المطلب الأول
المجال السياسي
لإدراك الأسباب التي نتجت عنها الاختلافات المذهبية بين المسلمين، يتحتم استحضار ملخص للواقع الذي عاشوه إثر وفاة النبي صلى الله عليه و سلم مباشرة، والذي أفرز مشكلات تمحورت حول خلافته صلى الله عليه و سلم ، وصون وحدة الأمة، واستمرار بثّ الدعوة. وإذا كان المسلمون قد تابعوا نشر الدين الإسلامي في المشرق والمغرب، فإنهم بالنسبة لسد فراغ رئاسة الدولة، قد ارتضوا جميعاً بما يجمع كلمة المسلمين، لولا أن تطورت المسألة لنزاعات أثيرت حول الخلافة، جعل الوحدة الإسلامية تتعرّض للتصدع. من هنا فإن موضوع الخلافات المذهبية يقتضي الوقوف عند مجالات ثلاثة :
1. مجال سياسي. 2. مجال عقـدي. 3. مجال فقهي.
معروف أن دوافع الاختلافات السياسية الأولى كانت بسبب موضوع الخلافة، حيث مال كل فريق إلى ما ثبت لديه ورجّحه من الرأي، بينما كان الإمام علي كرم الله وجهه، قد حسم الخلاف بنفسه وقبل الأمر وبايع الخليفة الأول أبا بكر الصديق ثم الخليفة الثاني من بعده عمربن الخطاب، ثم الخليفة الثالث عثمان بن عفان، (رضي الله عنهم جميعاً)، حفاظاً منه على جمع كلمة المسلمين، ووحدتهم، حتى صار الأمر إليه، وقبل إمارة المؤمنين ليسير بهم نحو نصرة الإسلام وخير المسلمين، على أن ظهور الفتنة بإصرار المطالبين بسرعة القصاص من قتلة عثمان قد قسَّم المسلمين إلى فرق متعارضة يمكن أن يقال إنها أهم الفرق الإسلامية :
الأول : الخوارج : وهم الذين خرجوا على علي بن أبي طالب لرضاه بالصيغة التي تم عليها التحكيم وما نتج عنه(1)، ومن أهم فرقهم :
1. الأزارقة، وهم أتباع نافع بن الأزرق، 2. النجدات، وهم أتباع نجدة بن عامر، 3. الإباضية، وهم أتباع عبد الله بن إباض، ويرفضون أن يعتبروا من الخوارج، لأن زعيمهم رفض الخروج على الخلافة. 4. الصفرية، وهم أتباع زياد بن الأصفر.
الثاني : الشيعة : ويشكلون حزباً اتخذ أبعاداً مذهبية في أعقاب موت الإمام علي رضي الله عنه وما كان لابنيه الحسن والحسين مع معاوية ويزيد، ويتكون هذا الحزب من المعتقدين في أحقية عليّ وابنيه في الخلافة، أما فرقهم فكثيرة، وأشهرها :
1. الإمامية، وهم القائلون بإمامة علي بن أبي طالب بعد النبي نصاً صريحاً، اعتماداً على ما روي عنه صلى الله عليه و سلم في غدير خم، حيث قال : "من كنت مولاه فعلي مولاه، واعتماداً كذلك على أحاديث كثيرة يروونها في فضل الإمام علي ـ كرم الله وجهه" (2)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــ
(1)- الفرق الإسلامية، (ذيل كتاب شرح المواقف ـ للكرماني), ص 11
(2)- دراسات عن الفرق في تاريخ المسلمين، د. أحمد محمد أحمد جلي,ص27
وللإمامية فرق و فروع متعددة، أهمها :
أ) الاثنا عشرية، وهم الذين ساقوا الإمامة من جعفر الصادق إلى ابنه موسى، حتى الإمام المنتظر، وهو الثاني عشر.
ب) الإسماعيلية، وهم الذين ساقوا الإمامة إلى جعفر، واعتبروا أن الإمام بعده ابنه إسماعيل.
2. الزيدية، وهم أتباع الإمام زيد بن علي بن زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وهم لا يقولون بالمهدوية والتقية والرجعة، ويجيزون إمامة المفضول مع وجود الأفضل.
الثالث : المرجئة : وسموا مرجئةً لإرجائهم أمر المختلفين إلى الله.
الرابع : السنة والجماعة : وهم القائلون بأن الرسول صلى الله عليه و سلم ترك الأمر شورى للمسلمين، ولم ينصّ على خليفة بعينه. وأن أفضل المسلمين بعد الرسول صلى الله عليه و سلم هم الخلفاء الراشدون وكبار صحابته الذين توفى، صلوات الله وسلامه عليه، وهو عنهم راضٍ. ويمكن القول بأنها تبلورت فرقة كلامية إسلامية مستقلة بعد الوفاق بين الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ ومعاوية بن أبي سفيان عام الجماعة، ولذا فقد رأى أقـطابها تجنب الخوض في الخلاف، ويمثلهم في ذلك الإمام مالك بن أنس بقوله : >قوم سلمت منهم سيوفنا فلتسلم منهم ألسنتنا" وبذلك اتسعت دائرة المنتمين إليها فكانت أكثر الفرق الإسلامية عدداً"(1).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) – نفس المرجع السابق(دراسات عن الفرق ),ص 41
المطلب الثاني
المجال العقدي
لم يلبث هذا الاختلاف الذي اصطبغ بالطابع السياسي أن تطور فأصبح عقدياً يمس عقيدة الأطراف المتنازعة وينظر إليها من زاوية الأحقية في الخلافة. ثم أثيرت قضية الإيمان والكفر، في محاولة جدلية لتحديد مفهومهما، من خلال مدى اعتبار الإيمان مجرد تصديق بالقلب وإقرار باللسان واعتبار العمل جزءاً من الإيمان أو عدم اعتباره.
وفي هذا السياق يكون للفرق الموجودة رأيٌ في الموضوع على هذا النحو :
1. الشيعة : وهم وفق ما رأينا أصحاب عليّ وشيعته. وأهم مباحثهم الإمامة.
2. المرجئة : وقد سبق ذكرهم. والإيمان عندهم يصح بمجرد التصديق.
3. المعتزلة : والإيمان عندهم لا يصح بمجرد التصديق والإقرار، فهم يشترطون العمل، ومرتكب الكبيرة عندهم في منزلة بين المنزلتين.
4. الخوارج : وهم الذين خرجوا على عليّ، ومرتكب الكبيرة عندهم كافر ومعنى ذلك أن العمل عندهم جزء من حقيقة الإيمان كالمعتزلة.
5. السنة والجماعة : والإيمان عندهم باتباع كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه و سلم في كلّ قضية من قضايا العقيدة، وعدم ردّ أيّ شيء منهما أو تأويله، والالتزام بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم .
انطلاقاً من هذه المواقف السياسية، ونتيجة للتطور الثقافي الذي عرفه المسلمون، بدأ النظر إلى قضايا العقيدة بشيء من التأويل، مما أوجد علماً إسلامياً جديداً هو الذي عرف بـ "علم الكلام" وتمحور حول مسائل الإلهيات والنبوات وغيرها، وأهم المسائل التي اختلفت فيها الفرق مسألتان هما :
1. القضاء والقدر، أي هل الإنسان مخير في أفعاله أم مسير ؟، وهي مسألة وقع النظر إليها في اتجاهات ثلاثة، كل منها كان يعتمد نصوص القرآن الكريم.
الأول : يرى الإنسان حراً في اختيار أفعاله وبالتالي فهو مسؤول عنها.
الثاني : يرى الإنسان مجبراً على أفعاله، ومسيراً فيها، لا حرية له في اختيارها.
الثالث : يرى أن الإنسان مخير في بعض أفعاله ومسير في بعضها الآخر.
"ولعلنا نستطيع أن نقول بقصد التعريف لا بقصد الخوض فيه، إنه في نطاق الآراء والمقولات، عن القضاء والقدر، وفي مسائل الوعد والوعيد، تبلور علم الكلام"(1)
الذي هو أحد العلوم الشرعية، لتناوله أصول العقيدة الإسلامية، في اعتماد على ما هو يقيني بالنص وما هو ثابت بالعقل، مع التوسل بمنهج يرتكز على البرهان، ثم على التفويض والتسليم ببعض الظواهر التي تستعصي على التفسير، أو التأويل أي تأويل النصوص، لا سيما في مجال المتشابه من الآيات القرآنية.
2. الصفات : وقد تم النظر إليها من خلال ما ورد منها في بعض الآيات الكريمة.
وهنا تبلور اتجاهان متميزان :
الأول : يثبت الصفات، والثاني : ينفي الصفات.
هذا، وقد اتخذ بعض أهل السنة موقفاً سلبياً من علم الكلام، ثم استحسن بعض المتأخرين منهم الخوض فيه، ولا سيما مع اتجاه أبي الحسن علي بن إسماعيل الأشعري (324-260هـ) الذي صاغ العقيدة صياغة وافقت من كان من أهل السنة ميَّالاً للجدل العقلي، وكان في ذلك قد اتخذ موقفاً وسطاً يكشف عنه، مثلاً، رأيه المعتدل بين القائلين بالجبر والقائلين بالاختيار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- نفس المرجع السابق(دراسات عن الفرق ) ، ص 42
المطلب الثالث
المجال الفقهي :
المذهب : "مجموعة مبادئ وآراء متصلة ومنسقة، لمفكر واحد أو لمدرسة فكرية، وكما يكون في الفقه يكون في الفلسفة، أو العلم، أو الآداب"(1). أما الفِرْقة : فإنها جماعة تربطها معتقدات معينة. فلابد للفرقة من جماعة تحمل مقالاتها ونظرياتها.
والمسلمون ــ كأمة ــ لم يختلفوا في أصول الدين ولا في أمهات الاعتقادات. فلقد كانت حقائق الدين وأركانه، وثوابت الشريعة وحدودها، هي الجامع الموحد للأمة في الاعتقاد الديني. وفي إطار هذا الجامع كانت التعدّدية، وكان التنوّع، وكان الاختـلاف فـي فـروع الفـقه ــ عبـادات ومعاملات ــ الأمر الذي أثمر المذاهب الفقهية ــ التي اشتهرت والتي لم تشتهر، التي عاشت والتي اندثرت ــ بما مثلت من ثراء في الاجتهادات، وغنى في التنوّع، في إطار الأصول الفقهية ومصادر الاستنباط
أما الفِرق الإسلامية التي مثلت تنوعاً وتعدّدية في إطار أصول الدين، فإن خلافها، وتعدّديتها لم تكن في ثوابت الاعتقاد، وإنما كانت في "المقالات" أي النظريات والتصوّرات المتعلقة بالفروع، أو ذات الصلة والعلاقة بالأصول، وليست من ذات الأصول.
إن مباحث الذات والصفات الإلهية، هي "هوامش" على مباحث التوحيد، لا علاقة لها بجوهر الاعتقاد. ولقد عكست الاختلافات فيها مراتب الناظرين على سلم التنزيه أو التشبيه، والتجريد أو الحشو، والعقلانية المؤمنة والتأويل أو الوقوف عند ظواهر النصوص.
في هذا الإطار، عرف المسلمون تنوّع المذاهب الفقهية، والتعدّدية في فِرق علم الكلام.
ففي علم الفروع ـ الفقه ـ نشأت وتمايزت العديد من المذاهب الفقهية، في إطار وحدة الشريعة الإسلامية، وذلك من مثل مذاهب الأئمة :
1. أبو سعيد، الحسن البصري (101-21هـ / 728-642م).
2. أبو حنيفة النعمان بن ثابت (150-80هـ / 767-699م).
3. الأوزاعي : أبو عمرو عبد الرحمن بن عمرو بن محمد (157-88هـ / 774-707م).
4. سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري (161-97هـ / 778-716م).
5. الليث بن سعد (175-94هـ / 791-713م).
6. مالك بن أنس الأصبحي (179-93هـ / 795-712م).
7. سفيان بن عيينة (198-107هـ / 814-725م).
8. الشافعي : محمد بن إدريس (204-150هـ / 820-767م).
9. أحمد بن حنبل (241-164هـ / 855-780م).
10. الظاهري : داود بن علي الأصبهاني البغدادي (270-201هـ / 883-815م).
11. الطبري : محمد بن جرير (310-224هـ / 923-839م).
12. زيد بن علي بن الحسين (122-79هـ / 740-698م).
13. الصادق : جعفر بن محمد (148-80هـ / 760-699م).
14. عبد اللَّه بن إباض (86 هـ / 705 م).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)- نفس المرجع السابق(دراسات عن الفرق ) ، ص 53