عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليقل خيرًا أو ليصمت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فليكرم ضيفه» (رواه البخاري، ومسلم).
هذا الحديث خرجاه من طرق عن أبي هريرة، وفي بعض ألفاظها: «فلا يؤذي جاره» وفي بعض ألفاظها: «فليحسن قرى ضيفه» وفي بعضها: «فليصل رحمه» بدل ذكر الجار، وخرجاه أيضا بمعناه من حديث أبي شريح الخزاعي، عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقد روي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث عائشة وابن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وأبي أيوب الأنصاري وابن عباس وغيرهم من الصحابة.
فقوله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر» فليفعل كذا وكذا، يدل على أن هذه الخصال من خصال الإيمان، وقد سبق أن الأعمال تدخل في الإيمان، وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإيمان بالصبر والسماحة، قال الحسن: المراد: الصبر عن المعاصي، والسماحة بالطاعة.
وأعمال الإيمان تارة تتعلق بحقوق الله، كأداء الواجبات وترك المحرمات، ومن ذلك قول الخير، والصمت عن غيره، وتارة تتعلق بحقوق عباده كإكرام الضيف، وإكرام الجار، والكف عن أذاه، فهذه ثلاثة أشياء يُؤمر بها المؤمن: أحدهما قول الخير والصمت عما سواه، وقد روى الطبراني من حديث أسود بن أصرم المحاربي، قال: قلت: يا رسول الله أوصني، قال: «هل تملك لسانك؟» قلت: ما أملك إذا لم أملك لساني؟! قال: «فهل تملك يدك؟!» قلت: فما أملك إذا لم أملك يدي؟! قال: «فلا تقل بلسانك إلا معروفًا، ولا تبسط يدك إلا إلى خير».
وقد ورد أن استقامة اللسان من خصال الإيمان، كما في (المسند) عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه، ولا يستقيم قلبه حتى يستقيم لسانه».
وخرج الطبراني من حديث أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يخزن من لسانه»، وخرج الطبراني من حديث معاذ بن جبل، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنك لن تزال سالمًا ما سكت، فإذا تكلمت، كتب لك أو عليك»، وفي (مسند الإمام أحمد) عن عبد الله بن عمرو بن العاص، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صمت نجا».
وفي (الصحيحين) عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة ما يتبين ما فيها، يزل بها في النار أبعد ما بين المشرق والمغرب».
وخرج الإمام أحمد، والترمذي من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة لا يرى بها بأسًا يهوي بها سبعين خريفًا في النار». وفي (صحيح البخاري)، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنم».
وخرج الإمام أحمد من حديث سليمان بن سحيم، عن أمه، قالت: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الرجل ليدنو من الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيتكلم بالكلمة، فيتباعد بها أبعد من صنعاء».
وخرج الإمام أحمد، والترمذي والنسائي من حديث بلال بن الحارث قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أحدكم ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت فيكتب الله بها رضوانه إلى يوم يلقاه، وإن أحدكم ليتكلم بالكلمة من سخط الله ما يظن أن تبلغ ما بلغت، فيكتب الله بها سخطه إلى يوم يلقاه».
وقد ذكرنا فيما سبق حديث أم حبيبة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كلام ابن آدم عليه لا له، إلا الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، وذكر الله عز وجل».
فقوله صلى الله عليه وسلم: «فليقل خيرًا أو ليصمت» أمر بقول الخير، وبالصمت عما عداه، وهذا يدل على أنه ليس هناك كلام يستوي قوله والصمت عنه، بل إما أن يكون خيرًا، فيكون مأمورًا بقوله، وإما أن يكون غير خير، فيكون مأمورًا بالصمت عنه، وحديث معاذ وأم حبيبة يدلان على هذا.
وخرج ابن أبي الدنيا من حديث معاذ بن جبل ولفظه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: «يا معاذ ثكلتك أمك وهل تقول شيئًا إلا وهو لك أو عليك».
وقد قال الله تعالى: {إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ . مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق:17-18] وقد أجمع السلف الصالح على أن الذي عن يمينه يكتب الحسنات، والذي عن شماله يكتب السيئات، وقد روي ذلك مرفوعا من حديث أبي أمامة بإسناد ضعيف. وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا كان أحدكم يصلي، فإنه يناجي ربه والملك عن يمينه».
وروي من حديث حذيفة مرفوعًا: «إن عن يمينه كاتب الحسنات».
واختلفوا: هل يكتب كل ما يتكلم به، أو لا يكتب إلا ما فيه ثواب أو عقاب؟ على قولين مشهورين. وقال علي بن أبي طلحة، عن ابن عباس: يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر حتى إنه ليكتب قوله: أكلت وشربت ذهبت وجئت، حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله فأقر ما كان فيه من خير أو شر، وألقى سائره، فذلك قوله تعالى: {يَمْحُو اللَهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:39].
وعن يحيى بن أبي كثير، قال: ركب رجل الحمار، فعثر به، فقال: تعس الحمار، فقال صاحب اليمين: ما هي حسنة أكتبها، وقال صاحب الشمال: ما هي سيئة فأكتبها، فأوحى الله إلى صاحب الشمال: ما ترك صاحب اليمين من شيء، فاكتبه، فأثبت في السيئات "تعس الحمار".
وظاهر هذا أن ما ليس بحسنة، فهو سيئة، وإن كان لا يعاقب عليها، فإن بعض السيئات قد لا يعاقب عليها، وقد تقع مكفرة باجتناب الكبائر، ولكن زمانها قد خسره صاحبها حيث ذهبت باطلا، فيحصل له بذلك حسرة في القيامة وأسف عليه، وهو نوع عقوبة.
وخرج الإمام أحمد وأبو داود والنسائي من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يقومون من مجلس لا يذكرون الله فيه، إلا قاموا عن مثل جيفة حمار، وكان لهم حسرة».
وخرجه الترمذي ولفظه: «ما جلس قوم مجلسًا لم يذكروا الله فيه، ولم يصلوا على نبيهم، إلا كان عليهم ترة، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم».
وفي رواية لأبي داود والنسائي: «من قعد مقعدًا لم يذكر الله فيه كانت عليه من الله ترة، ومن اضطجع مضطجعًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترة» زاد النسائي: «ومن قام مقامًا لم يذكر الله فيه، كانت عليه من الله ترة» وخرج أيضا من حديث أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما من قوم يجلسون مجلسًا لا يذكرون الله فيه إلا كان عليهم حسرة يوم القيامة، وإن دخلوا الجنة».
وقال مجاهد: «ما جلس قوم مجلسًا، فتفرقوا قبل أن يذكروا الله، إلا تفرقوا عن أنتن من ريح الجيفة، وكان مجلسهم يشهد عليهم بغفلتهم، وما جلس قوم مجلسًا، فذكروا الله قبل أن يتفرقوا، إلا أن يتفرقوا عن أطيب من ريح المسك، وكان مجلسهم يشهد لهم بذكرهم».
وقال بعض السلف: يعرض على ابن آدم يوم القيامة ساعات عمره، فكل ساعة لم يذكر الله فيها تتقطع نفسه عليها حسرات.
وخرجه الطبراني من حديث عائشة مرفوعًا: «ما من ساعة تمر بابن آدم لم يذكر الله فيها بخير، إلا حسر عندها يوم القيامة».
فمن هنا يعلم أن ما ليس بخير من الكلام، فالسكوت عنه أفضل من التكلم به، اللهم إلا ما تدعو إليه الحاجة مما لابد منه. وقد روي عن ابن مسعود قال: إياكم وفضول الكلام، حسب امرئ ما بلغ حاجته. وعن النخعي قال: يهلك الناس في فضول المال والكلام.
وأيضا قال فإن الإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه يوجب قساوة القلب كما في (الترمذي) من حديث ابن عمر مرفوعًا: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله يقسي القلب، وإن أبعد الناس عن الله القلب القاسي».
وقال عمر: من كثر كلامه، كثر سقطه، ومن كثر سقطه، كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه، كانت النار أولى به وخرجه العقيلي من حديث ابن عمر مرفوعا بإسناد ضعيف.
وقال محمد بن عجلان: إنما الكلام أربعة: أن تذكر الله، وتقرأ القرآن، وتسأل عن علم فتخبر به، أو تكلم فيما يعنيك من أمر دنياك.
وقال رجل لسلمان: أوصني، قال: لا تكلم، قال: ما يستطيع من عاش في الناس ألا يتكلم، قال: فإن تكلمت، فتكلم بحق أو اسكت.
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه يأخذ بلسانه ويقول: هذا أوردني الموارد.
وقال ابن مسعود: والله الذي لا إله إلا هو، ما على الأرض أحق بطول سجن من اللسان وقال وهب بن منبه: أجمعت الحكماء على أن رأس الحكم الصمت.
وقال شميط بن عجلان: يا ابن آدم، إنك ما سكت، فأنت سالم، فإذا تكلمت، فخذ حذرك، إما لك وإما عليك وهذا باب يطول استقصاؤه.
والمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالكلام بالخير، والسكوت عما ليس بخير، وخرج الإمام أحمد وابن حبان من حديث البراء بن عازب أن رجلا قال: يا رسول الله، علمني عملا يدخلني الجنة، فذكر الحديث وفيه قال: «فأطعم الجائع، واسق الظمآن، وأمر بالمعروف، وانه عن المنكر، فإن لم تطق ذلك، فكف لسانك إلا من خير».
فليس الكلام مأمورًا به على الإطلاق، ولا السكوت كذلك، بل لابد من الكلام بالخير والسكوت عن الشر، وكان السلف كثيرا يمدحون الصمت عن الشر، وعما لا يعني لشدته على النفس، وذلك يقع فيه الناس كثيرا، فكانوا يعالجون أنفسهم، ويجاهدونها على السكوت عما لا يعنيهم.
قال الفضيل بن عياض: ما حج ولا رباط ولا جهاد أشد من حبس اللسان، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غم شديد، وقال: سجن اللسان سجن المؤمن، ولو أصبحت يهمك لسانك، أصبحت في غم شديد.
وسئل ابن المبارك عن قول لقمان لابنه: إن كان الكلام من فضة، فإن الصمت من ذهب، فقال: معناه: لو كان الكلام بطاعة الله من فضة، فإن الصمت عن معصية الله من ذهب. وهذا يرجع إلى أن الكف عن المعاصي أفضل من عمل الطاعات، وقد سبق القول في هذا مستوفى.
وتذاكروا عند الأحنف بن قيس، أيهما أفضل الصمت أو النطق؟ فقال قوم: الصمت أفضل، فقال الأحنف: النطق أفضل، لأن فضل الصمت لا يعدو صاحبه، والمنطق الحسن ينتفع به من سمعه.
وقال رجل من العلماء عند عمر بن عبد العزيز رحمه الله: الصامت على علم كالمتكلم على علم، فقال عمر: إني لأرجو أن يكون المتكلم على علم أفضلهما يوم القيامة حالاً، وذلك أن منفعته للناس، وهذا صمته لنفسه، فقال له: يا أمير المؤمنين وكيف بفتنة النطق؟ فبكى عمر عند ذلك بكاءً شديدًا.
ولقد خطب عمر بن عبد العزيز يومًا فرق الناس، وبكوا، فقطع خطبته، فقيل له: لو أتممت كلامك رجونا أن ينفع الله به، فقال عمر: إن القول فتنة والفعل أولى بالمؤمن من القول.
وكنت من مدة طويلة قد رأيت في المنام أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، وسمعته يتكلم في هذه المسألة، وأظن أني فاوضته فيها وفهمت من كلامه أن التكلم بالخير أفضل من السكوت، وأظن أنه وقع في أثناء الكلام ذكر سليمان بن عبد الملك، وأن عمر قال ذلك له، وقد روي عن سليمان بن عبد الملك أنه قال: الصمت منام العقل، والنطق يقظته، ولا يتم حال إلا بحال، يعني: لابد من الصمت والكلام.
وما أحسن ما قال عبيد الله بن أبي جعفر فقيه أهل مصر في وقته، وكان أحد الحكماء: إذا كان المرء يحدث في مجلس، فأعجبه الحديث فليسكت، وإن كان ساكتا، فأعجبه السكوت، فليحدث، وهذا حسن فإن من كان كذلك، كان سكوته وحديثه لمخالفة هواه وإعجابه بنفسه، ومن كان كذلك، كان جديرًا بتوفيق الله إياه وتسديده في نطقه وسكوته، لأن كلامه وسكوته يكون لله عز وجل.
وفي مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل قال: «علامة الطهر أن يكون قلب العبد عندي معلقًا، فإذا كان كذلك، لم ينسني على حال، وإذ كان كذلك، مننت عليه بالاشتغال بي كي لا ينساني، فإذا نسيني، حركت قلبه، فإن تكلم تكلم لي، وإن سكت، سكت لي، فذلك الذي تأتيه المعونة من عندي» (خرجه إبراهيم بن الجنيد).
وبكل حال، فالتزام الصمت مطلقًا، واعتقاده قربة إما مطلقًا، أو في بعض العبادات، كالحج والاعتكاف والصيام منهي عنه وروي من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن صيام الصمت. وخرج الإسماعيلي من حديث علي قال: نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصمت في العكوف، وفي (سنن أبي داود) من حديث علي، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا صمات يوم إلى الليل». وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه لامرأة حجت مصمتة: إن هذا لا يحل هذا من عمل الجاهلية وروي عن علي بن الحسين زين العابدين أنه قال: صوم الصمت حرام.
التصنيف: شرح الأحاديث وبيان فقهها