الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى
وبعد:
فقد قال الله – جل وعلا – في الآية السادسة من سورة المائدة:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
وقال الإمام الكبير والمفسر الشهير والفقيه النحرير عبد الرحمن بن ناصر السعدي – رحمه الله – في "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"(ص:222-224) وفي "الأجوبة النافعة عن المسائل الواقعة"(25/ 223-228 – مع مجموع مؤلفاته – وهي المعتمدة هنا) مبيناً الأحكام والفوائد المستنبطة من هذه الآية:
هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة، نذكر منها ما يسره الله وسهله:
أحدها: أن امتثال هذه المذكورات والعمل بها من لوازم الإيمان الذي لا يتم إلا به، لأنه صدرها بقوله { يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا } إلى آخرها.
أي: يا أيها الذين آمنوا اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم من هذه الأحكام.
الثاني: الأمر بالقيام بالصلاة لقوله: { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ } ففي الفرض واجب، وفي النفل مستحب
الثالث: الأمر بالنية للصلاة، لقوله: {إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ} أي: بقصدها وبنيتها.
الرابع: اشتراط الطهارة لصحة الصلاة، لأن الله أمر بها عند القيام إليها، والأصل في الأمر الوجوب.
الخامس: أن الطهارة لا تجب بدخول الوقت، وإنما تجب عند إرادة الصلاة.
السادس: أن كل ما يطلق عليه اسم الصلاة: الفرض والنفل وفرض الكفاية وصلاة الجنازة تشترط له الطهارة، حتى السجود المجرد عند كثير من العلماء، كسجود التلاوة والشكر.
السابع: الأمر بغسل الوجه.
وهو: ما تحصل به المواجهة من منابت شعر الرأس المعتاد إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طولاً، ومن الأذن إلى الأذن عرضاً، ويدخل فيه المضمضة والاستنشاق بالسنة، ويدخل فيه الشعور التي فيه، لكن إن كانت خفيفة فلا بد من إيصال الماء إلى البشرة، وإن كانت كثيفة اكتفي بظاهرها.
الثامن: الأمر بغسل اليدين، وأن حدّهما إلى المرفقين، و"إلى" كما قال جمهور المفسرين بمعنى: "مع"، كقوله تعالى: { وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ }، ولأن الواجب لا يتم يقيناً إلا بغسل جميع المرفق.
التاسع: الأمر بمسح الرأس.
العاشر: أنه يجب مسح جميعه، لأن الباء ليست للتبعيض، وإنما هي للملاصقة، وأنه يعم المسح لجميع الرأس.
الحادي عشر: أنه يكفي المسح كيفما كان، بيديه أو أحدهما أو خرقة أو خشبة أو غيرها، لأن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة، فدل ذلك على إطلاقه.
الثاني عشر: أن الواجب المسح، فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم يكف، لأنه لم يأت بما أمر الله به.
الثالث عشر: الأمر بغسل الرجلين إلى الكعبين، ويقال فيهما ما يقال في اليدين.
الرابع عشر: فيها الرد على الرافضة على قراءة الجمهور، بنصب: { وَأَرْجُلَكُمْ }، وأنه لا يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين.
الخامس عشر: فيه الإشارة إلى مسح الخفين على قراءة الجر في { وَأَرْجُلَكُمْ }،
وتكون كل من القراءتين محمولة على معنى، فعلى قراءة النصب فيها غسلهما إن كانتا مكشوفتين، وعلى قراءة الجر فيها مسحهما إذا كانتا مستورتين بالخف ونحوه، كما بينت ذلك السُّنَّة.
السادس عشر: الأمر بالترتيب في الوضوء، لأن الله تعالى ذكرها مرتبة، وأنه أدخل ممسوحاً – وهو الرأس – بين مغسولين، ولا يعلم لذلك فائدة غير الترتيب.
السابع عشر: أن الترتيب مخصوص بالأعضاء الأربعة المسميات في هذه الآية، وأما الترتيب بين المضمضة والاستنشاق والوجه أو بين اليمنى واليسرى من اليدين والرجلين، فإن ذلك غير واجب، بل مستحب.
الثامن عشر: الأمر بتجديد الوضوء عند كل صلاة، ليوجد صورة المأمور به.
التاسع عشر: الأمر بالغسل من الجنابة.
العشرون: أنه يجب تعميم الغسل للبدن، لأن الله أضاف التطهر للبدن، ولم يخص بعضه دون بعض.
الحادي والعشرون: الأمر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة، لعموم قوله: { فَاطَّهَّرُوا }.
الثاني والعشرون: أنه يندرج الحدث الأصغر في الحدث الأكبر، ويكفي مَنْ هُمَا عليه أن ينوي، ثم يعمم بدنه بالغسل، لأن الله لم يذكر إلا التطهر، ولم يذكر أنه يعيد الوضوء.
الثالث والعشرون: أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناماً أو جامع ولو لم يُنْزِل، كما يدل على ذلك لفظ الجنب، وكما بينته السنة.
الرابع والعشرون: أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بللا فإنه لا غسل عليه، لأنه لم تتحقق منه الجنابة.
الخامس والعشرون: ذكر مِنَّة الله تعالى على العباد بمشروعية التيمم.
السادس والعشرون: أن من أسباب جواز التيمم: وجود المرض الذي يضره غسله بالماء، سواء كان مرضاً للبدن كله أو للعضو الذي يجب غسله إذا كان فيه جرح ونحوه يضره الماء.
السابع والعشرون: أن من جملة أسباب جوازه: السفر والإتيان من البول والغائط إذا عدم الماء، فالمرض يجوِّز التيمم مع وجود الماء لحصول التضرر به، وباقيها يجوِّزه العدم للماء، ولو كان في الحضر.
الثامن والعشرون: أن الخارج من السبيلين من بول أوغائط ينقض الوضوء.
التاسع والعشرون: استَدل بها من قال: لا ينقض الوضوء إلا هذان الأمران، فلا ينتقض الوضوء بمس المرأة والفرج ونحوها.
ويجاب عن ذلك: بأنه إذا ثبت في السُّنة، فالسنة تفسر القرآن وتبينه..
الثلاثون: استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به، لقوله: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنكُم مِّنَ الْغَائِطِ}.
الحادي والثلاثون: أن اللمس للمرأة إذا كان بلذة وشهوة ناقض للوضوء، لقوله: { أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ }، وأن عمومها يشمل حتى المباشرة.
الثاني والثلاثون: اشتراط عدم الماء لصحة التيمم.
الثالث والثلاثون: أنه مع وجود الماء ولو في الصلاة يبطل التيمم، لأن الله إنما أباحه مع عدم الماء.
الرابع والثلاثون: أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء فإنه يلزمه طلبه في رحله وفيما قرب منه، لأنه لا يقال: "لم يجد" لمن لم يطلب.
الخامس والثلاثون: أن الماء المتغير بالطاهرات مقدم على التيمم، أي: يكون طهوراً، لأن الماء المتغير ماء، فيدخل في قوله: { فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً }.
السادس والثلاثون: أنه لا بد من نية التيمم، لقوله: { فَتَيَمَّمُوا } أي: اقصدوا.
السابع والثلاثون: أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الأرض من تراب وغيره، فعلى هذا يكون قوله تعالى: { فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُم مِّنْهُ }.
إما من باب التغليب، وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق بالوجه واليدين.
وإما أن يكون إرشاداً للأفضل، وأنه إذا أمكن التراب الذي فيه غبار فهو أولى.
الثامن والثلاثون: أنه لا يصح التيمم بالتراب النجس، لأنه لا يكون طيباً بل خبيثاً.
التاسع والثلاثون: أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط دون بقية الأعضاء.
الأربعون: أن قوله: { بِوُجُوهِكُمْ } شامل لجميع الوجه، وأنه يعممه بالمسح، إلا أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والأنف، وفيما تحت الشعور، ولو خفيفة.
الحادي والأربعون: أن اليدين يمسحان إلى الكوعين فقط، لأن اليدين عند الإطلاق كذلك، فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك كما قيده في الوضوء.
الثاني والأربعون: أن الآية عامة في جواز التيمم لجميع الأحداث كلها الأصغر والأكبر، بل ونجاسة البدن على قول بعض العلماء، لأن الله جعلها بدلاً عن طهارة الماء، وأطلق في الآية ولم يقيد، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ذكر ملامسة النساء، وهو الحدث الأكبر، والبول والغائط، وهو الحدث الأصغر صريحاً.
[ وقد يقال أن نجاسة البدن لا تدخل في حكم التيمم لأن السياق في الأحداث وهو قول جمهور العلماء ].
الثالث والأربعون: أن محل التيمم في الحدث الأصغر والأكبر واحد، وهو الوجه واليدان.
الرابع والأربعون: أنه لو نوى مَنْ عليه حدثان التيمم عنهما، فإنه يجزئ أخذاً من عموم الآية وإطلاقها.
الخامس والأربعون: أنه يكفي المسح بأي شيء كان بيده أو غيرها، لأن الله قال { فَامْسَحُوا } ولم يذكر الممسوح به، فدل على جوازه بكل شيء.
السادس والأربعون: استدل به على وجوب الترتيب في طهارة التيمم، كما يشترط ذلك في الوضوء، لأنه بدله، ولأن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين.
السابع والأربعون: أن الله تعالى – فيما شرعه لنا من الأحكام – لم يجعل علينا في ذلك من حرج ولا مشقة ولا عسر، وإنما هو رحمة منه بعباده ليطهرهم، وليتم نعمته عليهم.
وهذا هو الثامن والأربعون: أن طهارة الظاهر بالماء والتراب تكميل لطهارة الباطن بالتوحيد والتوبة النصوح.
التاسع والأربعون: أن طهارة التيمم وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك بالحس والمشاهدة، فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله تعالى.
الخمسون: أنه ينبغي للعبد أن يتدبر الحِكَم والأسرار في شرائع الله في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلماً، ويزداد شكراً لله ومحبة له على ما شرع من الأحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة، لقوله: { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
وقد ذكر ابن العربي المالكي أنه يستنبط من هذه الآية الكريمة أحكاماً تجاوز المئات، ولكن هذا الذي اهتدينا إلى الوصول إليه.
فنسأله أن يرزقنا علماً نافعاً، وعملاً متقبلاً، إنه جواد كريم، وصلى الله لى محمد وسلم.
استخراج: عبد القادر بن محمد بن عبد الرحمن الجنيد
الصلاة في وقتها خير من الدنيا وما فيها
شكرا بارك الله فيك
باركـ الله فيك و جزاك خيرا
بارك الله فيكم جميعا
مروركم اسعدني كثيرا
جزيتم خيرا يا اهل الخير
بارك الله فيكم جميعا
مروركم اسعدني كثيرا
جزيتم خيرا يا اهل الخير
جزاك الله خيرا