"وداع مع الأصيل"
رواية ل: فتحية محمود الباتع
هي رواية للأسف تروي أحداث واقعية عن قصة حب فلسطينية شاءت أن تخلق في أجواء حرب و تقسيمات بين العرب و اليهود الأنذال..
جاء في تقديم الرواية انها: تضمنت أنواع من المآسي التي دونها التاريخ على صفحات دامية لشخصيات مختلفة الأمزجة و الضمائر جمعت بين النبل و أصالة الخلق و التفاني في حب الوطن و الفداء، و بين القبح و جشع النفوس و سوء الادراك و غفلة الضمير.
جرت أحداثها فوق التراب العربي الفلسطيني اثر قرار تقسيم فلسطين عام 1947 و ما كان بعدها من الهجمة الصهيونية الشرسة على البلاد و اهلها في ظل الانتداب البريطاني في ذلك الحين..
غادة الكرمل
في بقعة جميلة هادئة من جبل الكرمل الشامخ المهيب القائم في أبدع مدن فلسطين ( حيفا ) شاد البناءون منزلا اقرب إلى القصور بفخامته و روعته و ضخامته أعمدته الرخامية و شرفاته العالية و ردهاته الفسيحة و غرفه المتعددة و قاعاته الواسعة، و قد افتن من طلوا جدرانه فيما أتوه من مناظر بديعة تحاكي الطبيعة في أروع صورها و اجلي معانيها، و الناظر إليها يرى السهل و الجبل و النهر و الشجر و الراعي و الغنم و الطير المحلق في غمار السحب، و قد أطلت من السقوف المطلية بزرقة هادئة ثريات فضية باهرة تتلألأ تلألؤ النجوم في قبة السماء.
و مما يجذب عين الناظر في أبهاء ذلك القصر أبوابه الهائلة ذات المقابض الكروية المذهبة و قد حفر خشبها برسوم زخرفية تتخللها نحلات نحاسية صفراء فتبدو للعين و هي تلتمع بشعاع ذهبي خاطف كأقراص شموس صغيرة.
و لم يغفل صاحب القصر عن تجميل هذا الممر الطويل الواسع، فأقام على جانبيه قفصين بديعين كبيرين ضم كل منهما بين قضبانه طيرا من طيور الطاووس و تلتهما أقفاص اصغر حجما للعنادل و الببغاوات، و قامت أشجار السرو النحيلة الباسقة حول ذلك القصر و حديقته الغناء فبدت وسط سكون الليل كعذارى حسناوات انتضن بأعوادهن الفارعات يتنسمن شذى الزهر المعطر و يملان النظر من جنة القصر الفيحاء.
و أقام في هذا الفردوس ( شكري بك ) و زوجته ( ظريفة ) و ابنة أخيه ( سعاد ) _ أرملة ولدهما المتوفى .
و كان لهما ابنة مدلله اسمها ( هدى ) خصص لها أبوها جناحا في القصر، و أما وحيدهما ( وليد ) فقد بعثا به إلى انجلترا يتلقى علومه هناك.
سكنت هذه الأسرة الثرية قصرها بعد أن فرغ البناءون من إعداده و تنسيقه، و كان فصل الربيع قد بدأ ينسج أثوابه و يجود بعبق أنفاسه، فازدهرت البساتين ترفل في ثياب أنيقة بيضاء من زهر اللوز و المشمش و التفاح ينبعث عبرها مع نسمات الليل و تباشير الصباح، و تحررت الطيور الشجية من أوكارها على اختلاف فصائلها و ألوانها و انطلقت تشدو مرفرفة بين الاحراج و البساتين.
سارت أيام الربيع حلوة ناعمة بعليل نسيمها و أريج أزهارها و أسرة شكري بك تنعم بحياتها آمنة مطمئنة، إلى أن انقضى هذا الفصل المزدهر و اقبل بعده الصيف بلياليه المقمرة و ثماره الناضجة، و إذا البساتين تنزع عنها ثيابها البيضاء و تلبس الأشجار غلائلها الخضراء تنوء أغصانها تحت عبئ ثمارها كعرائس أثقلتها الحلي و الدمالج فتهتز و تتمايل لتطرح للمواطنين ما أغدقه عليهم المولى العظيم من نعمه، فيؤكل منها و يصدر و يباع.
و كان من أجمل ما يصافح العين حين تنقشع ظلمة الليل عن جبين البكور فتيات القرى و قد سرن إلى المغارس و الحقول جماعات بوجوههن الصبيحة و قاماتهن الرشيقة و قد شددن خصورهن اللدنة النحيلة بشملات ملونة فوق ثيابهن الطويلة المطرزة و أخذن سلالهن لقطف الثمار أو انعطفن بجرارهن للاستقاء.
و مضى شطر من الصيف و الأسرة هادئة هانئة.
و ذات أمسية من أمسيات هذا الفصل، جلست ( نجلاء ) في شرفة بيتها الصغير المواجهة لذلك القصر الشاهق البديع تحيك بعض الثياب، و هي أرملة في نحو الخمسين من عمرها، مهيبة الطلعة، طويلة القامة، عاقلة رزينة، لم يستطع الدهر بأحداثه أن ينكر عليها ما كانت تتمتع به من جمال عارم في عهد شبابها.
و كانت لها ابنة وحيدة تعيش معها اسمها ( سلمى ) هي كل ما فازت به من عوادي الحياة و أنياب الزمان، بعد أن فقدت زوجها و ولدها.
و كانت الفتاة صبية هيفاء دون العشرين على جانب عظيم من الجمال، مات أبوها و هو يدافع عن وطنه في موقعة نشبت بين العرب و اليهود، في ثورة عام 1936 و اقتدى به أخوها، فانتهت حياته على حبل المشنقة شهيد وطنه، و باتت الفتاة منذ ذلك الحين يتيمة لا تعرف إلا أمها التي تعيش في كنفها.
و لما كانت ( نجلاء ) حائكة ماهرة، فقد استطاعت أن تعيش في بحبوحة من الرزق، و أغدقت على صغيرتها الحلي و الثياب، و ربتها تربية كريمة، جمعت بين تعليم اللغة العربية و بعض اللغات الأخرى، و منها العبرية، و بين الدين و الثقافة، و فن الرسم الذي برعت فيه براعة فذة، حتى إذا أتمت الفتاة دراستها انصرفت إلى الرسم و التصوير، الفن الذي شغفت به، و كانت لها لوحات رائعة تعود عليها بأرباح وافرة.
و كان يساعدها في بيعها جارها ( حامد ) و هو رجل وقور جاوز سن الشباب، و عرف بين الناس بحسن السيرة و دماثة الخلق، و كان صديقا لوالد الفتاة، فكان يتفقدها و أمها، و يسهل لها السبل لبيع لوحاتها، فكلما أعدت لوحة جديدة حملها إلى دكانه وسط السوق ليعرضها على حرفائه الأثرياء من العرب و اليهود ثم يعود إلى الفتاة و أمها بحفنة من النقود. سارت حياة الأم و ابنتها على هذا المنوال صافية رائقة لا يعكرها سوى الفراغ الذي خلفه الشهيدان الراحلان في نفسيهما و حياتهما.
في هذه الأمسية جلست سلمى تتابع رسم لوحتها، و كانت الشمس قد آذنت بالمغيب، فأرسلت خيوطها الذهبية الضاربة إلى الحمرة تنسج منها حلتها الوردية و تنحدر بها على وجه مياه البحر الرقراقة الزرقاء.
فانصرفت الفتاة بنظراتها إلى ذلك المنظر البديع تستلهم من الطبيعة أجمل صورها و تقدمها في لوحتها وسط إطار رائع خلاب.
و مر إذ ذاك عن كثب من بيت ( نجلاء ) و ابنتها فتى مديد القامة، وسيم الطلعة، قمحي اللون، تتألق عيناه السوداويان ببريق القوة و الشباب، و تنطبع على محياه الجميل دلائل الشهامة و النبل، و كانت سنه لا تتجاوز بضع و عشرون عاما، و أول ما يسترعي الناظر إليه بنوع خاص جمال رجولته و قوة شخصيته.
و لمحت تلك الغادة الحسناء و هي مكبة على لوحتها، تتابع فيها رسمها و قد تهدلت خصلات شعرها الفاحمة و استقرت واحدة منها فوق جبينها الساطع و تناثر بعضها حول جيدها الطويل. أما شفتاها المطبقتان فقد حاكت بلونهما حمرة الشفق الأرجوانية، و راحت عيناها تومضان من بين أهدابها الغزيرة السوداء بوميض ساحر خلاب كلما انتقلت بنظراتها ما بين لوحتها و بين منظر الطبيعة البديع.
و لم تشعر بالفتى الذي بهره جمالها فتسمر مبهوتا في مكانه مسلوب اللب مبهور الأنفاس. و همس في نفسه و عيناه شاخصتان إلى الفتاة: " أهناك بالله لوحة أجمل من هذه يمكن أن تصورها تلك الغادة على طبيعتها هذه ؟ " .
و كانت الشمس قد احتجبت تماما و بدأ الغروب ينشر أجنحته على الكون و يطوي من تحتها الفضاء، فألقت الفتاة بريشتها، و ارتدت برأسها إلى ظهر مقعدها تمعن النظر فيما أنتجته عبقريتها من الهام الطبيعة و جلالها في ساعة الغروب.
فتراجع الفتى و استدار على عقبيه و هو يشعر نحو الفتاة بشعور غريب أشبه بالجاذبية، و سار في طريقه إلى ذلك القصر المواجه لبيت الفتاة و ولج بابه.
كان هذا الشاب هو ( وليد ) ابن مالك القصر ( شكري بك) قد عاد من انجلترا بعد أن درس الحقوق هناك، و كانت قاعة القصر في تلك الليلة بالذات تعج بالأقارب و الأصدقاء حفاوة بعودته.
و لبس المنزل الكبير حالة رائعة من البهجة و المرح تراقصت من حوله الأنوار الساطعة و ترنمت الصبايا بالأغنيات الشائعة تنبعث أصواتهن من نوافذ القصر مع حلقات الفضاء رخيمة صافية كرنين الفضة الخالصة.
و انتصبت الولائم تقدم فيها الأطعمة و الحلوى و الفاكهة من كل شكل و لون، فأكل القوم و شربوا و بلغ مرحهم مداه.
و تطلع أهل المنازل الصغيرة المجاورة إلى ذلك المنزل الشامخ الذي يداني بهيئته القصور العالية و هو يسبح في أشعة من الأنوار المالقة، و تهامس بعضهم عن الثروة التي نزلت على صاحبه منذ عهد قريب حتى عاش هذه العيشة المغمورة بالترف و الرفاهية، و قالت سلمى لامها و هي ترنو بعينها الجميلتين إلى ذلك القصر و أضوائه المتلألئة و تطرق إذنيها أنغام الموسيقى و الغناء المنبعثة من نوافذه: " انظري يا أماه القوم في هرج و مرج و اليهود يعدون الحصون و يحكمون لها البناء ".
و قبل أن تجيبها أمها بشيء التفت إليها حامد الذي جاء و زوجته لزيارتهما و قال: " أين هي الحصون و الاستعدادات يا بنيتي؟ " .
تحولت الفتاة بنظراتها إليه و قالت و هي تشير بسبابتها إلى بناء أشبه ببرج هائل يقع على سفح الجبل: " تلك القلعة يا عماه التي أعدها اليهود لتكون حصنا لهم في الأيام المقبلة ".
و قال الرجل في شيء من الدهشة: " و لكنها يا بنيتي هي كما تعلمين سوق للخضراوات اتخذها اليهود لهم ".
قالت: " أي سوق هذه التي لا منفذ لها سوى هذه الكوى الصغيرة المثبتة في أعلى جدرانها السميكة؟ ".
و قالت نجلاء مؤيدة قول فتاتها: " نعم يا أخي حامد، أن حصون اليهود كثيرة و هم لا يغفلون عنها، و لا يهملون إنشاءها، و لو أدرك صاحب هذا القصر من الذين أعماهم الجشع، و أغراهم المال فضاعة جرمهم، و هول ما يقدمون عليه طلبا للثراء و ما له من العواقب الوخيمة على البلاد و أهلها الأبرياء لفضلوا حياة البؤس و الفقر على الانغماس في الترف و اللذات ".
فصمت حامد برهة، ما لبث بعدها أن قال: " أو تعتقدين يا أختاه أن شكري بك جمع ثروته هذه عن طريق غير كريمة؟ "..و استدرك قائلا: " لا أظن ذلك ".
فصمتت نجلاء و لم تجب بشيء، بينما ردت سلمى قائلة: " أتظن يا عماه أن ثروة هذا الرجل نزلت عليه من السماء؟ ".
قال حامد: " أنا شخصيا لا استطيع أن اجزم في أمره "، و استطرد يقول: " و ماذا يضيرنا يا بنيتي و يضير الناس أن يحيا شكري بك و غيره حياة رغد و ترف ما داموا لا يتعرضون لغيرهم بالأذى".
قالت الفتاة بحدة: " ما هذا الذي اسمعه منك يا عماه، كيف لا يضيرنا و يؤذينا إن يكون بين المواطنين خائنون، يبيعون دينهم و وطنهم من اجل حفنة من الذهب؟ لا ، إنهم بعملهم هذا يفسحون المجال لليهود الذين يفدون من الغرب و جميع الأقطار أفرادا و جماعات، ليغدقوا على أولئك الحمقى ذهبا و يشترون به البلاد، و يغضب لذلك أمناء فلسطين الأحرار، فتضطرب الحياة الآمنة، و تندلع الثورات، و تحول ارض البلاد إلى مذابح و براكين دامية تروي ثراها دماء الشهداء من أبنائها، و بذلك يدفع القوم الأبرياء أرواحهم و دمهم ثمنا لأمثال هذا الترف و الثراء، و يذبح منهم من يذبح في المعارك التي تنشب بينهم و بين اليهود، و يشنق منهم من يشنق بأيدي المستعمرين الذين يطاردون الثوار و المجاهدين، فتبيت الأطفال يتامى، و الأمهات ثكلى بأبنائها، و ترمل الزوجات، كما حدث في ثورة عام 1936 يوم أن ذبح الأنذال اليهود أبي و هو يدافع عن وطنه في موقعة نشأت بينهم و بين العرب.
ثم شنق الانجليز أخي و غيره من الشبان و المجاهدين، و قد كنت طفلة غريرة يومئذ، و لكن أمي حدثتني بكل شيء.
فان لبثت هذه حالنا يمدنا اليهود بالذهب و نمدهم بالأرواح و الدماء، خارت قوانا و قويت عزائمهم، و ثبتت بلا ريب أقدامهم و اتسعت مطامعهم، و يجيء يوم يطالبوننا فيه بالجلاء عن أرضنا و ديارنا".
و صمتت و قد غشيت عينيها الدموع، و غمغمت قائلة و هي تعاود النظر إلى ذلك القصر الحافل: " سيدفع هذا الرجل صاحب اللقب الأجوف، حياته ثمنا لفداحة جرمه كما حدث لامثاله من قبله".
فبهت حامد و قال: " ما كنت اعلم ان شكري بك كذلك، هدئي روعك يا بنيتي و اتركي الامر لله يقتص من اولئك الاشرار".
قلب هائم
أصبح وليد، نجل شكري بك، منذ اكتحلت عيناه برؤية تلك الصبية الحسناء (سلمى) منطويا على نفسه، دائب التفكير في أمرها، و لم يكن بمقدوره أن يقصي طيفها الجميل على ناظره، أو يسلو تينك العينين المنيرتين ذواتي الأهداب التي يترامى ظلها إلى الحدين مع ما يتجلى في وجه صاحبتهما من جمال و روعة.
و اضطرمت بين ضلوعه عاطفة مشبوبة بحبها أشقته و عذبته، و رأى أن الحياة لا تطيب له إلا أن كانت تلك الصبية بجانبه ، فقرر أن يخطبها، و لكنه كان يعلم لو أفضى بمثل هذا النبأ لوالدته فلن تتقبله بالرضي أو السرور بل انه سيجلب عليها نقمتها لرغبتها في تزويجه ممن تربطه بهن صلة القربى، و لن تتورع من أن تدفعها أنانيتها إلى تحريض أبيه كي يقف حائلا دون هذا الزواج، و لذا اثر أن يذهب إلى ابنة عمه سعاد ، أرملة أخيه المتوفى ، ليفضي إليها بما في نفسه . فمضى إليها في حجرتها، فاستقبلته هاشة باسمة و دعته للجلوس و أخذت هي مكانها إلى مقعد قبالته، و لاحظت عليه قلقه و تبدل حاله و ابتدرته بقولها: " ما وراءك يا ابن العم؟ ".
قال: " إنني لست في خير حال يا ابنة عمي ، و ها أنا ذا لم أجد غيرك لأفضي له ما بنفسي ".
قالت بحنان الأخت الكبرى: " اخبرني بالله ما في ضميرك؟ "
صمت لحظة ثم قال: " جئت لاسالك عما تعرفين من أمر تلك الفتاة الحسناء التي تقطن ذلك البيت القريب منا ".
فابتسمت سعاد و قالت: " أتقصد غادة الكرمل؟ "
قال: " وهل هذا هو اسمها؟ "
قالت: " هذا ما لقبها به أهل الحي لأنها أجمل فتيات الجبل، أما اسمها الحقيقي فهو (سلمى).. " و استطردت و الابتسامة ما زالت على شفتيها : " ترى هل أصابت تلك الغادة هوى من نفسك حتى طرا عليك مثل هذا التبدل؟ "
قال: " نعم فهلا قصصت عليا ما تعرفينه من أمرها؟ "
أدركت سعاد أن ابن عمها عازم على طلب يد الفتاة، فأطرقت برهة صامتة ساكنة خيل للفتى انها دهرا ثم اندفع قائلا: " ما الخبر يا ابنة عمي، امخطوبة هي؟"
قالت و هي ترفع رأسها ببطء من إطراقها: " لا ليست مخطوبة لأحد، و لكني أرى الطريق إليها وعرا ".
فامتقع لونه و قال: " إني لا افهم ما تقولين، هل هناك ما يشوب سمعتها ؟ "
فهزت رأسها سلبا و قالت : " بل هي عذراء طاهرة كالملائكة، تعيش مع أمها عيشة شريفة لا تشوبها شائبة، و هما المثل الأعلى عند أهل الحي بحسن السيرة و طهارة الذيل".
عاوده هدوؤه و قال: " إذا كنت تغنين إن والدي سيعترضان على هذا الزواج، فلن يهمني ساعتئذ غضبهما أو رضاهما؟ و ليس لزاما علي أن اربط حياتي بحياة من يريد أهلي أن تكون شريكة لعمري، و أتزوج الفتاة التي يحبها لي غيري" .
قالت سعاد: " ليس هذا كل ما هنالك يا ابن عمي، بل اخشي ألا ترضى بك الفتاة".
فبهت الشاب و لم يجد ما يقوله، و تساءل في نفسه: " ترى أي عيب تراه ابنة عمي بي حتى تلقاني بمثل هذه الصفعة ؟ "
و كأنما أدركت سعاد ما دار بخلده، فهتفت به: " عسى ألا تكون اخطات فهمي يا ابن العم ".
فرفع عينيه إليها و قال: " لست افهم منك سوى أني لست للفتاة بأهل ".
قالت: " بل لست أرى من هو أكثر أهلا منك لها، و لكنك لا تعلم أن والد الفتاة استشهد و هو يدافع عن وطنه في ثورة عام 1936 ، و مات الميتة الشريفة التي ماتها زوجي، أخوك ، و كذلك أخوها، و اليوم بدأ الناس يتهامسون عن الثروة التي ينعم بها والدك و يقرنون اسمك بما لا يشرفك".
فما كادت سعاد تتم قولها حتى رأت ابن عمها يثب على قدميه و يصيح قائلا: " و هل حذا أبي حذو أولائك الخائنين؟"
أشارت إليه بصمت و تلفتت حولها و همست: " هذا ما يردده بعض الناس".
قالت ذلك و ما لبث أن ندمت على ما فرط منها و هي ترى احتقان وجه ابن عمها و تجهمه، و خشيت أن يقدم على عمل يرتكبه في حق أبيه تكون هي سببه، فاستدركت تقول: " أنا شخصيا لا أثق فيما يقال في هذا القبيل، و اكبر ظني أن عمي بريء من تلك التهم التي تلصق به، و لا تنس أن هناك من الناس من هم اقدر من الشياطين في الحسد و الهمس و إطلاق الأقاويل، و المعروف أن عمي قضى شطرا من عمره تاجرا، و لا غرابة في أن يضرب الحظ ضربته مع التجار فتدر عليهم تجارتهم أرباحا طائلة تتكون منها ثروة هائلة ".
همس الفتى و هو بين الشك و اليقين من أمر أبيه: " هذا ما أنباني به في رسائله حين كنت في الخارج، و كثيرا ما حدثني عن النجاح الساحق الذي أحرزته تجارته، و الأرباح الطائلة التي أصابها من وراء ذلك، و لذا لم يدهشني حين عدت إلى الوطن أن أرى مظاهر الترف و النعم تغمره ".
قالت و هي تختلس إلى وجهه نظرة خاطفة: " هذه هي الحقيقة، و لكني كنت أخشى أن تطرق أذنك تلك الشائعات فأثرت أن تسمعها مني لتكون على بينة من أمر تلك التهم التي يقرنها الناس باسم أبيك ".
عاد الهدوء إلى نفس الفتى و قال: " و على أية حال فسرعان ما ينجلي الأمر و يظهر لنا الحق من الباطل، و والله لو صح ما يردده القوم عن أبي فلا بد أن انتصف لوطني ".
اصطكت ركبتا المرأة و قالت تدير دفة الحديث معه، و تحاول أن تعيد إليه هدوء نفسه: " دع عنك ثرثرة القوم و مزاعمهم يا ابن العم و حدثني ماذا أنت فاعل بشان سلمى؟"
تبسم و قال: " رأيي أن ابعث بك إليها تخطبينها ".
فذعرت سعاد و قالت: " هل تنوي أن تجلب على راسي نقمة والديك؟"
قال: " ماذا تقترحين؟ "
قالت: " اذهب لوالدتك و أفضي لها بما في نفسك و اطلب إليها أن تذهب لبيت الفتاة و تخطبها لك من أمها، أو اذهب أنت بنفسك و اطلبها من أمها ".
قال:" أنت تعلمين أن أمي لا توافقني لو طلبت إليها ذلك لان الخيلاء و الغرور يجثمان على بصيرتها و يملكان عليها مشاعرها، فهي شديدة التعالي و الكبرياء إلى درجة لا تطاق، و كذالك أختي، لاعتقادهما انه ليس هناك من بين مخلوقات الله من توازيهما حسبا و نسبا و منزلة، و كما تعلمين أن أمي تسعى تارة إلى تزويجي من ابنة أختها التي لا تلاءم نفسي، و أخرى من ابنة أخيها تلك الفتاة اللعوب التي تشبه الغانيات، ثم تقاليد البلاد لا تسوغ لي أن اذهب بنفسي و اطرق باب الفتاة طالبا يدها كما تقولين ".
فحنت عليه و حسبت للصدمة في نفسه ألف حساب لو اعرضت الفتاة عنه و ابت ان تتخذه زوجا لها.
و كانت سعاد ترى في ابن عمها الشهامة و النبل و كمال الرجولة و حميتها، و تمنت ان تجمعه الصدفة بالفتاة عسى ان تصيب مزاياه هذه هوى من نفسها كما فعلت به، فليس شيء بين عجائب الدنيا يفوق الحب في معجزته و لا غلبة لسلطانها. و مر بذهنها في تلك اللحظة خاطر ارتاحت اليه و قالت: " ليس لك الا العم حامد فهو بمثابة اب الفتاة و اخ لامها، فامض اليه في متجره، و اطلب شراء لوحة من لوحاتها، و لترى بعد ذلك ما يكون من امر ".
ابرقت اساريره و قال: " ساذهب اليه في الحال".
تحميل من هنا
https://books.google.dz/books?id=3-tf…ed=0CDEQ6AEwAA
باش تقراها لازم ادوب ريدي
راها بصيغةBIBTEX
https://www.file-extension.com/files/BIBTEX/
لقصة جميلة من جميع النواحي المعنى و المبنى
السلام عليكم ورحمه الله
ام هاله
انا ابحث عن هذه الرواية ولم افهم كيفية التحميل كما قلتي بصيغت bibtex
ان امكن تحميلها وتعطيني رابط وربي يجازيك
قصة في قمة الروعة
انها جميلة جدا