الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:
فلا يخفى عظمُ شأنِ النصيحةِ، فهي أساسُ الدِّينِ وعمادُه، والدينُ كما يقعُ على القولِ يقعُ على العملِ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وآله وسلَّم سمَّى النصيحةَ دِينًا، لكونها قِوَامَهُ، إذ تَشْمَل الإسلامَ والإيمانَ والإحسانَ، وكلُّها من الدِّينِ كما ثبتَ في حديثِ جبريلَ عليه السلامُ قولُه صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: «هَذَا جِبْرِيلُ جَاءَيُعَلِّمُ النَّاسَ دِينَهمْ»(١)، لذلك كان على حديث: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ»، قلنا: «لمن؟»، قال: «للهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ»(٢) مدارُ الإسلام، فقد جمعَ الشريعةَ أصلاً وفرعًا وعملاً واعتقادًا.
والنصيحةُ من حيث ذاتُها فرضُ كفاية –في الجملة– يُجْزَى فيه من قام به ويسقط عن الآخرين، غير أنَّ النصح في الإسلام ينبغي أن يكون محتواه لصيقًا بالعلم بالحقِّ ومصطبغًا بالعدلِ، سواء كان مضمونُ النصيحةِ واجبًا أو مندوبًا أو دائرًا في جوازهِ بين الندبِ والأحرويةِ. هذا، وبغضِّ النظرِ عن مذهب الناصح وتوَجُّهِه العقدِي فلا يُعَدُّ من قبيلِ النصيحةِ –أصلاً– تلكَ المضامينُ المفرغةُ من العلم أو ما ينافي شرعَ الإسلام ومبادئَه وأحكامَه؛ أو كانت عُشًّا للباطلِ؛ أو حملت حُكمًا مردودًا بالنصوصِ الشرعية أو معارضًا بإجماعِ الأمَّة أو بالقياس الجلي؛ أو أظهرت تلك المضامينُ حكمًا منسوخًا أو مرجوحًا ونحو ذلك.
فصار -والحالُ هذِه– واضحًا لكلِّ ذي لبٍّ أن قَبُولَ النصيحةِ والعملَ بمقتضاها يختلفُ باختلافِ حكمِ محتواها ومضمونها، ولا يجحدُ هذِه الحقيقةَ إلاَّ مُسْتَعْلٍ مغمورٌ قلبُه بالجهلِ أو بالحقدِ والحسدِ.
ومن تفاريعِ النصيحةِ التي أريدُ أن أُركِّز عليها هي: القالبُ الأدبي الذي ينبغي أن تُؤَدَّى فيه النصيحة، فإنَّ الناصح ينبغي أن يعملَ على إيصال نصيحته لأخيه المسلمِ بألينِ الطُّرُقِ وأرقِّ الأساليبِ وأرفقِ العباراتِ، بعدَ التأكُّدِ من صحةِ التوجيهِ وصوابِ الإرشادِ، دونَ أيِّ تفريطٍ في مضمونِ النصيحةِ. وذلك لأنَّ مرارةَ العلاجِ بالنصيحةِ ينبغي أن يصحبَه شيءٌ من رطبِ الكلامِ وحلوه ليكونَ أدعى لقبولها، والإحساسِ بصدقِ التعاونِ والإخلاصِ؛ ويكونَ المنصوحُ شاكرًا لعلاجِ الناصحِ وحسنِ تعاونه، ويسعف هذا المعنى قولُ يحيى بنِ معاذٍ: «أحسنُ شيءٍ كلامٌ صحيحٌ، من لسانِ رجلٍ فصيحٍ، في وجهِ رجلٍ صبيحٍ، كلامٌ رقيق، يُسْتَخْرَجُ من بحرٍ عميقٍ، على لسانِ رجلٍ رفيقٍ»(٣)، يراعي صاحبُ النصيحةِ وعظَ أخيهِ سرًّا دونَ تشهيرٍ أو توبيخٍ أو استهانةٍ، بل يجسّد نصيحتَه في سدِّ الخللِ ودفْعِ الضرر وسترِ العورات وتركِ الفحشِ والحسدِ والخداعِ، وتوقيرِ الكبيرِ ورحمةِ الصغيرِ ونحو ذلك.
وفي معرض التوجيه لمعنى النصيحة لأئمة المسلمين سواء كانوا حُكَّامًا أو من ينوبُ عنهم، أو علماءَ ومصلحين يقول أبو عمرو بن الصلاح -رحمه الله- : «والنصيحة لأئمة المسلمين أي لخلفائهم وقادتهم: معاونتُهم على الحقِّ وطاعتُهم فيه، وتنبيهُهم وتذكيرُهم في رفقٍ ولطفٍ، ومجانبةُ الخروج عليهم، والدعاءُ لهم بالتوفيق وحثُّ الأغيار على ذلك، والنصيحةُ لعامَّة المسلمين -وهم هاهنا من عدا أولي الأمر منهم-: إرشادُهم إلى مصالحهم، وتعليمُهم أمورَ دينهم ودنياهم، وسترُ عوراتهم وسدُّ خلاَّتِهم ونصرتُهم على أعدائهم، والذبُّ عنهم، ومجانبةُ الغش والحسدِ لهم، وأن يحبَّ لهم ما يحبُّ لنفسه، ويكرَه لهم ما يكره لنفسهِ، وما شابه ذلك»(٤).
وأضاف ابنُ رجبٍ على قولِ ابنِ الصلاح -رحمهما الله- ما نصُّه: «ومِن أنواعِ نصحهم: يدفع الأذى والمكروه عنهم، وإيثارُ فقيرهم وتعليمُ جاهلهم، وردُّ مَن زاغ منهم عن الحقِّ في قول أو عمل بالتلطُّف في ردِّهم إلى الحق، والرفقُ بهم في الأمر بالمعروف والنهيِ عن المنكر، ومحبةُ إزالة فسادهم ولو بحصول ضرر له في دنياه… وكان السلف إذا أرادوا نصيحة أحد وعظوه سِرًّا حتى قال بعضهم: من وعظ أخاه فيما بينه وبينه فهي نصيحة، ومن وعظه على رؤوس الناس فإنما وبَّخه، وقال الفضيل بن عياض -رحمه الله-: المؤمن يستر وينصح، والفاجر يهتك ويُعيِّر، وقال عبد العزيز بن أبي رواد: كان مَن كان قبلكم إذا رأى الرجلُ مِن أخيه شيئًا يأمره في رِفق فَيُؤْجَرُ في أمره ونهيه، وإنَّ أحد هؤلاء يخرق بصاحبه فيستغضب أخاه ويهتك سِتره»(٥).
كما أنَّ من أعظم أنواع النصيحة أن ينصر أخاه في غَيْبَتِهِ إذا ما ذُكِرَ بسوء أو أريد إذايتُه في غَيْبَتِه، فإنَّ مقتضى النصيحة نصرتُه والدفاع عنه والردُّ على المتسلّط وكفُّ أذاه عنه، فإن النصح في الغيب يعكس صدق الناصح ومحبته للخير، بخلاف النصح في حضوره فقد يُظْهِرُه تَمَلُّقًا ويغشُّه في غيبته(٦).
وأسلوب الناصحِ الخطابي ينبغي أن يكون بعيدًا عن الخشونة والفظاظة، إذ لا تَلاَزُمَ بين الصراحة في الحقِّ والغلظة في الأسلوب، وقد أوصى الله تعالى موسى وهارون عليهما السلام بالرِّفق في القول مع فرعون الطاغية حيث قال عز وجل: ﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى، فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾ [طه: 43-44]، وقد كان هديُ النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعوته وعمومِ تعامله: الرفق المنافي للعنف، والرحمة الرافضة للقسوة، واللين الآبي للفظاظة؛ ذلك لأنَّ العنفَ والقسوةَ والفظاظةَ معانٍ مذمومةٌ شرعًا إلاّ ما استثناه الدليل(٧) ووسائلُ لا تأتي بخير في الدعوة إلى الله ولا في غيرها، وهذا المضمون أفْصَحَ عنه التوجيهُ الربّاني في قوله تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ [آل عمران: 159]، ووصف نبيَّه صلى الله عليه وآله وسلم بقوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128].
كذا تعلّم السلف الصالح من أسوتهم محمَّد صلى الله عليه وآله وسلم في أسلوبه ودعوته: الأخذَ بالعزائم والترفُّقَ بالناس والملاطفةَ حين دعوتهم إلى الخير، دون مداهنة أو نفاق أو تعطيل للشرع عملاً بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ، وَيُعْطِي عَلَى الرِّفْقِ مَا لاَ يُعْطِي عَلَى الْعُنْفِ، وَمَا لاَ يُعْطِي عَلَى مَا سِوَاهُ»(٨)، وقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ الرِّفْقَ لاَ يَكُونُ فِي شَيْءٍ إِلاَّ زَانَهُ، وَلاَ يُنْزَعُ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ شَانَهُ»(٩)، فكان سلفنا حقًّا أعلم الناس بالحقِّ وأرحمهم بالخلق.
هذا، وعلى منأى من هذه الصورة الصادقة للسلالة الخيِّرة علمًا وأدبًا، نَبَتَ في هذا الجيل شباب تتلمذوا على أنصاف الفقهاء، أو أخذوا من الكتب والأشرطة والوسائل الأخرى، أو تتلمذَ بعضُهم على بعضٍ، بعيدًا عن مجالس العلم ومحاضن الأدب حيث فُسِحَ لهم مجال الخوض في أعراض الدعاة والمشائخ والأئمة عبر شبكات التشهير والتعيير بلا أَخْطِمَةٍ ولا أَزِمَّةٍ بدعوى النصيحةِ، وكَثُرَ التعالم واشتدَّ الغرورُ، وبلغَ القَدْحُ في الأعراضِ أَوُجَّهُ وذروته، وقلَّ الأدبُ، واضطربتِ الحقائقُ، وانحرفت في أذهانِ العديدِ منهم المفاهيمُ الشرعيةُ، واختلَّ التوازنُ العقلي، وآثروا أن يجعلوا أنفسهم أبواقًا للفتنة ومَطيةً لصدِّ طريقِ الإصلاحِ، فظهر الفسادُ ولَمَّا ينتشر.. والحمد لله على مَنِّه وفضله، وصدَقَ من قال: «أكثر ما يفسد الدنيا: نصفُ متكلِّم، ونصفُ متفقِّهٍ، ونصفُ متطبِّب، ونصفُ نحوي، هذا يُفسدُ الأديانَ، وهذا يُفسدُ البلدانَ، وهذا يُفسدُ الأبدانَ، وهذا يُفسدُ اللسانَ»(١٠).
إنَّ أدعياءَ النصيحة لا يجعلون منها سبيلاً لكسبِ قلوب المؤمنين ولا لإنارة عقولهم، وأنَّى لهم ذلك؟! إذ فاقدُ الشيء لا يُعطيه، وإنما يجعلونها سبيلاً لكسب المواقفِ واحتلال المناصب على الساحةِ الدعويةِ، يتصيَّدون العَوْرَاتِ وَالسَّقَطَاتِ وَالثَّغَرَاتِ وَالعَثَرَاتِ، فيحرِّرون لها الكلماتِ الساقطةَ المُوَرِّثَةَ للأحقادِ والعداواتِ، فيحصدون الأخضر واليابس، والأحياء والأموات، بُغيةَ انفكاكِ العُرى وتلاشي التعاونِ الأخوي المبني على البِرِّ والتقوى، موظِّفين أقلامَهم بالأسلوبِ الأغلظِ والتعبيرِ الفَظِّ لِيَصُبُّوهُ في قوالبَ من التعييرِ والتشهيرِ والتنكيلِ والفضيحةِ باسم النصيحةِ، وتدفعهم شهواتُ الانتقامِ وتحرِّكهم عواملُ الحسدِ والاستعلاءِ والرغبةِ الملحَّة في دفنِ كلِّ فضلٍ عظيمٍ وطمسِ كلِّ خيرٍ عميمٍ جريًا على ما قال الشاعر:
صُمٌّ إِذَا سَمِعُوا خَيْرًا ذُكِرْتُ بِهِ
فَطَانَةٌ فَطِنُوهَا لَوْ تَكُونُ لَهُمْ
إِنْ يَسْمَعُوا سَيِّئًا طَارُوا بِهِ فَرَحًا
وَإِنْ ذُكِرْتُ بِسُوءٍ عِنْدَهُمْ أَذِنُوا
مُرُوءَةٌ أَوْ تُقًى للهِ مَا فَطِنُوا
مِنِّي وَمَا سَمِعُوا مِنْ صَالِحٍ دَفَنُوا(١١)
إنَّ نزعاتِ الأهواء التي تغذِّيها جهاتٌ لا ترعى للدعاةِ حرمةً ولا لمعارفهم وزنًا، قد ظهرت معالمها وانكشفت بصماتها للعيان جليةً في وحشةِ الشباب وجفائه، تعملُ بقصدٍ أو بدون قصدٍ على فصل الأمَّةِ عن الدعوةِ إلى الله بِنَزْعِ الثقة في الدعاة والعلماء والمشائخ، والقضاءِ على أثرهم الاجتماعي والتربوي والتوجيهي، ودفنِ آثارهم العلمية ومخلفاتهم التربوية، ومقابلةِ ذواتِهم بِسُمِّ التجريح والتقبيح، ومحاسِنِهم بمرض التهوين والانتقاص وتشكيك الجيل في جَدَارتهم وريادتهم ليصلُوا إلى إفقادهم الهيبةَ وجعلِهم محلَّ التهمة، متَّخذين في ذلك معاولَ الكتابات والشبكات ليفرغوا فيها مقاول الخصومات والطعونات ومساوي الشتمات واللعناتِ بدعوى النصيحةِ للخَلْق والنصرةِ للحقِّ، ومتى كانت شبكات التشهير والتعيير سبيلاً للانتفاع بالنصيحة في ميدانها الدعوي والتعليمي والإعلامي، وقد عزلت عن نفسها الأسلوب القرآني القاضي بدعوة الناس بالحكمة والرفق والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن؟؟!
وإن دلَّ هذا على شيءٍ فإنما يدلُّ على خُلوِّ القلبِ من الإخلاص بالنصيحة وابتغاءِ وجه الله بها؛ لأنَّ الأثرَ يدلُّ على المؤثِّر دلالةَ اعتبارٍ وقياسٍ، وإذا كان الإخلاصُ هو الغايةُ المرجوةُ من النصيحةِ فإنَّه يترتب عليه لزومًا أن تكونَ وسيلتُه من شرفِ الغايةِ، فتتجلَّى في القولِ السديدِ المشبع بالحقِّ وصحَّةِ المعلومِ، وفي الأسلوبِ الأقومِ والتعبيرِ الأكرمِ للقيامِ بإسداءِ النصحِ، وإذا خلا القلب من الإخلاص حَلَّ فيه الغِلُّ والغِشُّ، ومن امتلأ قلبه على العلماء والأئمة والدعاة بهاتين الخصلتين فلا ينتظر منه أن يكون عونًا للإسلام وظهيرًا للأمة.
ولا يساورُنا أدنى شكٍّ في أنَّ وضعَ المقالات المحشوة بأقوى العبارات وأفصح التراكيب لتحقيق صورة النصيحةِ على وجهها الإيجابي أو السلبي يجيدها الرفيعُ والوضيعُ، والصادقُ والكاذبُ على حدٍّ سواء، ويعرف سبيلَها أهلُ الإخلاصِ وأهلُ النفاقِ معًا، وقد جاء النصُّ القرآني معبِّرًا عن هذه الحقيقةِ بقوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ، وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الْفَسَادَ﴾ [البقرة: 204-205]، فأهل الحقِّ والصدقِ إنما يتسلَّلون إلى قلوبِ الناس بالنصيحةِ على وجهها الصادقِ، تسيل رقةً مصطبغةً بالتخويفِ والترغيبِ وممزوجةً بالإقناعِ، أمَّا غيرُهم فيفتعلون الأساليبَ الماكرةَ وطرق الخبث الخدَّاعة لإثارة الخواطرِ وتهييجِ العواطفِ في وجه كلِّ داعيةٍ مصلحٍ يحمل الإيمان الهادي والحقَّ الجميل بدعوى النصيحة في وجهها الكاذب والمخادع، ولا أدلَّ على ذلك من قوله تعالى في شأن فرعون الوثني المفسد الذي قال عن موسى عليه السلام مستخفًّا بقومه ومغرِّرًا لهم بالنصيحة: ﴿ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر: 26]، إنّ صفاء اللسان وخلوه من الأذى واستقامته على الإنصاف والعدل لهو من صفاء القلب ومحبة الخير للمؤمنين، وصفاء القلب واستقامته على الحق نابع من إيمان العبد وإخلاصه وصدقه، وصدقَ رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم إذ يقول: «لاَ يَسْتَقِيمُ إِيمَانُ عَبْدٍ حَتَّى يَسْتَقِيمَ قَلْبُهُ، وَلاَ يَسْتَقِيمُ قَلْبُهُ حَتَّى يَسْتَقِيمَ لِسَانُهُ»(١٢).
إنَّ من نصَّب نفسه لوظيفةِ نصيحةِ الخلق ودعوةِ الناسِ إلى الخير يجب أن يكون من أقومِهم صفاءً واستقامةً، ومِن أحرصِهم على الخير وأكملِهم على العملِ، وأبعدهم عن التصنُّع والتشبُّع بما لم يُعْطَ، لكن ما يحاكيه زمانُنا عن شبابٍ لا يُنصفون ولا يَعدلون، ويقولون ما لا يفعلون، ويعظون ولا يتَّعِظُونَ، ويُرْشِدُونَ ولا يسْترشِدون وينصحونَ ولا يستنصحون، نسأل الله الحماية والسلامة.
وكما قال أبو العتاهية:
وَصَفْتَ التُّقَى حَتَّى كَأَنَّكَ ذُو تُقًى
وَرِيحُ الْخَطَايَا مِنْ ثِيَابِكَ تَسْطَعُ(١٣)
وقال غيرُه:
وَغَيْرُ تَقِيٍّ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالتُّقَى
طَبِيبٌ يُدَاوِي النَّاسَ وَهْوَ مَرِيضُ(١٤)
فهذا النموذجُ التربوي الذي استقَى نزعاتِه من التعصُّب لآراءِ أنصافِ الرجال، واتبع سبيلَ الهوى لقلَّة الحكمةِ والفقهِ في الدِّين وضَآلةِ الزادِ في معرفةِ قواعدِه ومقاصدِه، فطغَى عليه الجهلُ بمنزلة العلماءِ والدُّعاةِ وسماتهم، فإنَّه لا يمثِّل النموذجَ الحيَّ الذي تشغلُه المسؤوليةُ تجاه نفسه بالتزوّد العلمي الصحيح وإصلاح النفس وتزكيتها بالخُلق القويم والأدب الرفيع أوَّلاً، ذلك لعظم ضرر العلم المجرد عن التربية وإصلاح السلوك وضمن هذا المنظور يقول الشيخ محمد البشير الإبراهيمي-رحمه الله-: «العلم الخالي من التربية ضرره أكثر من نفعه، وما أصيب المسلمون في عزّتهم إلاّ يوم فارقت التربية الصالحة العلمَ، وكم شقيَ أصحاب العلم المجرّد بالعلم وأشقوا أممهم، والسعادة غايةٌ لا يُسلك إليها طريقُ العلم وحده من غير أن تصاحبه التربية، وأنّ الجمع بين التربية والتعليم هو وظيفة النبوّة التي بيّنها الوحي في آية ﴿وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة : 151]»(١٥) ثمَّ يقوم هذا النموذج الحي بإعطاء المسؤولية حقَّها في مجتمعه لئلاَّ تتخطّفَه شياطين الإنس والجن، أو تعصفَ به الأهواء والضلالات وسوء المعاملات والتصرُّفات، ولئلاَّ يقع ظاهره على خلاف باطنه دون تجانس بين المظهر والمخبر والفعل والقول، علمًا أنَّ الصدق والاستقامة من أهم صفات أهل الإيمان، وقد جعل الله مقته وبغضه على من اختل في حقه الصدقُ وانتفى التطابق بين قوله وفعله، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ. كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لاَ تَفْعَلُونَ﴾ [الصف: 2-3]، كما ذمَّ أهلَ الكتاب على ذلك فقال سبحانه: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا﴾ [الجمعة: 5]، وقال تعالى: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [المائدة: 68]، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا صعد المنبر ينهى الناس عن شيء، جمع أهله فقال: «إني نهيت الناس عن كذا وكذا، وإن الناس ينظرون إليكم نظر الطير، وأقسم بالله لا أجد أحدًا منكم فعله إلا أضعفتُ عليه العقوبة لمكانه مِنِّي»(١٦)، وقال الشافعي: -وهو يُوصِي وينصح مؤدّب أولاد هارون الرشيد-: «ليكن أول ما تبدأ به من إصلاح أولاد أمير المؤمنين إصلاحك نفسك، فإنَّ أعِنَّتَهم معقودةٌ بِفِيكَ، فالحُسن -عندهم- ما تستحسنه، والقبيح -عندهم- ما تركته»(١٧).
ولله در من قال:
يَا أَيُّهَا الرَّجُلُ الْمُعَلِّمُ غَيْرَهُ
تَصِفُ الدَّوَاءَ لِذِي السِّقَامِ وَذِي الضَّنَى
ابْدَأْ بِنَفْسِكَ فَانْهَهَا عَنْ غَيِّهَا
فَهُنَاكَ تُعْذَرُ إِنْ وَعَظْتَ وَيُقْتَدَى
لاَ تَنْهَ عَنْ خُلُقٍ وَتَأْتِيَ مِثْلَهُ
هَلاَّ لِنَفْسِكَ كَانَ ذََا التَّعْلِيمُ
كَيْمَا يَصِحُّ بِهِ وَأَنْتَ سَقِيمُ
فَإِذَا انْتَهَتْ عَنْهُ فَأَنْتَ حَكِيمُ
بِالقَوْلِ مِنْكَ وَيَنْفَعُ التَّعْلِيمُ
عَارٌ عَلَيْكَ إِذَا فَعَلْتَ عَظِيمُ(١٨)
وأخيرًا، فالإسلامُ في منطلقه الإصلاحي والبِنائي والتوجيهي يقوم على وسائلَ تربويَّةٍ من تقويم المسلم سلوكيًّا، وتكوينِه نفسيًّا، وإعدادِه اجتماعيًّا، ليصير عُضوًا صالِحًا في مجتمعه يتحلَّى باستقامةٍ صادقة وأخلاقٍ فاضلةٍ، ويلتزم بالأدب الاجتماعي الرفيع وبالتعامل الأخوي المبني على البرِّ والتقوى، فيصير تديُّنه مصطبغًا بالفضائل، مترفِّعًا عن الرذائل، مستقيمًا على الشرع، يتولّد منه التصرف الإسلامي الرشيد والاتِّزان العقلي الحكيم، فتنسكب من صلاحه وتقواه النصيحة الصادقة كأبلغ خطبة في دعوة الناس وهدايتهم إلى الحقِّ وإرشادهم إلى الخير.
وحتى لا تزيغ الأفهام وتنحرف عن المقصود، فلست أعني بهذه الكلمة سوى إعطاء الوصف الواقعي للنموذج التربوي الحالي من غير تعرُّضٍ إلى الذوات والأشخاص لا في الداخل ولا في الخارج، وأختم كلامي بما قاله الإمام الرباني ابن القيم -رحمه الله-: «عادتنا في مسائل الدِّين كلِّها: دِقِّها وجِلِّهَا أن نقولَ بموجَبِها، ولا نضربَ بعضها ببعض، ولا نتعصَّبَ لطائفة على طائفة، بل نوافق كلَّ طائفة على ما معها من الحق، ونخالفها فيما معها من خلاف الحقِّ، لا نستثني من ذلك طائفةً ولا مقالةً، ونرجو من الله أن نحيا على ذلك، ونموت عليه، ونلقى الله به، ولا حول ولا قوة إلاَّ بالله»(١٩).
وآخرُ دعوانا أنِ الحمد لله ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.
الجزائر في: 11 المحرم 1445ﻫ
الموافق ﻟ: 28 ديسمبر 2024م
١- أخرجه البخاري كتاب «الإيمان»، باب سؤال جبريل النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم عن الإيمان والإسلام والإحسان وعلم الساعة: (1/ 19)، ومسلم كتاب «الإيمان»: (1/ 25)، رقم: (5)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
٢- أخرجه مسلم كتاب «الإيمان»: (1/ 44)، رقم: (95)، من حديث تميم الداري رضي الله عنه.
٣- «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي: (14/209) «وفيات الأعيان» لابن خلكان: (3/285).
٤- «صيانة صحيح مسلم» لابن الصلاح: (224).
٥- «جامع العلوم والحكم» لابن رجب: (76-77).
٦- انظر المصدر السابق (77).
٧- تشرع الغِلظة والشدة عند لقاء الأعداء في قلب المعركة، فالصلابة عند المواجهة مطلوبة شرعًا حتى تضع الحرب أوزارها لقوله تعالى: ﴿قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً﴾ [التوبة: 123]، وكذلك عند تنفيذ العقوبات الشرعية على مستحقيها لقوله تعالى: ﴿وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ [النور: 2]، والتغليظ -أيضًا- عند الظلم والتعدي، كما في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ﴾ [العنكبوت: 46]، وعليه فلا مجال لعواطف الرحمة ومشاعر اللِّين والرأفة في هذه المواضع استثناءً لقيام الدليل عليها، فدلَّ ذلك على أنَّ الأصل في عموم المعاملات على خلاف الاستثناء.
٨- أخرجه البخاري كتاب «الأدب»، باب الرفق في الأمر كله: (1/ 220)، ومسلم كتاب: «البر والصلة والآداب»: (2/1203)، رقم: (2593)، واللفظ له، من حديث عائشة رضي الله عنه.
٩- أخرجه مسلم كتاب: «البر والصلة والآداب»: (2/ 1203)، رقم: (2594)، من حديث عائشة رضي الله عنه.
١٠- «مجموع الفتاوى» لابن تيمية: (2/729-730).
١١- البيت لقعنب بن أم صاحب يهجو بني ضبة حي من غطفان. [انظر: «بهجة المجالس» لابن عبد البر (337)].
١٢- أخرجه أحمد في «مسنده»: (3/ 198)، من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه. والحديث حسّنه الألباني في «السلسلة الصحيحة»: (6/ 822).
١٣- «تفسير القرطبي»: (1/366).
١٤- المصدر السابق: (1/367).
١٥- «الآثار»محمد البشير الإبراهيمي: ( 4/173)
١٦- انظر: «تاريخ الأمم والملوك» للطبري: (2/68)، «الكامل» لابن الأثير: (3/31)، «نهاية الأرب» للنويري: (6/221).
١٧- «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي: (3/187).
١٨- «الأدب الإسلامي وتاريخه» عابد الهاشمي: (2/17).
١٩- «طريق الهجرتين» لابن القيم: (582).
الشيخ فركوس حفظه الله