يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27)
مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ دَلَّتْ بِظَاهِرِهَا عَلَى أَنَّ دُخُولَ الْإِنْسَانِ بَيْتَ غَيْرِهِ بِدُونِ الِاسْتِئْذَانِ وَالسَّلَامِ لَا يَجُوزُ ; لِأَنَّ قَوْلَهُ : لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الْآيَةَ [24 27] ، نَهْيٌ صَرِيحٌ ، وَالنَّهْيُ الْمُتَجَرِّدُ عَنِ الْقَرَائِنِ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ عَلَى الْأَصَحِّ ، كَمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ ، يَقُولُ الْمُسْتَأْذِنُ فِي كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ عِنْدَ الثَّالِثَةِ ، فَلْيَرْجِعْ ، وَلَا يَزِدْ عَلَى الثَّلَاثِ ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يُخْتَلَفَ فِيهِ ، لِأَنَّهُ ثَابِتٌ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ ، عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ : كُنْتُ فِي مَجْلِسٍ مِنْ مَجَالِسِ الْأَنْصَارِ إِذْ جَاءَ أَبُو مُوسَى كَأَنَّهُ مَذْعُورٌ ، فَقَالَ : اسْتَأْذَنْتُ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي ، فَرَجَعْتُ ، قَالَ : مَا مَنَعَكَ ؟ قُلْتُ : اسْتَأْذَنْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لِي فَرَجَعْتُ ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " : إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " فَقَالَ : وَاللَّهِ لَتُقِيمَنَّ عَلَيْهِ بَيِّنَةً أَمِنْكُمْ أَحَدٌ سَمِعَهُ مِنَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ؟ فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : وَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، فَكُنْتُ أَصْغَرَ الْقَوْمِ فَقُمْتُ مَعَهُ ، فَأَخْبَرْتُ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ ذَلِكَ .
وَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ : أَخْبَرَنِي ابْنُ عُيَيْنَةَ : حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ عَنْ بُسْرٍ ، سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ بِهَذَا ، اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ . وَهُوَ نَصٌّ صَحِيحٌ صَرِيحٌ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثُ مَرَّاتٍ ، فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ رَجَعَ . وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بُكَيْرٍ النَّاقِدُ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ ، حَدَّثَنَا وَاللَّهِ يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ ، عَنْ بُسْرِ بْنِ سَعِيدٍ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ : كُنْتُ جَالِسًا بِالْمَدِينَةِ فِي مَجْلِسِ الْأَنْصَارِ ، فَأَتَانَا أَبُو مُوسَى فَزِعًا أَوْ مَذْعُورًا قُلْنَا : مَا شَأْنُكَ ؟ قَالَ : إِنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَيَّ أَنْ آتِيَهُ فَأَتَيْتُ بَابَهُ ، فَسَلَّمْتُ ثَلَاثًا فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ فَرَجَعْتُ فَقَالَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تَأْتِيَنَا ؟ فَقُلْتُ : إِنَّنِي أَتَيْتُكَ ، فَسَلَّمْتُ عَلَى بَابِكَ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يَرُدُّوا عَلَيَّ فَرَجَعْتُ ، وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " : إِذَا اسْتَأْذَنَ أَحَدُكُمْ ثَلَاثًا فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " فَقَالَ عُمَرُ : أَقِمْ عَلَيْهَا الْبَيِّنَةَ ، وَإِلَّا أَوْجَعْتُكَ ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : قُلْتُ : أَنَا أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، قَالَ : فَاذْهَبْ بِهِ . حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَابْنُ أَبِي عُمَرَ قَالَا : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ خُصَيْفَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَزَادَ ابْنُ أَبِي عُمَرَ فِي حَدِيثِهِ : قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَقُمْتُ مَعَهُ فَذَهَبْتُ إِلَى عُمَرَ فَشَهِدْتُ ، اهـ بِلَفْظِهِ مِنْ صَحِيحِ مُسْلِمٍ . وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ قَالَ : فَوَاللَّهِ لَأُوجِعَنَّ ظَهْرَكَ وَبَطْنَكَ أَوْ لَتَأْتِيَنَّ بِمَنْ يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا ، فَقَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ : فَوَاللَّهِ لَا يَقُومُ مَعَكَ إِلَّا أَحْدَثُنَا سِنًّا ، قُمْ يَا أَبَا سَعِيدٍ فَقُمْتُ حَتَّى أَتَيْتُ عُمَرَ فَقُلْتُ : قَدْ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ هَذَا .
وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ فَقَالَ : إِنْ كَانَ هَذَا شَيْئًا حَفِظْتَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَهَا ، وَإِلَّا فَلْأَجْعَلَنَّكَ عِظَةً ، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ : فَأَتَانَا فَقَالَ : أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ : الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ ، قَالَ فَجَعَلُوا يَضْحَكُونَ ، قَالَ فَقُلْتُ : أَتَاكُمْ أَخُوكُمُ الْمُسْلِمُ قَدْ أُفْزِعَ ، تَضْحَكُونَ انْطَلِقْ فَأَنَا شَرِيكُكَ فِي هَذِهِ الْعُقُوبَةِ فَأَتَاهُ ، فَقَالَ هَذَا أَبُو سَعِيدٍ .
وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ عُبَيْدِ بْنِ عُمَيْرٍ أَنَّ أَبَا مُوسَى اسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَرَ ثَلَاثًا إِلَى قَوْلِهِ : قَالَ لَتُقِيمَنَّ عَلَى هَذَا بَيِّنَةً ، أَوْ لَأَفْعَلَنَّ فَخَرَجَ فَانْطَلَقَ إِلَى مَجْلِسٍ مِنَ الْأَنْصَارِ ،فَقَالُوا : لَا يَشْهَدُ لَكَ عَلَى هَذَا إِلَّا أَصْغَرُنَا ، فَقَامَ أَبُو سَعِيدٍ ، فَقَالَ : كُنَّا نُؤْمَرُ بِهَذَا ، فَقَالَ عُمَرُ : خَفِيَ عَلَيَّ هَذَا مِنْ أَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَلْهَانِي عَنْهُ الصَّفْقُ فِي الْأَسْوَاقِ ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ : لَتَأْتِيَنِّي عَلَى هَذَا وَإِلَّا فَعَلْتُ وَفَعَلْتُ ، فَذَهَبَ أَبُو مُوسَى قَالَ عُمَرُ : إِنْ وَجَدَ بَيِّنَةً تَجِدُوهُ عِنْدَ الْمِنْبَرِ عَشِيَّةً ، وَإِنْ لَمْ يَجِدْ بَيِّنَةً فَلَمْ تَجِدُوهُ ، فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْعَشِيُّ وَجَدُوهُ ، قَالَ يَا أَبَا مُوسَى : مَا تَقُولُ أَقَدْ وَجَدْتَ ؟ قَالَ : نَعَمْ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ عَدْلٌ ، يَا أَبَا الطُّفَيْلِ مَا يَقُولُ هَذَا ؟ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ ذَلِكَ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ فَلَا تَكُونَنَّ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ : إِنَّمَا سَمِعْتُ شَيْئًا فَأَحْبَبْتُ أَنْ أَتَثَبَّتَ ، وَفِي لَفْظٍ لِمُسْلِمٍ : أَنَّ عُمَرَ قَالَ لِأُبَيٍّ : يَا أَبَا الْمُنْذِرِ آنْتَ سَمِعْتَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ؟ فَقَالَ : نَعَمْ ، فَلَا تَكُنْ يَا ابْنَ الْخَطَّابِ عَذَابًا عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَلَيْسَ فِي هَذِهِ الرِّوَايَةِ قَوْلُ عُمَرَ : سُبْحَانَ اللَّهِ ، وَمَا بَعْدَهُ .
فَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ وَأَبِي مُوسَى ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ – تَدُلُّ دَلَالَةً صَحِيحَةً صَرِيحَةً عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ ثَلَاثٌ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : وَأَمَّا قَوْلُهُ لَا يَقُومُ مَعَهُ إِلَّا أَصْغَرُ الْقَوْمِ ، فَمَعْنَاهُ أَنَّ هَذَا حَدِيثٌ مَشْهُورٌ بَيْنَنَا مَعْرُوفٌ لِكِبَارِنَا ، وَصِغَارِنَا ، حَتَّى إِنَّ أَصْغَرَنَا يَحْفَظُهُ وَسَمِعَهُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اهـ مِنْهُ ، وَالظَّاهِرُ مِنْهُ كَمَا قَالَ ، وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ الصَّرِيحَةُ تُبَيِّنُ أَنَّ هَذَا الِاسْتِئْذَانَ الْمُعَبَّرَ عَنْهُ فِي الْآيَةِ بِالِاسْتِئْنَاسِ ، وَالسَّلَامَ الْمَذْكُورَ فِيهَا لَا يُزَادُ فِيهِ عَلَى ثَلَاثِ مَرَّاتٍ ، وَأَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ الْمَذْكُورَ فِي الْآيَةِ ، هُوَ الِاسْتِئْذَانُ الْمُكَرَّرُ ثَلَاثًا ; لِأَنَّ خَيْرَ مَا يُفَسَّرُ بِهِ كِتَابُ اللَّهِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الثَّابِتَةُ عَنْهُ ، وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ مَا قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي : مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِالِاسْتِئْنَاسِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : " حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا " : الِاسْتِئْذَانُ بِتَنَحْنُحٍ ، وَنَحْوِهِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ خِلَافَ التَّحْقِيقِ ، وَمَا اسْتَدَلَّ بِهِ لِذَلِكَ مِنْ رِوَايَةِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ مُجَاهِدٍ تَفْسِيرُ الْآيَةِ بِمَا ذُكِرَ إِلَى آخِرِ مَا ذُكِرَ مِنَ الْأَدِلَّةِ لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ الْحَقَّ هُوَ مَا جَاءَتْ بِهِ الرِّوَايَاتُ الصَّحِيحَةُ مِنَ الِاسْتِئْذَانِ وَالتَّسْلِيمِ ثَلَاثًا كَمَا رَأَيْتَ .
وَأَنَّ الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ هُوَ مَا نَقَلَهُ ابْنُ حَجَرٍ عَنِ الطَّبَرِيِّ مِنْ طَرِيقِ قَتَادَةَ قَالَ : الِاسْتِئْنَاسُ هُوَ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا إِلَى آخِرِهِ ، وَالرِّوَايَةُ الصَّحِيحَةُ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُ قَالَ : الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثٌ يُؤَيِّدُهَا أَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَذَلِكَ كَانَ يَفْعَلُ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ : وَفِي رِوَايَةِ عُبَيْدِ بْنِ حُنَيْنٍ ، الَّتِي أَشَرْتُ إِلَيْهَا فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ ، زِيَادَةٌ مُفِيدَةٌ ، وَهِيَ أَنَّ أَبَا سَعِيدٍ ، أَوْ أَبَا مَسْعُودٍ قَالَ لِعُمَرَ : خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهُوَ يُرِيدُ سَعْدَ بْنَ عُبَادَةَ ، حَتَّى أَتَاهُ فَسَلَّمَ ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّانِيَةَ فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، ثُمَّ سَلَّمَ الثَّالِثَةَ ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، فَقَالَ : " قَضَيْنَا مَا عَلَيْنَا " ، ثُمَّ رَجَعَ فَأَذِنَ لَهُ سَعْدٌ ، الْحَدِيثَ ، فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمِنْ فِعْلِهِ ، وَقِصَّةُ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ هَذِهِ أَخْرَجَهَا أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ قَيْسِ بْنِ سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ مُطَوَّلَةً بِمَعْنَاهُ ، وَأَحْمَدُ مِنْ طَرِيقِ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ كَذَا فِيهِ ، وَأَخْرَجَهُ الْبَزَّارُ عَنْ أَنَسٍ بِغَيْرِ تَرَدُّدٍ ، وَأَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ أُمِّ طَارِقٍ مَوْلَاةِ سَعْدٍ ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ ، وَقَوْلُهُ : فَثَبَتَ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمِنْ فِعْلِهِ : يَدُلُّ عَلَى أَنَّ قِصَّةَ اسْتِئْذَانِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ صَحِيحَةٌ ثَابِتَةٌ ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ : وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ عَنْ ثَابِتٍ ، عَنْ أَنَسٍ أَوْ غَيْرِهِ " أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – اسْتَأْذَنَ عَلَى سَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ ، فَقَالَ : " السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ، فَقَالَ سَعْدٌ : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَلَمْ يَسْمَعِ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَتَّى سَلَّمَ ثَلَاثًا وَرَدَّ عَلَيْهِ سَعْدٌ ثَلَاثًا وَلَمْ يَسْمَعْهُ فَرَجَعَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ، مَا سَلَّمْتَ تَسْيلِمَةً إِلَّا وَهِيَ بِأُذُنِي وَلَقَدْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ وَلَمْ أُسْمِعْكَ ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَسْتَكْثِرَ مِنْ سَلَامِكَ وَمِنَ الْبَرَكَةِ ، ثُمَّ أَدْخَلَهُ الْبَيْتَ فَقَرَّبَ إِلَيْهِ زَبِيبًا فَأَكَلَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ " : أَكَلَ طَعَامَكُمُ الْأَبْرَارُ وَصَلَّتْ عَلَيْكُمُ الْمَلَائِكَةُ وَأَفْطَرَ عِنْدَكُمُ الصَّائِمُونَ " وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيِّ ، سَمِعْتُ يَحْيَى بْنَ أَبِي كَثِيرٍ يَقُولُ : حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، عَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ – هُوَ ابْنُ عُبَادَةَ – قَالَ " : زَارَنَا رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي مَنْزِلِنَا فَقَالَ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا فَقَلْتُ أَلَا تَأْذَنُ لِرَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ : دَعْهُ يُكْثِرْ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ، فَرَدَّ سَعْدٌ رَدًّا خَفِيًّا ، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ، ثُمَّ رَجَعَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَاتَّبَعَهُ سَعْدٌ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي كُنْتُ أَسْمَعُ سَلَامَكَ وَأَرُدُّ عَلَيْكَ رَدًّا خَفِيًّا لِتُكْثِرَ عَلَيْنَا مِنَ السَّلَامِ فَانْصَرَفَ مَعَهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " ، وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ الْقِصَّةَ إِلَى آخِرِهَا ، ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ رَوَى هَذَا مِنْ وُجُوهٍ أُخْرَى ، فَهُوَ حَدِيثٌ جَيِّدٌ قَوِيٌّ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَبِمَا ذَكَرْنَا تَعْلَمُ أَنَّ الِاسْتِئْنَاسَ فِي الْآيَةِ الِاسْتِئْذَانُ ثَلَاثًا ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِهِ التَّنَحْنُحَ وَنَحْوُهُ ، كَمَا عَزَاهُ فِي فَتْحِ الْبَارِي لِلْجُمْهُورِ ، وَاخْتُلِفَ هَلْ يُقَدَّمُ السَّلَامُ أَوِ الِاسْتِئْذَانُ ؟ وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الِاسْتِئْذَانَ مَشْرُوعٌ ، وَتَظَاهَرَتْ بِهِ دَلَائِلُ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةِ ، وَالسُّنَّةُ : أَنْ يُسَلِّمَ وَيَسْتَأْذِنَ ثَلَاثًا فَيَجْمَعُ بَيْنَ السَّلَامِ
وَالِاسْتِئْذَانِ ، كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْقُرْآنِ ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَنَّهُ هَلْ يُسْتَحَبُّ تَقْدِيمُ السَّلَامِ ، ثُمَّ الِاسْتِئْذَانُ أَوْ تَقْدِيمُ الِاسْتِئْذَانِ ثُمَّ السَّلَامُ وَالصَّحِيحُ الَّذِي جَاءَتْ بِهِ السُّنَّةُ ، وَقَالَهُ الْمُحَقِّقُونَ : أَنَّهُ يُقَدِّمُ السَّلَامَ ، فَيَقُولُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ وَالثَّانِي يُقَدِّمُ الِاسْتِئْذَانَ ، وَالثَّالِثُ وَهُوَ اخْتِيَارُ الْمَاوَرْدِيِّ مِنْ أَصْحَابِنَا إِنْ وَقَعَتْ عَيْنُ الْمُسْتَأْذِنِ عَلَى صَاحِبِ الْمَنْزِلِ قَبْلَ دُخُولِهِ قَدَّمَ السَّلَامَ ، وَإِلَّا قَدَّمَ الِاسْتِئْذَانَ ، وَقَدْ صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – حَدِيثَانِ فِي تَقْدِيمِ السَّلَامِ ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ بِلَفْظِهِ . وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَا صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مُقَدَّمٌ عَلَى غَيْرِهِ ، فَلَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْ تَقْدِيمِ السَّلَامِ عَلَى الِاسْتِئْذَانِ ، وَتَقْدِيمِ الِاسْتِئْنَاسِ الَّذِي هُوَ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى السَّلَامِ فِي قَوْلِهِ : حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا [24 27] لَا يَدُلُّ عَلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِئْذَانِ ; لِأَنَّ الْعَطْفَ بِالْوَاوِ لَا يَقْتَضِي التَّرْتِيبَ ، وَإِنَّمَا يَقْتَضِي مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ ، فَيَجُوزُ عَطْفُ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَخِيرِ بِالْوَاوِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : يَامَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ [3 43] وَالرُّكُوعُ قَبْلَ السُّجُودِ ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى : وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ الْآيَةَ [33 7] وَنُوحٌ قَبْلَ نَبِيِّنَا – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَهَذَا مَعْرُوفٌ وَلَا يُنَافِي مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاوَ رُبَّمَا عُطِفَ بِهَا مُرَادًا بِهَا التَّرْتِيبُ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى : إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ الْآيَةَ [2 158] وَقَدْ قَالَ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " : أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " وَفِي رِوَايَةٍ " ابْدَءُوا بِمَا بَدَأَ اللَّهُ بِهِ " بِصِيغَةِ الْأَمْرِ ، وَكَقَوْلِ حَسَّانٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – :
هَجَوْتَ مُحَمَّدًا وَأَجَبْتُ عَنْهُ … وَعِنْدَ اللَّهِ فِي ذَاكَ الْجَزَاءُ
عَلَى رِوَايَةِ الْوَاوِ فِي هَذَا الْبَيْتِ .
وَإِيضَاحُ ذَلِكَ أَنَّ الْوَاوَ عِنْدَ التَّجَرُّدِ مِنَ الْقَرَائِنِ وَالْأَدِلَّةِ الْخَارِجِيَّةِ لَا تَقْتَضِي إِلَّا مُطْلَقَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ ، وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ ، وَلَا يُنَافِي ذَلِكَ أَنَّهُ إِنْ قَامَ دَلِيلٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ فِي الْعَطْفِ ، كَالْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ فِي الْبَدْءِ بِالصَّفَا ، أَوْ دَلَّتْ عَلَى ذَلِكَ قَرِينَةٌ كَالْبَيْتِ الْمَذْكُورِ ; لِأَنَّ جَوَابَ الْهِجَاءِ لَا يَكُونُ إِلَّا بَعْدَهُ ، أَنَّهَا تَدُلُّ عَلَى التَّرْتِيبِ لِقِيَامِ الدَّلِيلِ أَوِ الْقَرِينَةِ عَلَى ذَلِكَ ، وَالْآيَةُ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا لَمْ يَقُمْ دَلِيلٌ رَاجِحٌ ، وَلَا قَرِينَةٌ عَلَى إِرَادَةِ التَّرْتِيبِ فِيهَا بِالْوَاوِ ، اهـ .
وَذَكَرَ ابْنُ كَثِيرٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ أَحَادِيثَ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي السُّنَنِ وَغَيْرِهَا تَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – تَكَرَّرَ مِنْهُ تَعْلِيمُ الِاسْتِئْذَانِ لِمَنْ لَا يَعْلَمُهُ ، بِأَنْ يَقُولَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، أَأَدْخُلُ ؟ فَانْظُرْهُ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ النَّوَوِيَّ ذَكَرَ أَنَّهُ صَحَّ فِيهِ حَدِيثَانِ ، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَالْمُخْتَارُ أَنَّ صِيغَةَ الِاسْتِئْذَانِ الَّتِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا أَنْ يَقُولَ الْمُسْتَأْذِنُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ؟ فَإِنْ لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ انْصَرَفَ ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي قِصَّةِ عُمَرَ مَعَ أَبِي مُوسَى فِي الصَّحِيحِ فِي سِيَاقِهَا تَغَايُرٌ ; لِأَنَّ فِي بَعْضِهَا : أَنَّ عُمَرَ أَرْسَلَ إِلَى أَبِي مُوسَى بَعْدَ انْصِرَافِهِ ، فَرَدَّهُ مِنْ حِينِهِ ، وَفِي بَعْضِهَا أَنَّهُ لَمْ يَأْتِهِ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَجَمَعَ بَيْنَهَا ابْنُ حَجَرٍ فِي الْفَتْحِ قَالَ : وَظَاهِرُ هَذَيْنِ السِّيَاقَيْنِ التَّغَايُرُ ، فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي أَنَّهُ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى عُمَرَ إِلَّا فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، وَفِي الثَّانِي أَنَّهُ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فِي الْحَالِ إِلَى أَنْ قَالَ وَيُجْمَعُ بَيْنَهُمَا : بِأَنَّ عُمَرَ لَمَّا فَرَغَ مِنَ الشُّغْلِ الَّذِي كَانَ فِيهِ تَذَكَّرَهُ فَسَأَلَ عَنْهُ فَأُخْبِرَ بِرُجُوعِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ ، فَلَمْ يَجِدْهُ الرَّسُولُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ ، وَجَاءَ هُوَ إِلَى عُمَرَ فِي الْيَوْمِ الثَّانِي ، اهـ . مِنْهُ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
تَنْبِيهَاتٌ تَتَعَلَّقُ بِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ .
الْأَوَّلُ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِنْ تَحَقَّقَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ سَمِعُوهُ لَزِمَهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ; لِأَنَّهُمْ لَمَّا سَمِعُوهُ ، وَلَمْ يَأْذَنُوا لَهُ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى عَدَمِ الْإِذْنِ ، وَقَدْ بَيَّنَتِ السُّنَّةُ الصَّحِيحَةُ عَدَمَ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثَةِ ، خِلَافًا لِمَنْ قَالَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى الثَّلَاثِ مُطْلَقًا ، وَكَذَلِكَ إِذَا لَمْ يَدْرِ هَلْ سَمِعُوهُ أَوْ لَا ، فَإِنَّهُ يَلْزَمُهُ الِانْصِرَافُ بَعْدَ الثَّالِثَةِ ، كَمَا أَوْضَحْنَا أَدِلَّتَهُ وَلَمْ يُقَيَّدْ شَيْءٌ مِنْهَا بِعِلْمِهِ بِأَنَّهُمْ سَمِعُوهُ .
التَّنْبِيهُ الثَّانِي : اعْلَمْ أَنَّ الَّذِي يَظْهَرُ لَنَا رُجْحَانُهُ مِنَ الْأَدِلَّةِ ، أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ الْبَيْتِ ، لَمْ يَسْمَعُوا اسْتِئْذَانَهُ لَا يَزِيدُ عَلَى الثَّالِثَةِ ، بَلْ يَنْصَرِفُ بَعْدَهَا لِعُمُومِ الْأَدِلَّةِ ، وَعَدَمِ تَقْيِيدِ شَيْءٍ مِنْهَا بِكَوْنِهِمْ لَمْ يَسْمَعُوهُ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ لَهُ الزِّيَادَةَ ، وَمَنْ فَصَّلَ فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ مُسْلِمٍ : أَمَّا إِذَا اسْتَأْذَنَ ثَلَاثًا ، فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ ، وَظَنَّ أَنَّهُ لَمْ يَسْمَعْهُ ، فَفِيهِ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ أَشْهَرُهَا أَنَّهُ يَنْصَرِفُ ، وَلَا يُعِيدُ الِاسْتِئْذَانَ . وَالثَّانِي : يَزِيدُ فِيهِ . وَالثَّالِثُ : إِنْ كَانَ بِلَفْظِ الِاسْتِئْذَانِ الْمُتَقَدِّمِ لَمْ يُعِدْهُ ، وَإِنْ كَانَ بِغَيْرِهِ أَعَادَهُ ، فَمَنْ قَالَ بِالْأَظْهَرِ فَحُجَّتُهُ قَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " : فَلَمْ يُؤْذَنْ لَهُ فَلْيَرْجِعْ " وَمَنْ قَالَ بِالثَّانِي حَمَلَ الْحَدِيثَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ، أَوْ ظَنَّ أَنَّهُ سَمِعَهُ ، فَلَمْ يَأْذَنْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ .
وَالصَّوَابُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنْ عَدَمِ الزِّيَادَةِ عَلَى الثَّلَاثِ ; لِأَنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ وَلَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْ ظَاهِرِ النَّصِّ إِلَّا بِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ .
التَّنْبِيهُ الثَّالِثُ : قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ : إِنَّ الْمُسْتَأْذِنَ يَنْبَغِي لَهُ أَلَّا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ وَلَكِنَّهُ يَقِفُ جَاعِلًا الْبَابَ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ ، وَيَسْتَأْذِنُ وَهُوَ كَذَلِكَ ، قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : ثُمَّ لِيُعْلَمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي لِلْمُسْتَأْذِنِ عَلَى أَهْلِ الْمَنْزِلِ أَلَّا يَقِفَ تِلْقَاءَ الْبَابِ بِوَجْهِهِ ، وَلَكِنْ لِيَكُنِ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ ، أَوْ يَسَارِهِ لِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ : حَدَّثَنَا مُؤَمِّلُ بْنُ الْفَضْلِ الْحَرَّانِيُّ فِي آخَرِينَ ، قَالُوا : حَدَّثَنَا بَقِيَّةُ بْنُ الْوَلِيدِ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بِشْرٍ قَالَ " : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِذَا أَتَى بَابَ قَوْمٍ لَمْ يَسْتَقْبِلِ الْبَابَ مِنْ تِلْقَاءِ وَجْهِهِ ، وَلَكِنْ مِنْ رُكْنِهِ الْأَيْمَنِ أَوِ الْأَيْسَرِ ، وَيَقُولُ " السَّلَامُ عَلَيْكُمُ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ " وَذَلِكَ أَنَّ الدُّورَ لَمْ يَكُنْ عَلَيْهَا يَوْمَئِذٍ سُتُورٌ ، انْفَرَدَ بِهِ أَبُو دَاوُدَ . وَقَالَ أَبُو دَاوُدَ أَيْضًا : حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، ثَنَا جَرِيرٌ ، ح ، وَثَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، ثَنَا حَفْصٌ عَنِ الْأَعْمَشِ ، عَنْ طَلْحَةَ عَنْ هُزَيْلٍ قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ قَالَ عُثْمَانُ : سَعْدُ [بْنُ أَبِي وَقَّاصٍ] ، فَوَقَفَ عَلَى بَابِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَسْتَأْذِنُ فَقَامَ عَلَى الْبَابِ ، قَالَ عُثْمَانُ : مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – " : هَكَذَا عَنْكَ أَوْ هَكَذَا فَإِنَّمَا الِاسْتِئْذَانُ مِنَ النَّظَرِ " وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ الطَّيَالِسِيُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ، عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ طَلْحَةَ بْنِ مُصَرِّفٍ عَنْ رَجُلٍ عَنْ سَعْدٍ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، مِنْ حَدِيثِهِ انْتَهَى مِنِ ابْنِ كَثِيرٍ ، وَالْحَدِيثَانِ اللَّذَانِ ذَكَرَهُمَا عَنْ أَبِي دَاوُدَ نَقَلْنَاهُمَا مِنْ سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ لِأَنَّ نُسْخَةَ ابْنِ كَثِيرٍ الَّتِي عِنْدَنَا فِيهَا تَحْرِيفٌ فِيهِمَا .
وَفِيمَا ذَكَرْنَا دَلَالَةٌ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ لَا يَقِفُ مُسْتَقْبِلَ الْبَابِ خَوْفًا أَنْ يُفْتَحَ لَهُ الْبَابُ ، فَيَرَى مِنْ أَهْلِ الْمَنْزِلِ مَا لَا يُحِبُّونَ أَنْ يَرَاهُ ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْبَابُ عَنْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ فَإِنَّهُ وَقْتَ فَتْحِ الْبَابِ لَا يَرَى مَا فِي دَاخِلِ الْبَيْتِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الْمُسْتَأْذِنَ إِذَا قَالَ لَهُ رَبُّ الْمَنْزِلِ : مَنْ أَنْتَ ، فَلَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ : أَنَا بَلْ يُفْصِحُ بِاسْمِهِ وَكُنْيَتِهِ إِنْ كَانَ مَشْهُورًا بِهِ ; لِأَنَّ لَفْظَةَ أَنَا يُعَبِّرُ بِهَا كُلُّ أَحَدٍ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا تَحْصُلُ بِهَا مَعْرِفَةُ الْمُسْتَأْذِنِ ، وَقَدْ ثَبَتَ مَعْنَى هَذَا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ هِشَامُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ ، حَدَّثَنَا شُعْبَةُ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، قَالَ : سَمِعْتُ جَابِرًا – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يَقُولُ «: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي دَيْنٍ كَانَ عَلَى أَبِي ، فَدَقَقْتُ الْبَابَ ، فَقَالَ مَنْ ذَا ؟ فَقُلْتُ : أَنَا ، فَقَالَ :» أَنَا أَنَا «، كَأَنَّهُ كَرِهَهَا» انْتَهَى مِنْهُ ، وَتَكْرِيرُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَفْظَةَ أَنَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَرْضَهَا مِنْ جَابِرٍ ; لِأَنَّهَا لَا يُعْرَفُ بِهَا الْمُسْتَأْذِنُ فَهِيَ جَوَابٌ لَهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِمَا لَا يُطَابِقُ سُؤَالَهُ ، وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ أَنَّ جَوَابَ الْمُسْتَأْذِنِ بِأَنَا ، لَا يَجُوزُ لِكَرَاهَةِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لِذَلِكَ وَعَدَمِ رِضَاهُ بِهِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : إِنَّهُ مَكْرُوهٌ كَرَاهَةَ تَنْزِيهٍ ، وَهُوَ قَوْلُ الْجُمْهُورِ .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ نُمَيْرٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ إِدْرِيسَ ، عَنْ شُعْبَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ «: أَتَيْتُ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَدَعَوْتُ ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : مَنْ هَذَا ؟ قُلْتُ أَنَا فَخَرَجَ وَهُوَ يَقُولُ : أَنَا أَنَا» .
حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَاللَّفْظُ لِأَبِي بَكْرٍ قَالَ : قَالَ يَحْيَى : أَخْبَرَنَا ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ : حَدَّثَنَا وَكِيعٌ عَنْ شُعْبَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ «: اسْتَأْذَنْتُ عَلَى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَالَ : مَنْ هَذَا ؟ فَقُلْتُ : أَنَا ، فَقَالَ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : أَنَا أَنَا» .
وَحَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ ، حَدَّثَنَا النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ ، وَأَبُو عَامِرٍ الْعَقَدِيُّ «ح» وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْمُثَنَّى ، حَدَّثَنِي وَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ «ح» وَحَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ بِشْرٍ ، حَدَّثَنَا بَهْزٌ كُلُّهُمْ عَنْ شُعْبَةَ بِهَذَا الْإِسْنَادِ ، وَفِي حَدِيثِهِمْ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ انْتَهَى مِنْهُ . وَقَوْلُ جَابِرٍ ، كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَخْفَى مِنْ تَكْرِيرِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَفْظَةَ أَنَا أَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ وَلَمْ يَرْضَهُ ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ هَذَا أَخْرَجَهُ غَيْرُ الشَّيْخَيْنِ مِنْ بَاقِي الْجَمَاعَةِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : اعْلَمْ أَنَّ الْأَظْهَرَ الَّذِي لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ أَنَّ الرَّجُلَ يَلْزَمُهُ أَنْ يَسْتَأْذِنَ عَلَى أُمِّهِ وَأُخْتِهِ ، وَبَنِيهِ وَبَنَاتِهِ الْبَالِغِينَ ; لِأَنَّهُ إِنْ دَخَلَ عَلَى مَنْ ذَكَرَ بِغَيْرِ اسْتِئْذَانٍ فَقَدْ تَقَعُ عَيْنُهُ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ ذُكِرَ ، وَذَلِكَ لَا يَحِلُّ لَهُ .
وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي فَتْحِ الْبَارِي فِي شَرْحِهِ لِحَدِيثِ : «إِنَّمَا جُعِلُ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» مَا نَصُّهُ : وَيُؤْخَذُ مِنْهُ أَنَّهُ يُشْرَعُ الِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ حَتَّى الْمَحَارِمِ ; لِئَلَّا تَكُونَ مُنْكَشِفَةَ الْعَوْرَةِ . وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ عَنْ نَافِعٍ : كَانَ ابْنُ عُمَرَ إِذَا بَلَغَ بَعْضُ وَلَدِهِ الْحُلُمَ لَمْ يَدْخُلْ عَلَيْهِ إِلَّا بِإِذْنٍ ، وَمِنْ طَرِيقِ عَلْقَمَةَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ مَسْعُودٍ فَقَالَ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ فَقَالَ مَا عَلَى كُلِّ أَحْيَانِهَا تُرِيدُ أَنْ تَرَاهَا . وَمِنْ طَرِيقِ مُسْلِمِ بْنِ نُذَيْرٍ بِالنُّونِ مُصَغَّرًا : سَأَلَ رَجُلٌ حُذَيْفَةَ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أُمِّي ؟ فَقَالَ : إِنْ لَمْ تَسْتَأْذِنْ عَلَيْهَا رَأَيْتَ مَا تَكْرَهُ ، وَمِنْ طَرِيقِ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ ، دَخَلْتُ مَعَ أَبِي عَلَى أُمِّي فَدَخَلَ ، وَاتَّبَعْتُهُ فَدَفَعَ فِي صَدْرِي ، وَقَالَ : تَدْخُلُ بِغَيْرِ إِذْنٍ ؟ وَمِنْ طَرِيقِ عَطَاءٍ سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ اسْتَأْذِنُ عَلَى أُخْتِي ؟ قَالَ نَعَمْ ، قُلْتُ إِنَّهَا فِي حِجْرِي ؟ قَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ وَأَسَانِيدُ هَذِهِ الْآثَارِ كُلُّهَا صَحِيحَةٌ ، انْتَهَى مِنْ فَتْحِ الْبَارِي .
وَهَذِهِ الْآثَارُ عَنْ هَؤُلَاءِ الصَّحَابَةِ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا ، وَيُفْهَمُ مِنَ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، فَوُقُوعُ الْبَصَرِ عَلَى عَوْرَاتِ مَنْ ذُكِرَ لَا يَحِلُّ ، كَمَا تَرَى ، وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي تَفْسِيرِهِ لِلْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا : وَقَالَ هُشَيْمٌ : أَخْبَرَنَا أَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ ، عَنْ كُرْدُوسٍ ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ : عَلَيْكُمْ أَنْ تَسْتَأْذِنُوا عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ وَأَخَوَاتِكُمْ . وَقَالَ أَشْعَثُ ، عَنْ عَدِيِّ بْنِ ثَابِتٍ : أَنَّ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ قَالَتْ : يَا رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – إِنِّي أَكُونُ فِي مَنْزِلِي عَلَى الْحَالِ الَّتِي لَا أُحِبُّ أَنْ يَرَانِي أَحَدٌ عَلَيْهَا لَا وَالِدٌ وَلَا وَلَدٌ ، وَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يَدْخُلُ عَلَيَّ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِي ، وَأَنَا عَلَى تِلْكَ الْحَالِ ، فَنَزَلَتْ : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا الْآيَةَ ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : سَمِعْتُ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ يُخْبِرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قَالَ : ثَلَاثُ آيَاتٍ جَحَدَهُنَّ النَّاسُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [49 13] ، قَالَ وَيَقُولُونَ : إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَعْظَمُكُمْ بَيْتًا ، إِلَى أَنْ قَالَ : وَالْأَدَبُ كُلُّهُ قَدْ جَحَدَهُ النَّاسُ ، قَالَ : قُلْتُ : أَسْتَأْذِنُ عَلَى أَخَوَاتِي أَيْتَامٍ فِي حِجْرِي مَعِي فِي بَيْتٍ وَاحِدٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، فَرَدَدْتُ عَلَيْهِ لِيُرَخِّصَ لِي فَأَبَى ، فَقَالَ : تُحِبُّ أَنْ تَرَاهَا عُرْيَانَةً ؟ قُلْتُ : لَا ، قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ ، قَالَ : فَرَاجَعْتُهُ ، فَقَالَ : أَتُحِبُّ أَنْ تُطِيعَ اللَّهَ ؟ قَالَ : قُلْتُ : نَعَمْ ، قَالَ : فَاسْتَأْذِنْ ، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : وَأَخْبَرَنِي ابْنُ طَاوُسٍ عَنْ أَبِيهِ ، قَالَ : مَا مِنِ امْرَأَةٍ أَكْرَهُ إِلَيَّ أَنْ أَرَى عَوْرَتَهَا مِنْ ذَاتِ مَحْرَمٍ ، قَالَ : وَكَانَ يُشَدِّدُ فِي ذَلِكَ ، وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ عَنِ الزُّهْرِيِّ : سَمِعْتُ هُزَيْلَ بْنَ شُرَحْبِيلَ الْأَوْدِيَّ الْأَعْمَى أَنَّهُ سَمِعَ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ : عَلَيْكُمُ الْإِذْنَ عَلَى أُمَّهَاتِكُمْ ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ ، وَهُوَ يَدُلُّ عَلَى مَا ذَكَرْنَا مِنَ الِاسْتِئْذَانِ عَلَى مَنْ ذَكَرْنَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اعْلَمْ أَنَّهُ إِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَ الرَّجُلِ فِي بَيْتِهِ إِلَّا امْرَأَتُهُ أَنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ لَا يَسْتَأْذِنُ عَلَيْهَا ، وَذَلِكَ يُفْهَمُ مِنْ ظَاهِرِ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ وَلِأَنَّهُ لَا حِشْمَةَ بَيْنَ الرَّجُلِ وَامْرَأَتِهِ ، وَيَجُوزُ بَيْنَهُمَا مِنَ الْأَحْوَالِ وَالْمُلَابَسَاتِ مَا لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ غَيْرِهِمَا ، وَلَوْ كَانَ أَبًّا أَوْ أُمًّا أَوِ ابْنًا ، كَمَا لَا يَخْفَى ، وَيَدُلُّ لَهُ الْأَثَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا عَنْ مُوسَى بْنِ طَلْحَةَ : أَنَّهُ دَخَلَ مَعَ أَبِيهِ طَلْحَةَ عَلَى أُمِّهِ فَزَجَرَهُ طَلْحَةُ عَنْ أَنْ يَدْخُلَ عَلَى أُمِّهِ بِغَيْرِ إِذْنٍ ، مَعَ أَنَّ طَلْحَةَ زَوْجَهَا دَخَلَ بِغَيْرِ إِذْنٍ .
وَقَالَ ابْنُ كَثِيرٍ فِي «تَفْسِيرِهِ» : وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ : قُلْتُ لِعَطَاءٍ : أَيَسْتَأْذِنُ الرَّجُلُ عَلَى امْرَأَتِهِ ؟ قَالَ : لَا ، ثُمَّ قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ : وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ ، وَإِلَّا فَالْأَوْلَى أَنْ يُعْلِمَهَا بِدُخُولِهِ وَلَا يُفَاجِئَهَا بِهِ ; لِاحْتِمَالِ أَنْ تَكُونَ عَلَى هَيْئَةٍ لَا تُحِبُّ أَنْ يَرَاهَا عَلَيْهَا ، ثُمَّ نَقَلَ ابْنُ كَثِيرٍ عَنِ ابْنِ جَرِيرٍ بِسَنَدِهِ عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَتْ : كَانَ عَبْدُ اللَّهِ إِذَا جَاءَ مِنْ حَاجَةٍ ، فَانْتَهَى إِلَى الْبَابِ تَنَحْنَحَ وَبَزَقَ كَرَاهَةَ أَنْ يَهْجُمَ مِنَّا عَلَى أَمْرٍ يَكْرَهُهُ ، قَالَ : وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ ، اهـ مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ . وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ وَلَا سِيَّمَا عِنْدَ مَنْ يَرَى إِبَاحَةَ نَظَرِ الزَّوْجِ إِلَى فَرْجِ امْرَأَتِهِ كَمَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَافَقَهُمْ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إِذَا قَالَ أَهْلُ الْمَنْزِلِ لِلْمُسْتَأْذِنِ : ارْجِعْ ، وَجَبَ عَلَيْهِ الرُّجُوعُ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ [24 28] ، وَكَانَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَتَمَنَّى إِذَا اسْتَأْذَنَ عَلَى بَعْضِ أَصْدِقَائِهِ أَنْ يَقُولُوا لَهُ : ارْجِعْ ، لِيَرْجِعَ ، فَيَحْصُلَ لَهُ فَضْلُ الرُّجُوعِ الْمَذْكُورِ فِي قَوْلِهِ : هُوَ أَزْكَى لَكُمْ ; لِأَنَّ مَا قَالَ اللَّهُ إِنَّهُ أَزْكَى لَنَا لَا شَكَّ أَنَّ لَنَا فِيهِ خَيْرًا وَأَجْرًا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : اعْلَمْ أَنَّ أَقْوَى الْأَقْوَالِ دَلِيلًا وَأَرْجَحَهَا فِيمَنْ نَظَرَ مِنْ كُوَّةٍ إِلَى دَاخِلِ مَنْزِلِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ الَّتِي نَظَرَ إِلَيْهِمْ بِهَا ، لِيَطَّلِعَ عَلَى عَوْرَاتِهِمْ أَنَّهُ لَا حَرَجَ عَلَيْهِمْ فِي ذَلِكَ مِنْ إِثْمٍ وَلَا غُرْمِ دِيَةِ الْعَيْنِ وَلَا قِصَاصٍ ، وَهَذَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهُ لِثُبُوتِهِ عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثُبُوتًا لَا مَطْعَنَ فِيهِ ، وَلِذَا لَمْ نَذْكُرْ هُنَا أَقْوَالَ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ لِسُقُوطِهَا عِنْدَنَا ، لِمُعَارَضَتِهَا النَّصَّ الثَّابِتَ عَنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ الْبُخَارِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي «صَحِيحِهِ» : بَابُ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ ، ثُمَّ ذَكَرَ مِنْ أَحَادِيثِ هَذِهِ التَّرْجَمَةِ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، حَدَّثَنَا أَبُو الزِّنَادِ عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «: لَوْ أَنَّ امْرَأً اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» ، اهـ مِنْهُ ، وَالْجُنَاحُ الْحَرَجُ ، وَقَوْلُهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي هَذَا الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ «: لَمْ يَكُنْ عَلَيْكَ جُنَاحٌ» ، لَفْظُ جُنَاحٍ فِيهِ نَكِرَةٌ فِي سِيَاقِ النَّفْيِ فَهِيَ تَعُمُّ رَفْعَ كُلِّ حَرَجٍ مِنْ إِثْمٍ وَدِيَةٍ وَقِصَاصٍ ، كَمَا تَرَى .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ ، حَدَّثَنَا جَرِيرٌ ، عَنْ سُهَيْلٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ بِغَيْرِ إِذْنِهِمْ فَقَدْ حَلَّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ» ، اهـ مِنْهُ .
وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ فِيهِ التَّصْرِيحُ مِنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَنَّهُمْ يَحِلُّ لَهُمْ أَنْ يَفْقَئُوا عَيْنَهُ ، وَكَوْنُ ذَلِكَ حَلَالًا لَهُمْ مُسْتَلْزِمٌ أَنَّهُمْ لَيْسَ عَلَيْهِمْ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ إِثْمٍ ، وَلَا دِيَةٍ ، وَلَا قِصَاصٍ ; لِأَنَّ كُلَّ مَا أَحَلَّهُ اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لَا مُؤَاخَذَةَ عَلَى فِعْلِهِ الْبَتَّةَ بِنَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْمُؤَاخَذَةِ ، كَمَا لَا يَخْفَى .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – تَعَالَى فِي «صَحِيحِهِ» مُتَّصِلًا بِكَلَامِهِ هَذَا الَّذِي نَقَلْنَا عَنْهُ : حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي عُمَرَ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ ، عَنِ الْأَعْرَجِ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: لَوْ أَنَّ رجلًا اطَّلَعَ عَلَيْكَ بِغَيْرِ إِذْنٍ فَخَذَفْتَهُ بِحَصَاةٍ فَفَقَأْتَ عَيْنَهُ ، مَا كَانَ عَلَيْكَ مِنْ جُنَاحٍ» ، اهـ مِنْهُ .
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْهَ دَلَالَتِهِ عَلَى أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي عَيْنِ الْمَذْكُورِ ، وَثُبُوتُ هَذَا عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – كَمَا رَأَيْتَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَمَّا تَعَدَّى وَانْتَهَكَ الْحُرْمَةَ ، وَنَظَرَ إِلَى بَيْتِ غَيْرِهِ دُونَ اسْتِئْذَانٍ ، أَنَّ اللَّهَ أَذِنَ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فِي أَخْذِ عَيْنِهِ الْخَائِنَةِ ، وَأَنَّهَا هَدْرٌ لَا عَقْلَ فِيهَا ، وَلَا قَوَدَ ، وَلَا إِثْمَ ، وَيَزِيدُ مَا ذَكَرْنَا تَوْكِيدًا وَإِيضَاحًا مَا جَاءَ عَنْهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِنْهُ أَنَّهُ هَمَّ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ .
قَالَ الْبُخَارِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي صَحِيحِهِ تَحْتَ التَّرْجَمَةِ الْمَذْكُورَةِ آنِفًا ، وَهِيَ قَوْلُهُ : بَابُ مَنِ اطَّلَعَ فِي بَيْتِ قَوْمٍ فَفَقَئُوا عَيْنَهُ فَلَا دِيَةَ لَهُ : حَدَّثَنَا أَبُو الْيَمَانِ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرِ بْنِ أَنَسٍ ، عَنْ أَنَسٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – : أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي بَعْضِ جُحَرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ ، وَجَعَلَ يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ .
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، حَدَّثَنَا لَيْثٌ ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ ، أَنَّ سَهْلَ بْنَ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ أَخْبَرَهُ أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحَرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِدْرًى يَحُكُّ بِهِ رَأْسَهُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْتَظِرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنَيْكَ» ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «: إِنَّمَا جُعِلَ الْإِذْنُ مِنْ قِبَلِ الْبَصَرِ» ، اهـ مِنْهُ ، وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ هَذِهِ الْأَحَادِيثَ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا عَنْهُ هُنَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ .
وَقَدْ قَالَ فِي كِتَابِ الِاسْتِئْذَانِ : بَابُ الِاسْتِئْذَانِ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ : حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ، حَدَّثَنَا سُفْيَانُ ، قَالَ الزُّهْرِيُّ : حَفِظْتُهُ كَمَا أَنَّكَ هَاهُنَا عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ ، قَالَ : اطَّلَعَ رَجُلٌ مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمَعَ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ ، فَقَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُ لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ ، إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» .
حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – : أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَامَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بِمِشْقَصٍ أَوْ بِمَشَاقِصَ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَخْتِلُ الرَّجُلَ لِيَطْعَنَهُ ، وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْنَا ، فَلَا الْتِفَاتَ لِمَنْ خَالَفَهَا مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَمَنْ أَوَّلَهَا ; لِأَنَّ النَّصَّ لَا يَجُوزُ الْعُدُولُ عَنْهُ ، إِلَّا لِدَلِيلٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمِشْقَصَ بِكَسْرِ أَوَّلِهِ وَسُكُونِ ثَانِيهِ ، وَفَتْحِ ثَالِثِهِ هُوَ نَصْلُ السَّهْمِ إِذَا كَانَ طَوِيلًا غَيْرَ عَرِيضٍ ، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ : مِنْ جُحْرٍ فِي حُجَرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الْجُحْرُ الْأَوَّلُ : بِضَمِّ الْجِيمِ وَسُكُونِ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَهُوَ كُلُّ ثُقْبٍ مُسْتَدِيرٍ فِي أَرْضٍ أَوْ حَائِطٍ ، وَالثَّانِي : بِضَمِّ الْحَاءِ الْمُهْمَلَةِ وَفَتْحِ الْجِيمِ جَمْعُ حُجْرَةٍ : وَهِيَ نَاحِيَةُ الْبَيْتِ .
وَقَالَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي صَحِيحِهِ : حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ يَحْيَى ، وَأَبُو كَامِلٍ فُضَيْلُ بْنُ الْحُسَيْنِ وَقُتَيْبَةُ بْنُ سَعِيدٍ ، وَاللَّفْظُ لِيَحْيَى ، وَأَبِي كَامِلٍ ، قَالَ يَحْيَى : أَخْبَرَنَا ، وَقَالَ الْآخَرَانِ : حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ مِنْ بَعْضِ حُجَرِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَقَامَ إِلَيْهِ بِمِشْقَصٍ أَوْ مَشَاقِصَ ، فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَخْتِلُهُ لِيَطْعَنَهُ ، وَفِي لَفْظٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ : أَنَّ رَجُلًا اطَّلَعَ فِي جُحْرٍ فِي بَابِ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وَمَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مِدْرًى يَحُكُّ بِهَا رَأْسَهُ ، فَلَمَّا رَآهُ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: لَوْ أَعْلَمُ أَنَّكَ تَنْظُرُنِي لَطَعَنْتُ بِهِ فِي عَيْنِكَ» ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – «: إِنَّمَا جُعِلَ الِاسْتِئْذَانُ مِنْ أَجْلِ الْبَصَرِ» ، وَفِي مُسْلِمٍ رِوَايَاتٌ أُخَرُ بِهَذَا الْمَعْنَى قَدِ اكْتَفَيْنَا مِنْهَا بِمَا ذَكَرْنَا .
وَهَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ الَّتِي ذَكَرْنَا لَا يَنْبَغِي الْعُدُولُ عَنْهَا ، وَلَا تَأْوِيلُهَا بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ صَحِيحٍ مِنْ كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ ، وَلِذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا جَاءَ فِيهَا مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ الْخَائِنَةَ يَحِلُّ أَخْذُهَا ، وَتَكُونُ هَدْرًا ، وَلَمْ نَلْتَفِتْ إِلَى قَوْلٍ مِنْ أَقْوَالِ مَنْ خَالَفَ ذَلِكَ ، وَلَا لِتَأْوِيلِهِمْ لِلنُّصُوصِ بِغَيْرِ مُسْتَنَدٍ يَجِبُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ : اعْلَمْ أَنَّ صَاحِبَ الْمَنْزِلِ إِذَا أَرْسَلَ رَسُولًا إِلَى شَخْصٍ لِيَحْضُرَ عِنْدَهُ ، فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ قَدِ اخْتَلَفُوا : هَلْ يَكُونُ الْإِرْسَالُ إِلَيْهِ إِذْنًا ; لِأَنَّهُ طَلَبَ حُضُورَهُ بِإِرْسَالِهِ إِلَيْهِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ إِذَا جَاءَ مُنْزِلَ مَنْ أَرْسَلَ إِلَيْهِ فَلَهُ الدُّخُولُ بِلَا إِذْنٍ جَدِيدٍ اكْتِفَاءً بِالْإِرْسَالِ إِلَيْهِ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ أَنْ يَسْتَأْذِنَ إِذَا أَتَى الْمَنْزِلَ اسْتِئْذَانًا جَدِيدًا ، وَلَا يَكْتَفِي بِالْإِرْسَالِ ؟ وَكُلٌّ مِنَ الْقَوْلَيْنِ قَالَ بِهِ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : إِنَّ الْإِرْسَالَ إِلَيْهِ إِذْنٌ يَكْفِي عَنِ الِاسْتِئْذَانِ عِنْدَ إِتْيَانِ الْمَنْزِلِ بِمَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ فِي سُنَنِهِ : حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، ثَنَا حَمَّادٌ ، عَنْ حَبِيبٍ ، وَهُشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ النَّبِيَّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» ، حَدَّثَنَا حُسَيْنُ بْنُ مُعَاذٍ ، ثَنَا عَبْدُ الْأَعْلَى ، ثَنَا سَعِيدٌ ، عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: إِذَا دُعِيَ أَحَدُكُمْ إِلَى طَعَامٍ فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ» ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ اللُّؤْلُؤِيُّ : سَمِعْتُ أَبَا دَاوُدَ يَقُولُ : قَتَادَةُ لَمْ يَسْمَعْ مِنْ أَبِي رَافِعٍ شَيْئًا ، اهـ مِنْ أَبِي دَاوُدَ .
قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَقَدْ ثَبَتَ سَمَاعُهُ مِنْهُ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي سَيَأْتِي فِي الْبُخَارِيِّ فِي كِتَابِ التَّوْحِيدِ مِنْ رِوَايَةِ سُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ ، عَنْ قَتَادَةَ : أَنَّ أَبَا رَافِعٍ حَدَّثَهُ ، اهـ .
وَيَدُلُّ لِصِحَّةِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَرَوَاهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا : بَابُ إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَجَاءَ هَلْ يَسْتَأْذِنُ ؟ وَقَالَ سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ «: هُوَ إِذْنُهُ» اهـ ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْبُخَارِيَّ لَا يُعَلِّقُ بِصِيغَةِ الْجَزْمِ ، إِلَّا مَا هُوَ صَحِيحٌ عِنْدَهُ ، كَمَا قَدَّمْنَاهُ مِرَارًا . وَقَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «الْفَتْحِ» : فِي حَدِيثِ كَوْنِ «رَسُولِ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» ، وَلَهُ مُتَابِعٌ أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرِدِ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، بِلَفْظِ «: رَسُولُ الرَّجُلِ إِلَى الرَّجُلِ إِذْنُهُ» ، وَأَخْرَجَ لَهُ شَاهِدًا مَوْقُوفًا عَلَى ابْنِ مَسْعُودٍ ، قَالَ «: إِذَا دُعِيَ الرَّجُلُ فَهُوَ إِذْنُهُ» ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ مَرْفُوعًا ، انْتَهَى مَحَلُّ الْغَرَضِ مِنْهُ .
فَهَذِهِ جُمْلَةُ أَدِلَّةِ مَنْ قَالُوا : بِأَنَّ مَنْ دُعِيَ لَا يَسْتَأْذِنُ إِذَا قَدِمَ .
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا : يَسْتَأْذِنُ إِذَا قَدِمَ إِلَى مَنْزِلِ الْمُرْسِلِ ، وَلَا يَكْتَفِي بِإِرْسَالِ الرَّسُولِ ، فَقَدِ احْتَجُّوا بِمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي «صَحِيحِهِ» : حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ ، وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ مُقَاتِلٍ ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ ، أَخْبَرَنَا مُجَاهِدٌ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ : دَخَلْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فَوَجَدَ لَبَنًا فِي قَدَحٍ ، فَقَالَ «: أَبَا هِرٍّ الْحَقْ أَهْلَ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ إِلَيَّ» ، قَالَ : فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ ، فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لَهُمْ فَدَخَلُوا ، اهـ مِنْهُ ، قَالَ : هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أَرْسَلَ أَبَا هِرٍّ لِأَهْلِ الصُّفَّةِ ، وَلَمْ يَكْتَفُوا بِالْإِرْسَالِ عَنِ الِاسْتِئْذَانِ وَلَوْ كَانَ يَكْفِي عَنْهُ لَبَيَّنَهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يُؤَخِّرُ الْبَيَانَ عَنْ وَقْتِ الْحَاجَةِ .
وَمِنْ أَدِلَّةِ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ ظَاهِرُ عُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا الْآيَةَ ; لِأَنَّ ظَاهِرَهَا يَشْمَلُ مَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِ وَغَيْرَهُ ، وَقَدْ جَمَعَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ بَيْنَ أَدِلَّةِ الْقَوْلَيْنِ . قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي «فَتْحِ الْبَارِي» : وَجَمَعَ الْمُهَلَّبُ وَغَيْرُهُ بِتَنْزِيلِ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ حَالَيْنِ إِنْ طَالَ الْعَهْدُ بَيْنَ الطَّلَبِ وَالْمَجِيءِ احْتَاجَ إِلَى اسْتِئْنَافِ الِاسْتِئْذَانِ ، وَكَذَا إِنْ لَمْ يَطُلْ لَكِنْ كَانَ الْمُسْتَدْعِي فِي مَكَانٍ يَحْتَاجُ مَعَهُ إِلَى الْإِذْنِ فِي الْعَادَةِ ، وَإِلَّا لَمْ يَحْتَجْ إِلَى اسْتِئْنَافِ إِذْنٍ ، وَقَالَ ابْنُ التِّينِ : لَعَلَّ الْأَوَّلَ فِيمَنْ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ مَنْ يَسْتَأْذِنُ لِأَجْلِهِ ، وَالثَّانِي بِخِلَافِهِ . قَالَ : وَالِاسْتِئْذَانُ عَلَى كُلِّ حَالٍ أَحْوَطُ . وَقَالَ غَيْرُهُ : إِنْ حَضَرَ صُحْبَةَ الرَّسُولِ أَغْنَاهُ اسْتِئْذَانُ الرَّسُولِ ، وَيَكْفِيهِ سَلَامُ الْمُلَاقَاةِ ، وَإِنْ تَأَخَّرَ عَنِ الرَّسُولِ احْتَاجَ إِلَى الِاسْتِئْذَانِ ، وَبِهَذَا جَمَعَ الطَّحَاوِيُّ ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ «: فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا» فَدَلَّ عَلَى أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ لَمْ يَكُنْ مَعَهُمْ ، وَإِلَّا لَقَالَ : فَأَقْبَلْنَا ، كَذَا قَالَ ، اهـ كَلَامُ ابْنِ حَجَرٍ . وَأَقْرَبُهَا عِنْدِي الْجَمْعُ الْأَخِيرُ ، وَيَدُلُّ لَهُ الْحَدِيثُ الْمَذْكُورُ فِيهِ ، وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثِ أَبِي دَاوُدَ الْمُتَقَدِّمِ : فَجَاءَ مَعَ الرَّسُولِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَهُ إِذْنٌ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
اضواء البيان للشيخ الشنقيطي رحمه الله
لا تنسونا من دعاءكم بظهر الغيب
نقله لكم نورس الهاشمي