أعترف مقدماً أن دراسات مهمة عن المدارس الحديثة في التفسير قدمت ، ولكنها غالباً ما تتوقف عند الحقبة الممتدة ما بين مدرسة محمد عبده وتفسيره " المنار " إلى الشهيد سيد قطب وتفسيره " في ظلال القرآن " ، وتبقى الحقبة ما بعد سيد قطب حتى اليوم مهملة ، هذا بالرغم من أن هذه الفترة شهدت تطورات شديدة الأهمية في تفسير القرآن الكريم ومناهجه ، وهي مرحلة جديدة بكل معنى الكلمة ـ كما سيتضح لنا فيما بعد ـ وهو ما يسمح لنا بوسم المرحلة الجديدة بـ " المعاصرة " والمرحلة المذكورة من قبل بـ " الحديثة " على سبيل الاصطلاح . وهكذا فما سوف نقدمه هنا هو ما يتصل بالحقبة المعاصرة التي تبدأ منذ منتصف ستينيات القرن الماضي ، وما تزال حتى اليوم .
توصلنا الدراسة الاستقرائية لهذه الاتجاهات إلى التصنيف الآتي :
– مناهج إسلامية أصيلة .
– مناهج غربية .
– مناهج مختلطة .
ونشير هنا إلى أن السمة التي تميّز هذه المرحلة ( المعاصرة ) هي ظهور مناهج وافدة لأول مرّة في تاريخ الإسلام لتفسير كتابه الأشرف القرآن الكريم ، وهي بقدر ما تبدو ظاهرة غريبة ، تبدو أيضاً خطيرة . ووجود هذا النوع الجديد من المناهج هو الذي فرض علينا التصنيف المذكور .
أولاً: المناهج الإسلامية الأصيلة
يصعب على أي دارس أن يجد منهجاً جديداً وبارزاً غير التفسير الموضوعي في هذه الفترة ، الذي استحوذ على اهتمام لا مثيل له من قبل ، بحيث إن التفسير المعهود الذي يبدأ من سورة الفاتحة ويسير خطياً إلى سورة الناس خاتمة القرآن الكريم ، قلّ الاهتمام به ، وأصبح الباحثون في علم التفسير مهتمين بشكل كامل تقريباً بالتفسير الموضوعي .
إن في التفسير الموضوعي ذاته ما يبرر هذا الاهتمام الكبير به ، ذلك أن الفلسفات الغربية ، وخصوصاً الماركسية ، ما أخذت شوكتها حتى منتصف الخمسينيات ، وقد وضح أن التفسير الموضوعي يمتلك قدرة بالغة في المحاججة والدفاع عن الإسلام والعقيدة الإسلامية ، وبالرغم من أن التفسير الموضوعي بدأ مبكراً في تاريخ الإسلام عندما كتب الجاحظ عن النار في القرآن الكريم ، ثم كتب ابن تيمية رحمه الله رسالة عن لفظة " السنة " في القرآن الكريم ، وعندما نضج علم الوجوه والأشباه ، أو الأشباه والنظائر في القرآن الكريم الذي يدرس مفردات القرآن الكريم في كل وجوه استعمالها في إطار القرآن نفسه … بالرغم من كل تلك الجهود ، إلاّ أن المنهج ما كان واضحاً إلى درجة يمكن فيها التنظير العلمي له ، ولهذا لا نجد من بين كل الذين كتبوا في التفسير من قعّد لهذا المنهج ، وحتى في بداية القرن الماضي عندما كتب الشيخ محمد عبده تفسير جزء عمّ ، ثم تفسير المنار استخدم تقنيات التفسير الموضوعي ، من دون أن ينظِّر بشكل علمي لهذا المنهج .
ونستطيع أن نؤرخ – باطمئنان – لبداية البلورة العلمية لهذا المنهج باكتشاف الشيخ محمود محمد حجازي – بعد كتابته " التفسير الواضح " – " الوحدة الموضوعية في القرآن " والتي كانت موضوع أطروحته للدكتوراه في الأزهر سنة 1967م ، ومنذ ذلك الحين ـ وقد بدأ الاهتمام يزداد بهذا النوع من التفسير بسبب ما ذكرناه آنفاً ـ أصبح العمل متجهاً إلى بلورة هذا المنهج بشكل نظري .
منذ ذلك الحين أيضاً أخذت الدراسات تتكاثر تباعاً ، وقدمت أطروحات جامعية عالية في هذا الموضوع في العراق والمغرب ومصر، والأردن، وما تزال إلى اليوم تتقدم في صياغة منهج التفسير الموضوعي وتطوّره .
يقوم مبدأ التفسير الموضوعي على مفهوم " الوحدة الموضوعية " للقرآن وهو مفهوم بدا أن له معنيين هما :
– وحدة " الأفكار " و" الموضوعات " : التي يتناولها النص القرآني ، فما يقدمه مثلاً عن المال في أول القرآن الكريم ، له علاقة مع ما يذكره عن المال في آخره ، ويتكامل معه ، ذلك لأن المصدر الذي صدر عنه النص القرآني يفترض منطقيته وانسجامه مع بعضه ، وهو معنى الآية الكريمة { ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً } . أو وحدة الموضوع الذي يطرحه القرآن في السورة ، التي تشكل برمتها موضوعاً واحداً .
– وحدة القرآن الكريم ، بناءً وموضوعاً ، بحيث يصبح كالكلمة الواحدة في موضوعاته ومفرداته وألفاظه .
ويستبدل أحياناً بالوحدة الموضوعية هنا الوحدة العضوية حسب مصطلح الدكتور محمد عبد الله دراز ، أو الوحدة البنائية حسب اصطلاح الدكتور طه جابر العلواني .
وبناءً على تحديد مفهوم " الوحدة الموضوعية " وجد هناك ثلاثة تعريفات للتفسير الموضوعي ، تجعلنا نقول بوجود ثلاثة اتجاهات في التفسير الموضوعي أو فلنقل ثلاثة أنواع هي :
– المفردة القرآنية :
وهو دراسة لدلالة المصطلحات والمفردات القرآنية داخل القرآن الكريم وفي حدوده فحسب ، وبالرغم من أن هذا النوع من التفسير لكلمات القرآن يعتمد مبدأ " الوحدة العضوية " أو " البنائية " للقرآن الكريم فإن بعض الباحثين لا يعتبره من التفسير الموضوعي ، ذلك أنه لا يعطي صورة كاملة عن موضوع ما أو سورة ما ، ولكن تفسير مفردات القرآن وتحديد دلالة مصطلحاته هو في الواقع تحديد للمفاهيم .
ويجدر التنبيه هنا إلى أن هذا النوع من التفسير يجد جذوره في علم الأشباه والنظائر أو الوجوه والنظائر المعروف في علوم القرآن الكريم ، وقد بدأ الاهتمام به في وقت متأخر، ذلك أنهم اكتشفوا أن المشكلة الأساسية في أي تفسير تكمن في التعامل مع القرآن مجرّد تعامل لغوي دون الانتباه إلى إمكانية أن يكون في تلك المفردات ما هو اصطلاح قد يغير جذرياً التفاسير المعهودة .
– السورة :
قصر بعضهم التفسير الموضوعي على دراسة السورة القرآنية باعتبارها تتضمن موضوعاً واحداً تدور كل مقاطع السورة في المحصلة حوله ، ولذلك عادة ما يقوم الباحثون والمفسّرون بتحديد الموضوع في بداية التفسير ، وهو أمر يشبه – إلى حد بعيد – طريقة الشهيد سيد قطب في ظلاله ، ويجري تحديد مدلول باقي السورة بناء على هذا التحديد المسبق ، الذي يقام عادة بالاستقراء .
وتعتبر أهم دراسة – حتى الآن – هي دراسة الدكتور محمود البستاني " عمارة السورة القرآنية " التي طبعت مؤخراً ، وأهمية هذه الدراسة أنها تبحث عن قوانين تحدد الأساس الموضوعي الذي يقوم عليه بناء السورة القرآنية من خلال القرآن الكريم كله .
– الموضوعات :
هذا النوع هو الأكثر شهرة ، والأكثر تبادراً إلى الذهن عند إطلاق تعبير " التفسير الموضوعي " ، ويتوقف هذا التفسير على تحديد " الموضوع " الذي يجب أن يُدرس ، والمشكلة الأساسية أن هذا النوع من التفسير لا يمكن أن يشكل تفسيراً كاملاً للقرآن ، شأنه شأن دراسة المفردة القرآنية التي ذكرناها آنفاً ، ذلك أن الموضوعات التي تناولها القرآن يصعب حصرها ، فتحديدها بطبيعة الحال اجتهاد ، والاجتهاد يُختلف فيه – ضرورةً – من حيث كونه ظني الدلالة . هذا خلافاً للتفسير الموضوعي الذي يعتمد السور.
هذه الأنواع الثلاثة للتفسير الموضوعي يبدو أنه لا يزال هناك اختلافٌ حولها ، وما يزال كل نوع منها يُعتمد مستقلاً عن الآخر ، بحيث يعسر علينا العثور على تفسير واحد يجمع الأنواع الثلاثة مجتمعةً ، وهو ما نراه الآن ضرورياً لمناهج التفسير ، وبالتالي فثمة حاجة الآن لإنشاء منهج يمزج الأنواع الثلاثة ويؤسس للعلاقة بينها وطريقة عملها والأدوات العلمية اللازمة لكل منها .
يبقى أن أهم ما في التفسير الموضوعي هو اعتماده على الدراسة الداخلية للقرآن ، أي الاعتماد على مبدأ تفسير القرآن بالقرآن ، والاكتفاء به ، وهو ما يوقعه في إشكالية غاية في الخطورة ، وهو تحوله إلى تفسير مع وقف التنفيذ ، ذلك أن هناك مصدراً آخر هو السنة النبوية الشريفة غير مأخوذة بالحسبان . وإذا كنا لا نرى دمجها مباشرة بالدراسة الموضوعية للقرآن التي أثبتت جدواها وأهميتها باعتمادها على القراءة الداخلية للقرآن ، فإننا ننبه هنا إلى ضرورة اعتمادها كخطوة ثانية في التفسير الموضوعي ، بحيث يتم المؤاءمة بين نتائج التفسير الموضوعي ونصوص السنة الشريفة بوصفها مبينة للقرآن وتابعة له في وقت واحد .
وإذا فرقنا بين مصطلح " التفسير الموضوعي " كعبارة محدّدة الدلالة على النحو السابق ، وبين المفهوم العام للتفسير الموضوعي فإننا نقول : إن مفهوم التفسير الموضوعي يدلنا على الأصول التاريخية لهذا المنهج الذي كان في أذهان بعض المفسرين رغم عدم وضوحه ، فيما نقول : إن مصطلح التفسير الموضوعي يشير إلى المحاولات النظرية التي تجعل لهذا المنهج قواعد علمية وأدوات وطرق بحث ، حيث نجد أنفسنا بكل تأكيد أمام التاريخ المعاصر للعلوم الإسلامية لا الحديث أو القديم على النحو الذي بيّنته في المقدمة .
يبقى أن المنهج الوحيد الذي يمكننا وصمه بالأصالة الإسلامية في الفترة المعاصرة هو فقط التفسير الموضوعي ، أمّا المناهج الأخرى فهي إما مختلطة مثل " التفسير البياني " أو الأدبي ، وإما غربية مثل مناهج " القراءات المعاصرة " وسوف نتعرض لها جميعاً فيما بعد إن شاء ال