة في إطار الضروريات الخمس التي جاءت من أجلها الشرائع، ومنها: حفظ العرض . فيجب على كل مسلم قدر الله حق قدره، وعظم دينه وشرعه، أن تعظم في نفسه حرمة المسلم: في دينه. ودمه. وماله. ونسبه، وعرضه. ٢- والأصل بناء حال المسلم على السلامة، والستر ؛ لأن اليقين لا يزيله الشك، وإنما يزال بيقين مثله. فاحذر (رحمك الله) ظاهرة التصنيف هذه، واحذر الاتهامات الباطلة، واستسهال الرمي بها هنا وهناك، وانفض يدك منها، يخل لك وجه الحق، وأنت به قرير العين، رضي النفس. ٣- لا يخرج عن هذين الأصلين إلا بدليل مثل الشمس في رائعة النهار على مثلها فاشهد أو دع. فالتزم واجب التبين للأخبار، والتثبت منها؛ إذ الأصل البراءة. وكم من خبر لا يصح أصلا. وكم من خبر صحيح لكن حصل عليه من الإضافات ما لا يصح أصلا، أو حرف، وغير، وبدل. وهكذا. وبالجملة فلا تقرر المؤاخذة إلا بعد أن تأذن لك الحجة ويقوم عندك قائم البرهان كقائم الظهيرة. وقد أمرنا الله تعالى بالتبين فقال سبحانه يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين (سورة الحجرات: ٦ ) وقال تعالى وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم ولولا فضل الله عليكم ورحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا (سورة النساء: ٨٣ ) قال السيوطي (رحمه الله تعالى) : نزلت الآية في جماعة من المنافقين، أو في ضعفاء المؤمنين كانوا يفعلون ذلك فتضعف قلوب المؤمنين، ويتأذى النبي صلى الله عليه وسلم (انظر سبب النزول في صحيح مسلم وتفسير الطبري) ٤- من تجاوزهما بغير حق متيقن فهو خارق حرمة الشرع بالنيل ظلما من عرض أخيه المسلم وهذا مفتون . ٥- يجب أن يكون المسلم على جانب كريم من سمو الخلق وعلو الهمة، وأن لا يكون معبرا تمرر عليه الواردات والمختلقات. ٦- يوجد أفراد شغلهم الشاغل: تطيير الأخبار كل مطار يتلقى لسان عن لسان بلا تثبت ولا روية، ثم ينشره بفمه ولسانه بلا وعي ولا تعقل، فتراه يقذف بالكلام، ويطير به هنا وهناك، فاحذر طريقتهم، وادفع في وجهها، واعمل على استصلاح حالهم. ومن وقع في حبالهم فعليه سل يده من رابطتهم هذه. ٧- التزم الإنصاف الأدبي بأن لا تجحد ما للإنسان من فضل، وإذا أذنب فلا تفرح بذنبه، ولا تتخذ الوقائع العارضة منهية لحال الشخص، واتخاذها رصيدا ينفق منه الجراح في الثلب، والطعن. وأن تدعو له بالهداية، أما التزيد عليه، وأما البحث عن هفواته، وتصيدها، فذنوب مضافة أخرى. والرسوخ في الإنصاف بحاجة إلى قدر كبير من خلق رفيع، ودين متين. وعليه فاحذر قلة الإنصاف ولم تزل قلة الإنصاف قاطعة ٭٭٭٭ بين الرجال وإن كانوا ذوي رحم ٨- احذر الفتانين دعاة الفتنة الذين يتصيدون العثرات وسيماهم: جعل الدعاة تحت مطارق النقد، وقوارع التصنيف، موظفين لذلك: الحرص على تصيد الخطأ، وحمل المحتملات على المؤاخذات، والفرح بالزلات والعثرات ؛ ليمسكوا بها بالحسد، والثلب، واتخاذها ديدنا. وهذا من أعظم التجني على أعراض المسلمين عامة، وعلى الدعاة منهم خاصة. وسيماهم أيضا: توظيف النصوص في غير مجالها، وإخراجها في غير براقعها ؛ لتكثير الجمع، والبحث عن الأنصار، وتغرير الناس بذلك. فإذا رأيت هذا القطيع فكبر عليهم، وولهم ظهرك، وإن استطعت صد هجومهم وصيالهم فهو من دفع الصائل. ٩- اعلم أن تصنيف العالم الداعية – وهو من أهل السنة – ورميه بالنقائص: ناقض من نواقض الدعوة، وإسهام في تقويض الدعوة، ونكث الثقة، وصرف الناس عن الخير، وبقدر هذا الصد، ينفتح السبيل للزائغين. فاحذر الوقوع في ذلك. وقد عقدت في هذا مبحثا من كتاب (التعالم ص ٧٩-٨٧) أسوقه هنا للحاجة إليه: أسند البخاري في: كتاب الشروط في صحيحه (راجع فتح الباري ٥٣٣٥-٣٣٦) : قصة الحديبية ومسير النبي صلى الله عليه وسلم إليها وفيها : وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته، فقال الناس: حل حل، فألحت. فقالوا: خلأت القصواء، فقال النبي: صلى الله عليه وسلم ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ولكن حبسها حابس الفيل . الحديث. قال الحافظ ابن حجر في فقه هذا الحديث: جواز الحكم على الشيء بما عرف من عادته، وإن جاز أن يطرأ غيره، فإذا وقع من شخص هفوة لا يعهد منه مثلها، لا ينسب إليها، ويرد على من نسبه إليها، ومعذرة من نسبه إليها ممن لا يعرف صورة حاله ؛ لأن خلأ القصواء لولا خارق العادة لكان ما ظنه الصحابة: صحيحا، ولم يعاتبهم النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك لعذرهم في ظنهم. أهـ. فقد أعذر النبي صلى الله عليه وسلم غير المكلف من الدواب باستصحاب الأصل، ومن قياس الأولى إذا رأينا عالما عاملا، ثم وقعت منه هنة أو هفوة، فهو أولى بالإعذار، وعدم نسبته إليها والتشنيع عليه بها – استصحابا للأصل، وغمر ما بدر منه في بحر علمه وفضله، وإلا كان المعنف قاطعا للطريق، ردءا للنفس اللوامة، وسببا في حرمان العالم من علمه، وقد نهينا أن يكون أحدنا عونا للشيطان على أخيه. فما ألطف هذا الاستدلال وأدق هذا المنزع، ورحم الله الحافظ الكناني ابن حجر العسقلاني، على شفوف نظره، وفقه نفسه، وتعليقه الحكم بمدركه. قال الصنعاني – رحمه الله تعالى (في سبل السلام نقله عنه أبو مدين الشنقيطي في الصوارم والأسنة ص١٢): وليس أحد من أفراد العلماء إلا وله نادرة ينبغي أن تغمر في جنب فضله وتجتنب. أهـ. وقال أبو هلال العسكري (في شرح ما يقع فيه التصحيف ص٦) : ولا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كانت على سبيل السهو والإغفال؛ فإنه لم يعر من الخطأ إلا من عصم الله جل ذكره. وقد قالت الحكماء: الفاضل من عدت سقطاته، وليتنا أدركنا بعض صوابهم أو كنا ممن يميز خطأهم. هـ. وقد تتابعت كلمة العلماء في الاعتذار عن الأئمة فيما بدر منهم، وأن ما يبدو من العالم من هنات لا تكون مانعة للاستفادة من علمه وفضله. فهذا الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى (في كتابه السير٥٢٧١) يقول في ترجمة كبير المفسرين قتادة بن دعامة السدوسي المتوفى سنة ١١٧هـ رحمه الله تعالى بعد أن اعتذر عنه: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر له زلته، ولا نضلله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم: ولا نقتدي به في بدعته وخطئه ونرجو له التوبة من ذلك. أهـ. وقال أيضا(في السير١٤٤٠) في دفع العتاب عن الإمام محمد بن نصر المروزي – رحمه الله تعالى : ولو أنا كلما أخطأ إمام في اجتهاده في آحاد المسائل خطأ مغفوراله، قمنا عليه، وبدعناه وهجرناه لما سلم معنا لا ابن نصر ولا ابن منده، ولا من هو أكبر منهما، والله هو هادي الخلق إلى الحق، وهو أرحم الراحمين، فنعوذ بالله من الهوى والفظاظة. أهـ. وقال (في السير ١٤٣٧٤) في ترجمة إمام الأئمة ابن خزيمة المتوفى سنة ٣١١هـ رحمه الله تعالى : وكتابه في: التوحيد. مجلد كبير. وقد تأول في ذلك حديث الصورة. فليعذر من تأول بعض الصفات، وأما السلف فما خاضوا في التأويل، بل آمنوا وكفوا، وفوضوا علم ذلك إلى الله ورسوله، ولو أن كل من أخطأ في اجتهاده – مع صحة إيمانه وتوخيه لاتباع الحق – أهدرناه وبدعناه، لقل من يسلم من الأئمة معنا. رحم الله الجميع بمنه وكرمه. أهـ. وقال (في السير١٥٥٦٤) في ترجمة: باني مدينة الزهراء بالأندلس: الملك الملقب بأمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد صاحب الأندلس المتوفى سنة ٣٥٠هـ : وإذا كان الرأس عالي الهمة في الجهاد، احتملت له هنات، وحسابه على الله، أما إذا أمات الجهاد، وظلم العباد، وللخزائن أباد، فإن ربك لبالمرصاد. أهـ. وقال (في السير ١٦٢٨٥) في ترجمة: القفال الشاسي الشافعي المتوفى سنة ٣٦٥هـ رحمه الله تعالى: قال أبو الحسن الصفار: سمعت أبا سهل الصعلوكي، وسئل عن تفسير أبي بكر القفال، فقال: قدسه من وجه ودنسه من وجه، أي: دنسه من جهة نصره للاعتزال. قلت: قد مر موته، والكمال عزيز، وإنما يمدح العالم بكثرة ما له من الفضائل، فلا تدفن المحاسن لورطة، ولعله رجع عنها. وقد يغفر له في استفراغه الوسع في طلب الحق ولا حول ولا قوة إلا بالله. أهـ. وبعد أن ذكر بعض الهفوات لأبي حامد الغزالي المتوفى سنة ٥٠٥هـ – رحمه الله تعالى قال (في السير ١٩٣٣٩): قلت: الغزالي إمام كبير، وما من شرط العالم أنه لا يخطئ . أهـ. وقال أيضا (في السير ١٩٣٤٢): قلت: ما زال الأئمة يخالف بعضهم بعضا، ويرى هذا على هذا، ولسنا مما يذم العالم بالهوى والجهل. اهـ. وقال أيضا (في السير ١٩٣٤٦): فرحم الله الإمام أبا حامد، فأين مثله في علومه وفضائله ولكن لا ندعي عصمته من الغلط والخطأ. ولا تقليد في الأصول. اهـ. ونبه على حال مجاهد فقال( في السير ٤٤٥٥): قلت: ولمجاهد أقوال وغرائب في العلم والتفسير تستنكر. اهـ. وقال (في السير١٢٥٠٠-٥٠١) في ترجمة ابن عبد الحكم: قلت: له تصانيف كثيرة، منها: كتاب في الرد على الشافعي، وكتاب أحكام القرآن. وكتاب الرد على فقهاء العراق. وما زال قديما وحديثا يرد بعضهم على بعض في البحث وفي التواليف، وبمثل ذلك يتفق العالم، وتتبرهن له المشكلات، ولكن في زماننا قد يعاقب الفقيه إذا اعتنى بذلك لسوء نيته، ولطلبه للظهور والتكثر، فيقوم عليه قضاة وأضداد، نسأل الله حسن الخاتمة وإخلاص العمل. اهـ. وفي ترجمة إسماعيل التيمي المتوفى سنة ٥٣٥هـ ( في السير ٢٠٨٨) أنه قال : أخطأ ابن خزيمة في حديث الصورة، ولا يطعن عليه بذلك بل لا يؤخذ عنه هذا فحسب. قال أبو موسى – المديني -: أشار بهذا إلى أنه قل إمام إلا وله زلة، فإذا ترك لأجل زلته، ترك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل. اهـ. فهذا الذهبي نفسه (راجع أبجد العلوم لصديق خان رحمه الله ١١٥-٢٠) قد تكلم (رحمه الله تعالى) في أن علوم أهل الجنة تسلب عنهم في الجنة ولا يبقى لهم شعور بشيء منها. وقد تعقبه العلامة الشوكاني في فتاواه المسماة: الفتح الرباني. وذكر إجماع أهل الإسلام على أن عقول أهل الجنة تزداد صفاء وإدراكا – لذهاب ما كان يعتريهم في الدنيا. وساق النصوص في ذلك. منها قوله تعالى: يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين وقال شيخه شيخ الإسلام ابن تيمية النميري رحمه الله تعالى (مجموع الفتاوى٢٧٣١١)، في جواب له بإبطال فتوى قضاة مصر بحبسه وعقوبته من أجل فتواه بشأن شد الرحل إلى القبور: إنه لو قدر أن العالم الكثير الفتاوى، أفتى في عدة مسائل بخلاف سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، وخلاف ما عليه الخلفاء الراشدون: لم يجز منعه من الفتيا مطلقا؛ بل يبين له خطؤه فيما خالف فيه. فمازال في كل عصر من أعصار الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من علماء المسلمين من هو كذلك. اهـ. وهذا الإمام الحافظ ابن حبان المتوفى سنة ٣٥٤هـ رحمه الله تعالى فاه بقوله: النبوة العلم والعمل. فهجر وحكم عليه بالزندقة وكتب فيه إلى الخليفة فكتب بقتله. لكن أنصفه المحققون من أهل العلم فوجهوا قوله واستفادوا من علمه وفضله منهم: ابن القيم (في مفتاح دار السعادة) والذهبي (في تذكرة الحفاظ٣٩٢٢)، وابن حجر (في لسان الميزان٥١١٣-١١٦) في سواهم من المحققين. ومما قاله الذهبي: قلت: وهذا أيضا له محل حسن، ولم يرد حصر المبتدأ في الخبر. ومثله: الحج عرفة، فمعلوم أن الرجل لا يصير حاجا بمجرد الوقوف بعرفة، إنما ذكر مهم الحج، ومهم النبوة ؛ إذ أكمل صفات النبي: العلم والعمل، ولا يكون أحدا نبيا إلا أن يكون عالما عاملا. نعم النبوة موهبة من الله تعالى لمن اصطفاه من أولي العلم والعمل لا حيلة للبشر في اكتسابها أبدا، وبها يتولد العلم النافع والعمل الصالح. ولا ريب أن إطلاق ما نقل عن أبي حاتم: لا يسوغ، وذلك نفس فلسفي. اهـ وهذا العلامة أبو الوليد الباجي المالكي المتوفى سنة ٤٧٤هـ – رحمه الله تعالى – افترع القول بارتفاع أمية النبي صلى الله عليه وسلم لقصة الحديبية فقام عليه أهل عصره حتى حكموا بكفره. وقال بعضهم فيه: عجبت ممن شرى دنيا بآخرة ٭٭٭٭ وقال إن رسول الله قد كتبا ثم تطامنت الفتنة وأوضح المحققون بأن واقعة الحديبية لا سبيل إلى إنكارها لثبوتها لكنها لا تنفي الأمية، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث في العرب وهم أمة أمية لا تكتب ولا تحسب ومع هذا يوجد فيهم من يكتب مثل كتاب الوحي لكنهم على ندرة ولم ينف هذا أمية أمته صلى الله عليه وسلم من العرب. حقق ذلك الحافظ الذهبي رحمه الله تعالى في ترجمة الباجي (في السير١٨٥٤٠) ولعصرينا ابن حجر القاضي القطري كتاب حافل باسم: الرد الشافي الوافر على من نفى أمية سيد الأوائل والأواخر. وهذا عبد الملك بن حبيب – رحمه الله تعالى – من أعلام الفقه المالكي. عيب عليه أشياء ولم يهجر رحمه الله تعالى (راجع لسان الميزان٤٦٢) والجياني: أحمد بن محمد بن فرج اللغوي الشاعر، لحقته محنة لكلمة عامية نطق بها، نقلوها عنه، وكان سجنه بسببها في زمن: الحكم بن عبد الرحمن الناصر المتوفى سنة ٣٣٦هـ (٢) وهؤلاء الأئمة: ابن الأثير، وابن خلدون، والمقريزي قد صححوا النسب الفاطمي للعبيديين. وقد صاح المحققون على القائلين بهذا منهم: ابن تيمية، وابن القيم، والذهبي، وابن حجر وغيرهم في القديم والحديث. والمؤرخ ابن خلدون أيضا عقب على الهيتمي بأنه لما ذكر الحسين بن علي – رضي الله عنه – في تاريخه قال: قتل بسيف جده. لكن دافع الحافظ ابن حجر عن ابن خلدون بأن هذه الكلمة لم توجد في التاريخ الموجود الآن ولعله ذكرها في النسخة التي رجع عنها. وقد تتابع الغلط على ابن خلدون أيضا في أنه يحط على العرب من أنهم أهل ظعن ووبر لا يصلحون لملك ولا سياسة. وابن خلدون كلامه هذا في الأعراب لا في العرب فليعلم. (راجع الضوء اللامع ٣١٤٧ والإعلان بالتوبيخ ص ٧١) فهذه الآراء المغلوطة لم تكن سببا في الحرمان من علوم هؤلاء الجلة بل ما زالت منارات يهتدى بها في أيدي أهل الإسلام. وما زال العلماء على هذا المشرع ينبهون على خطأ الأئمة مع الاستفادة من علمهم وفضلهم، ولو سلكوا مسلك الهجر لهدمت أصول وأركان، ولتقلص ظل العلم في الإسلام، وأصبح الاختلال واضحا للعيان. والله المستعان. وكان الشيخ طاهر الجزائري المتوفى سنة ١٣٣٨هـ رحمه الله تعالى يقول وهو على فراش الموت: عدوا رجالكم، واغفروا لهم بعض زلاتهم، وعضوا عليهم بالنواجذ لتستفيد الأمة منهم، ولا تنفروهم لئلا يزهدوا في خدمتكم. اهـ. (راجع كتاب كنوز الأجداد) وينتظم ما سلف تحقيق بالغ للإمام ابن قيم الجوزية – رحمه الله تعالى – ذكره في مباحث الحيل من إعلام الموقعين (٣٢٩٤ – ٢٩٨ ) فانظره. وإنما أتيت على النقول المتقدمة مع كثرتها، لعموم البلوى على أهل العلم من بعض الجهال . إذا حصل له رأي عن قناعة ودراية في مسألة فقهية فروعية – يكادون يزهقونه ويجهزون عليه لتبقى الريادة الوهمية لهم، والله المستعان على ما يفعلون. أما المبتدعة فلا والله، فإنا نخافهم ونحذرهم، ولواجب البيان نحذرهم من بدعهم، فاحذر مخالطتهم، والتلقي عنهم، فإن ذلك سم ناقع انتهى من كتاب: التعالم . ١٠- قد ترى الرجل العظيم يشار إليه بالعلم والدين، وقفز القنطرة في أبواب التوحيد على أصول الإسلام والسنة وجادة سلف الأمة، ثم يحصل منه هفوة أو هفوات، أو زلة أو زلات. فلتعلم هنا: أنه ما كل عالم ولا داعية كذلك يؤخذ بهفوته، ولا يتبع بزلته، فلو عمل ذلك لما بقي معنا داعية قط، وكل راد ومردود عليه، والعصمة لأنبياء الله ورسله. نعم: ينبه على خطئه، ولا يجرم به، فيحرم الناس من علمه، ودعوته، وما يحصل على يديه من الخير. ومن جرم المخطئ في خطئه الصادر عن اجتهاد له فيه مسرح شرعا، فهو صاحب هوى يحمل التبعة مرتين: تبعة التجريم، وتبعة حرمان الناس من علمه، بل عليه عدة تبعات معلومة لمن تأملها. ١١- قد ترى الرجل العظيم، يشار إليه بالعلم والدين، وقد ينضاف إلى -ذلك نزاله في ساحات الجهاد، وشهود سنابك الجياد، وبارقة السيوف، ويكون له بجانب ذلك هنات وهنات في توحيد العبادة، أو توحيد الأسماء والصفات، ومع هذا فترى نظراءه من أهل العلم والإيمان ممن سلم من هذه الهنات، يشهدون بفضله ويقرون بعلمه، ويدينون لفقهه، وعلو كعبه، فيعتمدون كتبه وأقواله، ولا يصرفهم هذا عن هذا: وإذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث . ولا تمنعهم الاستفادة منه من البيان بلطف عما حصل له من عثرات، بل يبينونها، ويسألون الله أن يقيل عثرته، وأن يغفرها بجانب فضله، وفضيلته. وخذ شاهدا في حال المعاصرة: إن شداة اعتقاد السلف (كثر الله جمعهم) يكدون ليلهم، ونهارهم، ويبذلون وكدهم في تحضير الرسائل الجامعية لعدد من وجوه أهل العلم في دراسة حياتهم، وسيرهم، وجمع شمائلهم، وتحقيق كتبهم، ونشرها بين الناس، ويرون هذا قربة بعلم ينتفع به. وتتسابق كلمة علماء العصر بالمدح والثناء. وبهذا تعلم أن تلك البادرة الملعونة من تكفير الأئمة: النووي، وابن دقيق العيد، وابن حجر العسقلاني (رحمهم الله تعالى) أو الحط من أقدارهم، أو أنهم مبتدعة ضلال. كل هذا من عمل الشيطان، وباب ضلالة وإضلال، وفساد وإفساد، وإذا جرح شهود الشرع جرح المشهود به، لكن الأغرار لا يفقهون ولا يتثبتون، فهل من منفذ في الواقعين، نصيحة زياد فيما ساقه ابن عبد البر (رحمه الله تعالى) بسنده أن زيادا خطب على منبر الكوفة فقال: أيها الناس إني بت ليلتي هذه مهتما بخلال ثلاث رأيت أن أتقدم إليكم فيهن بالنصيحة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.