تخطى إلى المحتوى

مفهوم العقلانية على ضوء الوحي والعقل 2024.

تحديد مفهوم العقلانية على ضوء الوحي والعقل:

يدعي أدعياء العقلانية – كالذين نرد عليهم في كتابنا – أنهم عقلانيون ، و أصحاب العقل والعقلانية ، في كثير مما كتبوه عن الدين والعقل، والتراث والعلم . فمن هو العقلاني؟ وما هو تعريف العقلانية وشروطها؟ وهل كان هؤلاء عقلانيون فيما كتبوه في مؤلفاتهم ؟ .

وعليه فمن هو العقلاني؟ فهل هو الذي عنده عقل، أو هو الذي يستخدم العقل؟ واضح جدا أن العقلاني ليس هو الذي عنده عقل، و إلا لكان كل بني آدم عقلانيين. وهذا لا يصح لأنه يتناقض مع الواقع المشاهد، فهو يشهد على أن البشر متناقضون في سلوكياتهم وأفكارهم ، وكثير منهم يتعمد الظلم والغش والقتل، ويرتكبون مختلف أنواع الانحرافات والمنكرات، ويؤمنون بالأفكار والمذاهب والعقائد المليئة بالأساطير والمتناقضات المخالفة للشرع والعقل والعلم. وهذا يصدق على الأفراد و الجماعات ، والشعوب والأمم في الصين والهند ، والغرب والشرق، وفي كل بقاع الأرض، فهؤلاء ليسوا عقلانيين.

لكن هل يعني ذلك أن العقلاني هو الذي يستخدم عقله ؟ كلا، ليس العقلاني هو الذي يستخدم عقله؛ لأن القول بذلك يستلزم أن كل البشر عقلانيون بحكم أن كلهم يستخدمون عقولهم بالضرورة وهذا لا يصح، وواقع الناس شاهد على خلاف ذلك.

ويتبين من ذلك أن العقلاني ليس هو الذي عنده عقل ، ولا الذي يستخدمه فقط ، وإنما العقلاني هو الذي يحتكم إلى العقل، ويلتزم به ويأخذ بموجباته في كل أحواله,و من لا يلتزم بذلك فهو ليس عقلانيا. وعليه فإن العقلانية هي ممارسة فكرية تحتكم إلى العقل وتلتزم بأحكامه. ولنكون أكثر صوابا، وفاعلية وايجابية، يجب أن نضع العقل في مقامه الصحيح بلا إفراط ولا تفريط من جهة، وتتصف بالإخلاص والتجرد والحياد والموضوعية من جهة أخرى .و قمة العقلانية هي الجمع بين النقل الصحيح والعقل الصريح والعلم الصحيح .

والعقلانية نوعان أساسيان:

الأولى هي العقلانية الفطرية الطبيعية التي جبل عليها العقل الإنساني، وتقوم أساسا على البديهيات والعقل الصريح الخالي من الخلفيات المذهبية والمصالح الدنيوية المغرضة.

وأما الثانية: فهي العقلانية العقدية أو المذهبية التي تقوم على العقائد والمذاهب التي يعتنقها البشر. و هذا يعني أن هذا النوع من العقلانية ليس عقلانية واحدة وإنما هو يتضمن عقلانيات كثيرة ومتنوعة حسب تعدد الأديان والمذاهب والاتجاهات الفكرية. وهذه العقلانية – وإن كانت قائمة على العقلانية الأولى – فهي ليست فطرية والغالب عليها أنها ليست قوية ولا مقنعة كالأولى ، لأنها فقدت قوتها وبديهيتها بسبب الأفكار التي اعتنقتها . و بمعنى آخر أنها عقلانية مكتسبة، فإذا لم تقم على الدين الصحيح والفكر السليم ، والنظر المستقيم، والسلوك القويم، فإنها تنشأ نشأة منحرفة ضررها أكبر من نفعها من جهة، وتفسد العقلانية الفطرية، وتمسخها وتسخّرها لخدمة مصالحها من جهة أخرى . و أما إذا قامت على الدين الصحيح والعقل الفطري الصريح، والعلم الصحيح فستكون نموذجا رائعا للعقلانية الصحيحة، وتمثل قمة العقلانية وطريقا إلى العبقرية المؤمنة التي تسعد صاحبها في الدنيا والآخرة معا.

و للعقلانية مجال يضيق ويتسع، حسب التزام صاحبها بالعقلانية وشروطها. لذا فإن الناس يجمعون بين العقلانية واللاعقلانية ، فمنهم من يتسع عنده مجال العقلانية ويضيق مجال اللاعقلانية ، و منهم من عقلانيتهم عكس الحالة الأولى . والشاهد على ذلك الواقع الذي نعيشه، فإذا نظرنا إلى طوائف أهل العلم – على اختلاف تخصصاتهم – نجد معظمهم يجمع بين العقلانية وضدها فَهُم علماء – في تخصصاتهم – باسم العقل والعقلانية والفكر العلمي، لكن منهم من يؤمن بخرافات الصوفية والشيعة، و منهم من يؤمن بأساطير الهندوس والبوذيين ، و اليهود والنصارى ، و منهم من يؤمن بخرافة الداروينية والصدفة ، والمادية الجدلية، ومنهم … ومنهم… و لم ينج من ذلك إلا قلة من هؤلاء العلماء ، و هم الذين استقام منهجهم العلمي، الذي أقاموه على النقل الصحيح، والعقل الصريح، والعلم الصحيح. ومن ينحرف عن هذا المنهج فإنه سيبتعد عن العقل والعقلانية بقدر ابتعاده عنه.
و أشير هنا إلى أمر هام جدا، مفاده هو أن الله تعالى أشار في كتابه العزيز إلى ثلاثة أنواع من العقلانية :

أولها العقلانية الفطرية، وهي التي خلقها الله تعالى في كل بني آدم لقوله سبحانه : {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ }-سورة الروم:30-، هذه العقلانية هي التي كثيرا ما خاطبها الله تعالى و ركّز عليها لإيقاظها و وإحيائها باستخدام عبارات تُحدث ذلك في الإنسان ، كقوله سبحانه : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ }-سورة البقرة:44-، و { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ }-سورة الأنعام:50- ،و {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إلى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إلى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }-سورة يونس:35-،و {يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ }-سورة الانفطار:6/7- ، و { فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ }سورة الانفطار:8- .

وأما الثانية: فهي العقلانية المؤمنة التي جمعت بين عقلانية الفطرة وعقلانية الإيمان، فتكونت بذلك عقلانية مؤمنة متوازنة قوية أصلها ثابت وفرعها في السماء . و قد وردت صفات هذه العقلانية في نصوص شرعية كثيرة، منها قوله تعالى : {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ }-سورة آل عمران:191- ،و {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ }-سورة الحجرات:15- ، و قول الرسول- صلى الله عليه وسلم-: « عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ » .

و الثالثة: هي عقلانية الكفر والضلال، والجحود قامت أساسا على العناد وإتباع الأهواء والظنون ، والخرافات والتحريفات ، و الرجم بالغيب والقول بلا علم ، لقوله تعالى: { و َلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإنس لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }-سورة الأعراف:179- ،و { إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأنفس وَلَقَدْ جَاءهُم مِّن رَّبِّهِمُ الْهُدَى }-سورة النجم:23-، و{ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ }-سورة آل عمران:71- ،و {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ }-سورة البقرة:146- ، و {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ }-سورة البقرة:6- .

وأما فيما يخص أدعياء العقلانية الذين نرد عليهم في كتابنا هذا ، فهم طائفة من أهل العلم جمعت بين العقلانية واللاعقلانية فيما كتبوه في مؤلفاتهم عن الدين والتراث ، والعقل والعلم . وقد ألحقناهم بأدعياء العقلانية لأنهم وقعوا في أخطاء كثيرة، ورددوا أباطيل باسم العقل والعلم ، والعقلانية والموضوعية مع أنهم – في الحقيقة – لم يكونوا علميين ولا عقلانيين، ولا موضوعيين ولا ملتزمين بالمنهج العلمي الصحيح . وإنما كثيرا ما اعتمدوا على التغليط والتحريف ، والتدليس و التأويل الفاسد ، وهذا ما سيظهره كتابنا هذا إن شاء الله تعالى . فكانوا فتنة لأنفسهم ولغيرهم، ولم يكونوا عقلانيين ولا علميين وإنما كانوا أدعياء للعقلانية فيما دوّنوه في مؤلفاتهم من أباطيل و مغالطات حول الدين و العقل ، و العلم و التراث .

عن كتاب

وقفات مع أدعياء العقلانية

الدكتور
خالد كبير علال

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.