كثيرٌ من الناس يعتمد على الحظَّ، ويأمل فيه، كي يحقِّق شيئا ذا بال في حياته؛
وكثيرٌ من الناس لا يؤمن البتة بالحظ، ويعتقد أنَّ العمل والعمل وحدَه هو السبيل للوصول إلى المبتغَى؛
وكثرة أخرى من الناس تجعل التوفيقَ الربـَّاني هو السرُّ الوحيد لبلوغ المراد.
فأيُّ مِن هذه الفرق أهدى سبيلا، وأصدق قولاً؟
بدايةً، يجب أن نفُكَّ التعارضَ الموهومَ بين هذه الأسباب الثلاثة؛ فليست الواحدة منها بالضرورة بديلةً عن الأخرى؛ ومن ذلك أنَّ توفيق الله للعبد ميسِّر لسبلِ العمل، وهداية إلى العمل الصالح المتقبَّل، قال تعالى: "والذين اهتدوا زادهم هدى، وآتاهم تقواهم"، كما أنَّ العمل الصالح مِدعاة للتوفيق ومقدّمة له. فالتوفيق إذن لا يلغي العمل، والعمل بالتَّبع لا ينفي التوفيق.
ومن جهة أخرى، ثمة علاقة عضوية بين الحظ والعمل؛ يقول ستيفن ليكُوك:" أنا مؤمن جدًّا بالحظ. وكلما زاد كدِّي في عملي زاد حظِّي". فهو بهذا يجمع بين الحظِّ والعمل، ويعتبرهما متلازمين ومقترنين، فلا عمل بلا حظٍّ، ولا حظَّ بلا عمل.
ويعجبني في هذا المقام عالـِم لا يُعرف كثيراً، رغم أنه حقَّق الكثير في تاريخ علم الفلك، إذْ مكتشف الكوكب السابع في النظام الشمسيِّ، أي الكوكب المسمَّى بأورانيوس، وذلك سنة 1781 للميلاد؛ وله مع ذلك العديد من الاختراعات في مجال صناعة المقاريب، والصناعات الفلكية، وفي الموسيقى..وغير ذلك.
إنـَّه ويليام هيرشل، الألمانيُّ الأصل، مِن مدينة هانوفر؛ الذي تدرَّب على الرؤية كما تدَّرب مِن قبل على السماع، فكان إضافة إلى الموسيقى فنانا في ترقب السماوات؛ وهو القائل في ذلك:
"الرؤية هي بوجه من الوجوه، فنٌّ يجب تعلُّمه. لقد قضيتُ اللياليَ الطوال في التمرُّن على الرؤية، وسيكون من الغريب أن لا أكتسب حذقاً وبراعة نتيجة هذا التمرُّن المستمر"؛ وهو بهذا يجعل العمل والتمرُّن والمجاهدة مفتاحًا للتفوق والإبداع والابتكار، بل هما متلازمان تلازماً تاما؛ فلا عمل بلا ثمرة، ولا ثمرة بلا عمل.
ويوم اكتشف أورانيوس، وسجَّل اسمه بماء الذهب في تاريخ العلم عموماً، وعلم الفلك بالخصوص، انقسم العالَم إلى معجب وحاسدٍ، وكثرُ القيل والقال عن هذه الثورة العلمية العجيبة؛ يومها أصدر مقولة لا تقل أهمية عن اكتشافه الفلكي، فقال: "لقد افتُرض عموما أنَّ الحظَّ السعيد هو الذي جلب هذا النجم إلى ساحة رؤيتي؛ هذا خطأ واضح. كنتُ أقوم بانتظام بفحص كلِّ نجم في السماء، ولم أكن أقتصر على تلك النجوم التي لها هذا القدر من السطوع، بل كنتُ أتعدَّاها إلى النجوم التي أقدارها أصغر بكثير. في تلك الليلة جاء دوره ليُكتشف. كنت أتصفَّح تدريجيا المجلد العظيم الذي ألًّفه خالق الطبيعة، ووصلتُ الآن إلى الصفحة التي كانت تحوي الكوكب السابع. ولو حال انشغالي في تلك الليلة دون العثور عليه، لعثرت عليه في الليلة التي تليها".
لاحظ معي، أنًّ العمل مجلَبة للتوفيق، وأن التوفيق كان فتحٌ للحظ، وأنَّ الحظ حليف العامل المثابر، وأنًّ التوفيق هدية لا تخطىء العامل الصابر؛ فالذي نعدمه اليومَ ليس هو اكتشاف نجم أو كوكب أو أي شيء آخر؛ وإنما هو العمل الدؤوب المنظَّم الذي لا ينقطع؛ أمَّا النتيجة والثمرة فهما متلازمتان تلازم السبب للمسبب؛ ولعلَّ هذا يفسِّره قوله الله جل وعلا، عن ذي القرنين، الذي ما دخل بلدا إلاًّ وأحاله إلى حضارة وحركية، وما ذلك إلاَّ أنَّ الله تعالى آتاه من كلِّ شيء سببًا "فاتبع سببا"، أو "فأتبع سببا"؛ ثم لم يخرق منظومة الأسباب، ولم يحلم بالثمرة دون شجرة، ولا بالشجرة دون جذور، ولا بالجذور دون تربة وماء وهواء… إنها، إذن حكمة الله تعالى: "إنًّ الله لا يضيع أجر من أحسن عملا"، وهو الذي لا يضِيع عمل عامل منا مهما كان انتماؤه وعصره ومصره "كلاًّ نُمدُّ، هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك، وما كان عطاء ربك محظورا".
هل أنت أخي من العاملين؟
إن لم تكن، فلا تحلم بتوفيقٍ ولا حظ؛ وإن كنته فتيقَّن أنَّ توفيق الله سيكون حليفك، وأنَّ الحظَّ السعيد سيفتح أبواب الخيرات أمام ناظريك… فأبشر، وزغرد، وانتظر…. فما أحلى كلَّ ذلك بعد العمل، والجهاد، والهجرة.
……الاثنين, 25 يوليو 2024 14:26 د. محمد بن موسى ….. الموضوع منقول ………