تخطى إلى المحتوى

قيم معطّلة في المجتمعات العربية 2024.

إن القيم هي جوهر الثقافة ومركز الهوية، فكيف يمكن لثقافة أن تتشكل أو أن تكتسب خصوصيتها دون أن يكون لها قيم جوهرية؟ إن القيم الجوهرية مؤسسة في الإسلام، لكنّ كثيرًا من هذه القيم عُطِّلت وبقيت إرثًا يفاخر به الكثيرون دون أن يعملوا به في واقعهم.
ومن ثم يرى الكاتب صالح الفهدي في كتابه "قيم معطلة في المجتمعات العربية"، الذي صدر حديثًا عن دار الفكر في دمشق بسورية، أن المعضلة الحقيقية في المجتمعات العربية تكمُن في أزمة القيم، يتبدى ذلك في حيرة الإنسان العربي بين الأخذ بقيمِه الأصيلة وبين اعتماد القيم الوافدة، وكان الباعث على تأليف هذا الكتاب – كما يقول المؤلف- هو: لماذا هذا البون الشاسع بين مشهد الناس داخل الجامع وحياتهم خارجه؟‏ كيف تكون الصفوف متراصة، منتظمة، منصتة، ساكنة، داخل الجامع؟ وكيف تشكل الأحذية المتناثرة خارجه فوضى عارمة لا تفصلهما سوى عتبة، بل كما يقول الكاتب: بينهما في الأصل قيم معطلة، وازدواجية عميقة، ومفارقات شاسعة.
أزمة قيم:
يوضح الكاتب في مقدمة الكتاب أن الثقافة والهوية عنصران مهمان في تشكيل الشخصية الاعتبارية للإنسان، ففي الوقت الذي تكتسب فيه الهوية لون التميز والتخصيص والترميز، تتسيد الثقافة على الهوية، فهي التي تكسبها خصائصها وألوانها، وهي التي تمنحها طابعها الخاص بسمات معينة، يطبعها التاريخ في صحائفه.
وفي هذا العصر المتسم بالسرعة في انتقال المعلومة والثقافات المتداخلة، وتلاشي الحدود والأطر التي تشكل كينونة المجتمعات الإنسانية، تتشكل كيانات فردية تنفصل عن الكيان الجماعي، وهو ما يبدو في العالم الغربي بشكل واضح؛ إذ تتشكل هويات فردية تحلُّ محلَّ الهُوية الجماعية؛ بسبب عولمة الفرد، وشعوره بأنه ليس جزءًا من منظومة مغلقة، بل مفتوحة على أي اتجاه، فحمل وطنه في حقيبته مع الشروط الوظيفية التي ارتضاها، ومضى لا يشعر بالاغتراب وإنما بالاستمتاع، لكونه أصبح فردًا عالميًا أو معولمًا.
ويرى الكاتب أن الأسباب التي أنتجت هذا الشعور عديدة، منها: كثرة الهجرات نحو المجتمعات الغربية، ونشوء كيانات من الأقليات العرقية التي بدت نشاطاتها الثقافية تبرز بشكل واضح في هذه البلدان، كذلك انتشار الشركات عابرة القارات برفقة قوى عمالتها المختلفة الجنسيات إلى أوطان مختلفة بعد تماهي القيود أمام منظمة التجارة العالمية، وبسبب اتفاقيات المناطق الحرة والتكتلات الإقليمية والقارية، وتنامي الاستثمارات العالمية، والانفتاح الثقافي غير المحدود لكل ثقافة أخرى.
ويقول الكاتب: إن وراء كل هذا تملُّك الإنسان الغربي بالأخص شعورًا بالخلل القيمي المسمى اضطراب القيم، يجسد هذه الصورة العالم "ماسلو"، وهو أحد العلماء الأمريكيين المعروفين في وصف العصر بأنه عصر انعدام المعايير، وعصر الفراغ، وعصر بلا جذور، يفتقد الناس فيه الأمل، ويعوزهم وجود ما يعتقدون فيه ويضحون من أجله.
بينما يرى الكاتب أن الحال في المنطقة العربية قد يبدو مختلفًا، لأسباب تعود إلى ترسُّخ هويته الثقافية وانتماءاته، والتي أهمها الانتماء الاجتماعي الثقافي المتمثل في التمسك بالأسرة والجماعة، وما تتميز به الشخصيات العربية من تفادي المغامرات التي تتعلق بالمستقبل الوظيفي، لكن المعضلة الحقيقية في المجتمعات العربية تكمن -كما يرى الكاتب- في أزمة قيم، حيث يتبدَّى ذلك في حيرة الإنسان العربي بين الأخذ بقيمه الأصلية والقيم الوافدة، فهو يعيش موزَّعَ الانتماء بينها، ليس هذا فحسب؛ بل تعاني هذه المجتمعات من الازدواجية أو ما يسمى بالمفارقة القيمية التي تعني ازدواجية القول والفعل.
وثالثة الأزمات تكمن في اضطراب النسق القيمي للإنسان العربي واختلاله وفقدان ترابطه وتماسكه وقدرته على توجيه السلوك، ومن ثم عجزه عن تشكيل منظومة قيمية مستقبلية تجسِّد الهوية العربية.
قيم معطلة في المجتمعات العربية:
جاء الكتاب في ثلاثة فصول. وعمد الكاتب إلى الحديث في الفصل الأول عن قيم هامة معطلة في المجتمعات العربية في الأخلاق والسلوك (الحياة العامة)، مثل قيم اللغة والوقت والعلم والعمل والحوار والإيثار وسلامة الصدور والاعتذار والحلم ومعاملة الرجل للمرأة والحياء والتسامح والثقة والنظرة إلى النفس والآخر والنظام.
ولقد بدا الكاتب منفتحًا على حضارة الآخر رافضًا نظرية المؤامرة, فالآخر ليس مسؤولًا عما وصلنا إليه من تخلف وضعف, مثلما لا نستطيع أن نجعل تراثنا الديني مسؤولًا عن ذلك, لهذا يواجَه العربي بأخطائه في حق نفسه وأمته، فقد قام بتعطيل القيم التي بنت حضارة مازلنا نفتخر بها.
وقد بين الكاتب أن اللغة الفصحى أول القيم المعطلة، فكانت النتيجة أن عطل بذلك العربي روحه وفكره وحسه معًا، وبدأت تضيع منا معاني جسدتها لغتنا وبات الهوس بلغة الآخر يجسد تبعية لغوية، أيْ تبعية روحية وفطرية وشعورية. ولهذا لن نستغرب إهمال قيم مثل: العلم والوقت والعمل والحوار واحترام الآخر المختلف.. فقد عطلنا قيمة التفكير والتسامح والثقة بالذات, مثلما عطلنا النقد والتعلم والاجتهاد! فضيعنا قيمًا تسهم في التطور, وبتنا نريح ضمائرنا بترديد مقولة أننا ضحايا التآمر, لنهرب من مواجهة الذات وإصلاحها, مع أننا ندعي الخوف من سحق العولمة لقيمنا الأصيلة, مع أنها مهدورة أصلًا, فالجميع يخاف على الهوية لكنه يهمش اللغة الفصيحة, أما القيم الإسلامية (التفكر, العمل الصالح المرتبط مع الإيمان بالله, التسامح, العدل, المحبة, الصدق..) فتكاد تكون معطلة لمصلحة تدين شكلي. ويتساءل الكاتب: مَن منا يمارس جهاد النفس من أجل تلك القيم التي تشكِّل هويتنا, وتهبنا تميزًا نستطيع عبره مواجهة العولمة, وضياع أصالتنا؟. ‏
وفي الفصل الثاني، عرَّج -وبنظرة واقعية- على بعض قيم الممارسات العملية الحديثة التي جاءت في إطار العولمة وما جلبته في جانبها الصالح من منافع إيجابية تتلاقى في جوهرها مع ما جاء به الدين الإسلامي، ولعل أهم ما يميز هذا الكتاب أنه قدم نصوصًا دينية وتراثية تحمل قيمًا تنهض بأرواحنا وعقولنا، وترشدنا إلى أن التغيير يبدأ من ذواتنا.. ((إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم)). وهذا التغيير يبدأ بإعلاء شأن العمل الذي حضَّ عليه الدين. يقول صلى الله عليه وسلم: إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها.
مثلما حضَّ على العلم، حتى أن أجدادنا العرب يقولون: لا يزال المرء عالمًا ما طلب العلم, فإن ظن أنه قد علِم فقد جهِل. وهذا ما يحصل لدى كثير من أبناء العربية, ما إن يحصلوا على الشهادة حتى يكون آخر عهدهم بالكتاب والقراءة, أما المصيبة الكبرى فهي في طرائق التعليم التي تنحصر في التلقين, وتحويل الطلاب -سواء في الجامعة أم في الابتدائي- إلى آلات حافظة, بعد أن تم إلغاء الجهد الشخصي في تحصيل المعرفة, فألغينا متعة التعليم الذاتي, لهذا شاع الضجر من العلم, بل كراهيته، لهذا كله أكد مؤلف الكتاب أن علاجنا بيدنا, لهذا لابد من التغيير الذاتي, الذي هو اليوم إحدى القيم المعطلة في مجتمعنا, كي نشارك في الحضارة الحديثة, فلا نكون عالة على الآخرين, نقلدهم فنلغي قيمًا أصيلةً تدفع مسيرتنا للإمام، لأن المشاركة الحضارية لا تكون بالتعلم من الآخر فقط, بل بالابتكار وتجديد الذات والثقة بقدرتها. إننا لن نستطيع تحقيق ذلك كله إلا إذا استعدنا قيمًا أصيلةً ضيعناها, حين ظننا أنفسنا فوق الآخرين وفوق النقد. ‏

أما الفصل الثالث فتعرَّض فيه الكاتب للحلول الممكنة للخروج من هذه المعضلة، مستشهدًا بوقائع في الحياة اليومية للإنسان العربي، حتى أوقات العبادة، ومُوردًا أنماط القيم، فكان طرحًا متميزًا للمعالجة الموضوعية للمثالب التي ألمت بالإنسان العربي والخطوات الضرورية لتجاوز الوضع السلبي الذي آل إليه بناء الهوية العربية، وسبل إصلاح الذات.
ومما يلاحظ أن الهموم التي تحدّث عنها الكاتب يعاني منها المجتمع العربي بأكمله, لهذا كان من الأجدى استخدامُ كلمة "مجتمع عربي" لا "مجتمعات" في العنوان. ‏

وإن ما يدعو للتفاؤل اليوم أننا بدأنا نجد في المكتبة العربية كتبًا إلى جانب هذا الكتاب تمارس النقد الذاتي، سواء على المستوى العربي أو على المستوى الإسلامي، فالنقد الذاتي كان قيمة أساسية من القيم التي غابت عن ممارستنا ردحًا طويلًا من الزمن، وبإعادة النقد الذاتي يمكننا أن نمهِّد الطريق أمامنا لنعرف أخطاءنا, ونتمكن من تجاوزها. لنكون أبناء عصرنا لا عبيده.
ومما يذكر أن صالح الفهدي كاتب وشاعر من سلطنة عمان، صدرت له عدة كتب في الشعر والدراسات الأدبية، وحصل على العديد من الجوائز المحلية والعربية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.