فتنة المسيح الدجال
الحمد لله الذي قضى على كل مخلوق بالفناء؛ وتفرد بالعز والبقاء؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ له الأسماء الحسنى؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وعلى آله وصحبه؛ هداة الأنام ومصابيح الدجى.
أما بعد؛ أيها المسلمون:
فعن حذيفة بن سيد الغفاري قال: اطلع علينا النبي ونحن نتذاكر؛ فقال: ما تذاكرون؟. قالوا: نذكر الساعة. قال: « إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات؛ فذكر الدخان, والدجال, والدابة, وطلوع الشمس من مغربها, ونزول عيسى ابن مريم, ويأجوج ومأجوج, وثلاثة خسوف؛ خسفٌ في المشرق, وخسفٌ في المغرب, وخسفٌ في جزيرة العرب, وآخر ذلك نارٌ تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم » .
ففي هذا الحديث العظيم ذَكَر النبي علاماتِ الساعة الكبرى التي تسبق قيام الساعة؛ والتي إذا ظهرت الأولى منها؛ تتابعت البقيةُ على إثرها سريعاً؛ كتساقط حبات العقد إذا انقطع؛ قال : « الأمارات خرزات منظومات في سلك, فإن يقطع السلكُ يتبع بعضُها بعضاً » .
وقد ذكر النبي في علامات الساعة؛ أعظم فتنة في تاريخ البشرية, وهي فتنة المسيح الدجال؛ التي تقلب الموازين؛ وتطيش أمامها العقول؛ ولا يثبت فيها إلا مَن ثبته الله تعالى رحمة منه وفضلاً؛ ولذلك قال: « ما بين خلقِ آدم إلى قيام الساعة خلقٌ أكبر من الدجال » .
ولعظم فتنته ِفقد حذر جميعُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أقوامَهم منه, وكان نبيُّنا الكريم الناصحُ الأمينُ؛ أكثر تحذيراً لأمتِّه منه؛ لأنه يخرج فيهم, قال: « إني لأنذركموه؛ ما من نبيّ إلا أنذره قومه؛ لقد أنذره نوح قومه؛ ولكني سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبيٌّ لقومه؛ إنه أعور وإن الله ليس بأعور » ؛ وقال : « ما بُعث نبيٌّ إلا أنذر أمته الأعور الكذاب؛ ألا إنه أعور؛ وإن ربكم ليس بأعور؛ وإن بين عينيه مكتوبٌ كافر » .
وسمي المسيح لأن إحدى عينيه ممسوحة؛ والدجّال هو المموه الكذاب؛ سمي بذلك لأنه يغطي الحق بالباطل؛ أو لأنه يغطي على الناس كفره بكذبه وتمويهه وتلبيسهِ عليهم؛ وهو يفتن الناسَ بما يُعطاه من الآيات التي أجراها الله على يديه ابتلاءً للبشر؛ كإنزال المطر؛ وإحياء الأرض بالنبات؛ وغيرها من الخوارق والآيات.
جاء في وصفه: أنه رجلٌ شابٌ أحمرُ قصيرٌ أفحجُ؛ جعدُ الرأس؛ أجلى الجبهة, عريضُ النحر, ممسوحُ العين اليمنى, كأنّ عينَه عنبةٌ طافئة, وعينه اليُسرى عليها ظفرةٌ غليظة؛ مكتوب بين عينيه ( ك ف ر ) بالحروف المقطعة؛ أو كافرٌ بدون تقطيع, يقرؤها كلُّ مسلم، كاتبٌ وغيرُ كاتب؛ ومن صفاته أنه عقيم لا يولد له.
قال في صفته: « فإذا رجلٌ جسيمٌ أحمر؛ جعد الرأس؛ أعور العين كأن عينه عنبةٌ طافئة » ؛ وقال : « إن المسيح الدجال؛ رجل أفحج؛ جعدٌ أعور مطموسُ العين, ليس بناتئةٍ ولا جحراء، فإن أُلبس عليكم فاعلموا أن ربكم ليس بأعور » ؛ وقال: « وإن بين عينيه مكتوبٌ كافر- وفي رواية: ثم تهجاها: ( ك ف ر ) – يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب » .
وهذه الكتابة كتابة حقيقية؛ جعلها الله آية وعلامة من جملة العلامات القاطعة بكفره وكذبه, يظهرها الله تعالى لكل مسلم؛ كاتب وغير كاتب؛ ويخفيها عمن أراد شقوته وفتنته؛ كما أخبر أن الدجال « عقيم لا يولد له » .
وأما مكان خروجه؛ فإنه يخرج من جهة المشرقِ؛ من خُراسان؛ من حارة يقُال لها اليهودية؛ من أصبهان؛ قال : « يخرج الدجال من يهودية أصبهان؛ معه سبعون ألفا من اليهود » .
وأما وقت خروجه؛ فإنه يكون بعد الملحمة التي تكون في آخر الزمان بين المسلمين والروم ( أي: النصارى )؛ وتُفتح على إثرها القسطنطينية؛ قال : «لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق؛ فيخرج لهم جيش من المدينة؛ من خيارِ أهل الأرض يومئذٍ؛ فإذا تصافُّوا؛ قالت الروم: خلوا بيننا وبين الذين سُبُوا منّا نقاتلهم؛ ( أي: الذين كانوا من النصارى فأسلموا ). فيقول المسلمون: واللهِ لا نخلي بينكم وبين إخواننا؛ فيقاتلونهم؛ فيُهزم ثلثٌ لا يتوب الله عليهم أبداً؛ ويُقتَل ثلثٌ أفضل الشهداء عند الله؛ ويفتتح ثلثٌ لا يُفتنون أبداً؛ فيفتتحون قسطنطينية؛ فبينما هم يقتسمون الغنائم؛ قد علّقوا سيوفهم بالزيتون، إذ صاح فيهم الشيطان: إن المسيح قد خلفكم في أهليكم؛ فيخرجون؛ وذلك باطل؛ ( أي: كذب )؛ فإذا جاءوا الشام خرج » .
فإذا خرج الدجال؛ فيكون أكثر أتباعه من اليهود والترك والأعراب والنساء, قال :« يتبع الدجال من يهود أصبهان سبعون ألفاً عليهم الطيالسة » ؛ وقال : « يتبعه أقوامٌ كأنَّ وجوههم المجانُ المُطرقة »؛ قال أهل العلم: هم الترك .
وقال :« وإن من فتنته؛ أن يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أمك وأباك؛ أتشهد أني ربك؟. فيقول نعم؛ فيتمثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه؛ فيقولان: يا بني اتبعه فإنه ربك ».
وأما النساء؛ فإن الدجال ينزل في وادٍ خارج المدينة؛ فيكون أكثر من يخرج إليه النساءُ؛ حتى إن الرجل ليرجع إلى أمه وابنته وأخته وعمته؛ فيوثقهن رباطاً؛ مخافة أن يخرجن إليه؛ وبذلك جاءت الأحاديث الصحيحة عن النبي .
وأما مكثه في الأرض؛ فإنه يمكث أربعين يوماً؛ يومٌ كسنة؛ ويوم كشهر؛ ويوم كجمعة؛ وسائر أيامه كسائر أيام الدنيا.
فقد سأل الصحابةُ رسولَ الله عن المدة التي يمكثها الدجال في الأرض؛ فقالوا: مالبثه في الأرض؟. فقال: « أربعون يوماً؛ يومٌ كسَنَة؛ ويومٌ كشَهْر؛ ويومٌ كجُمُعة؛ وسائر أيامه كأيامكم؛ قلنا يارسول الله: فذلك اليوم الذي كسنة؛ أتكفينا فيه صلاةُ يوم؟. قال: لا, أقدروا له قدره » ؛ وهذا دليل على أن اليوم يطول حقيقة؛ حتى يكون كسنة؛ أو كشهر؛ أو كأسبوع.
ثم يسير في الأرض فلا يترك بلداً ولا قريةً إلا دخلها؛ إلا مكة والمدينة؛ فلا يستطيع دخولهما لأن الملائكة تحرُسُهما؛ قال : « إنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا مكة والمدينة؛ لا يأتيهما من نقب من أنقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلته، حتى ينزل عند الضريب الأحمر عند منقطع السْبخَة، فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات؛ فلا يبقى فيها منافق ولا منافقة إلا خرج إليه، فتنفي الخبيث منها؛ كما ينفي الكير خبث الحديد » , وقال :« لا يدخل المدينةَ رعبُ المسيح؛ لها يومئذ سبعة أبواب؛ على كل بابٍ ملكان » .
وقال: « يأتي المسيح من قبل المشرق وهمّته المدينة, حتى إذا جاء دُبُر أحد؛ تلقته الملائكة فضربت وجهه قبل الشام؛ هنالك يهلك؛ هنالك يهلك» .
وإن فتنة الدجال أعظم فتنة؛ لما يُجري الله على يديه من الخوارق العظيمة؛ التي تبهر العقول وتحير الألباب؛ وقد جاءت كثيرٌ من الأحاديث تبين بعض ما أُعطيه من الخوارق؛ فإنه سريع الانتقال في الأرض؛ كالغيث استدبرته الريحُ, وأنه يجول في أقطار الأرض لا يترك بلداً إلا دخله؛ إلا مكة والمدينة؛ وأن معه جنةً وناراً, وواقع الأمر ليس كما يبدو للناس؛ فجنته نارٌ, ونارُه جنة؛ قال : « معه جنة ونار؛ فناره جنة؛ وجنته نار » ؛ وقال :« فمن أدرك ذلك منكم فليقع في الذي يراه ناراً؛ فإنه ماء عذب طيب » .
ومن فتنته استجابةُ الحيوانِ والجماد لأمره؛ وأنه يأمر السماء فتمطر؛ ويأمر الأرض فتنبت, ويدعو البهائم فتتبعه, ويأمر الخرائب أن تخرج كنوزها المدفونة فتستجيب. قال : « فيأتي على القوم فيدعوهم فيؤمنون به, ويستجيبون له, فيأمر السماء فتمطر؛ والأرض فتنبت؛ فتروح عليهم سارحتهم ( أي: ماشيتهم ), أطولَ ما كانت ذرا؛ وأسبغَه ضروعاً؛ وأمدّه خواصر؛ ثم يأتي القوم فيردّون عليه قوله؛ فينصرف عنهم؛ فيصبحون ممحلين ليس بأمرهم شيء من أموالهم؛ ويمر بالخربة ( أي: القمامة )؛ فيقول لها: أخرجي كنوزك؛ فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل » .
ومن فتنته أنه يقول للأعرابي: أرأيت إن بعثت لك أباك وأمك أتشهد أني ربك؟ فيقول: نعم. فيمتثل له شيطانان في صورة أبيه وأمه؛ فيقولان: يا بنيّ اتبعه فإنه ربك.
ومن فتنته أنه يقتل الرجلَ ثم يحييه, قال : « يأتي الدجال فينزل بعض السباخ التي تلي المدينة؛ فيخرج إليه يومئذ رجلٌ هو خير الناس؛ أو من خيار الناس, فيقول: أشهد أنك الدجال الذي حدثنا رسول الله حديثه, فيقول الدجال: أرأيتم إن قتلت هذا ثم أحييته؛ هل تشكون في الأمر؟. فيقولون: لا. فيقتله؛ ثم يحييه؛ فيقول- ذلك الشاب المؤمن-: والله ما كنت فيك أشد بصيرة مني اليوم؛ فيريد الدجال أن يقتله فلا يُسلّط عليه » .
ويكون هلاك الدجال على يدي المسيح عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام- المرفوعُ إلى السماء والذي ينزل من السماء آخر الزمان- وذلك أن الدجال يظهر على الأرض كلها إلا مكة والمدينة, فيكثُر أتباعُه, وتعم فتنتُه, ولا ينجو إلا قلة من المؤمنين الذين ثبتهم الله تعالى, وعند ذلك ينزلُ عيسى عليه الصلاة السلام عند المنارة الشرقية بدمشق؛ ويلتفُ حوله المؤمنين, فيسير قاصداً الدجال, فليحقه عند باب لُدٍّ في فلسطين؛ قرب بيت المقدس, فإذا رآه الدجالُ ذاب كما يذوب الملح؛ فيقول له عيسى عليه السلام:إنّ لي فيك ضربة لن تفوتني؛ فيتداركه عيسى فيقتله بحربته؛ وينهزم أتباعه؛ فيتبعهم المؤمنون فيقتلونهم؛ قال نبيّنا في قصة نزول عيسى÷ وقتلهِ الدجال:« فلا يحل لكافر يجد ريح نَفَسه إلا مات؛ ونفسُه ينتهي حيث ينتهي طرفه؛ فيطلبه حتى يدركه بباب لد فيقتله » .
وقال: « فيدركه عند باب لدٍّ الشرقي فيقتله؛ فيهزم الله اليهود؛ فلا يبقى شيءٌ مما خلق الله يتواقى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء؛ لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة – إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق- إلا قال: يا عبد الله المسلم هذا يهودي فتعال فاقتله » .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين؛ والعاقبة للمتقين؛ ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد؛ وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد؛ عباد الله:
فلعظيم رحمة النبي بهذه الأمة؛ فقد دلها على سبل الوقاية من كيد المسيح الدجال وفتنته.
فأول ما يقي من فتنة الدجال؛ التسلح بسلاح الإيمان بالله تعالى؛ ومعرفته بأسمائه الحسنى وصفاته العلى؛ وأنه سبحانه؛ منزه عن كل نقص وعيب.
فقد ترك لنا النبي من العلم بالدجال؛ ما يكشف البصيرة ويُزيل الغمة, فالدجال جسم مرئي يأكل ويشرب, واللهُ ﻷ لا يرى في الدنيا, وإنما يراه المؤمنون يوم القيامة بأبصارهم منةً منه وفضلاً ـ؛ والدجال أعور كما جاء في أحاديث النبي حيث قال: « إنه شاب قطط عينه طافئة »؛ ومن كان كذلك فإن دعواه الربوبية والألوهية كذب وافتراء بلا شك؛ وهذا مما يزيد المؤمن تعلماً لصفات الله ﻷ وأسمائه الحسنى؛ وأن يثبت لله تعالى الصفات التي أثبتها لنفسه؛ وأثبتها له نبيه؛ على الوجه الذي يكون لائقاً بربناـ دون مشابهة المخلوقين.
وما يقي من فتنته أيضاً أن يُقرأ عليه فواتحُ سورة الكهف؛ قال : « من حفظ عشر آيات من أول سورة الكهف عصم من الدجال » .
ومما ينجي العبد من الدجال؛ صدْقُ الالتجاء إلى الله؛ والاستعاذة به من فتنته؛ ولذلك أُمرنا بالاستعاذة منه آخر كل صلاة؛ قال :« إذا تشهد أحدكم فليستعذ بالله من أربع, يقول: اللهم إني أعوذ بك عذاب جهنم, ومن عذاب القبر, ومن فتنة المحيا والممات, ومن شر فتنة المسيح الدجال » .
ومما يعصم منه أيضاً؛ الفرار منه والابتعاد عنه- وهذا شأن كل فتنة لا بدّ أن يُهرب منها- قال : « من سمع بالدجال فلينْأَ عنه, فوالله إن الرجل ليأتيه وهو يحسب أنه مؤمن, فيتبعه لما يبعث به من الشبهات » .
كما يعصم منه أيضاً سكنى مكة والمدينة؛ فإن الدجال لا يدخلها.
نعوذ بالله من فتنة المسيح الدجال.
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
من خطب الشيخ سالم العجمي
اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن
شكرا لك اخي على الموضوع
شكرا لمروركما الطيب