إسلام هرقل ملك الشام
من كتاب
مختصر هداية الحيارى في الرد على اليهود والنصارى
فاصل
كا ت هرقل ملك الشام أحد أكابر علمائهم بالنصرانية (هرقل)قد عرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم حقا، وعزم على الإسلام فأبى عليه النصارى، فخافهم على نفسه، وضل بملكه مع علمه بأنه سينقل عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. ونحن نسوق قصته، ففي الصحيحين من حديث عبد الله بن عباس أن أبا سفيان أخبره من فِيه إلى فِيه، قال:انطلقت في المدة التي كانت بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال:فبينا أنا بالشام إذ جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل، وقد كان دحية بن خليفة جاء به، فدفعه إلى عظيم بصرى، فدفعه عظيم بصرى إلى هرقل، فقال هرقل:هل ههنا أحد من قوم هذا الرجل الذي يزعم أنه نبي؟
قالوا: نعم، قال: فدعيت في نفر من قريش، فدخلنا على هرقل، فأجلسنا بين يديه، وأجلسوا أصحابي خلفي، فدعا بترجمانه، فقال:قل لهم إني سائل هذا عن الرجل الذي يزعم أنه نبي، فإن كذبني فكذبوه، فقال أبو سفيان: وأيم الله، لولا مخافة أن يؤثر علي الكذب لكذبت، ثم قال لترجمانه: سله كيف حسبه فيكم؟ قال: قلت: هو فينا ذو حسب، قال: فهل كان من آبائه
(ص 33) من ملك؟ قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلت: لا. قال: ومن اتبعه أشراف الناس أم ضعفاءهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: لا، بل يزيدون، قال: فهل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخل فيه سخطة له قال: قلت: لا، قال: فهل قاتلتموه؟ قلت: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟
قال: قلت: يكون الحرب بيننا وبينه سجالا، يصيب منا ونصيب منه، قال: فهل يغدر؟ قلت: لا، ونحن منه في مدة ما ندري ما هو صانع فيها، قال: فوالله ما أمكنني من كلمة أدخل فيها شيئاً غير هذه، قال: فهل قال هذا القول أحد قبله؟ قلت: لا، قال لترجمانه: قل له أني سألتك عن حسبه، فزعمت أنه فيكم ذو حسب، وكذلك الرسل تبعث في أحساب قومها.
وسألتك هل كان في آبائه ملك، فزعمت أن لا، فقلت: لو كان في آبائه ملك، لقلت رجل يطلب ملك آبائه.
وسألتك عن أتباعه أضعفاؤهم أم أشرافهم؟ فقلت: بل ضعفاؤهم، وهم أتباع الرسل.
وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ فزعمت أن لا، فقد عرفت أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس، ثم يذهب فيكذب على الله عز وجل.
وسألتك هل يرتد أحد منهم عن دينه بعد أن يدخله سخطة له؟ فزعمت أن لا، وكذلك الإيمان إذا خالطت بشاشته القلوب.
وسألتك هل يزيدون أم ينقصون؟ فزعمت أنهم يزيدون؟ وكذلك الإيمان حتى يتم.
وسألتك هل قاتلتموه؟ فزعمت أنكم قاتلتموه فيكون الحرب بينكم وبينه سجالا ينال منكم وتنالون منه، وكذلك الرسل تبتلى، ثم تكون لها العاقبة.
وسألتك هل يغدر؟ فزعمت أنه لا يغدر، وكذلك الرسل لا تغدر.
وسألتك هل قال هذا القول أحد قبله؟ فزعمت أن لا، فقلت: لو قال هذا القول أحد من قبله قلت: رجل إئتم بقول قيل قبله.
ثم قال: فبم يأمركم؟ قلت: يأمرنا بالصلاة، والزكاة، والصلة، والعفاف، قال إن يكن ما تقول حقا إنه لنبي، وقد كنت أعلم أنه خارج ولكن لم أكن أظنه منكم، ولو أعلم أني أخلص إليه لا حببت لقاءه، ولو كنت عنده لغسلت عن قدميه، وليبلغن ملكه ما تحت قدمي.
ثم دعا بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه، فإذا فيه ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:
فإني أدعوك بدعاية إذ أسلم تسلم، أسلم يؤتك الله أجرك مرتين، وإن توليت فإن عليك لعنة الأريسيين و (يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا أشهد بأنا مسلمون(
فلما قرأه، وفرغ من قراءة الكتاب، ارتفعت الأصوات عنده، وكثر اللغط، وأمر بنا فأخرجنا.
ثم أذن هرقل عظماء الروم في دسكرة له بحمص، ثم أمرا بأبوابها فغلقت، ثم أطلع فقال: يا معشر الروم! هل لكم في الفلاح والرشد، وأن تثبت مملكتكم فتبايعوا هذا النبي؟ فحاصوا حيصة حمر الوحش إلى الأبواب فوجدوها قد(ص 34) غلقت، فلما رأى هرقل نفرتهم، وأيس من الإيمان، قال: ردوهم علي، فقال: إني قلت مقالتي آنفا أختبر بها شدتكم على دينكم، فقد رأيت، فسجدوا له، ورضوا عنه.
فهذا ملك الروم، وكان من علمائهم أيضا، عرف وأقر أنه نبي، وأنه سيملك ما تحت قدميه، وأحب الدخول في الإسلام، فدعى قومه إليه فولوا عنه معرضين كأنهم حمر مستنفرة، فرت من قسورة، فمنعه من الإسلام الخوف على ملكه ورياسته، ومنع أشباه الحمير ما منع الأمم قبلهم.
ولما عرف ((النجاشي ملك الحبشة)) أن النصارى لا يخرجون عن عبادة الصليب إلى عبادة الله وحده أسلم سرا، وكان يكتم إسلامه بينهم هو وأهل بيته، ولا يمكنه مجاهرتهم.
ذكر ابن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أرسل إليه عمرو بن أمية الضمري رضي الله عنه، مكانه يدعوه إلى الإسلام،
فقال له عمرو: يا أصحمة!علي القول وعليك الاستماع، إنك كأنك في الرقة علينا منا وكانا في الثقة بك منك لأنا لم نظن بك خيرا قط إلا نلناه، ولم نخفك على شيء قط إلا أمناه، وقد أخذنا الحجة عليك من فيك الإنجيل بيننا وبينك شاهد لا يرد، وقاض لا يجور، وفي ذلك موقع الحز، وإصابة المفصل، وإلا فأنت في هذا النبي الأمي كاليهود في عيسى ابن مريم.
وقد فرق النبي صلى الله عليه وسلم رسله إلى الناس فرجاك لما لم يرجهم له، وأمنك على ما خافهم عليه لخبر سالف، وأجر منتظر، فقال النجاشي: أشهد بالله إنه للنبي الأمي الذي ينتظره أهل الكتاب، وإن بشارة موسى براكب الحمار كبشارة عيسى براكب الجمل، وإن العيان ليس بأشفى من الخبر.
قال الواقدي: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه ((بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله إلى النجاشي ملك الحبشة: أسلم أنت فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن، وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته، ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصينة، حملت بعيسى فخلقه من روحه ونفخه، كما خلق آدم بيده.
وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة على طاعته، وإن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني، فإني رسول الله إليك، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل، وقد بلغت، ونصحت، فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى)).
فكتب إليه النجاشي: بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد رسول الله من النجاشي أصحمة، سلام عليك يا نبي الله من الله وبركات الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد:
فلقد بلغني كتابك فيما ذكرت من أمر عيسى، فورب السماء والأرض إن عيسى لا يزيد على ما ذكرت تفروقا، إنه كما ذكرت وقد عرفنا ما بعثت به إلينا، وقد قر بنا(ص 35) ابن عمك وأصحابه، فأشهد إنك رسول الله صادقا مصدقا، وقد بايعتك وبايعت ابن عمك، وأسلمت على يديه لله رب العالمين.
و((التفروق)): علامة تكون بين النواة والتمرة.
فاصل