التنقيط والحركات الإعرابية في الكتابة العربية
التنقيط والحركات الإعرابية في الكتابة العربية
في العصر الجاهلي: لا نلاحظ ضوابط إملائية ولا
إعرابية لتلك الكتابة، كما هو اليوم عندنا من نقط الحروف وشكلها بالحركات الإعرابية. فهل يعني ذلك أن الكتابة العربية في
ذلك العهد، على اختلاف أشكالها، لم تعرف تلك القيود من نقط وإعجام وحركات مد طويلة؟.. وإذا لم تعرفها في ذلك العصر،
هل عرفتها في بداية القرن الأول الهجري الذي عرفت فيه هذه الكتابة تطورا كبيرا على يد العلماء بناء على ما وصل إليه
المجتمع العربي والإسلامي من تطور حضاري؟ إذا كانت تلك النقوش لما قبل الإسلام، تنفي أن تكون تلك الكتابة قد عرفت
ذلك، فهل الكتابة الإسلامية الأولى حافظت على نفس القواعد الكتابية تلك ولم تضف إليها شيئا[2]؟
كما أن القرن الأول الهجري، قد خلف لنا هو بدوره نقوشا كتابية، قد تكون الحكم الفصل في الإجابة على هذه التساؤلات.
انقسم الباحثون حول هذا الموضوع، فمنهم من قال بأن النقط والإعجام قديمان في اللغات السامية، والعربية واحدة منها. ومنهم
من نفى ذلك، وقال بأن الأبجدية العربية كانت لا تعجم ولا تعرب كأخواتها السامية "باستثناء الأبجدية الحبشية"[3]، التي كانت
تعرف الإعجام بالنقط.
أما الأبجدية العربية فقد عرفت ذلك في نهاية القرن الأول الهجري، لذلك سنناقش رأي الفريقين معا:
الفريق الأول: اعتمد هؤلاء على عدة براهين أساسية تعتبر حجة على قدم النقط والإعجام في الأبجدية العربية. فمن ذلك رواية
الرجال الثلاثة الذين وضعوا هذه الأبجدية، وأن أحدهم وضع الإعجام للحروف ذات الصور الواحدة[4]. ثم هناك من يقول،
بأن الأبجدية العربية قد أعجمت حروفها وشكلت قبل الإسلام بناء على تأثرها بالكتابة السريانية والعبرانية. فقد أعجم هؤلاء
كثيرا من الحروف المتشابهة في الخط في لغتهم، حتى ميزوا كل حرف عما يمكن أن يلتبس معه. ومنهم من اعتمد على روايا
ت وأحاديث وشواهد من الشعر الجاهلي، الذي وردت فيه إشارات كثيرة، وتلميحات متنوعة إلى الكتابة وآلاتها من الأقلام
وأنواع الخطوط وكل ما يتعلق بها كالكتاب والسطور والإعجام. فمن ذلك قول الأخنس بن شهاب الثغلبي (556هـ)[5]: لابنة
حطان بن عوف منازل كما رقش العنوان في الرق كاتب[6] وهذا شاعر جاهلي آخر، عرف بنفس الاسم، لبيت قاله، وهو
المرقش الأكبر: الدار قفر والرسوم كما رقش في ظهر الأديم قلم[7] فكانت أقرب صورة لذهنه حين رأى آثار دار محبوبته
الدارسة، أن شبهها بأثر القلم على وجه الأديم، أو الكتابة التي أخذت رسوم صورها تضمحل. وهذا طرفة بن العبد[8]، يقيم
نفس الصورة الشعرية بأدوات الكتابة، ويذكر نفس اللفظة: كسطور الرق رقشه بالضحى مرقش يشمه[9] ومما يدل على أن
الإعجام والنقط كانا معروفين ومستعملين في الجاهلية،
أن الصحابة رضوان الله عليهم، قد أمروا بتجريد "المصحف حين جمعوا القرآن من النقط والشكل وهو أجدر بهما، فلو كان
مطلوبا لما جردوه منه[10]". فمن أين عرف الصحابة النقط والإعجام حتى جردوا المصحف منهما؟ فلو لم يكونوا يعرفونهما
لما جردوه منها! ونقلت الأستاذة سهيلة الجبوري حديثا نبويا، أورده أحد الباحثين العرب هذا نصه: "وعن عبيد بن أوس
الغساني، كاتب معاوية، قال: كتبت بين يدي معاوية كتابا. فقال لي: يا عبيد، ارقش كتابك. فإني كتبت بين يدي رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال، يا معاوية، ارقش كتابك. قال عبيد: وما رقشه يا أمير المؤمنين؟ قال: اعط كل حرف ما ينوبه من النقط
[11]". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لكتبة الوحي: "إذا اختلفتم في الياء والتاء فاكتبوها بالياء[12]". فحديث
النبي صلى الله عليه وسلم لكتبة الوحي في موضوع الرقش والإعجام وقول الصحابة بتجريد المصاحف من ذلك، يستنتج منه
أنهم كانوا يعرفون النقط بالإعجام، والنقط بالإعراب أيام البعثة، ومعنى ذلك أنهما كانا شائعين في الكتابة الجاهلية. قال أبو
عمرو الداني[13] في نقط المصاحف "هذا يدل على أن الصحابة وأكابر التابعين رضوان الله عليهم، هم المبتدئون بالنقط،
ورسم الخموس والعشور[14]". وإذا ساءلنا النقوش الإسلامية للنصف الأول من القرن الهجري الأول، نجد أن بعض هذه
النقوش مهمل الحروف التي كان من الواجب أن تعجم، مثل نقش القاهرة الذي يرجع تاريخه إلى سنة (31هـ). بينما نقش
الطائف(58هـ)، وهو كتابة على حجر لسد بناه الخليفة الأموي معاوية، نجد كثيرا من الحروف التي يجب أن تعجم قد أعجمت،
كما أهملت أخرى معجمة في الأصل[15]. أما نقش حفنة الأبيض(64هـ) حسب الصورة التي أخذت له، فهو خال من
الإعجام، لكن دارسين لنفس النقش يشيران إلى "وجود ثلاثة حروف معجمة في هذا النقش وهي: الباء والياء والثاء في
السطرين الثاني والثالث" وهذا ما لم تثبته الصورة والملتقطة له[16]. الفريق الثاني: أما هذا الفريق من الباحثين الذي ينفي أن
تكون الكتابة العربية قد عرفت الإعجام والشكل قبل الإسلام، فأفراده يميلون إلى أنها ورثت ذلك من الكتابات السابقة عنها،
والتي انحدر منها الخط العربي عبر تاريخ تطوره، ولا سيما الخط النبطي الذي أخذ عنه كثيرا من الخصائص، وما الطريقة
الإملائية التي رسم بها المصحف العثماني في أول عهده إلا دليل على ذلك، حيث رسم معطلا من الإعجام والنقط، بل هناك من
الدلائل في طريقة الرسم هذه، ما يدل على هذه الخاصيات الإملائية والكتابية الأخرى التي أخذتها الكتابة العربية عن أختها
النبطية، مثل حذف الألف الممدودة من وسط الكلمة، وكتابة التاء المؤنثة (المربوطة) تاء مبسوطة في نهاية الكلمة، وزيادة
الواو في آخر الاسم. فكل هذه المميزات في الرسم هي مشتركة بين الكتابة العربية في أول عهدها والخط النبطي[17].
فالطريقة الإملائية التي دونت بها المصاحف العثمانية، كانت هي السائدة في الكتابة العربية، أي أنها كانت لا تعرف الإعجام ولا
الإعراب. فنقش القاهر (31هـ) الذي كتب مهملا من هذه الضوابط في الرسم، يعاصر نفس الفترة التي دونت فيها هذه
المصاحف، والتي جردت هي أيضا من الإعجام والنقط. و"الرسم العثماني بما فيه من تنوع الأمثلة الكتابية وكثرتها، يقدم
نموذجا حقيقيا لما كانت عليه الكتابة العربية في النصف الأول من القرن الهجري الأول، حين كان الناس في تلك الأيام لا
يلاحظون فرقا بين رسم المصحف وكتابتهم في الأغراض الأخرى[18]". إذن، ماذا يمكن أن نستوحي من كل هذه الآراء التي
انقسمت –كما رأينا- قسمين، أحدهما يقول بوجود النقط والإعجام في الكتابة العربية قبل الإسلام بقرون، وقدم بين يديه لذلك،
دلائل واستنتاجات، بينما ذهب الثاني إلى أنها محدثة في أوائل الإسلام بناء على شواهد نظرية ومادية؟ إن المتتبع لما قاله
هؤلاء الباحثون في تاريخ الكتابة العربية، يستنتج أن الإعجام والإعراب كانا معروفين منذ العصر الجاهلي، إلا أن هذا النوع
منهما، لم يكن له نفس المفهوم الذي صار له بعد الإسلام. لأن الوظيفة الإملائية والإعرابية والصرفية التي كانت لهذه الضوابط
في تلك الحقبة، وكذا الطرق الإملائية التي كانت ترسم بها قد اختلفت قليلا أو كثيرا عما أصبحت تؤديه وتعنيه بعد الإسلام، وما
عرفته الكتابة العربية من تطور حينذاك، . إن وجود أكثر من حرف في هذه الكتابة القديمة التي ترسم بصور واحدة، والتي
كانت تهمل من نقط الإعجام في الظاهر، لم يوجد هذا الشكل الواحد في رسمها هكذا عبثا واتفاقا، بل لا بد من قضية هناك، لم
يستطع الباحثون الوصول إليها بعد. لكن هناك من حاول ذلك، وعلل إهمال هذه الضوابط في الكتابة القديمة "هذا معناه أن
واضع الكتابة المضرية يكون لاحظ مثلا تبادلا بين الأصوات في لهجات اللسان العربي، فوضع للأصوات المتبادلة أشكالا
متشابهة. وضع الجيم والحاء والخاء متشابهة وجردها من النقط(؟) يسهل على من يريد أن ينقطها بلهجته. ومن هذا الباب الدال
والذال والسين والشين والصاد والضاد وغيرها من الحروف" وخصوصا "إذا علمنا أن العادة عند شعوب المنطقة هي
تخصيص الرمز بالصوتين والأصوات لا بالصوت الواحد[19]". وهناك من الباحثين من يذهب إلى أن العرب في هذا كانوا
متأثيرين بالسريان الذين كانوا يرمزون برمز واحد للدلالة على صوتين، مثل "الدال والراء" وكانوا يرمزون إليهما برمز"
[20]. لذلك كان تجريد المصاحف العثمانية من الإعجام والشكل، إنما هو إتاحة الفرصة للمسلمين ليقرأ كل منهم القرآن حسب
لهجته. فهناك من كان يقرأ (فقبضت قبضة) ومنهم من يقرأها (فقبضت قبصة)[21]. والمعنى اللغوي متقارب بين الفظين. ويؤيد
تعدد القراءات لصور الرمز الواحد، ما ذكره أبو عمرو الداني حين تعليله لإهمال المصاحف من هذه الضوابط "وإنما أخلى
الصدر منهم المصاحف من ذلك ومن الشكل من حيث أرادوا الدلالة على بقاء السعة في اللغات، والفسحة في القراءات التي
أذن الله تعالى لعباده في الأخذ بها، والقراءة بما شاءت منها، فكان الأمر على ذلك إلى أن حدث في الناس ما أوجب نقطها
وشكلها[22]". فإذا كان الصواب بجانب هذه الآراء الأخيرة أو قريبا منها، فإن عدم إثبات الإعجام والإعراب في الأبجدية
العربية القديمة كان عديم الجدوى، بل كان يعتبر خطأ في حق القارئين لهذه الكتابة، لأن هذه الحروف المتعددة الصور في
الرسم، والتي ترجع في أصلها إلى رمز واحد، كانت تعجم أو تهمل حسب كل لغة (لهجة) عربية.