تخطى إلى المحتوى

هل كل صاحب بدعة لا يوفق للتوبة تحرير الشاطبي رحمه الله تعالى للمسألة . 2024.

  • بواسطة

قال الشاطبي-رحمه الله تعالى- في "الاعتصام" :
((المسألة العشرون أن قوله عليه الصلاة والسلام : "أنه سيخرج من أمتي…" أقوام على وصف كذا ، يحتمل أمرين:
أحدهما : أن يريد أن كل من دخل من أمته في هوى من تلك الأهواء ورآها وذهب إليها ، فإن هواه يجري فيه مجرى الكَلَب بصاحبه فلا يرجع أبداً عن هواه ولا يتوب من بدعته .
والثاني : أن يريد أن من أمته من يكون عند دخوله في البدعة مُشرب القلب بها فلا يمكنه التوبة، ومنهم من لا يكون كذلك ، فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .
والذي يدل على صحة الأول هو النقل المقتضى الحجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ،كقوله عليه الصلاة والسلام في الخوارج :
"يمرقون من الدين… ثم لا يعودون حتى يعود السهم على فوقه" وقوله : "إن الله حجر التوبة عن صاحب البدعة" ، وما أشبه ذلك ، ويشهد له الواقع ، فإنه قلما تجد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه يخرج عنها أو يتوب منها ، بل هو يزداد بضلالتها بصيرة .
روي عن الشافعي أنه قال : مثل الذي ينظر في الرأي ثم يتوب منه مثل المجنون الذي عولج حتى برىء ، فأغفل ما يكون قد هاج .
ويدل على صحة الثاني أن ما تقدم من النقل لا يدل على أن لا توبة له أصلاً ، لأن العقل يجوز ذلك، والشرع إن جاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنما يعتبر عادياً ، والعادة إنما تقتضي في العموم الأكثرية ، لا انحتام الشمول الذي يجزم به العقل إلا بحكم الاتفاق ، وهذا مبين في الأصول .
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملاً ببدع ثم تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ، كما رجع من الخوارج من رجع حين ناظرهم عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، وكما رجع المهتدي والواثق وغيرهما ممن كان قد خرج عن السنة ثم رجع إليها ، وإذا حصل تخصيص العموم بمفرد لم يبق اللفظ عاماً وحصل الانقسام .
وهذا الثاني هو الظاهر ، لأن الحديث أعطى أوله أن الأمة تفترق ذلك الافتراق من غير إشعار بإشراب أو عدمه ، ثم بين أن في أمته المفترقين عن الجماعة من يشرب تلك الأهواء ، فدل أن فيهم من لا يشربها ، وإن كان من أهلها.
ويبعد أن يريد أن في مطلق الأمة من يشرب تلك الأهواء ، إذ كان يكون في الكلام نوع من التداخل الذي لا فائدة فيه ، فإذا تبين أن المعنى أنه يخرج في الأمة المفترقة بسبب الهوى من يتجارى به ذلك الهوى، استقام الكلام واتسق ، وعند ذلك يتصور الانقسام .
وذلك بأن يكون في الفرقة الواحدة من يتجارى به الهوى كتجارى الكلب ، ومن لا يتجارى به ذلك المقدار ، لأنه يصح أن يختلف التجاري ، فمنه ما يكون في الغاية حتى يخرج إلى الكفر أو يكاد ، ومنه ما لا يكون كذلك .
فمن القسم الأول من لا ترجى توبته الخوارج، بشهادة الصادق المصدوق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال :
"يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية" ، ومنه هؤلاء الذين أغرقوا في البدعة حتى اعترضوا على كتاب الله وسنة نبيه ، وهم بالتكفير أحق من غيرهم ممن لم يبلغ مبلغهم .
، ومن القسم الثاني من ترجى توبته أهل التقبيح والتحسين على الجملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
ومن القسم الثاني أهل التحسين والتقبيح على الجملة ، إذا لم يؤدهم عقلهم إلى ما تقدم .
ومنه مذهب الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه.
وعلى ذلك نقول :
إن من خرج عن الفرق ببدعة وإن كانت جزئية، فلا يخلو صاحبها من تجاريها في قلبه وإشرابها له ، لكن على قدرها ، وبذلك أيضاً تدخل تحت ما تقدم من الأدلة على أن لا توبة له ، لكن التجاري المشبّه بالكلب لا يبلغه كل صاحب بدعة ، إلا أنه يبقى وجه التفرقة بين من أشرب قلبه بدعةً من البدع ذلك الإشراب ، وبين من لم يبلغه ممن هو معدود في الفرق ، فإن الجميع متصفون بوصف الفرقة التي هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما ـ والله أعلم ـ أحد أمرين :
إما أن يقال : إن الذي أشربها من شأنه أن يدعو إلى بدعته، فيظهر بسببها الموالاة والمعاداة ، والذي لم يشربها لا يدعو إليها ،أو لا ينتصب للدعاء إليها.
ووجه ذلك: أن الأول لم يدع إليها إلا وهي وقد بلغت من قلبه مبلغاً عظيماً ، بحيث يطرح ما سواها في جنبها ، حتى صار ذا بصيرة فيها لا ينثني عنها ، وقد أعمت بصرَه وأصمت سمعه،واستولت على كليته، وهي غاية المحبة .
ومن أحب شيئاً هذا النوع من المحبة والى بسببه وعادى ، ولم يبال بما لقي في طريقه ، بخلاف من لم يبلغ ذلك المبلغ ، فإنما هي عنده بمنزلة مسألة علمية حصلها ، ونكته اهتدى إليها، فهي مدخرة في خزانة حفظه، يحكم بها على من وافق أو خالف ، لكن بحيث يقدر على إمساك نفسه عن الإظهار مخافة الإنكار ، أو القيام عليه بأنواع الإضرار ، ومعلوم أن كل من داهن على نفسه في شيء وهو قادر على إظهاره،لم يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الاستيلاء ، فكذلك البدعة إذا استخفى بها صاحبها .
وإما أن يقال : إن من أشربها ناصب عليها بالدعوة المقترنة بالخروج عن الجماعة والسواد الأعظم ، وهي الخاصية التي ظهرت في الخوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العربي في "العواصم" قال : "أخبرني جماعة من أهل السنة بمدينة السلام : أنه ورد بها الأستاذ أبو القاسم عبد الكريم بن هوازن القشيري الصوفي من نيسابور فعقد مجلساً للذكر ، وحضر فيه كافة الخلق ، وقرأ القارئ : {الرحمن على العرش استوى} قال لي أخصهم : فرأيت ـ يعني الحنابلة ـ يقومون في أثناء المجلس ويقولون: قاعد! قاعد! قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ، وثار إليهم أهل السنة من أصحاب القشيري ومن أهل الحضرة ، وتثاور الفئتان وغلبت العامة ، فأجحروهم إلى مدرسة النظامية وحصروهم فيها، ورموهم بالنشاب ، فمات منهم قوم ، وركب زعيم الكفاة وبعض الدارئة فسكنوا ثورانهم" .
فهذا أيضاً من قبيل من أشرب قلبه حب البدعة، حتى أداهم ذلك إلى القتل ، فكل من بلغ هذا المبلغ، حقيق أن يوصف بالوصف الذي وصفه به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يعد من ذلك الحزب .
وكذلك هؤلاء الذين داخلوا الملوك، فأدلوا إليهم بالحجة الواهية ، وصغروا في أعينهم حَمَلة السنة وحماة الملة ، حتى وقفوهم مواقف البلوى ، وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ، وانتهى بأقوام إلى القتل ، حسبما وقعت المحنة به زمان بشر المريسي في حضرة المأمون وابن أبي داؤد وغيرهما .
فإن لم تبلغ البدعة بصاحبها أن يناصب هذه المناصبة فهو غير مشرب حبها في قلبه، كالمثال في الحديث ، وكم من أهل البدع لم يقوموا ببدعتهم قيام الخوارج وغيرهم ، بل استتروا بها جداً ، ولم يتعرضوا للدعاء إليها جهاراً كما فعل غيرهم ، ومنهم من يُعد في العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم شهرتهم بما انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أولى الوجوه بالصواب ، وبالله التوفيق))اهـ . __________________

منقول من اهل الحديث

نفع الله بكم
وقد جاء في الآثار عن بعض السلف قولهم: (إن البدعة لا يُتاب منها)
قال شيخ الإسلام -رحمه الله- في شرحه لمعنى هذه العبارة:
(قال أئمة الإسلام ، كسفيان الثوري وغيره ‏: "‏إن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية؛ لأن البدعة لا يتاب منها، والمعصية يتاب منها".‏
ومعنى قولهم‏ :‏ "إن البدعة لا يتاب منها‏": أن المبتدع الذي يتخذ ديناً لم يشرعه اللّه ولا رسوله قد زين له سوء عمله فرآه حسناً، فهو لا يتوب ما دام يراه حسناً؛ لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسناً مأموراً به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله‏ .‏
فما دام يرى فعله حسناً وهو سيء في نفس الأمر فإنه لا يتوب‏، ‏ولكن التوبة منه ممكنة وواقعة بأن يهديه اللّّه ويرشده حتى يتبين له الحق، كما هدى – سبحانه وتعالى – من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه اللّه علم ما لم يعلم كما قال تعالى :{‏وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ‏} ‏[‏محمد ‏:‏ 17‏]‏
وقال تعالى‏ :{‏وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا‏.‏ وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا‏.‏ وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا‏}‏ ‏[‏النساء‏ :‏ 66ـ 68‏]‏
وقال تعالى ‏:‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحديد ‏:‏ 28‏]‏
وقال تعالى‏ :{‏اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏ :‏ 257‏]‏
وقال تعالى‏ :‏{‏قَدْ جَاءَكُمْ مِنْ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ‏.‏ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنْ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ‏}‏ ‏[‏المائدة‏ :‏ 15، 16‏]‏‏‏ وشواهد هذا كثيرة في الكتاب والسنة‏).‏ أهـ

‏‏‏‏
" مجموع الفتاوى " مجلد " الآداب والتصوف " بعنوان :" كلمات في أعمال القلوب "

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.