تخطى إلى المحتوى

الغرب الجزائري 2024.

المستوى اللّغوي في لهجة الغرب الجزائري
فاطمة داود
جامعة مستغانم

لقد طرحت مسألة العربية الفصحى ومسألة العامية كظاهرة لغوية وجب النظر فيها عند كل متكلم بها ذلك لأن هذا المتحدّث هو في انتقال إلزامي ودائم بين الفصحى والعامية في معظم شؤون الحياة الّتي يعبر فيها عن نفسه بواسطة اللّغة. وتعتبر اللّغة العربية هي اللّغة الرسمية(1 ) والوطنية في كل العالم العربي؛ فهي لغة التعليم والدين، وهي لغة وضعت لتقرأ أو تلقى أو تحفظ، أمّا العامية فهي اللّغة العفوية التي يستعملها الناطق بالعربية في محادثاته اليومية، ولعلّ كل واحد منا ينساق بعفوية إلى استعمال العامية التي تعود عليها وارتاح لها في سائر حياته بعيدا عن الإطار الرسمي.
ولا شك أنّ العامية ليست كالفصحى، فالعربية لا يعرفها إلاّ من عرف مستواها الكتابي أو تلقاها من خلال السّمع والحفظ. فلا ريب إذا قلنا إن هناك تمازجا، تفاعلا بينهما يؤدي إلى تمازج في المستوى الصوتي والمفرداتي والنحوي والدلالي، وعليه فليست العامية أو اللّهجة انحطاطا للفصحى، كما يرى البعض ولابد أن نفهم الازدواجية اللّغوية في نفس كلّ متكلم عربي. كما أنّه يصعب التمييز بين اللّهجة واللّغة في كثير من اللّغات العالمية. ومن العجيب أنّ بعض الباحثين جعل اللّهجة السعودية واللّهجة المغربية لغتين مستقلتين لا لهجتين من لهجات العربية الفصحى(2 ) ويبقى ذلك معيارا لغويا قابلا لتصارع الآراء.
وقبل أن نلج في موضوع المداخل نتعرض لمصطلح اللّهجة الّذي تواردت معه مصطلحات أخرى مثل العامية، الدارجة، اللّحن، اللكنة، العربية الهجين وقد تداول الجاحظ بعضها منذ القديم.
اللّهجة:
في اشتقاق لفظ "لهجة" من لهج الفصيل يلْهج أمّه؛ إذا تناول ضرع أمّه يمتصه وأيضا إذا اعتاد رضاعها، ولهج بالأمر لهجا ولهوج وألهج يعني أولع به واعتاده واللّهج بالشيء؛ الولوع به( 3). فهذا الأصل الاشتقاقي يحمل علاقة وثيقة بلفظ "لهجة" "Dialect" والّتي نعني بها طريقة النطق الّتي يتبعها الإنسان، فاللّهجة هي لغة الإنسان الّتي جبل عليهاِِِِّّّّ واعتادها منذ النشأة.
كما يعرفها البعض بأنّها: "العادات الكلامية لمجموعة قليلة من مجموعة أكبر من النّاس تتكلم لغة واحدة"(4 ) وهذه العادة الكلامية تكون صوتية، أو هي طريقة معينة في الاستعمال اللّغوي توجد في بيئة خاصة من بيئات اللّغة( 5). ولو ذهبنا نتفحص نظرة القدامى لهذه الكلمة ومدلولها نجدها تعني عند ابن جني والقالي وغيرهم من علماء اللّغة ويقصد بها لغات القبائل، وقد نظر هؤلاء إلى العامية بأنها لغة رديئة ركيكة أفسدت على النّاس تفكيرهم اللّغوي، وشاع أيضا مصطلح اللّحن واللّكنة وغيرهم ممّا يرونه يعيب الفصحى.
ومن المحدثين أيضا من عرّفها بأنها سلوك لغوي أو علم لغوي، وهذا التعريف يؤكد ما لهذه اللّهجة من مميزات لغوية، من نظام صوتي خاص، ونظام مفرداتي وتركيبي، فليس من الغريب أن نتناول المستوى اللّغوي للّهجة من اللّهجات وعلاقتها بالفصحى اختلافا وائتلافا، فكل لغة مشتركة تعيش بجوارها لهجة محلية ولهذا تتداخل في الفصحى وتصبح العامية هي الأقوى عند الكثرة الكثيرة من النّاس( 6).
التنوع اللّغوي واللّهجات في الجزائر:
لقد عرفت الجزائر اللّغة العربية بقدوم الفتح الإسلامي إلى شمال إفريقيا وكانت البربرية اللهجة السائدة، ولمّا دخل البربر الإسلام واختلطوا باللّغة الفاتحة، لغة الدّين والتعامل، فمن الطبيعي أن ينال هذه اللّهجة شيء من التغيير والتحريف لأنّ ألسنتهم لم تتعود على أصوات العربية وطرائق النطق والتعبير بها، وقد تعدى هذا الانحراف إلى العرب أنفسهم الذين تأثروا بها، فإذا عربيتهم يشوبها التحريف واستحال مع مرور الزمن إلى لون لغوي خاص متميز في نطاق العربية الواسع.
يقول ابن جني: "أعلم أنّ العرب تختلف أحوالهم في تلقي الواحد منها لغة غيره، فمنهم من يحف ويسرع فيقول ما يسمع، ومنهم من يستعصم فيقيم على لغته البتة، ومنهم من إذا طال تكرار لغة غيره عليه ألصقت به ووجدت في كلامه"(7 ) وهذا ما حدث في لغة الجزائري من تأثير وتأثر بين العرب والبربر. وقد شهدت الجزائر في عصور ما قبل التاريخ، عدة غزاة، من رومان، ووندال، وبيزنطيين، وكان لهذا الأثر على سكان الجزائر، كما شهدت وجود الفينيقيين وخير دليل على ذلك المعالم والآثار الموجودة إلى يومنا هذا بأسمائها: "تيمقاد، أوراس، فتيمقاد تعني في اللّغة الليبية القديمة المدينة"( ). وقد استمرت اللهجات البربرية أو المتنوعة: من قبائلية صغرى وكبرى وشاوية وترقية وزناتية وميزابية… كجزء من شخصية الجزائر وما تزال تحتفظ بألفاظ ودلالات تعود إلى ما قبل الميلاد.
يقول المقدسي الرحالة العربي (ت 380 هـ): عندما نزل بالمغرب في القرن الرابع الهجري: "وفي المغرب الأفريقي عامة لغتهم عربية غير أنها منغلقة مخالفة لما ذكرنا في الأقاليم ولهم لسان آخر يقارب الرومي"( 9 ).
يذكر لنا المقدسي لهجة المغرب والأندلس، أنّها لغة منغلقة مخالفة لبقية الأقاليم التي زارها، ونعتها بأنها ركيكة وهي تقارب لسان الروم، ولم يفهم لسان البربر. كما لا ننس الأثر الواضح الذي بصمه الاستعمار الإسباني في سواحل الغرب الجزائري، والاستعمار الفرنسي في لهجتنا الجزائرية. ورغم الصراع والمقاومة لردّ سياسة فرنسا في محو الشخصية من تقاليد ودين ولغة إلاّ أنّه نجح على مدى عدة أجيال في جعل الجزائريين يتعاملون في حياتهم اليومية باللّغة الفرنسية، وذلك لأسباب عديدة؛ تجعل التعليم مقتصرا على الفرنسية وحدها، وطول مدة الاستعمار، وعدم وجود نهضة حديثة كما حدث في المشرق. فسادت بذلك اللّهجات المحلّية مع الفرنسية كلغة مشتركة وكانت هذه سياسة فرنسا اللّغوية.
ولذلك استمت اللّهجة الجزائرية بالدخيل الفرنسي، واستعمال كلمات أجنبية من بقايا الفرنسية التي مازالت حيّة في عاميتنا، وسنثبتها في المستوى الدلالي. وعملية التأثر شملت أيضا حتّى اللّغة الفرنسية وكثيرا من اللّغات العالمية التي تأثرت بالسامية، فقد قدم "بيار جيرو"( 10) قائمة طويلة من كلمات عربية دخلت الفرنسية في عصور مختلفة. مع إقامة الدليل العلمي في المعاجم الفرنسية. كما أنّ للتجاور المكاني دوره في التبادل الثقافي بين الشعوب المتجاورة، وما يتركه ذلك من آثار في لغاتهم فلا تلبث أن تصبح ظواهر لغوية تميّز إقليما تمييزا لغويا عن غيره، وتأخذ دور الاقتراض اللّغوي( 11) الّذي يتجاوز الألفاظ إلى الصيغ والتراكيب. وبهذا وصف سوسير اللّهجة الواحدة بالتميز والتفرد حيث يقول: "ولكل لغة لهجاتها وليس لواحدة منها السيادة على الأخريات وهي في العادة متفرقة مختلفة"( .
المستوى اللّغوي في اللّهجة الجزائرية:
سأحاول في هذا المستوى أن أبين الظواهر اللّهجية وعلاقته بالفصحى، وبالدخيل الفرنسي أو الإسباني أو التركي وغيره باعتبار أنّ العامية هي لغة قائمة بذاتها؛ بنظامها الصوتي، والصرفي والتركيبي والدلالي وقدرتها على التعبير.
أ – المستوى الصوتي:
الإبدال: ويتجلى في الاختلافات الّتي تبدو من تغيّر الأصوات، فتختلف بنية الكلمة ومعناها عن طريق ما يسمى بالإبدال "وهو جعل حرف مكان حرف آخر مع إبقاء سائر أحرف الكلمة"(13 )، ويشترط فيه أن يتقارب الصوتان مخرجا أو صفة(14 ) أي في المخرج أو يتحد في الصفة ماعدا الأطباق (سراط – صراط) وهو ظاهرة تكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين اللّغات.
الصوامت: أصوات لغتنا نوعان، صامتة وصائتة وهي تختلف نطقا وسمعا وهي غالبا ما يصيب التغيير كلا النوعين، فالصامت تتغير بإحلال صوت محل صوت آخر يشبهه في المخرج، كنطق الذال دالا في لهجتنا، وكثير من اللّهجات العربية.
أمّا الصوائت فتتغير بتحويل الصائت القصير إلى صائت طويل أو العكس أو إبدال الفتحة بكسرة وهذا يندرج ضمن الإمالة.
الإبدال بين السين والصاد والزاي والصاد، وبين القاف والكاف والجيم القاهرية؛ أما الجيم المعطشة فهي تنطق من وسط اللّسان بينه وبين وسط الحنك( 15). وهناك جيم بين الشدّة والرخاوة، والجيم الخالصة الرخاوة وهي المعطشة وكلاهما من وسط الحلق وهي كثيرة الاستعمال لهجة الغرب والشرق وهي مثل "J" في الفرنسي.
إبدال الهمزة ياء، ويسمّى في "اللّغة بالهمز والهت والضغط والنبر"(16 ). وإبدال الهمزة عينا والعين همزة، وهي ما تسمى بالعثعنة؛ عندما تبدل الهمزة عينا: قرآن يقال في عاميتنا "قرعان"؛ آذان – عذان. وحرف العين هو حرف حلقي، متوسط بين الشدة والرخاوة عند سيبويه، وهو صوت حلقي احتكاكي مجهور عند المحدثين(17 ). كما تنطق العين الهمزة خاصة في الألقاب تماثلا مع اللّغة الفرنسية.
إبدال الهمزة واوا أو فاء والميم باء، والذال والظاء والضاد دالا: ومثال على ذلك: هذا – هدا، بيض – بيد، ظلمة – دلمة. وقع الإبدال بينهما من الناحية الصوتية؛ فالدال صوت سني انفجاري، والذال تنطق بين الثنايا، وهو احتكاكي مجهور، ويشتركان في الانفجار( 18). كما أن الظاء تخرج من الثنايا وهو حرف إطباق؛ أي تقعر اللّسان إلى أسفل في مقابل الحنك الأعلى فيحدث رنين أو تفخيم( 19)، والضاد إطباقي أيضا، وتكاد الذال لا تنطق في عاميتنا مع الظاء والضاد، فكأننا ننطق الدال مفخمة في ضرب وضوء.
إبدال الثاء تاء، والقاف همزة؛ والكاف شينا وتسمى بالشنشنة حيث جعل الكاف شينا أو الهاء شينا، وهنا يتعلق الأمر بالوظيفة النحوية في تركيب جملة النفي وهي كثيرة في اللهجة الخليجية وتستعمل للتفريق بين المذكر والمؤنث فتبدل الكاف شينا؛ كما تقلب الواو ياء أو العكس وهو تعاقب الواو مع الياء وتسمى بالمعاقبة أو الضمّة مع الكسرة بالنسبة للصوائت. كما تبدل لام التعريف ميما وتسمى بالطمطانية (أمبارح أي البارحة)، وتبدل الشين سينا.
الصوائت:
إنّ نطق الصوائت يقوم على شكل ممر الهواء المفتوح فيما فوق الحنجرة، فالصائت هو صوت مجهور لا يسمع له انفجار أو احتكاك(20 )، والصوائت هي الكسر والضم والفتح وهي قصيرة، والواو والياء والألف وهي طويلة وهي أصوات مدّ ولين أيضا، الكسر والضمّ؛ كسر حرف المضارعة. وفي المقاطع الممدودة في بعض الأفعال عند التصريف.
ب- المستوى الصرفي:
الأفعال: في الفعل الثلاثي المجرد: يكتب – يشرب، بالكسر والفتح، وبالضمّ في الأمر والماضي "رحت" – "روح" هذا بالنسبة للمبني للمعلوم، أمّا صيغة المبني للمجهول فلا توجد في لهجتنا. في التصريف لا توجد صيغة المثنى، كما أنّ الضمير "أنتما" يستعمل مع الفعل كالآتي: أنتما كتبوا وليس "أكتبا" للمثنى والجمع المذكر والمؤنث.
ج – المستوى النحوي:
المتتبع للمستوى النحوي في اللّهجات يجد صعوبة وذلك لوجود اختلافات بينها، ولكنّها اختلافات قليلة وخاصة في بناء الجملة، ولهذا لا يمكن أن نطلق كلمة نحو على هذه اللّهجة أو أخرى، إلاّ ما ورد من أبواب النحو المعروفة بصورة عامة.
إن أغلب ما ورد في اللهجة الجزائرية لا يخرج عن الكون العام للقاعدة النحوية العربية، فليس ثمّة خصائص للّهجة واضحة، ونلمس في تراكيب لهجتنا في غرب الجزائر أنّها تشترك مع معظم مناطق الجزائر، وحتى بعض لهجات العربية.
د – المستوى الدلالي:
يتصل هذا المستوى بالألفاظ ودلالاتها، وتنوع معانيها من منطقة لأخرى، بل حتّى في المنطقة الواحدة، وقد نشأ عن هذا التنوع المشترك والمتضاد والترادف وعرف ذلك قديما في لغات القبائل، كما تتصف بعض الألفاظ بالانتقال أو المجاز في معناها تخصيصا أو اتساعا. ومن ألفاظ العامية الجزائرية ما نجد أصوله عربية فصحى، أو من الدخيل إسباني أو فرنسي أو تركي، أو غيرها من اللغات. وقد حصرنا بعض من هذه الألفاظ بين أسماء وأفعال وصفات والّتي شاعت على لسان الجزائري في منطقة الغرب خاصة وقد تكون مشتركة في كل مناطق الجزائر( 21).
وهناك عدد لا حصر له من الدخيل في لهجتنا إلى درجة أن أهل المشرق يعتبرون لهجتنا فرنسية أكثر منها عربية لشدة ورود هذه الكلمات في تكلمات العامية. فلهجتنا جزء من الفصحى وإن دخلت عليها أصول لهجية ولغوية قديمة أو حديثة، فهي تشكل جانبا جديرا بالنظر والدراسة.

شكرا لك ماشاء الله

بارك الله فيك موضوع قيم ورائع ومفيد شكرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.