الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، محمد على آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإن لمحاسبة الإنسان نفسه أهمية عظمية، وعليها تدور السعادة، ولا صلاح للقلب إلا بها، وبها يعرف الإنسان عيوب نفسه، ويفوز في الأولى والأخرى، ولذلك فقد أمر الله سبحانه بمحاسبة النفس، فقال سبحانه وتعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}[الحشر: 18-19]. قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه في بعض خطبه: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أعمالكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً: أن تحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزينوا للعرض الأكبر يومئذ تعرضون لا تخفى منكم خافية1. وقال العلامة عبد الرحمن بن سعدي رحمه الله: وهذه الآية الكريمة أصل في محاسبة العبد نفسه، وأنه ينبغي له أن يتفقدها، فإن رأى زللاً تداركه بالإقلاع عنه، والتوبة النصوح، والإعراض عن الأسباب الموصلة إليه، وإن رأى نفسه مقصراً في أمر من أوامر الله بذل جهده، واستعان بربه في تتميمه، وتكميله، وإتقانه، ويقايس بين منن الله عليه، وبين تقصيره هو في حق الله، فإن ذلك يوجب الحياء لا محالة.. والحرمان كل الحرمان أن يغفل العبد عن هذا الأمر!! ويشابه قوماً نسوا الله، وغفلوا عن ذكره، والقيام بحقه، وأقبلوا على حظوظ أنفسهم، وشهواتها، فلم ينجحوا، ولم يحصلوا على طائل بل أنساهم الله مصالح أنفسهم، وأغفلهم عن منافعها وفوائدها، فصار أمرهم فرطاً، فرجعوا بخسارة الدارين، وغبنوا غبناً لا يمكن تداركه، ولا يجبر كسره؛ لأنهم: هم الفاسقون، الذين خرجوا عن طاعة ربهم، وأوضعوا في معاصيه
بارك الله فيك
فكثيرًا ما ذَكَرَ اللهُ الحسابَ مرتبطًا بيوم القيامة، فأبرز سمات هذا اليوم أن الله يحاسب الناس فيه، فقد قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} [ص: 26]، وقال: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [إبراهيم: 51]،
والحساب يعني حصر الحسنات والسيئات، فإذا زادت السيئات كانت المناقشة من الله حول كل صغيرة وكبيرة، فقد روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ أَحَدٌ يُحَاسَبُ إِلَّا هَلَكَ» قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاءَكَ، أَلَيْسَ يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} [الانشقاق: 8] قَالَ: «ذَاكَ العَرْضُ يُعْرَضُونَ وَمَنْ نُوقِشَ الحِسَابَ هَلَكَ»، وأسوأ شيءٍ أن يظنَّ العبدُ نفسه ناجيًا ثم يكتشف يوم القيامة أنه من الهالكين! وقد قال تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47]،
ولذا كان من السُّنَّة النبوية أن يراجع المرء حساباته في الدنيا، فيجتهد في إحصاء حسناته وسيئاته، فإن وجد خيرًا فليحمد الله، ولْيفرح بتوفيق الله له، ومن وجد غير ذلك فليندم ولْيَتُبْ، وقد روى الحاكم -وقال الذهبي: صحيح- عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ، رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «الْكَيِّسُ مَنْ دَانَ نَفْسَهُ وَعَمِلَ لِمَا بَعْدَ الْمَوْتِ، وَالْعَاجِزُ مَنْ أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا وَتَمَنَّى عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، ودان نفسه أي حاسبها، وفَهِمَ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال قولًا بليغًا!
فقد روى الترمذي عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه، قَالَ: "حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُحَاسَبُوا، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الأَكْبَرِ، وَإِنَّمَا يَخِفُّ الحِسَابُ يَوْمَ القِيَامَةِ عَلَى مَنْ حَاسَبَ نَفْسَهُ فِي الدُّنْيَا"، فلتكن هذه هي عادتنا اليومية، فلا ننام قبل أن نراجع أحداث اليوم، فنفرح بالحسنات، ونتوب من السيئات، ونختم يومنا بالذكر والدعاء، ولْنضع دومًا نُصْب أعيننا قول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [الحشر: 18
" فضل المحاسبة "
* قال ربنا عز وجل واصفاً المؤمنين الذين يحاسبون أنفسهم عن الزلات والتقصير في حق الله تعالى راجعين عما كانوا عليه : " إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ " [الأعراف:201] .
* وقال الحسن البصري رحمه الله واصفاً المؤمن بقوله : (المؤمن قوام على نفسه يحاسبها لله ، وإنما خف الحساب على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة) [حلية الأولياء لأبي نعيم، ج2، ص157] .
* وقد أحسن ميمون بن مهران حينما قال (لا يكون العبد تقيا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه) [مدارج السالكين، ج1، ص79] .
* يقول الفراء في تفسير قوله تعالى : "وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ " [القيامة:2] : (أنه ليس من نفس برة ولا فاجرة إلا وهي تلوم نفسها إن كانت عملت خيراً ، قالت : هلا ازددت ، وإن عملت شراً ، قالت : ليتني لم أفعل) [تفسير البغوي ، 4/421] .
* وها هو الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه يلقي كلماته المشهورة في المحاسبة قائلاً : (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوها قبل أن توزنوا ، وتزينوا للعرض الأكبر) " يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ " [الزهد للإمام أحمد ، ص 177، ومدارج السالكين، ج1، ص170] .
* وإليك أخي الحبيـب هذه الكلمات الجميلة التي تصف أرباب العقول المنيبة ذوي البصائر الحية : (حيث عرف أرباب البصائر من جملة العباد أن الله سبحانه وتعالى لهم بالمرصاد ، وأنهم سيناقشون في الحساب ، ويطالبون بمثاقيل الذر من الخطرات واللحظات ، وتحققوا أنهم لا ينجيهم من هذه الأخطار إلا لزوم المحاسبة وصدق المراقبة ومطالبة النفس في الأنفاس والحركات ، ومحاسبتها في اللحظات والخطرات ، فمن حاسب نفسه قبل أن يحاسب خف في القيامة حسابه ، وحضر عند السؤال جوابه ، وحسن منقلبه ومآبه ، ومن لم يحاسب نفسه دامت حسراته وطالت في عرصات القيامة وقفاته ، وقادته إلى الخزي والمقت سيئاته) [الإحياء الغزالي، 4/394] .
* وكان الحسن البصري رحمه الله يقول : (اقرعوا هذه الأنفس فإنها طلعة( تكثر التطلع إلى الشيء ) ، وإنها تنازع إلى شر غاية ، وإنكم إن تقاربوها لم تبق لكم من أعمالكم شيئاً ، فتبصروا وتشددوا ، فإنما هي أيام تعد ، وإنما أنتم ركب وقوف يوشك أن يدعي أحدكم فلا يجيب ولا يلتفت ، فانقلبوا بصالح ما بحضرتكم) [ذم الهوى لابن الجوزي : 41] .
" فوائد محاسبة النفس "
إن لمحاسبتك النفس فوائد عظيمة منها :
1-الاطلاع على عيوب النفس ، ونقائصها ومثالبها ، ومن ثم إعطاؤها مكانتها الحقيقية إن هي جنحت إلى الكبر والغطرسة .
2-أن تتعرف على حق الله تعالى وعظيم فضله ومنه عليك .
3-التوبة والندم وتدارك ما فات من الأعمال الصالحة في زمن الإمكان .
4-مقت النفس والإزراء عليها ، والتخلص من العجب ، ورؤية العلم ، قال أبو الدرداء : (لا يفقه الرجل كل الفقه يمقت الناس في جنب الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون أشد لها مقتا) [الزهد للإمام أحمد، ص196] .
5-الاجتهاد في الطاعة وترك المعاصي حتى تسهل عليك المحاسبة في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون .
6-تزكية النفس وتطهيرها وإصلاحها وإلزامها أمر الله تعالى قال سبحانه وتعالى : " قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا " [الشمس:9-10] .
وقال مالك بن دينار : (رحم الله عبداً قال لنفسه : ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم ذمها ثم خطمها ثم ألزمها كتاب الله عز وجل فكان لها قائداً) [إغاثة اللهفان لابن القيم، ج1، ص79] .
7-ومن فوائد المحاسبة تربية النفس وتنمية الشعور بالمسؤولية ووزن الأعمال والتصرفات بميزان الشرع .
8-معرفة كرم الله سبحانه وتعالى وعفوه ورحمته بعباده إذ إنه لم يعجل العقوبة على أهل المعاصي والذنوب ، وأنه أرحم بالعبد من الأم بولدها .
أقسام محاسبة النفس "
القسم الأول : محاسبة النفس قبل العمل وهي :
أن يقف عند أول همه وإرادته ولا يبادر بالعمل حتى يتبين له رجحانه على تركه فينظر في همه وقصده ، فالمرء إذا نفى الخطرات قبل أن تتمكن من القلب سهل عليه دفعها ، فالخطرة النفسية والهم القلبي قد يقويان حتى يصبحا وساوس ، والوسوسة تصبح إرادة والإرادة الجازمة لابد أن تكون فعلاً , قال الحسن البصري : (كان أحدهم إذا أراد أن يتصدق بصدقة نظر وتثبت فإن كانت لله أمضاها) [إحياء علوم الدين للغزالي ج4 ص400] .
والقسم الثاني : محاسبة النفس بعد العمل وهي على ثلاثة أنواع :
1-النوع الأول : محاسبة النفس على التقصير في الطاعات في حق الله تعالى التي لم تؤد على الوجه الذي ينبغي ، وحق الله تعالى في الطاعة ستة أمور :
أ) الإخلاص في العمل .
ب) النصيحة لله تعالى .
ج) متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيه.
د) شهود مشهد الإحسان فيه .
هـ) شهود منة الله عليه فيه .
و) شهود تقصيره فيه . [إغاثة اللهفان لابن القيم، ج1، ص83] .
2-النوع الثاني : محاسبة النفس على معصية الله تعالى ، يقول الإمام ابن القيم رحمه الله : (وبداية المحاسبة أن تقايس نعمته سبحانه وتعالى وجنايتك ، فحينئذ يظهر لك التفاوت ، وتعلم أنه ليس إلا عفوه ورحمته ، أو الهلال والعطب ، وبهذه المقايسة تعلم أن الرب رب وأن العبد عبد ، ومن ثم يتبين لك حقيقة النفس وصفاتها وعظمة جلال الربوبية وتفرد الرب بالكمال والإفضال ، وأن كل نعمة منه فضل وكل نقمة منه عدل) [مدارج السالكين، 1/170] .
3-النوع الثالث : محاسبة النفس على أمر كان تركه خيراً من فعله ، أو على أمر مباح ، ما سبب فعله ؟ وهل أراد به الله والدار الآخرة ؟ أم أنه أراد به التقليد والدنيا العاجلة ؟ قال الحسن البصري : (إن المؤمن يفجؤه الشيء ويعجبه فيقول : والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء ، فيرجع إلى نفسه فيقول : ما أردت إلا هذا ، ومالي ولهذا ، ما أردت إلا هذا ومالي ولهذا ؟ والله مالي عذر بها ، والله لا أعود لهذا أبداً إن شاء الله تعالى) [ذم الهوى لابن الجوزي ، 40] .
" كيفية المحاسبة "
أخي علي طريق الحق. . إنما أنت أيام ، كلما مضى منك يوم ذهب بعضك ، واعلم أن من حاسب نفسه في أيامه ربح ، ومن غفل فيها خسر ، ومن نظر إلى العواقب نجا ، ومن أطاع هواه ضل .
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً فإنما الربح والخسران في العمل
وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم حين قال : «خيركم من طال عمره وحسن عمله» [رواه الترمذي : ح 2329] .
أخي الحبيب : أعينك بعد الله على كيفية محاسبتك نفسك فأقول مستعينا بالله : قد ذكر الإمام ابن القيم رحمه الله أن محاسبة النفس تكون كالتالي [إغاثة اللهفان، ج1، ص83] :
1-أولا : البدء بالفرائض : فإذا رأيت فيها نقصاً فتداركه إما بقضاء أو إصلاح .
2-ثانيا : المناهي : فإن غرتك نفسك والهوى والشيطان بفعل شيء مما نهاك الله عنه فتداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحيات .
3-محاسبة النفس على الغفلة , فالذكر والإقبال على الله تعالى مما يتدارك به المسلم غفلته .
4-محاسبة النفس على الجوارح ، إلى أين خطت رجلاك..؟ وماذا بطشت يداك…؟! أو سمعت أذناك..؟ أو…أو…
" الأسباب المعينة لمحاسبة النفس "
من الأسباب المعينة على محاسبة النفس ما يلي :
1. محاسبة النفس على الفرائض؛ فإن المحافظة على الفرائض من أفضل القربات التي يتقرب بها إلى الله سبحانه وتعالى، لحديث الولي والذي فيه قوله صلى الله عليه وسلم: "وما تقرب إلي عبدي بشيءٍ أحب إلي مما افترضته عليه"10. والمحافظ على الفرائض يستحيل في الغالب أن يقترف فعل الحرام، فمن حافظ على فريضة الصلاة، وأداها على الوجه المطلوب شرعاً، كفَّتْه عن ارتكاب المحرمات؛ قال الله تعالى:{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ}[العنكبوت: 45].
2. محاسبة النفس على المحرمات؛ فإن من حاسب نفسه على ذلك فإنه سيتدارك ذلك بالتوبة والإقلاع عنها، والعزم على عدم العودة إلى فعلها، ولذلك فإنه يجب فعل الطاعات بقد المستطاع، ولكنه يجب ترك المناهي جملة وتفصيلاً؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم
3-تذكر أنك كلما اجتهدت في محاسبة نفسك اليوم استرحت من ذلك غداً ، وكلما أهملت المحاسبة أشتد عليك حسابها يوم القيامة .
4-محبتك للأخيار الذين يحاسبون أنفسهم ويطلعونك على عيوب نفسك .
5-النظر والتأمل في الصور المشرقة لمحاسبة الرعيل الأول أنفسهم : الذين ارتبطت قلوبهم بالله عز وجل ، فكانوا أجسادا في الأرض قلوباً في السماء .
6-زيارة القبور والتأمل في أحوال الموتى الذين لا يستطيعون محاسبة أنفسهم أو تدارك ما فاتهم في زمن الإمهال من الأعمال الصالحة التي تقربهم إلى ربهم عز وجل .
7-حضور مجالس العلماء والزيادة في طلب العلم الشرعي فإنه يدعو إلى محاسبة النفس والكشف عن حقائقها .
8-كثرة قراءة القرآن والاستمرار على قيام الليل والتقرب إلى الله بأنواع القربات .
9-البعد عن أماكن اللهو والغفلة فإنها تُنسي الإنسان محاسبة نفسه .
10-تذكر العقبى الحميدة لمحاسبة أنفسهم في الآخرة من سُكنى الفردوس والنظر إلى وجه الرحمن جل جلاله ، ومجاورة الأنبياء وأهل الفضل والصالحين بإذن الله تعالى .
11-أن يكون المرء صادقا في محاسبته لنفسه ، وهذه المحاسبة الصادقة تعتمد أسساً ثلاثة هي :
أ)الاستنارة بنور الحكمة ، وهو العلم الذي يميز به العبد بين الحق والباطل ، وكلما كان هذا العلم أقوى كلما كانت المحاسبة أتم وأكمل .
ب)سوء الظن بالنفس ، حتى لا تمنع من البحث والتنقيب عن المساوئ والعيوب .
ج)تمييز النعمة من الفتنة ، فكم من مستدرج بالنعم وهو لا يشعر ، مفتون بثناء الجهال عليه ، مغرور بقضاء الله حوائجه وستره عليه .
" أقوال ونماذج من السلف لمحاسبتهم أنفسهم "
وعَنْ أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى عَلَى اللَّه!)).
قال النووي رحمه الله: قال الترمذي وغيره مِنْ العلماء: معنى: "دان نفسه" حاسبها.
ولذلك فإنه لابد من محاسبة النفس، وذمها على التقصير في حق الله تعالى، وذلك أن النفس خطرها عظيم، وشرها مستطير، وهي داعية إلى الجهل، قائدة إلى الهلاك، توّاقة إلى اللهو والهوى – إلا من رحم الله-، قال الله تعالى: {فَأَمَّا مَن طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى}[النازعات: 37-41].
ولقد كان السلف يحاسبون أنفسهم محاسبة مستمرة، فهذا أبو بكر الصديق يحاسب نفسه، فيأخذ بلسان نفسه ويقول: "هذا أوردني الموارد".
وهذا عمر الفاروق يحاسب نفسه كذلك؛ فعن أنس قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنهما يوماً وقد خرج، وخرجت معه حتى دخل حائطاً، فسمعته يقول: أمير المؤمنين!! بخٍ! بخٍ!والله لتتقينَّ الله أو ليعذبنَّك!.
وقال الحسن البصري رحمه الله في قوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ}[القيامة: 2]. "لا تلقى المؤمن إلا وهو يعاتب نفسه، ماذا أردتُ بكلمتي؟ ماذا أردتُ بأكلتي؟ ماذا أردتُ بشربتي؟ والفاجر يمضي قدماً لا يعاتب نفسه!".
وقال مالك بن دينار رحمه الله: "رحم الله عبداً قال لنفسه: ألستِ صاحبةَ كذا ؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟ ألستِ صاحبةَ كذا؟ ثم ذمّها، ثم خَطمها، ثم ألزمها كتاب الله، فكان لها قائداً".
وقال مسروق: غدوتُ يوماً، وكنت إذا غدوتُ بدأتُ بعائشة رضي الله عنها أُسلَّم عليها، فغدوتُ يوماً إليها، فإذا هي تصلّي الضُّحى، وهي تقرأ: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ}[الطور: 27]. وتبكي وتدعو، وتردد الآية، وقمتُ حتى مللتُ! وهي كما هي، فلما رأيت ذلك ذهبتُ إلى السوق، فلما فرغتُ من حاجتي، رجعتُ إليها فوجدتُها كما هي! ففرغتُ ورجعتُ وهي تردد الآية وتبكي وتدعو!.
* قال أبو سعيد الحسن البصري رحمه الله تعالى : (إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه وكانت المحاسبة همه) [الحلية، 2/146] .
* وقال إبراهيم التيمي : (مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمارها وأشرب من أنهارها وأعانق أبكارها ، ثم مثلت نفسي في النار آكل من زقومها وأشرب من صديدها وأعاني من سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي : أي شيء تريدين ؟ فقالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً ، قلت : فأنت في الأمنية فاعملي) [الزهد للإمام أحمد ،ص : 501] .
* وجاء رجل يشكو إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو مشغول فقال له : أتتركون الخليفة حين يكون فارغاً حتى إذا اشتغل بأمر المسلمين أتيتموه ؟ فضربه بالدرة وانصرف الرجل حزينا ، فتذكر عمر أنه ظلمه ، فدعاه وأعطاه الدرة ، وقال له : اضربني كما ضربتك ، فقال الرجل : تركت حقي لله، فقال عمر إما أن تتركه لله فقط وإما أن تأخذ حقك ، فقال الرجل : تركته لله فانصرف عمر إلى منزله فصلى ركعتين ثم جلس يقول لنفسه : يا ابن الخطاب كنت وضيعا فرفعك الله وضالاً فهداك الله وضعيفا فأعزك الله ، وجعلك خليفة فأتى رجل يستعين بك على دفع الظلم فظلمته ؟ !! ما تقول لربك غداً إذا أتيته ، وظل يحاسب نفسه حتى أشفق الناس عليه) [مناقب أمير المؤمنين عمر، لابن الجوزي، ص171] .
اللَّهُمَّ آتِ نُفُوسَنَا تَقْوَاهَا، وَزَكِّهَا أَنْتَ خَيْرُ مَنْ زَكَّاهَا، أَنْتَ وَلِيُّهَا وَمَوْلاَهَا. اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ أَعْمَالِنَا خَوَاتِمَهَا، وَخَيْرَ أَعْمَارِنَا آخِرَهَا، وَخَيْرَ أَيَّامِنَا يَوْمَ أَنْ نَلْقَاكَ، وَاجْعَلْ آخِرَ كَلاَمِنَا مِنَ الدُّنْيَا لاَ إِلَهَ إِلاَّ الله مُحَمَّدٌ رَسُولُ الله. اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عِيِشَةً هَنِيَّةً، وَحَيَاةً رَضِيَّةً، وَمِيِتَةً سَوِيَّةً. اللَّهُمَّ ارْحَمْ فِي الدُّنْيَا غُرْبَتَنَا، وَفِي القُبُورِ وَحْشَتَنَا، وَيَوْمَ العَرْضِ عَلَيْكَ ذُلَّ وُقُوفِنَا.