ذكر الذهبي : في سير أعلام النبلاء (11/238) أن الإمام أحمد قيل له ـ أيام المحنة ـ :
[ يا أبا عبد الله ! أوَلا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل ؟
قال : كلا ، إن ظهور الباطل على الحق ، أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة، وقلوبنا بعد لازمة للحق] انتهى .
ما أحوجنا إلى استحضار هذا المعيار الدقيق في بيان حقيقة ظهور الباطل على الحق ، خصوصاً في هذا الزمن الذي تقلبت بقلوب كثيرٍ من أهله الفتن بنوعيها : الشبهات ،والشهوات ـ أعاذنا الله منهما ـ .
إن من أعظم أنواع الفتنة : أن تختل حقيقة انتصار الحق في النفس ؛ بسبب عارضٍ ما ؛ لأن اختلال المعايير حينئذٍ يؤدي إلى خلل في المنهج ولا بد ، ويصبح السائر ـ في طريقه إلى الله ـ مضطرباً لاضطراب معاييره ، فهي ـ حيناً ـ تربط الحقّ بالكثرة ! وحيناً تربطها بغلبة السلطان ! وحيناً بظهور أهل الباطل ،وحيناً بأمور أخرى ،وكلّ ذلك لا يجدي على صاحبه شيئاً.
إن هذه القوة العجيبة من الإمام أحمد : في ردّ تلك الشبهة التي عرضها بعضُ أصحابه لم تكن ردّة فعل حاضرة ، بل هي نتيجةُ فهم الإمام العميق لكتاب الله تعالى ،وسيرة رسوله صلى الله عليه وسلم ، واستقرائه لتاريخ أهل الحق في صراعهم مع الباطل وأهله.
قال تعالى : }لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ{ (الأنفال/8) ،وقوله تعالى : }وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا{ (الإسراء/81) ، وقوله تعالى:}بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ{ (الأنبياء/18) ،وغيرها من الآيات = إن من يتأمل الآيات السابقة ـ وما في معناها ـ لا يمكن أبداً أن تهتز عنده حقيقة غلبة الحق ،وظهوره على الباطل وأهله الظهور الحقيقي لا الصوري !
وما دام الحديث موجهاً إلى الأخت المسلمة ، فما أحوجها أن تستصحب هذه الحقيقة خصوصاً في هذا الزمن الذي انبهرت فيه كثير من النساء ببهرج الباطل ،وضعفت فيه القناعة بالحق الذي أراده الله للمرأة ، لسبب من الأسباب التي أشرت إلى بعضها.
وهذا يؤكد على المرأة أن تعرف الحق بدليله حتى يبقى عقيدةً راسخة في القلب ، لا تزلزله العوادي ،ولا تعصف به الفتن ـ بإذن الله ـ لأن الحق حين ينمو بنفسه "فإن الله يجري سنته ، فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ، إن على الحق أن يوجد ومتى وجد الحق في صورته الصادقة الكاملة ، فإن شأن الباطل هين ، وعمره كذلك قريب "[1].
إن الفتنة الخفية في هذا الباب ـ فيما أرى ـ تتمثل في أمرين :
الأول : التباس الحق بالباطل بسبب كثرة دعاة الباطل ،وقوة أساليبهم في التسويق له.
الثاني : أن كثيراً من النساء المسلمات قصّرن في تلمس الحق المقرون بدليله ـ الذي يجعل المرأة قوية بعقيدتها ،ودينها ـ فإن الدليل كالسلاح للداخل في المعركة ، فمن دخل الحرب بغير سلاح ، فماذا يتوقع أن يصيبه ؟!.
ونتيجة لذلك ، ستصبح المرأة ـ مع هشاشة حجتها بصحة ما هي عليه ـ في حالة دفاع عاطفي فقط ، من غير قدرة على بيان الحجة ،والاستعلاء بالحق ـ وهو ما يمكن أن نصطلح عليه هنا بالهجوم ـ وبالتالي فإن السهام إذا كثرت على هذا النوع من الناس ،فيوشك أن تصاب بمقتل ،وهذا المقتل ،هو أن تضعف ، فتصبح في حالة استقبال وتلقٍّ ،وهنا الكارثة ، إذ مؤدى ذلك الاستسلام ،ومن ثم الانتكاس ـ والعياذ بالله ـ .
وخلاصة القول : أن المرأة المسلمة ـ اليوم ـ أحوج ما تكون إلى أن تتسلح بسلاح العلم المقرون بالحجة ؛ ليس فقط لتكون هي على بيّنة من أمرها ،ويقينٍ من دينها ، بل لتنقل هذا اليقين إلى بنات جنسها ، قبل أن يجرفهنّ السيل العاتي ،وقبل أن تنقلب موازين انتصار الحق وقوته في نفوسهن ، والأمر لله من قبل ومن بعد }مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا{ (الكهف/17).