تخطى إلى المحتوى

التكثيف البصري في سورة العنكبوت 2024.

برغم ما تتميَّز به كلُّ سورةٍ من سُوَرِ القرآن الكريم من سِماتٍ أسلوبيَّة وموضوعيَّة، فإنَّ سورة (العنكبوت) قد جمعَتْ بين أكثر من سِمَة تميِّزها وتُبرِزها عن سُوَرِ القرآن الأخرى، ولأنَّ المقام لا يتَّسِع لذكر كلِّ التفصيلات من كلِّ السِّمات، سنُوجِز المقال، ونُشِير إلى السِّمَة الأساسيَّة التي يقوم عليها هذا العرض، وهو التصوير الفني، أو التكثيف البصري في السورة في مِساحات ضيِّقة.

ونقصد به التصوير الانتِقالي بين العَوالِم المختَلِفة، وإيجاد مَفاتِيح أو محفِّزات الحَكْيِ بما يَبعَث عنصر التشويق، ويَسِير في الوقت نفسه ضمن منظومة زمنيَّة لها قوانينها وتُعرَف في الكتابات الأدبيَّة باسم (الحبْكة).

كما أنَّ هذا التناوُل لا يمسُّ بأيِّ حالٍ من الأحوال علم التفسير، وهو عمل أئمَّة الأمَّة من عُلَماء القرآن وغيرهم، ولا أعدُّ نفسي إلا طالبًا كأقل طالب علم لديهم، لكن هذا التناوُل هو لفتٌ لنظر القارئ لزاوية أخرى أثناءَ قراءة هذه السورة ومُحاوَلة لتدبُّر آي السُّورَة حسب تقسيمها إلى مجموعاتٍ متَّصلة…………يتبع /….

التكثيف البصري في سورة العنكبوت

عبدالرحمن الإمام

صورة (1) الافتتاحيَّة (صورتان من زمنَيْن):
﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ * وَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ * وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ [العنكبوت: 10 – 13].

يفتَتِح – تعالى – السُّورة بالوقوف على حقيقة الإيمان والكفر، ومن خِلاله يقف على صُورة البداية والختام معًا دون الدُّخول في التفصيلات بينهما، ويستمرُّ الانتِقال من الموقف الدنيويِّ القديم للموقف الأخرويِّ المستقبليِّ على نحوٍ تَضِيع فيه الحدود إلا لذي النُّهَى في استِبصار طريقة العرض؛ فموقف الدنيا ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ… وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ ﴾ [العنكبوت: 10 – 11] يَعقُبه موقف الآخِرة، وهو الصُّورة الختاميَّة أو النتيجة، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ…﴾ [العنكبوت: 12] دُون التمهيد لهذا الانتِقال؛ ليَعُود مرَّة أخرى في ذكر مَواقِف الدنيا من بداية الرسالة وبداية وجود المؤمن والكافر في الموقف التالي، ويكون هذا في سِياق تأييد النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومطالبته بمحاجَجَة الكافرين به.

صورة (2) (قصة نوح والتعريج على قصة إبراهيم – عليهما السلام -):
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ * فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ * وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ لاَ يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ [العنكبوت: 14 – 17].

ويتمُّ من خلالها عرض قصتي نوح وإبراهيم – عليهما السلام – وكأنَّهما سِياق مُنفصِل دون ظهور مَلْمَحٍ لرَبْطٍ موضوعيٍّ مع أحداث القيامة أو الاختِبار الذي يُظهِر معدن المسلم والكافر.

صورة (3) (النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – ومشركي مكَّة):
﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ﴾ [العنكبوت: 18].

وفَجأة يتوقَّف السرد التاريخي للأحداث من نوحٍ وحتى إبراهيم – عليهما السلام – لتجد نفسَك مع النبيِّ الكريم في مُحاجَجَةٍ مع مشركيْ مكة دون أن تَشعُر أنَّك بينهم، أو أنَّ الله – تعالى – يُوجِّه نبيَّه للمُحاجَجة معهم، إلا لو تدبَّرت قليلاً في الآيات، ستَجِد أنَّ السِّياق مختلف والكلام مُوجَّه لقومٍ آخَرين غير قوم إبراهيم، وحتى كلام سيِّدنا إبراهيم أصبَح مقطوعًا بصورةٍ جديدةٍ دخَلَتْ إلى النصِّ لم تكن موجودة من قبل، وفي هذا يَقُول الإمام البقاعي: "ولما كان التقدير: فإن تصدِّقوا فهو حظُّكم في الدنيا والآخِرة، عطف عليه قوله: ﴿وَإِنْ تُكَذِّبُوا﴾، والذي دلَّنا على هذا المحذوف هذه الواو العاطفة على غير معطوف معروف ﴿فَقَدْ﴾؛ أي: فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه ﴿كَذَّبَ أُمَمٌ﴾ في الأزمان الكائنة من قبلكم"[1].

وبعد أن تَندَمِج مع صورة النبي – صلَّى الله عليه وسلَّم – بين مشركي مكَّة، ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ * قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ * وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [العنكبوت: 19 – 23]، تنتَقِل الآيات لوصف صورة أخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.