بسم الله الرّحمن الرّحيم
التذكرة الجليَّة في التحلِّي بالصبر والشكر عند البليَّة
الشيخ أبوعبدالمعز محمد علي فركوس أثابه الله .
الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:
فإنَّ أَصْدَقَ الحديثِ كتابُ الله، وخيرَ الهديِ هديُ محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، وشرَّ الأمورِ مُحْدَثاتُها، وكُلَّ مُحْدَثةٍ بدعةٌ، وكُلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكُلَّ ضلالةٍ في النار.
فإنَّ الإنسانَ في حياته مُعرَّضٌ للمَصائِب والكوارث؛ لأنَّ الحياة بطبيعتها سلسلةٌ مُتَّصِلةُ الحلقاتِ مِن الأفراح والأقراحِ، والمَحَابِّ والمَكارِهِ، والنِّعَمِ والمصائبِ، والعسرِ واليسرِ، والأمنِ والخوفِ، والصحَّةِ والموت.
والمؤمنُ العارف بدينه يُقابِل النِّعَمَ بالشكرِ والمَصائبَ بالصبر؛ فذلك مَكْمَنُ الخيرِ في فَضِيلَتَيِ الشكر والصبر.
والإنسان مطبوعٌ على الأَشَرِ والبَطَرِ عند حلول النعمة، ومجبولٌ على الهَلَعِ والجَزَعِ عند حدوث المصيبة، يدخله اليأسُ ويتمكَّن مِن نَفْسه كما أخبر المولى عزَّ وجلَّ في قوله: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا. إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا. وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا. إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ [المَعارِج: 19 ـ 22].
والمؤمنُ التقيُّ يعلم أنَّ السَّرَّاءَ والضرَّاءَ وسيلتان إلى نوعين مِن العبادة وهما: الصّبر والشكر؛ فإِنْ أُنْعِمَ عليه شَكَرَ وَاهِبَ النِّعَمِ، وإِنْ أَخَذَ ما أعطى صَبَرَ مِن غيرِ هَلَعٍ ولا جَزَعٍ؛ فهي أمانةٌ استردَّها صاحِبُها؛ فلا يزيد إلَّا أن يقول: ﴿إِنَّا للهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾ [البقرة: 156].
والشكرُ تَصَوُّرُ النِّعمةِ وإظهارُها، وهي سبيلٌ لمعرفةِ المُنْعِم، ومَن عَرَفَ المُنْعِمَ أحبَّه وَجَدَّ في السعي إليه وطَلَبَه؛ فكان معنى الشكرِ: استعمالَ النِّعمةِ في إتمامِ الحكمةِ المطلوبةِ شرعًا، المتجلِّيةِ في طاعةِ الله تعالى وهي سبيلُ الخير؛ ذلك لأنَّ معرفة المُنْعِمِ تَسْتَلْزِمُ محبَّتَه، ومحبَّته تستلزم شُكْرَه.
وأُمَّةُ الإسلام تختصُّ بهذه الدرجةِ عن بقيَّةِ الأُمَمِ والمِلَلِ حيث تستعين بنِعَمِ المُنْعِمِ على طاعته سبحانه وتعالى ومَرْضاتِه؛ فلا تجعل ما أَنْعَمَ اللهُ عليها سبيلًا إلى معصيته.
وإذا كان الرِّضَا أعلى مِن مَقامِ الصبر لكونِ العبدِ قد يصبر على المصيبةِ ولا يرضى بها، ولا يُحِبُّ المكروهَ ولا يرضى بنزوله به؛ فإنَّ الشكر أعلى مِن مَقامِ الرِّضَا لكونِ العبدِ يشهد المصيبةَ نعمةً فيَشْكُرُ المُبْلِيَ عليها؛ فيستوي عنده المكروهُ والمحبوبُ في شكرِ المُنْعِم.
ومَقامُ الرِّضَا يستدعي كَظْمَ الغيظِ الذي نَزَلَ به وسَتْرَ الشكوى، ورعايةً منه للأدب، وسلوكَ مَسْلَكِ العلم؛ ذلك لأنَّ جاهِلَ النِّعمةِ لا يُتصوَّر منه الشكرُ إلَّا بعد معرفتها؛ فالجهلُ بالنِّعمة والغفلةُ عنها مانعٌ للخَلْق عن الشكر، وهو غيرُ سبيلِ العلم؛ فإنَّ العلم والأدب يأمران بشكرِ الله في السَّرَّاء والضَّرَّاء، وفي المَحَابِّ والمَكارِه؛ فشُكْرُه بقلبه ولسانِه وجوارحِه مِن الرِّضا بقضائه:
ـ فيتذكَّرُ بقلبه أنَّ ما أصابَتْه مِن حسنةٍ فمِنَ الله، وما أُعْطي شيئًا فمِن فَضْلِ ربِّه ليَبْلُوَهُ، كما جاء قولُه تعالى على لسانِ سليمانَ عليه الصلاةُ والسلام حالَ استقرارِ عرشِ بلقيسَ عنده قبل أَنْ يَرْتَدَّ إليه طَرْفُه: ﴿هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ﴾ [النمل: 40].
ـ ويُظْهِرُ الرِّضَا عن الله تعالى بلسانه بالذِّكْرِ والتحميد الدَّالِّ عليه.
ـ أمَّا الشكرُ بالجوارح فاستعمالُ ما آتاه اللهُ مِن فَضْلِه عليه في المواضع المأمورِ بها شرعًا مُحَقِّقًا ومُتَمِّمًا الحكمةَ الشرعيةَ وهي طاعتُه سبحانه وتعالى.
وبذلك يتمُّ شكرُه وهو خيرٌ له في الدنيا والآخرة، قال تعالى: ﴿لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ﴾ [إبراهيم: 7]، وقال عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ﴾ [النحل: 41]، وقد جَعَلَ اللهُ الشكرَ مفتاحَ أهلِ الجنَّة فقال تعالى: ﴿وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ﴾ [الزمر: 74]، وفي آيةٍ أخرى: ﴿وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [يونس: 10].
كما أنَّ الواجب على المؤمنِ الصمودُ أمامَ المَصائِبِ التي تحلُّ به؛ فلا ينهزم أمامَها بل يتحلَّى بالصبر؛ فهو الأساسُ الذي بُنِيَتْ عليه قواعدُ الطاعةِ والإيمان، وتَفَرَّعَتْ عنه فروعُ البرِّ والإحسان؛ فكُلُّ خصالِ البِرِّ والخيرِ وأحوالِ الطاعة مُتعلِّقةٌ بالصبر ومُرْتَبِطةٌ به وجاريةٌ عليه؛ فالصبرُ إِذَنْ هو سرُّ العَظَمةِ وأساسُ النجاحِ كما أخبر عن ذلك النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بقوله: «وَاعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَاعْلَمْ أَنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأَنَّ الفَرَجَ مَعَ الكَرْبِ، وَأَنَّ مَعَ العُسْرِ يُسْرًا»(1)؛
فالمهتدي بطريقِ العزَّة يعيش في ظِلِّ قوله تعالى: ﴿قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ﴾ [النساء: 78]، يرضى بما اختاره اللهُ له ولا يَسْخَطُ على قضائه ولا ييأس مِن رحمته، قال تعالى: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ. أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ﴾ [البقرة: 155 ـ 157]؛ فهو يَشُقُّ طريقَه بعزيمةٍ وثباتٍ على أنواع البلاء، ويُواجِهُ صامدًا أنماطَ الكوارثِ والمَصائبِ خاصَّةً عند أوَّلِ وَهْلَةٍ، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّمَا الصَّبْرُ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الأُولَى»(2)؛ لأنَّ في الوهلة الأولى هيجانَ الحزنِ واستغراقَ الذِّهْنِ فيما نَزَلَ به؛ الأمرُ الذي يُفْضِي إلى ذهولِ عقلِهِ، وهو مَحَلُّ تَرَصُّدِ الشيطانِ اللَّعينِ له ليتمكَّن منه ليَخْرُجَ به مِن مَقامِ الرِّضَا إلى درجةِ الهَلَعِ والجَزَعِ واليأس.
لكنَّ المهتديَ لطريقِ الطاعةِ والخيرِ يَشْعُر بالرِّضَا، ويشكر ويُقاوِمُ الحُزْنَ والأسى بالصبر، ويُحَوِّلُ النقمةَ التي نَزَلَتْ به إلى خيرٍ ونعمةٍ؛ فيستوي حالُ النقمةِ ـ عند المهتدي ـ بحالِ النعمة؛ إِذِ الشكرُ والصبر يَنْبُعَان مِن الإيمان، وينبعثان مِن القلب المؤمنِ وَحْدَه، وليس ذلك لأحَدٍ سواه؛ فهو يختصُّ بالخير كُلِّه، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «عَجَبًا لِأَمْرِ المُؤْمِنِ؛ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأَحَدٍ إِلَّا لِلْمُؤْمِنِ: إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»(3).
والحديثُ يُرْشِد إلى أنَّ كُلًّا مِن الشكر والصبر مِن طبيعةِ الإيمان، وأنَّ المؤمن حقًّا لا بدَّ أَنْ يكون شاكرًا صابرًا لا يُسْتَخَفُّ ولا يُستطار؛ فيصبر على اختبار الله وبلائه ويتقبَّل قضاءَه بقَبولٍ حَسَنٍ، لا يطغى مع النعمة، ولا يجزع عند الشِّدَّة، بل يرضى بكُلِّ أوامره وأحكامِه.
ومِن أمثلةِ الهدي النبويِّ أنَّه صلَّى الله عليه وسلَّم ضَرَبَ لنا أَرْوَعَ الأمثلةِ حين أَرْسَلَتْ إليه ابنتُه تقول: «إنَّ ابني قدِ احْتُضِرَ فاشْهَدْنا»؛ فأَرْسَلَ يُقْرِئُ السلامَ ويقول: «إِنَّ للهِ مَا أَخَذَ وَلَهُ مَا أَعْطَى، وَكُلٌّ عِنْدَهُ بِأَجَلٍ مُسَمًّى؛ فَلْتَصْبِرْ وَلْتَحْتَسِبْ»(4).
وهذا الحديثُ مِن قواعدِ الإسلام المُشْتَمِلةِ على جُمَلٍ مِن أصول الدِّين وفروعِه ـ كما ذَكَرَ النوويُّ رحمه الله ـ منها: الحثُّ على الصبر والتسليمِ لقضاءِ الله وقَدَرِه.
هذا حالُ المؤمنِ وخُلُقُه، المهتدي لطريقِ الخير، السالكِ لمَسْلَكِ العلم، يحبس نَفْسَه عمَّا لا يَحْسُن فِعْلُه، ويحبس لسانَه عَمَّا لا يَحْسُن قولُه، ويرضى عن الله تعالى فيما يفعله به مِمَّا يحبُّ وقوعَه أو ما يكره وقوعَه، ويعترف لله بما أصابَهُ منه ويحتسبه عند الله تعالى.
أمَّا حالُ الجاهلِ بنِعَمِ ربِّه ومَصائِبِه فإِنْ أصابَتْه سرَّاءُ فَرِح وبَطِر، وإن أصابَتْه ضرَّاءُ يَئِس وسَخِط، وفَعَلَ كُلَّ ما يُنافي الصبرَ والرضا، ويحصل لهذا الجاهلِ بمُصيبته مِن الجَزَعِ ما يسوءُ الناظرَ إليه والسامِعَ به، مِن الاعتراضِ على القضاءِ والقَدَر، والطيشِ واللجاج، والعَجَلةِ والحِدَّة، وقولِ المُنْكَر، وشَقِّ الثياب، ولَطْمِ الخدود، وخَمْشِ الوجوه، ونَتْفِ الشعور، والتصفيقِ بإحدى اليدين على الأخرى، ورَفْعِ الصوت عند تلك الفجيعةِ، وغيرِها مِمَّا نهى عنها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم في قوله: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ ضَرَبَ الخُدُودَ، وَشَقَّ الجُيُوبَ، وَدَعَا بِدَعْوَى الجَاهِلِيَّةِ»(5)، وقد بَرِئ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم «مِنَ الصَّالِقَةِ وَالحَالِقَةِ وَالشَّاقَّةِ»(6)، قال تعالى: ﴿وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ. وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ. إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ﴾ [هود: 9 ـ 11].
بخلافِ العالم بمصيبته، فلو حَصَلَ له كربٌ عَلِمَ أنَّه مِن الله تعالى، وحَبَسَ لسانَه عن الاعتراض على المَقاديرِ وإظهارِ التسخُّط مِن كُلِّ شيءٍ يُوجِبُ إظهارَه، ويَتَيَقَّنُ أنَّه لا بدَّ له مِن الفُرْقة كما قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «قَالَ لِي جِبْرِيلُ: يَا مُحَمَّدُ! عِشْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مَيِّتٌ، وَأَحْبِبْ مَنْ شِئْتَ فَإِنَّكَ مُفَارِقُهُ، وَاعْمَلْ مَا شِئْتَ فَإِنَّكَ مُلَاقِيهِ»(7)؛ ذلك لأنَّ الجزع لا يَرُدُّ فائتًا، والحزن لا يُرْجِع هالكًا، والبكاءَ لا يُجْدي نفعًا؛ فكان الصبرُ أَلْيَقَ بأهلِ العلم وأُولي الدِّين والنُّهَى.
هذا، وقد ذمَّ اللهُ سبحانه مَن لم يتضرَّعْ إليه ويَسْكُنْ له وَقْتَ البلاءِ والشِّدَّة والنِّقْمَة كما أَخْبَرَ المولى عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ﴾ [المؤمنون: 76]؛ فاللهُ ـ سبحانه وتعالى ـ يبتلي عَبْدَه ليمتحن صَبْرَه ورِضاه وتَضرُّعَه وشكواه؛ فيُثيبُه على قَصْدِهِ ونيَّتِهِ.
والشكوى والجَزَعُ إلى الخَلْق دون الخالق تُضاعِفُ المصيبةَ ولا تدفعها، وتُضْعِف النَّفْسَ، وتُغْضِبُ الربَّ وتَسُرُّ الشيطان، وتُشْمِت العَدُوَّ وتَسُوءُ الصديقَ، وتُحْبِطُ العملَ.
لذلك كان السلفُ يكرهون الشكوى إلى الخَلْق، واللهُ تعالى يمقت مَن يَشْكُوهُ إلى خَلْقِه ويحبُّ مَن يشكو ما به إليه.
تلك هي صفةُ المؤمنِ المهتدي بهديِ ربِّه، المتمسِّكِ بسُنَّة نبيِّه، القائمِ بشرعه: أنَّه إذا حلَّ به ما يحبُّ ويرضى حَمِد اللهَ تعالى وشَكَره على نَعْمَائه وآلائه، وإن نَزَل به ما يكره ونالَه ما يَسُوءُ ويُحْزِن لم يَجْزَع ولم يُصِبْهُ قنوطٌ، إنَّما قابَلَ ذلك بالرِّضا لقضاءِ الله وقَدَرِه، وثَبَتَ على الصبر وحُسْنِ التجمُّل، وتحلَّى بالحِلْم الذي يضبط خُطاه.
والعلمُ النافعُ طريقُه طريقُ هدايةٍ إلى الطاعةِ والعبادة والخير؛ فالتحلِّي بفضيلتَيِ الشكر والصبرِ قُرْبٌ مِن الله تعالى لأنَّهما ينبعان مِن الإيمان، ولا سبيلَ للقُرْب مِن الله إلَّا بالإيمان؛ فالجهلُ بحقيقة الصبر والشكرِ جهلٌ بالإيمان وغفلةٌ عن وَصْفَيْنِ للرَّحمن؛ فقَدْ سمَّى اللهُ تعالى نَفْسَهُ شكورًا أي: المُثْنِيَ على المطيعين مِن عباده المعطيَ لهم ثوابَ ما فَعَلُوه مِن الخير، صبورًا أي: الذي لا يُعَجِّلُ بالمؤاخَذةِ لمن عَصَاهُ.
وأخيرًا، فإنَّ الذي أَنْزَلَ الداءَ أَنْزَلَ الدواءَ ووَعَدَ بالشفاءِ، وأَنْفَعُ دواءٍ للمُصاب مُوافَقةُ ربِّه فيما أحبَّه ورَضِيَه له؛ إذ سِرُّ المحبَّةِ مُوافَقةُ المحبوبِ بأَنْ يُؤْثِر ما يرضى له به ربُّه عمَّا يرضاه هو لنَفْسه؛ فإِنْ نَزَل به مكروهٌ قابَلَهُ بالشكر، وصَبَرَ في المكروه والبلاء بمُلاحَظةِ حُسْنِ الجزاء وانتظارِ رَوْح الفَرَجِ، وَذَكَرَ سوالِفَ النِّعَمِ؛ فهذا هو الكمالُ الأعظم.
فنسأل اللَه تعالى أَنْ يُلْهِمَنَا الصبرَ ويرزقَنا الشكرَ، لأنَّ المحرومَ مَن حُرِمَ عظيمَ الثواب، والملومَ مَن جَزِعَ لِأليمِ المُصاب، ونسأله تعالى العافيةَ، ودوامَ العافية، والشكرَ على العافية، والثباتَ في الأمر، والعزيمةَ على الرشد، كما نسأله حُسْنَ الخاتمة.
«اللَّهُمَّ اقْسِمْ لَنَا مِنْ خَشْيَتِكَ مَا يَحُولُ بَيْنَنَا وَبَيْنَ مَعَاصِيكَ، وَمِنْ طَاعَتِكَ مَا تُبَلِّغُنَا بِهِ جَنَّتَكَ، وَمِنَ اليَقِينِ مَا تُهَوِّنُ بِهِ عَلَيْنَا مَصَائِبَ الدُّنْيَا، وَمَتِّعْنَا بِأَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا مَا أَحْيَيْتَنَا، وَاجْعَلْهُ الوَارِثَ مِنَّا، وَاجْعَلْ ثَأْرَنَا عَلَى مَنْ ظَلَمَنَا، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ عَادَانَا، وَلَا تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا، وَلَا تَجْعَلِ الدُّنْيَا أَكْبَرَ هَمِّنَا وَلَا مَبْلَغَ عِلْمِنَا، وَلَا تُسَلِّطْ عَلَيْنَا مَنْ لَا يَرْحَمُنَا»(8).
وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصَلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبِهِ وإخوانِهِ إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 6 ربيع الأوَّل 1445ه
الموافق ل: 28 ديسمبر 2024م
——————————————————————————-
(1) أخرجه أحمد (2803)، والضياءُ في «المختارة» (11/ 118)، مِن حديث ابنِ عبَّاسٍ رضي الله عنهما. والحديث حسَّنه ابنُ رجبٍ في «جامع العلوم والحِكَم» (1/ 459)، والسخاويُّ في «المقاصد الحسنة» (188)، وصحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه ل «مسند أحمد» (4/ 287)، والألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (2382) وفي «ظلال الجنَّة في تخريج السنَّة» (315).
(2) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجنائز» بابُ زيارةِ القبور (1283)، ومسلمٌ في «الجنائز» (926)، مِن حديث أنس بنِ مالكٍ رضي الله عنه.
(3) أخرجه مسلمٌ في «الزهد والرقائق» (2999) مِن حديث صهيبٍ رضي الله عنه.
(4) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجنائز» بابُ قولِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: يُعذَّب الميِّت ببعض بكاء أهله عليه إذا كان النوحُ مِن سنَّته (1284)، ومسلمٌ في «الجنائز» (923)، مِن حديث أُسامةَ بنِ زيدٍ رضي الله عنهما.
(5) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجنائز» باب: ليس منَّا مَن ضَرَبَ الخدودَ (1297)، ومسلمٌ في «الإيمان» (103)، مِن حديث عبد الله بنِ مسعودٍ رضي الله عنه.
(6) مُتَّفَقٌ عليه: أخرجه البخاريُّ في «الجنائز» بابُ ما يُنهى عن الحَلْق عند المصيبة (1296)، ومسلمٌ في «الإيمان» (104)، مِن حديث أبي موسى رضي الله عنه.
(7) أخرجه الحاكم في «المُسْتَدْرَك» (7921)، والقُضاعيُّ في «مسنده» (746)، مِن حديث سهل بنِ سعدٍ رضي الله عنهما؛ وأخرجه البيهقيُّ في «شُعَب الإيمان» (10057)، والطيالسيُّ (1862)، مِن حديث جابرٍ رضي الله عنه. والحديث حَسَّنه الهيثميُّ في «مَجْمَع الزوائد» (10/ 375)، والألبانيُّ في «صحيح الجامع» (4355).
(8) أخرجه الترمذيُّ في «الدَّعَوات» (3502) مِن حديث ابنِ عمر رضي الله عنهما. وحسَّنه الألبانيُّ في «صحيح الجامع» (1268).
https://ferkous.com/home/?q=art-mois-97
موضوعي هذا مكرّر للأسف للأخ فتحون في قسم النوازل، أرجو من الإدارة حذفه و شكرًا.
https://www.djelfa.info/vb/showthread.php?p=3992396851