قال الإمام الفقيه محمّد البشير الإبراهيمي، رضي الله عنه وأرضاه: "إن في الفقه فقها لا تصل إليه المدارك القاصرة، وهو لباب الدين وروح القرآن، وعصارة سنة محمد صلى الله عليه وسلم، وهو تفسير أعماله وأقواله وأحواله ومآخذه ومتاركه، وهو الذي ورثه عنه أصحابه وأتباعهم إلى يوم الدين، وهو الذي يسعد المسلمون بفهمه وتطبيقه والعمل به، وهو الذي يجلب لهم عزّ الدنيا والآخرة، وهو الذي نريد أن نحييه في هذه الأمة فتحيا به…
لقد جاء هذا الكلام الذي عليه نور الإسلام وفيه روح خير الأنام عليه الصلاة والسلام في مقال للإمام تحت عنوان "كلمتنا عن الأئمة"، وقد ذكرني به ما كتبه الدكتور محمّد الدراجي في جريدة البصائر تحت عنوان لافت للأنظار هو "يا لضَيعة الفقه"، علّق فيه على بعض "الفقهاء" الذين يحبون أن يكونوا شيئا مذكورا واسما مشهورا بخروجهم عى الناس بفتاوى غريبة، وآراء شاذة نشأت في ظروف خاصة، كإرضاع الكبير، وما أستحي من ذكره.. وكالفتوى التي أشار إليها الدكتور في كلمته وهي "فتوى ملك اليمين".
لقد ذكّرتني كلمة الأخ الدراجي أولئك "الفقهاء" الذين يعرفون الفقه أحكاما لا حكما، فلا يضيفون للفقه الإسلامي مثقال ذرة من اجتهاد، الذي يؤجر عليه ولو كان خطأ.
من هؤلاء "الفقهاء" الذين لم يفقهوا "لباب الدين، وروح القرآن، وعصارة سنّة محمد صلى الله عليه وسلم" أولئك الذين أفتوا في القرن السابع عشر بتحريم إدخال المطبعة إلى العالم الإسلامي، فلما أجبرتهم الحاجة إليها أباحوا إدخالها، مشترطين لذلك شرطا عجيبا هو أن لا يطبع فيها القرآن الكريم، فنزل هذا الشرط بردا وسلاما على صدور أعداء الإسلام وخصومه، وافترصوا فرصة هذا التحريم فأغرقوا المكتبات بالكتب الداعية إلى اللائكية والإلحاد…
إن الباعث على هذا الشرط في رأيهم هو الحفاظ على القرآن الكريم، ولكن الأولى من ذلك هو الإذن بطبع القرآن الكريم مع الحرص الشديد في المراقبة والتصحيح.. ولنتأمل ما قدّمته المطبعة من فوائد عظيمة في نشر القرآن الكريم، وسنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، ورائع قرائح علماء الإسلام في أزهى العصور.
وفي الثلث الأول من القرن التاسع عشر أرادت الدولة العثمانية تحديث نظم الجيش مستفيدة من تنظيمات الجيوش الأوروبية الحديثة فتصدى لها "الفقهاء" الجامدون، واعتبروا ذلك "تقليدا للكفار وتشبّها بهم".. وكان الإمام محمد بن محمود ابن العنّابي ممن فقهوا الإسلام حق الفقه فأجاز ذلك التحديث والتنظيم ضمن مبادىء الإسلام، وبسط القول في ذلك في كتاب قيم سماه "السعي المحمود في نظام الجنود".
ومنذ عدة سنوات أصدر أحد هؤلاء الفقهاء رسالة سماها "الدستور الإسلامي" قال فيه: تدخل الفتاة المدرسة في سن الخامسة وتغادرها في سن العاشرة دون أن تمتحن أو تعطى شهادة.. وقد يكون هذا الفقيه إن استفتي لمن تؤخذ المرأة إن مرضت ممن يفتي بأخذها إلى طبيبة مسلمة، فإن لم تكن فطبيبة غير مسلمة، فإن لم تكن فطبيب مسلم، فإن لم يكن فطبيب غير مسلم، فالضرورة تبيح المحظورة.. والمفارقة هي أنّى تكون طبيبة مسلمة وقد منعت البنت المسلمة من التعلم بعد سن العاشرة؟ بل ومن قبلها حيث كتب "عالم" كتابا سماه "الإصابة في منع النساء من تعلم الكتابة".
ومنذ عدة أشهر رأينا على شاشات الفضائيات بعض الإخوة الموريتانيين من ذوي البشرة السوداء يحرقون مجموعة من كتب الفقه احتجاجا على اعتراض بعض "الفقهاء" على إصدار الحكومة الموريتانية قانون "منع الرّق"…
إن كل من له إلمام ولو بسيط بالإسلام يعلم أنه لم يفرض الرّق، وأنه شرع كلّ ما من شأنه أن يجفف منابع الرّق، وجعل مصرفا من مصارف الزكاة – وهي من أركان الإسلام – لتحرير الرقيق، وقصر الرّق الحقيقي على من يقع من الأعداء في أسر المسلمين. و نهى الرسول – عليه الصلاة والسلام- أن يقول المسلم "عبدي وأمتي" وأمره أن يقول "فتاي وفتاتي".. فكيف يأتي "فقيه" الآن ويمنع تحرير الأرقاء، ويفرض استرقاق الناس الذين كرمهم الله – عز وجل – وجعلهم سواسية، لأنهم جميعا من آدم، وآدم من تراب؟ ولهذا اعتبر الإمام الفقيه محمد الطاهر ابن عاشور "الحرية" أحد مقاصد الإسلام وكلياته..
إن الذي جعل لصوص القلوب من الضالين المضلين ينجحون في تنصير كثير من أبناء جنوب السودان هو تقصير المسلمين في تبليغ دعوة الإسلام إلى أولئك الناس، والاستنكاف عن اعتبارهم بشرا مكرمين وهاهو السودان كله يدفع ثمن ذلك، فقد نجحت قوى الاستكبار العالمي – بسبب سلوكنا غير الإسلامي – في فصل جنوب السودان، وجعل ذلك الجنوب شوكة في جسم الدولة السودانية، التي هي الآن مع مصر مهددتان بقطع الماء عليهما من طرف جنوب السودان بإقامة عدد كبير من السدود على نهر النيل.. وقد يقع انفصال آخر – لا قدر الله – في غرب السودان حيث يدور صراع مهلك للزرع والضرع، ومنشئ للغل والحقد بين "مسلمين عرب" و"مسلمين أفارقة".
إن الشيطان – الإنسي قد يستغل ما وقع في موريتانيا فيفتن هؤلاء المسلمين "الزنوج" عن دينهم ويعدهم ويمنّيهم بأن كرامتهم في المسيحية، فيرتدون – لاقدر الله – عن الإسلام، ويصيرون "علة" في الجسم الموريتاني وفي منطقتنا المغاربية، ويبوء بإثم أولئك – إن ارتدوا – هؤلاء "الفقهاء" الذين لم يفقهوا دين الله، ولم يفقهوا روح العصر، وكانوا حملا ثقيلا على الإسلام، بدلا من أن يكون محمولا في عقولهم وعلى كواهلهم. وصدق الإمام محمد عبده الذي قال: "إن الإسلام محجوب بالمسلمين"، ولو كان بعضهم "فقهاء".
فما احوجنا لمثل الهادي الحسني بارك الله فيك
شكرا على الموضوع
بارك الله فيك
جزاك الله خيرا ……. وأثابك جنات الفردوس