تخطى إلى المحتوى

كشوف جديدة في إعجاز القرآن الكريم 2024.

سورة الكوثر

بـسم الله الرحمـن الرحيــم

«إنا أعطيناك الكوثر، فصل لربك و انحر، إن شانئك هو الأبتر».

إن تفسير هذه السورة واضح، فقد منح الله تعالى رسوله نهر الكوثر في الجنة، كما ورد في حديث رواه البخاري: "بينا أسير في الجنة إذا بنهر حافتاه قباب الدر المجوف. قلت: ما هذا يا جبريل؟ قال: هذا الكوثر الذي أعطاك ربك. فإذا طينه مسك أذفر". و بعض المفسرين يفسر الكوثر بالخير الكثير. و لا تعارض بين التفسيرين: فنهر الكوثر هو الخير الكثير.

ثم يأمر الله رسوله أن يصلي (فصل لربك). ثم يأمره بأن ينحر الأضاحي ثم يبشره بأن مبغضه المشرك هو الأبتر الذي سينقطع ذكره بين الناس و أن الرسول عليه الصلاة و السلام هو الذي لن ينقطع ذكره أبدا، و ذلك بقوله تعالى: (إن شانئك هو الأبتر).

هذا هو التفسير المعروف لهذه السورة. و لكن، أليس فيها فكرة واحدة تربط بين أجزائها و تجعل لها معنى متكاملا متلاحما؟ فما هو الرابط بين نهر الكوثر الذي في الجنة، و بين الصلاة و نحر الأضاحي، و ذكر المشرك الأبتر، و ذكر الرسول الذي لن ينقطع؟

إن الفكرة التي تتجلى في جميع أجزاء هذه السورة الكريمة هي فكرة "النهر". فالنهر سائل متدفق، يستعمله الناس للغسل و التطهير، و في ري المزروعات و تغذيتها، و في نقل الأشياء كالأخشاب و السفن و غيرها، فلنبحث الآن عن فكرة في أجزاء السورة الكريمة.
الكوثر نهر: أما الكوثر فقد تبين آنفا أنه نهر في الجنة.
الصلاة نهر: و أما فكرة النهر في الصلاة، فقد كفانا مؤنة البحث عنها الحديث الشريف الصحيح المتفق عليه الذي نصه: "أرأيتم لو أن نهرا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمسا، هل يبقى من درنه شيئ؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيئ. قال: فذلك مثل الصوات الخمس يمحو الله بهن الخطايا".

و نحن نعلم أن الصلاة، كالنهر العادي، تتمتع بخاصية التطهير و الغسل. فمن الناحية المادية، لا بد لقبول الصلاة من تطهير المصلي لبعض أعضاء جسمه بالوضوء، و أن يكون طاهرا من النجاسات في جسمه و ثوبه و مكان صلاته. و من الناحية الروحية فالصلاة طهارة من العيوب النفسية كالهلع و الجزع عند المصائب و البخل عند الغنى، كما قال تعالى: " إن الإنسان خلق هلوعا، إذا مسه الشر جزوعا، و إذا مسه الخير منوعا، إلا المصلين، الذين هم على صلاتهم دائمون" (المعارج 19-23). كما أن الصلاة تردع النفس عن الأعمال التي تؤذيها روحيا، كما قال تعالى: "إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر" (العنكبوت 45).

النهر في النحر: و أما قوله تعالى "و انحر" فهو أمر بذبح الأضحية و إسالة دمها. و الدم نهر متدفق يجري في الجسم، و هو يشارك النهر العادي في صفات النقل و التغذية و التطهير فمن المعلوم أن الدم ينقل الأغذية إلى جميع أعضاء الجسم صغيرها و كبيرها، و العضو الذي لا يمده الدم بالغذاء يموت.

أما عمل الدم التطهيري فإنه يتجلى في تجميع سموم الجسم ثم طرحها في الكليتين التين تقومان بطرد هذه السموم من الجسم عن طريق الجهاز البولي.

و هنالك عمل تطهيري آخر في النحر: أليس الدم نجسا؟ أو لسنا حين ننحر الأضحية نطهرها من دمها النجس قبل أن نأكلها؟ أليس هذا حرصا من الشارع على أن يطهر أجسامنا من الأقذار و السموم؟

هنالك طهارة أخرى نفسية في نحر الأضحية: فالذي ينحر الأضحية لا بد أن يدفع ثمنها، و هذا نوع من الزكاة، و هو تطهير النفس من صفة الشح التي يبين الله أنها من صفات كل نفس و ذلك في قوله تعالى: " و أحضرت الأنفس الشح" (النساء 127) و هكذا تتجلى فكرة "النهر" في قوله تعالى "و انحر".

نهر الزمان:و أما قوله تعالى: "إن شانئك هو الأبتر" فهو يعني بوضوح أن ذكر محمد عليه الصلاة و السلام سيبقى مرفوعا عبر الأجيال، و أما مبغضه فهو الذي سينقطع ذكره و ينبتر. و أما فكرة النهر هنا فهي متضمنة في نهر الزمان الذي ينقل أخبار الجيل السابق إلى الجيل اللاحق، و ينقل القيم و السير من جيل إلى جيل كما ينقل النهر العادي الأخشاب و السفن من مكان إلى مكان. فالآية تعني أن نهر الزمان سيظل متدفقا بذكر محمد صلى الله عليه و سلم.

و بالفعل فإن إسم الرسول الكريم يذكره المؤذنون بقولهم "أشهد أن محمدا رسول الله" على المآذن خمس مرات في يوميا في مشارق الأرض و مغاربها كما يذكره المصلون في الصلوات الخمس، و يذكره عامة المسلمين في حياتهم اليومية. و ستذكره الخلائق كلها يوم القيامة حين يطلبون شفيعا يشفع لهم عند الله ليخلصهم من الغم و الكرب الذي يعانون منه في ذلك اليوم، فلا يجدون غير محمد عليه الصلاة و السلام شافعا.

أما مبغض الرسول فقد انقطع ذكره و انبتر، فلا أحد يذكره و قد ضاعت هويته فعلا. فمن المفسرين من يقول إنه أبو جهل، و منهم من يقول إنه العاص بن وائل، و بعضهم قال إنه كعب بن الأشرف، و بعضهم قال إنه أبو لهب فحقيقته قد ضاعت …

المعنى الإجمالي للسورة: و هكذا يتبين أن فكرة النهر تتجلى في جميع أجزاء السورة، مما يدل على أن هناك "هندسة إلهية" خاصة لهذه السورة الكريمة، وضعت لتفيد معنى إجماليا رائعا متكاملا متناسقا: فكأن الله تعالى يخاطب رسوله و يخاطب كل مسلم من أتباعه قائلا: "طهر نفسك من نهرين في أنهار الدنيا، تنل نهر الذكر المرفوع الدائم في الدنيا و الآخرة، كما تنال نهر الكوثر العظيم الخالد في الآخرة".

الهم صلي وسلم علي سيدنا محمد

بارك الله فيك

———بارك الله فيك———-

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.