أما بعد:
أولا الحمد لله على أن بلغنا شهر رمضان وأذن لنا بصيامه وقيامه نسأله سبحانه أن يجعلنا ممن صامه إيمانا واحتسابا ..
ثانيا أتقدم بالشكر إلى القائمين على هذه الطبعة "عبقات وقطوف رمضانية " من مشرفين وأعضاء مشاركين فبارك الله فيكم وجعل ما تقدمونه في ميزان الحسنات ..
وبعد:
ففي هذه الأيام المباركة يحل علينا ضيف عظيم وشهر كريم، يهلُّ علينا هلاله، وهو شهر الصيام والقيام وتلاوة القرآن، أوجب الله تعالى صيامه، وشرع لنا نبينا صلى الله عليه وسلم عند رؤية هلاله وهلال كلِّ الشهور أن نذكر الله بذكر فيه بيان عظمة الرب الذي سخر لنا هذه الأهلَّة ومنازلها لنعرف أوقات زماننا فنعرف وقت حجنا وصيامنا وانقضاء شهورنا، وقد قال الله تعالى في بيان فوائد الأهلة: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾.
أي يسألونك يا محمد عن الأهلة ومحاقها وتمامها واستوائها، وتغير أحوالها بزيادة ونُقصان واستسرارها، وما المعنى الذي خَالف بينه وبين الشمس التي هي دائمة أبدًا على حال واحدة لا تتغير بزيادة ولا نقصان؟ – فقلْ يا محمد: خالف بين ذلك ربُّكم لتصييره الأهلة التي سألتم عن أمرها مواقيتَ لكم ولغيركم من بني آدم في معايشهم، ترقبون بزيادتها ونقصانها ومحاقِها واستسرارها وإهلالكم إياها، أوقات حَلّ ديونكم، وانقضاء مدة إجارة من استأجرتموه، وتصرُّم عدة نسائكم، ووقت صومكم وإفطاركم وحجِّكم، فجعلها مواقيت للناس.
فالقمر والهلال الذي جعله الله ميقاتا للناس من أعظم الأدلة التي دلَّت على عظمة هذا الخالق سبحانه وكمال قدرته ، يقول ابن القيم رحمه الله: «وانظر إلى القمر وعجائب آياته، كيف يُبديه الله كالخيط الدَّقيق، ثم يتزايد نورُه ويتكامل شيئاً فشيئاً كلَّ ليلة حتى ينتهي إلى إبداره وكماله وتمامه، ثمَّ يأخذ في النقصان حتى يعود على حالته الأولى؛ ليظهر من ذلك مواقيتُ العباد في معاشهم وعباداتهم ومناسكهم، فتميَّزت به الأشهر والسنون، وقام به حسابُ العالم مع ما في ذلك من الحكَم والآيات والعبر التي لا يُحصيها إلاَّ الله». اهـ.
وقد عدَّ الله في القرآن الكريم هذا ضمن آياته العظام وبراهينه الجسام، يقول الله تعالى: ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُون وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيم وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيم لاَ الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُون﴾.
وقوله: ﴿وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ﴾ أي: يَنْزِلُها، كلَّ ليلة ينْزل منها واحدة، إلى أن يصغر جدًّا فيكون كالعرجون القديم، أي: كعذقة النخل إذا قدم وجفَّ وصغر حجمه وانحنى، ثمَّ يُهلُّ في أول الشهر ويبدأ يزيد شيئاً فشيئاً حتَّى يتمَّ نورُه ويتسق ضياؤه، فما أعظمها من آية، وما أوضحها من دلالة على عظمة الخالق، وعظمة أوصافه سبحانه، ولا ريب أنَّ التَّأملَ في هذه الآية وغيرها مِمَّا دعا الله عباده في كتابه إلى التفكر فيها وتأمُّلها يهدي العبدَ إلى العلم بالربِّ سبحانه بوحدانيته وصفات كماله ونعوت جلاله من عموم قدرته وسعة علمه وكمال حكمته، وتعدد برِّه وإحسانه، ومن ثمَّ يُخلص الدِّينَ له ويُفردُه وحده بالذُّلِّ والخضوعِ والحبِّ والإنابة والخوف والرجاء، فهي دلائلُ ظاهرة وبراهينُ واضحة على تفرُّد الله بالربوبية والألوهية والعظمة والكبرياء.
وأما الذكر الذي حث عليه نبينا صلى الله عليه وسلم أن نقوله عند رؤية هلال رمضان وغيره من الشهور هو ما أخرجه الترمذي عن طلحة رضي الله عنه: أَنَّ النَبِيَّ صلى الله عليه وسلم كَانَ إِذا رَأَى الهِلاَلَ قَالَ: «اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِاليُمْنِ وَالإِيمَانِ، وَالسَّلاَمَةِ وَالإِسْلاَمِ، رَبِيَ وَرَبُّكَ اللهُ».
فقوله: «إذا رأى الهلال» الهلال هو طلعة القمر لليلتين أو لثلاث، وفي غير ذلك يُقال له قمر.
وقوله: «أهلَّه علين» أي أطلعه علينا، وأرنا إيَّاه.
وقوله: «باليُمن والإيمان» واليمن هو السعادة، وفي رواية أخرى (بالأمنُ) والأمن هو الطمأنينة والراحة والسكون والسلامة من الآفات والشرور.
والإيمان هو الإقرار والتصديق والخضوع لله، وهو الإيمان بالله وكتبه وملائكته ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره.
والإيمان بالله هو الإيمان والإقرار بوجوده وتفرده بالخلق والرَّزق والإماتة والإحياء والتصرف في الكون وأنه لا شريك له في ذلك.
والإيمان بأنه المستحق بالعبادة المتفرد بالألوهية فلا يُعبد إلا هو ولا يصلى ولا يُسجد إلا له، ولا يُذبح ويُنذر إلا له سبحانه.
والإيمان بأن له الأسماء الحسنى والصفات العلى ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
والإيمان بملائكته وأنهم خلق من خلقه خلقهم من نور، وهم ذوو أجنحة، وعدد كثير لا يعلم عددهم إلا هو سبحانه.
والملائكةُ منهم الموكَّلون بالوحي، والموكَّلون بالقَطر، والموكَّلون بالموت، والموكَّلون بالأرحام، والموكَّلون بالحفظ، والمُوكَّلون بالجنَّة، والمُوكَّلون بالنار، والمُوكَّلون بغير ذلك، وكلُّهم مستسلمون منقادون لأمر الله، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يُؤمَرون.
والإيمان بالكتب المنزلة على أنبياء الله، كصحف إبراهيم والتوراة والإنجيل، والقرآن وأنه كلام الله تعالى.
والإيمان بالرسل والأنبياء، وما أخبر الله عنهم في كتابه، أولهم آدم وآخرهم محمد صلى الله عليه وسلم فتجب محبتهم ومحبة نبينا ويجب اتباعه والعمل بما شرع، فمحبته محبة لله عز وجل واتباعه هو تباع الله عز وجل.
والإيمان بالقدر خيره وشره، وأنه ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وكلُّ شيءٍ لا يخرج عن قضاء الله وقدره وخلقه وإيجاده.
وقوله: «والسلامة والإسلام» السلامة هي الوقاية والنجاة من الآفات والمصائب، والإسلام هو الاستسلام لله والانقياد لشرعه.
وجاء تفسير الإسلام في حديث جبريل الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه من حديث عمر، قال: والإسلام أن تشهدَ أن لا إله إلا الله وأنَّ محمداً رسولُ الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحجَّ البيتَ إن استطعت إليه سبيل.
ثم قال في آخر الحديث: أي حديث رؤية الهلال: «ربِّي وربُّك الله» ففيه بيان أنَّ الكلَّ مربوب مخلوق لهذا الرب العظيم، الذي لا يستحق العبادة والإنابة والخضوع إلا هو سبحانه، لا أكبر المخلوقات كالسموات والأرض والشمس والقمر، ولا أحقرها وأصغرها كالإنسان الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا فكيف يملكه لغيره من بني جنسه، وفي هذا ردٌّ على مَن عبد أحداً من المخلوقات من دون الله ﴿ومن آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لاَ تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُون﴾.
ثمَّ إنَّ الحديثَ فيه فوائد كثيرة أشير إلى شيء منها، فمنها أنَّ فيه بياناً للفرق بين الإيمان والإسلام وأنَّهما ليسا شيئاً واحداً عندما يجتمعان في الذِّكر، بل لكلِّ واحد منهما معنى خاص، فالإيمان يُراد به الاعتقادات الباطنة، والإسلام يُراد به الأعمال الظاهرة، أمَّا عند إفراد كلِّ واحد منهما بالذِّكر فإنَّه يكون متناولاً لمعنى الآخر.
وفيه أنَّ الأمنَ مرتبطٌ بالإيمان، والسلامةَ مرتبطةٌ بالإسلام، فالإيمان طريق الأمن والأمان، والإسلام طريق السلامة، ومن رام الأمن والسلامة بغيرهما ضلَّ، والله تعالى يقول: ﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُون﴾، وما نراه اليوم ونلمسه من انعدام الأمن في كثير من بلدان المسلمين فضلا عن بلاد الكفرة والملحدين سببه البعد عن الله وعن دينه الذي فرضه على عباده، وأوجب عليهم اتباعه والعمل به وتحكيمه في أنفسهم قبل كل شيء، ثم فيمن جعلهم الله تحت ولايتهم، فلا بد من صدق الرجوع إلى الله حتى يرفع ما حلَّ بالمسلمين من بلاء ومحن ومصائب وإحن، قال صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تدعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، فقال قائل: يا رسول الله وما الوهن؟ قال حب الدنيا وكراهية الموت».
فهذا سبب من أسباب المحن التي حلت بالأمة الإسلامية، حب الدنيا وكراهية الموت، وحب الدنيا يجر إلى ارتكاب المحرمات وتحليلها، وترك الواجبات والتنفير منها، وفي حديث آخر قال عليه الصلاة والسلام: «إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم أذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلا لاينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم».
فترك المأمور واجتناب المحظور يؤدي إلى تسليط الكافر وتسليط الذل والمهانة والانتكاس، والدواء هو الرجوع إلى الله والفرار إليه، ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِين﴾، ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون﴾.
ومن فوائد الحديث أنَّ فيه لفتةً كريمةً إلى أنَّ أهمَّ ما تُشغل به الشهور وتُمضى فيه الأوقات هو الإيمانُ بالله وبما أمر عباده بالإيمان به، والاستسلامُ له سبحانه في كلِّ أحكامه وجميع أوامره.
قال ابن القيم رحمه الله: « السَّنَةُ شجرة، والشهورُ فروعها، والأيامُ أغصانها، والساعات أوراقها، والأنفاس ثمرها، فمن كانت أنفاسه في طاعة فثمرة شجرته طيبة، ومن كانت في معصية فثمرته حنظل، وإنَّما يكون الجَذَاذ يوم المعاد، فعند الجَذاذ يتبيَّن حلوُ الثمار من مُرِّها ». اهـ.
وأعظم الشهور مرورا على الإنسان هو شهر رمضان المبارك، شهر النفحات والخيرات وإقالة العثرات، يستوجب من العبد القيام بحقه من صيام وقيام وقراءة القرآن، وبر وإحسان وصدقة على الفقراء والمحتاجين، الذين هم في أشد الحاجة إلى من يعنيهم على صيام الشهر حتى لا يشغلهم طلب الرزق والسعي وراءهم عن عبادة ربهم في هذا الشهر الكريم، والعبد مطالبٌ بأن يكون في هذا الشهر العظيم من المحسنين الكرماء، اقتداء بخير الخلق عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم، فقد كان أجود الناس على الإطلاق، وكان أجود ما يكون في رمضان، روى الإمام البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسُه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة».
ففي الحديث بيان أن َّ سبب جوده وكرمه عليه الصلاة والسلام ناتج عن كثرة مدارسة القرآن؛ وذلك أنَّ القرآنَ خلقُه صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها، يأتمر بأوامره، ويجتنب نواهيه. فمدارسته له تجدِّد له العهد بمزيد غنى النفس، فإذا حصلت في رمضان وهو موسم الخيرات وفيه أنزل الله القرآن، والنازل به جبريل، فهذا كله من دواعي زيادة جوده وكرمه صلى الله عليه وسلم، فمَن رام زيادة جوده في هذا الشهر فعليه بكثرة ذكر الله تعالى وتلاوة كلامه وتدبره، والعمل بما أمر به وترك زواجره، يوفقه ربُّه للخيرات، ويفتح عليه من البركات.
ورحم الله الإمام محمد البشير الإبراهيمي إذ يقول: « إن رمضان يحرك النفوس إلى الخير، ويُسكنها عن الشر، فتكون أجود بالخير من الريح المرسلة، وأبعد عن الشر من الطفولة البلهاء، ويطلقخها من أسْر العادات، ويُحررها من رق الشهوات، ويجتثُّ منها فساد الطباع ورعونة الغرائز، ويطوف عليها في أيامه بمحكمات الصبر ومثبَّتات العزيمة، وفي لياليه بأسباب الاتصال بالله والقُرب منه ».
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم التوفيق لمرضاته، واغتنام أوقات الخير بالذكر والتوبة والإنابة والاستغفار، وأن يتقبل منا شهر الصيام والقيام، وأن يرفع ما حلَّ بهذه الأمة من هموم وغموم، وبلاء ومحن، إنه سميع مجيب، والحمد لله رب العالمين.
فاعلم ـ أيّها القارئ الكريم ـ أنّه يجب عليك أوّلا أن تبيّت نيّة صوم رمضان ليلا قبل الفجر؛ لما روته حفصة زوج النبيّ صلى الله عليه وسلّم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: «من لم يُجْمِعْ الصيام قبل الفجر، فلا صيام له »(1).
والنية هي عقد القلب، ولهذا لا يشترط التلفّظ بها، بل هو بدعة محدثة.
ومن لم يتبيّن له وجوب الصوم إلاّ في النهار، فليمسك بقيّة يومه، ولا قضاء عليه لحديث سلمة بن الأكوع قال: «أمر النبي صلى الله عليه وسلّم رجلا من أسلم أن أذِّن في الناس أنّ من أكل فليصم بقيّة يومه، ومن لم يكن أكل فليصم فإنّ اليوم يوم عاشوراء»(2).
ويجوز لك استعمال السواك مطلقا لا فرق بين أوّل النهار وآخره لعموم قوله صلى الله عليه وسلّم : «لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كلّ صلاة»(3).
ويلحق به استعمال معجون الأسنان شريطة أن لا يبتلعه.
ويباح لك المضمضة والاستنشاق، إلا أنّه تكره المبالغة فيهما لحديث لقيط بن صبْرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «بالغ في الاستنشاق إلاّ أن تكون صائما»(4).
وإن تمضمض أو استنشق في الطهارة فسبق الماء إلى حلقه من غير قصد ولا إسراف فصومه صحيح ولا قضاء عليه.
ويلحق بالنهي عن المبالغة في الاستنشاق استعمال السعوط (وهو دواء الأنف)، فلا يجوز استعماله في نهار رمضان، بل إنّ استعماله يفسد صومه ويوجب القضاء.
ويجوز لك الانغماس والاغتسال في الماء نهار رمضان، مع التحرّز من دخول الماء إلى الجوف، لما ثبت عن بعض أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: «رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالعَرْج يصب على رأسه الماء وهو صائم من العطش أو من الحرّ»(5).
ومن تراجم البخاريّ في صحيحه (4/181 فتح): باب اغتسال الصائم، وبَلَّ ابنُ عمر رضي الله عنهما ثوباً فألقى عليه وهو صائم، ودخل الشعبي الحمّام وهو صائم، وقال الحسن: «لا بأس بالمضمضة والتبرّد للصائم». وقال أنس : «إنّ لي أبْزنَ أتقَحّم فيه وأنا صائم».
ويباح لك تذوق الطعام في نهار رمضان شريطة عدم ابتلاع شيء منه.
قال ابن عبّاس: «لا بأس أن يذوق الخلّ أو الشيء ما لم يدخل حلقه وهو صائم»(6).
ويباح لك استعمال الطيب والبخور الدهن قال ابن مسعود: «إذا كان صوم أحدكم فليصبح دهينا مترجلا»(7).
ويجوز لك الستعمال الكحل أو الإثمد سواء وجد أثره في الحلق أم لم يوجد، ويلحق به القطرة ونحوها (دواء العين).
عن أنس بن مالك أنّه كان يكتحل وهو صائم.
وعن الأعمش قال: «ما رأيت أحدًا من أصحابنا يكره الكحل للصائم، وكان إبراهيم يرخّص أن يكتحل الصائم بالصبر»(8).
ويباح لك ما لا يمكن الاحتراز عنه كبلع الريق، وشمّ غبار الطريق.
ولا يضرّك خروج الدم من الأنف كالرعاف أو من لثّة الأسنان عند الاستياك شريطة أن لا يبتلعه قصدًا.
والحجامة لا تفسد صومك على القول الصحيح من أقوال العلماء، ويلحق بها الفصد وهو إخراج الدم من العروق.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما: «أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم احتجم وهو صائم»(9).
ويجوز لك أن تقبّل امرأتك أو أن تباشرها في نهار رمضان.
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلّم يقبّل وهو صائم ويباشر وهو صائم، ولكنّه كان أملكَكُم لإِربِهِ»(10).
إلا أنّها تكره للشابّ لفرط شهوته، وخشية أن لا يملك نفسه.
لما روى عبد الله بن عمرو بن العاص قال: «كنّا عند النبيّ صلى الله عليه وسلّم فجاء شاب، فقال: يا رسول الله أقبّل وأنا صائم؟ قال: لا، فجاء شيخ فقال: أقبّل وأنا صائم؟ قال: نعم، قال فنظر بعضنا إلى بعض فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: إنّ الشيخ يملك نفسه»(11).
وإذا أكلت أو شربت في نهار رمضان ناسيا فصومك صحيح، ولا قضاء عليك ويلحق به من جامع أهله ناسيا، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "مجموع الفتاوى" (25 /228).
لما رواه أبو هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتمّ صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه»(12).
وإذا غلبك القيء فلا شيء عليك، لا فرق بين قليله وكثيره، وإذا تقيّأت متعمدا فسد صومك ووجب عليك قضاء ذلك اليوم.
لما رواه أبو هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «من ذرعه قيء وهو صائم، فليس عليه قضاء، وإن استقاء فليقض»(13).
ويباح لك استعمال الحقن التي لا تغذي، فإنّها لا تفطر، أمّا الحقن المغذّية التي يستغنى بها عن الأكل والشراب، فإنها تفسد الصوم، لأنّها بمعنى الأكل والشراب، لأنّ نصوص الشرع في مصادره وموارده إذا وجد المعنى الذي تشتمل عليه في صورة من الصور، حكم على هذه الصورة بحكم ذلك النصّ، وبهذا أفتى الشيخ العلاّمة ابن عثيمين كما في "فتاوى هيئة كبار العلماء" (1 /429)، واللّجنة الدائمة رقم الفتوى (5176) والشيخ الألباني رحمه الله في السلسلة الضعيفة (3 /80 تحت رقم الحديث: 1014).
ويجوز لك استعمال المضخة أو البخاخ (دواء الربو) ولا يفسد صومك، لأنّه هواء يصل إلى الرئتين عن طريق القصبة الهوائية، لا إلى المعدة فليس بأكل ولا شرب ولا في معناهما وبهذا أفتت اللجنة الدائمة رقم الفتوى (4958)، " فتاوى هيئة كبار العلماء" (1 /437) والشيخ ابن عثيمين كما في لقاء الباب المفتوح اللقاء الثامن، والشيخ الألباني رحمه الله فقد سألته شخصيا عبر الهاتف، وانظر: مجموع الفتاوى (25 /233-234).
وإذا احتلمت فلا شيء عليك، لا فرق بين أن تصبح جنبا أو يكون ذلك في نهار رمضان فعن عائشة وأمّ سلمة: «أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم كان يدركه الفجر وهو جنب من أهله، ثم يغتسل ويصوم»(14).
وإذا سافرت في نهار رمضان، فإن شقّ عليك الصوم فالأفضل أن تفطر، وإن لم يشقّ عليك فإن أخذت بالرخصة فحسن، وإن صمت فحسن أيضا، عن أبي سعيد الخذري قال: «كنّا نسافر مع رسول الله صلى الله عليه وسلّم فمنّا الصائم ومنّا المفطر، فلا يجد المفطر على الصائم، ولا الصائم على المفطر، وكانوا يرون أنّه من وجد قوّة فصام فحسن، ومن وجد ضعفا فأفطر فحسن»(15).
والحامل والمرضع إذا خافتا على ولديهما أو نفسيهما أفطرتا وأطعمتا عن كلّ يوم مسكينا.
عن ابن عبّاس قال: «إذا خافت الحامل على نفسها، والمرضع على ولدها في رمضان قال: يفطران ويطعمان مكان كلّ يوم مسكينا، ولا يقضيان صوما»(16).
وعن ابن عمر مثله(17).
وعنه: «أنّ امرأته سألته وهي حبلى، فقال: أفطري وأطعمي عن كلّ يوم مسكينا ولا تقضي»(18).
ولا يعلم لهما مخالف من الصحابة، فهو عند البعض إجماع سكوتيّ.
وإذا غاب جميع قرص الشمس فأفطر، ولا تعتبر بالحمرة الشديدة الباقية في الأفق لما رواه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا، وغربت الشمس فقد أفطر الصائم»(19).
وإذا أفطرت ظنا منك غروب الشمس لغيم أو نحوه، ثم تبين لك خلاف ذلك، فصومك صحيح ولا قضاء عليك، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في " مجموع الفتاوى" (20 /572) وابن القيم في "تهذيب السنن" (3 /236-239).
لما روته أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: «أفطرنا على عهد النبيّ صلى الله عليه وسلّم يوم غيم ثم طلعت الشمس»(20).
قال شيخ الإسلام : «ولم يذكروا في الحديث أنّهم أمروا بالقضاء، ولكنّ هشام بن عروة قال: لا بدّ من القضاء، وأبوه أعلم منه وكان يقول: لا قضاء عليهم».
وعن زيد بن أسلم: «أن عمر بن الخطّاب أفطر ذات يوم في رمضان في يوم ذي غيم، ورأى أنّه قد أمسى وغابت الشمس فجاءه رجل فقال: يا أمير المؤمنين، قد طلعت الشمس، فقال عمر: الخطب يسير، وقد اجتهدنا»(21).
قال ابن القيّم : «قوله: «وقد اجتهدنا» مؤذن بعدم القضاء، وقوله «الخطب يسير» إنَّما هو تَهوين لما فعلوه وتيسير لأمره».
وإذا تسحّرت وشككت في طلوع الفجر، فكل واشرب وأْتِ أهلك حتى تستيقن طلوعه، واطرح الشكّ.
قال رجل لابن عبّاس: «إنّي أتسحّر، فإذا شككت أمسكت»، فقال ابن عبّاس: «كل ما شككت، حتى لا تشكّ» . [ابن أبي شيبة (9075-9067 وعبد الرزّاق 7367 و 7368].
وإذا فعلت ذلك ثم تبين لك أن الفجر قد طلع فلا قضاء عليك ولا كفارة وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله انظر «مجموع الفتاوى» (25 /259-263).
وإذا كنت تأكل أو تشرب ثم سمعت النداء، فقد رخّص لك الشرع إتمام سحورك ولا شيء عليك، وعلى هذا تعلم بدعية ما يسمّى بالإمساك.
وهو الإمساك عن السحور قبيل الفجر، فإن قيل هذا من باب الاحتياط فيقال: الاحتياط في موافقة الشرع واتباع الهدي، وما عداه فتنطّع وتبدّع.
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «إذا سمع أحدكم النداء، والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي حاجته منه»(22).
وإذا طلع عليك الفجر وأنت مجامع، فيجب عليك النزع، ولا قضاء عليك ولا كفارة، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم.
انظر "مفتاح دار السعادة" (2 /354 علي الحلبي).
وإذا مرض المرء مرضا يرجى برؤه، ونصحه الطبيب الثقة الخبير لمهنته بأن يفطر، وأن الصيام يضرّه، لزمه الفطر، وعليه القضاء بعد الشفاء، فإن استمر به المرض وعجز عن الصوم ولم يُرجَ له الشفاء، فعليه أن يطعم عن كل يوم أفطره مسكينا.
وإذا مرض مرضا مزمنا لا يرجى برؤه كالربو أو السكّري ونحوهما فعليه أن يطعم عن كلّ يوم مسكينا.
والواجب في الفدية الإطعام كما قال تعالى: ﴿مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ﴾[المائدة: 89] ولا يجوز إخراجها قيمة أو نقودا.
وإذا كان عليك قضاء أيّام من رمضان، فإن شئت تابعت بينها، وإن شئت فرّقت لقوله تعالى: ﴿فَعِدَّةٌ مِنْ أيّامٍ أُخَرَ﴾[البقرة: 185].
وعن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عبّاس في قضاء رمضان: «صمه كيف شئت»، وقال ابن عمر : «صمه كما أفطرته»(23).
وعن أبي هريرة قال: «يواتره إن شاء»(24).
وإذا كان عليك قضاء رمضان فأخّرته عمدًا أو لعذر حتى دخل رمضان آخر فصم رمضان الذي ورد عليك ثم اقض بعده الأيّام التي عليك، ولا إطعام عليك لأنه لم يثبت بالنصّ، وهو اختيار الإمام الحجّة صاحب المحجّة ابن حزم في المحلّي (6 /261).
وإذا جامعت زوجك في نهار رمضان وجب عليك الكفارة على الترتيب، تحرير رقبة، فإن لم تستطع فصيام شهرين متتابعين، فإن لم تستطع فأطعم ستين مسكينا.
وإذا قطعت التتابع في الصوم لعذر شرعيّ كأن يتخلّل الشهرين يوم الفطر أو يوم النحر مرض أو حيض أو نفاس بالنسبة للمرأة، فلا تقطع التتابع الواجب.
وإذا عجزت عن العتق والصيام والإطعام سقطت الكفّارة عنك لقوله تعالى: ﴿لاَ يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعُهَا﴾[البقرة: 286].
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم إذ جاءه رجل فقال: يا رسول الله هلكت، قال: ما لك؟ قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: هل تجد رقبة تعتقها؟ قال : لا، قال: فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين؟ قال: لا، قال: فهل تجد إطعام ستين مسكينا؟ قال: لا، قال: فمكث النبيّ صلى الله عليه وسلّم فبينما هو على ذلك أتي النبيّ صلى الله عليه وسلّم بعرق فيه تمر، قال: من السائل؟ فقال: أنا قال: خذ هذا فتصدّق به، قال الرجل: على أفقر منّي يا رسول الله؟ فو الله ما بين لابتيها ـ يريد الحرّتين ـ أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبيّ حتى بدت أنيابه ثمّ قال: أطعمه أهلك»(25).
وإذا أتممت الصوم فاعلم أن الله تعالى أوجب عليك زكاة الفطر طهرة لك من اللّغو والرفث، وطعمة للمساكين، تؤديها عن نفسك وعن كلّ من تمونه من صغير وكبير، ذكر وأنثى، حر وعبد من المسلمين.
عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر صاعا من تمر، أو صاعا من شعير، على العبد والحرّ والذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين» (26) وتخرجها من الأقوات المنصوص عليها أو من أقوات أهل كلّ بلد مقدار صاع من صاع أهل المدينة.
عن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم أن نؤدّي زكاة رمضان صاعا من طعام عن الصغير والكبير والحرّ والمملوك من أدّى سلتا قبل منه وأحسبه قال: ومن أدى دقيقا قبل منه ومن أدّى سويقا قبل منه»(27).
وأما القمح فمقداره نصف صاع على الصحيح، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم رحمهما الله كما في زاد المعاد (2 /21).
لما رواه ثعلبة بن صعير قال: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلّم خطيبا، فأمر بصدقة الفطر صاع تمر، أو صاع شعير على كلّ رأس، أو صاع برّ أو قمح بين اثنين عن الصغير والكبير والحرّ والعبد»(28).
وعن عروة بن الزبير: «أنَّ أسماء بنت أبي بكر كانت تخرج على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أهلها الحر منهم والمملوك مدين من الحنطة أو صاعا من التمر بالمد أو بالصاع الذي يقتاتون به»(29).
ولا يجوز لك أن تخرجها بدل العين قيمة أو نقودًا في قول عامة أهل العلم قال أبو داود: قيل لأحمد وأنا أسمع: أعطي دراهم يعني في صدقة الفطر قال: أخاف أن لا يجزئه خلاف سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلّم.
وقال أبو طالب: قال لي أحمد: لا يعطي قيمته، قيل له: قوم يقولون عمر بن عبد العزيز كان يأخذ بالقيمة، قال: يدعون قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم ويقولون قال فلان! قال ابن عمر: فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وقال الله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وأَطِيعُوا الّرَّسُولَ﴾[النساء: 59]، وقال قوم يردّون السنن: قال فلان، قال فلان»(30).
ويجب عليك أن تصرفها للمساكين خاصة، ولا تصرفها لغيرهم من الأصناف الثمانية المنصوص عليهم في القرآن.
لما رواه ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: «فرض رسول الله صلى الله عليه وسلّم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللّغو والرفث، وطعمة للمساكين…»(31).
ويجب عليك أن تخرجها قبل صلاة العيد، ولا يجوز لك تأخيرها عن ذلك لحديث ابن عبّاس السابق: «من أدّاها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات».
ولحديث ابن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلّم أمر بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة»(32).
ويجوز لك أن تخرجها إلى من تجمع عنده بيوم أو يومين لما رواه نافع: «كان ابن عمر رضي الله عنهما يعطيها للذين يقبلونها، وكانوا يُعطون قبل الفطر بيوم أو يومين»(33).
وعنه أن عبد الله بن عمر كان يبعث بزكاة الفطر إلى الذي تجمع عنده قبل الفطر بيومين أو ثلاثة.
هذا ما يسر الله تعالى لي جمعه بمنّه وتوفيقه، بشيء من الإيجاز والاختصار، وإلاّ فهناك مسائل أخرى مشهورة ومنثورة في كتب الفقه، فلتراجع لمن أراد التوسع، وبالله التوفيق.
وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.
دخلت سوق الحيِّ، فألفيت به عبد الحيِّ، وهو بين الميِّت والحيِّ، وهو في ذلك الممشى، يخبط خبط الأعْشَى، وقد زعفر وجهَه الصِّيامُ، وجفَّف ريقَه الأوامُ، فقلت: لأقفونَّ أثرَه، ولأخبرنَّ خبره، وقد واريتُ عنه عِيَاني، فكنتُ أرَاه من حيث لا يراني، فانطلق حتَّى انغمس في أمواج الأخلاط، وهم في زحام وزَيَاط، فماجت به تلك الأمواج، وأمدَّهم بعد ذلك أفواج، فاشتدَّ في ذلك العراك بأسه، ولم يَبْدُ لي من جسده إلَّا رأسُه، فكلَّفني في اللّحاق به المشقَّة، فاختلت للعَرَمْرَم كي أَشُقَّه، فانسلَّ عبد الحيِّ بعد عناء إلى الجزَّار، وكأنَّه مكبَّل الرِّجلين، فليس الأمر لو ترى بِهَيْن، وهو في ذلك شاتم ومشتوم، وطورًا يُلام وطورًا يَلوم، فلمَّا بلغ إلى اللَّحَّام، وعاين تلك اللِّحام، جعل ينظر إليها نظر ذات وِحام، فابتاع منه رطلًا أو رطلين، ثمَّ تولَّى قرير العين، وغطس إلى ناحية الخضر، متقلِّبًا بين ضِرار وضَرَر، فلمَّا وقف عليها لفحته لوافح الأسعار، فضجَّ من ذلك السُّعار، ولجَّ في خصام الخَضَّار، ثمَّ صال وجال، واشترى ما يعجز عن حمله رِجال، ثمَّ غيَّبته عني لُـمَّة، أحاط به جمعُها فواراه، وصار بمكان حيث لا أراه، فإذا هو عند بائع الزَّيتون، وقَلْبُه بكلِّ نوع مفتون، وطال حديثه إلى البائع، والكلام عن البضائع، حتَّى أنساه السَّوْمُ حرمةَ الصَّوم، فألقى زيتونة في فمه، وسها عن صومه، فصاح به القوم: يا رجل أفسدتَ الصَّومَ! فلفظ منها ما تبقَّى، واستغفر الله وذكره، وسبَّ مِنَ القوم مَنْ ذكرَّه، فرأيته وقد تجهَّم وجهه، وشعث رأسه، وتصبَّب عرقه، وقد نهكته تلك الأثقال، وأَنْصبَه التّطواف بين جزَّار وبقَّال، وهو ينظر إلى ساعته في تلك الكروب، يحسب كم بقي للغروب، ولسان حاله يقول:
يا شمس قد طال النَّهار فاغربي فبالغروب ينجلـي ما حـلَّ بـي
إنـِّي إذا مـا أخذتـني الـدُّوخـة أستذكر الـبُـرَاكَ والشَّخْشُوخَة
وشُـْربةً تصنع من حبِّ الفرِيك وزلبيَّـةً تـجي مـن بُـوفَـرِيــك
وعـنـبًـا وطـبـقًــا مــن مــوز وقـهـوة مـعـهــا قلـب اللّــوز
تـهـيـج لـي في نـهـمة أشواقي وأغـتدي مــن ذاك للأســواق
خــلُّوا سبيلـي معشر الـجموع يكفـي الَّذي أصابـني من جوع
قد كسرت من بـينـكم ضلوعي لو كنت أدري جئت فـي دروع ثمَّ أقبل نحوي بكلِّ ما يحوي، فبادرت إليه، ثمَّ سلَّمت عليه، فشكا إليَّ الحال، وما لقي في تلك الأوحال، ثمَّ قال لي: كيف حالك ورمضان؟ فقلت: شهر يستوجب الشُّكران، ولكن سلْ رمضان كيف حاله معي، إن كنت ممَّن يعي، فإنَّنا في زمن فسدت فيه الموازين، وصار ما يشين عند النَّاس يزين، ثمَّ حدَّثته بحديث لبَّد العجاج، وأنساه خبر اللَّحم والدَّجاج، حتَّى إذا استأنس بكلامي، قلت له: ما فعلت الزَّيتونة؟ فقال: سحقًا إنَّها ملعونة! ثمَّ سألني عن حكم ذلك؛ فقلت: القضاء على قول مالك؛ فقال: وهل في قول غيره ما يدفع؟ فقلت: يدفعه أن تتشفَّع، وما أراه ينفع، فاقض يومًا تبرأ به الذِّمَّة، وتحمد في مذاهب كلِّ الأئمَّة، ثمَّ طاف عليه من أحواله طائف، فأخبرني أنَّه نسي البقلاوة والقطايف، وقال: ذلك من أحكام السَّمَر، ولذَّة السَّهر، فانصرفَ وانصرفتُ، وقد هاجت عليَّ رياحُ الرَّجز، فانطلق اللِّسان وما عجز، فأنشأت أقول:
واعـجبًـا من صوم عبـد الـحيِّ إذ قــد غـدا فـي سَـفَـهٍ وغــيٍّ
فإنْ شـهـر رمـضـــان طـــاعه ولــم يـكـن شـرع للمـجــاعه
بـل هـو مـن ربِّ الورى تهذيب لـيـس لـنـهـش لـحم يا ذيــب
فــإن ذا مــقــصـــد شــرع الله فـي كـلِّ مـا شـرعـه يـا لاهــي
مـن ضـلَّ عـن مقاصد الشَّريعه حـرم مـن مـنـافـع بـديـــعــه
فـصم وصن في صومك اللِّسانا وابذل لكـلِّ مـن ترى الإحسانا
واصـغ إلى خيـر الورى الأوَّاب فـيـمن يصوم الشَّهر باحتسـاب
من صــام لله بــه مـحـتـسـبًــا يـغفر لــه الإلــه مــا قـد أذنبـا
ومـثـلـه لـكـلِّ مــن قـد قــامَا فـي لـيلـه فلْتَـطْـلُـبِ الـمـقامَا
فـإنَّ أكـثـر الـورى قـد غـفــلا حـتَّـى إذا مـا رمضـــان أفـــلا
لـم يـغـنـمـوا مـا غـنـم السّباق مـن نـالـهـم مـن ربِّـنـا إعـتاق
قال الرَّاوي لهذا الخبر:
فرجعت أَجْتَلِي من ذلك العِبَر، وأجيلُ فيه الفِكَر، فجاءتني بفضائل الاستقامة، وقد أودعتها هذه المقامة.
* منقول من مجلة الإصلاح «العدد الرابع»
فمن وفَّى ما عليه من الأعمال والطاعات كاملة، وُفِي له الأجر والجزاء كاملا، ومن نقص من عمله شيئا نقص له من الأجر بقدر ما نقص من العمل.
غدا توفى النــفوس ما كســبت ويحصد الزارعــون ما زرعــوا
إن أحسنوا أحــسنوا لأنفسهم وإن أساؤوا فبئس ما صنعوا
وقد علموا أنَّ الله تعالى قال في كتابه: ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين﴾. وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يجتهدون في إكمال الطاعات، والتقرب إلى الله تعالى بإحسان العمل ومداومته، مع خوفهم بعدم القبول، فعن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: سألت رسول الله عن هذه الآية ﴿والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة﴾، قالت عائشة: هم الذين يشربون الخمر ويسرقون؟ قال: لا يا بنت الصديق، ولكنهم الذين يصومون ويصلون ويتصدقون وهم يخافون أن لا يقبل منهم».
فعن فضالة بن عبيد قال: لأن أكون أعلم أن الله قد تقبل مني مثقال حبة من خردل أحب إلي من الدنيا وما فيها؛ لأن الله يقول ﴿إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِين﴾». رواه ابن المبارك في الزهد، وابن أبي الدنيا في الإخلاص.
فشهر رمضان وقت الزرع، ويوم القيامة وقت الحصاد، فمن لم يزرع لم يحصد إلا الندم والهم، ولقد أحسن القائل:
ترحل شهر الصبر والهفاه وانصرما واختص بالفوز بالجنات من خدما
أصبح الغافل المسـكين منكســرا مثلي فيا ويــحه! يا عظـم ما حرما
من فاتـه الزرع في وقـــت البـدار فما تراه يحصــد إلا الهمَّ والندمـا
بل من الناس من تراه يعبد الله تعالى في شهر الخيرات، يصوم نهاره ويقوم ليله، ويجتنب كلَّ ما يخدش صومه من الكلام البذيء والعمل الدنيء، فإذا انصرم رمضان رجع إلى ما كان عليه من الآثام، ومقال حاله: «لا يُعرف الله إلا في رمضان».فإذا كان عباد الله المتقون وجلون من عدم تقبل العمل، فكيف بمن ضيَّع وقته في السهر والكسل؟
كم يفرح المرء عندما يرى ألوان الطاعات تزداد في رمضان، فما أن يؤذن أذان الفجر إلا وتجد المساجد مكتضة بالمصلين، ولا تكاد تفرِّق بين الصلوات؛ إذ بيوت الله عامرة في كلِّ وقت من ليل ونهار، لكن سَلِ المساجد بعد صلاة العيد عن عُمَّارها، أين ذهبوا، فقد ترك الكثير صلاة الجماعة، ولم يستجب لنداء الله إلا القليل الموفقون.
ألا فليعلَم هؤلاء أنَّ من علامة قبول العمل عند الله أن يكون المرء على حال أفضل من الحال التي كان عليها، فالصيام يزيد المرء تقربا إلى الله في كلِّ الأوقات، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون﴾.
قال ابن كثير في تفسيره: يقول تعالى مخاطبًا للمؤمنين من هذه الأمة وآمرًا لهم بالصيام، وهو: الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع بنية خالصة لله عز وجل، لما فيه من زكاة النفس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.
فمن لم تزكو نفسه وتمنعه من الشهوات بعد رمضان فلم يصم لله حق الصيام، ولم يستفد من شهره إلا الجوع والعطش.
لأنَّ ربَّ رمضان هو ربُّ الشهور كلها، وما أوجبه عليك في رمضان من فعل الواجبات كالصلوات في الجماعات وترك المحرمات، أوجبه أيضا في سائر الشهور.
سئل أحد السلف قيل له:«إن قوماً يتعبدون ويجتهدون في رمضان؛ فقال: بئس القوم، لا يعرفون الله حقاً إلا في رمضان، إن الصالح الذي يتعبد ويجتهد السَّنة كله».
نسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن يوفقنا وسائر المسلمين للطاعات والقربات، في كل الشهور والأيام والزمان والأماكن، مصداقاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنت، وأتبِع السيئةَ الحسنة تمحها …».
فتقوى الله أجلُّ مطلوب يطلبه المسلم، في كلِّ أحيانه وأماكنه، يُتبع الحسنةَ بحسنات، والسيِّئةَ بقرُبات، عسى الله أن يعفو عنه ويجعله من عباده المتقين الموفقين، والحمد لله رب العالمين.
وذالك ياعباد الله
أنا في العام الماضي استقبلنا شهر رمضان ، ثم ودعناه ،ثم انتظرنا شهر رمضان القادم ونحن نراه بعيدا ، وهاهو قد دخل علينا ،والواحد منا يقول لنفسه أو يقول لأخيه ،ما أسرع مامرت الأيام ،والله كأن بالأمس نودعوا رمضان الماضي
وها نحن اليوم
ندخل في رمضان الحاضر، وإنها والله لحقيقة الأيام ،تمضي بنا سريعة ،تنقص من آجالنا
يقول لواحد منا ياعباد الله
إذا مر عليه عام زاد عمري سنة
وحقيقة الأمر ، أن عمره قد نقص سنة
فالعمر معدود
والأجل محدود
وإن هي إلا خطوات الله أعلم متى تنتهي الخطوات
إنها أيام ياعباد الله نطويها وتطوينا، وتسير بنا سريعة إلى آجالنا
إن هذه الحقيقة ياعباد الله
تذكرنا بقول ربنا سبحانه وتعالى : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا )
إن الحياة ياعباد الله
تمضي بنا سريعة، وما حالاتنا إلا ثلاثٌ :
شباب ثم شيب ثم موت
وآخر ما يسمى المرؤ شيخا
ويتلوه من الأسماء ميْتو
فهنيئا ياعباد الله
لمن اعتبر بما فات ،وأحيا الحاضر والقادم بالصالحات
فاعتبروا ياؤلي الأبصار .
العدد الرابع
عدد خاص بشهر رمضان المبارك
لتحميل الخطبة: هـــنــــــا
لا تكن ضعيف الهمة، فضلاً عن أن تكون ميّتاً !
لِمَ لا تنافس في أمثال هذه الأحوال ؟!
لِمَ تقنع بالدون عما هو فوق السحاب، بل هو في النجوم !
لماذا تؤْثر الدنيا على الآخرة ؟
لماذا لا تتغير ؟ ما الذي يمنعك ؟
أتشُكُّ في كلام ربك ؟
ألا لا إيمان لك ؟!
ألا تُصدق نبيك صلى الله عليه وآله وسلم ؟
أأنت في ريب وشَكّ من الموت ؟
ألا توقن أنك ستموت ؟
ومن نظر إليك بعد ثلاث وجد حدقتيك قد سالتا على وجنتيك، وانقض بطنك عما فيه من الأذى والقذى. وأول ما يُنتن من الانسان بطنه.
ألا توقن بأنك صائر إلى ذلك ؟
لماذا تُشغل بأمثال هذه الألاعيب التي هي بالصبيان أليَق ؟!
لماذا لا تكون رجلاً مسلماً بصدق وحق ؟
ما الذي يمنعك ؟ وما الذي يُعجزك ؟
لِمَ لا تتوب إلى الله ؟ ولِمَ لا ترجع إليه ؟
ولِمَ لا تتبع رسول الله وتُخلص في المتابعة له ؟
قعدتْ بك شهوتك ؟! استعذ بالله ربك.
الإسلام دين العزة، دين الرفعة، دين الكرامة، كما أنه دين العدل ونفي الجور.
ينبغي علينا ألا نلتفت إلى ما يشيعه الآخرون من وسائل لهزيمة المسلمين نفسيا، الحق قوته فيه والحق منصور ومضطهد دوما، فلا تبتئس ولكن النصر له النصر للحق وإن بدا في عين المرء ضعيفا، النصر للحق وإن بدا بادي الرأي مهينا، والعزة للحق لأن الله ناصره والله رب العالمين ينصر أولياءه ويخذل أعداءه.
لا تستهينوا بالنعمة التي أنعم الله عليكم بها، {أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين}. اعتز بإسلامك ولا تنهزم ! إن الذي قال بقطع يد السارق هو الله ! والذي قال بجلد ظهر القاذف والزاني هو الله ! والذي أمر برجم الزاني المحصن رسول الله صلى الله وسلم وبارك عليه ! والدين ليس وقفا على الحدود فهذا جزء منه.
تعلم دين ربك الذي شرفك بالانتماء إليه ولا تضيع وقتك وعمرك وراء السمالك في قيل وقال وكثرة السؤال والتسكع على أبواب الأفكار وإلا لتُحرفن على الصراط المستقيم !»