جعل الله ـ عز وجل ـ المراهقة مرحلة انتقالية بين الطفولة والرشد، ولهذا فإن أحد مفاتيح فهم شخصية المراهق يتمثل في إدراك الأنشطة والمواقف التي يحاول المراهق من خلالها أن يُثبت لنفسه ولمن حوله بأنه جدير بالاحترام، وجدير بأن يعامَل على أنه شخص كامل الأهلية وذو رأي ناضج ومعبر عن خبرة وتجربة …. مساعي المراهق للاستقلال كثيرا ما تتجلى في مجادلة والديه وإخوته في أمور تافهة وصغيرة، وهو حين يجادل لا يشك في أن رأيه صواب، وأن رأي غيره خاطئ مئة في المئة.
في يوم من الأيام دخل أحد المراهقين إلى بيت أهله وهو غاضب، وحين سألته والدته عن سبب غضبه أبى أن يتكلم، وبعد إلحاح شديد قال: إن خالي أهانني إهانة شديدة، وذلك أني ألقيت عليه السلام مرتين، ولم يرد عليّ، وأخذ الفتى يتحدث بصوت مرتفع مع شيء من الهياج عن أن رد السلام واجب، ولو كان الذي يلقي السلام صغير السن، ثم شرع يذكر لوالدته سبب عدم رد خاله للسلام، وأنه يكمن في أن علاقته ـ أي الخال ـ مع أبيه ليست جيدة بسبب نزاع على ملكية إحدى الأراضي، فأحب أن يتجاهله، ويُعرِض عنه، وقد حاولت والدته إقناعه بأن ذلك لم يكن مقصودا، وأن خاله لم يسمع بالتأكيد سلامه، لكن الفتى كان يرفض ذلك بشدة، ويرد على والدته كل كلمة تقولها، وكل احتمال تسوقه، قالت والدته: سوف أسأل خالك عن هذا، وأحاول أفهم أسباب ما جرى، وكان رد الفتى: أن لا فائدة من ذلك لأن خاله لن يقول الحقيقة! وحين سألت الأم أخاها عن ذلك أقسم يميناً مغلّظة أنه لم ير ابن أخته، ولم يسمع تسليمه، وأنه كان وقت مرور ابن أخته في حالة سيئة جدا بسبب ما سمعه عن طلاق ابنته من زوجها…. ومع هذا فإن الفتى لم يقتنع!
إن الطفل يقول: أنت، وإن المراهق يقول: أنا، أما الراشد فإنه يقول: نحن، هكذا هي مرحلة المراهقة ، إنها مرحلة اعتزاز بالذات وبناء الاستقلالية.
في بعض الأحيان يتجلى سعي المراهق إلى الاستقلال في إغلاق باب غرفته عليه دون أي سبب يدعو إلى ذلك، إنه يريد أن يؤكِّد أن هذه المساحة من المنزل له وحده، ولا ينبغي اقتحامها إلا بإذنه، لكن الأهل يستنكرون ذلك أشد الاستنكار، وكثيرا ما يثير ذلك في نفوسهم الشك والريبة، ولهذا فإنهم يحذّرونه مئات المرات من إقفال الباب على نفسه، وهو مصرٌّ على القيام بذلك من أجل توكيد معنى الخصوصية والإنعتاق من التبعية.
كثرة الخروج من المنزل تعبير آخر عن الاستقلال، فالمراهق يدرك أنه ما دام داخل المنزل، فإن عليه أن يتلقى الأوامر، ويسمع ويطيع، ويرضخ لسلطة الكبار في المنزل، أي أن استقلاله وهو في بيته يكون دائما منقوصا. ويكثر خروج المراهقين من منازلهم في أيام الإجازات، حيث لا يكون للبقاء في المنزل أي معنى، وقد كانت إحدى الأمهات تداعب ابنها إذا عاد من اللعب مع أصدقائه بقولها: لا بد أنك الآن جائع، ولولا ذلك لما عدتَ إلى المنزل!.
لكن هذا مؤقت، وحين يكبر المراهق، ويدخل في مرحلة الشباب، فإن الحس الجماعي سينمو لديه، ومع نموه سوف يتعلم كيف يتقبل الآخرين، وكيف يعذرهم، و كيف يعايشهم.