ننبهر كثيراً بالمصنوع ولا نلتفت على الإطلاق إلى الصانع. نفتخر باللوحة الفنية الخلابة، ونطرب ونستمتع بسماع القطعة الموسيقية السجية الرائعة، ونعانق التمثال المنحوت.. ولا نتطلع إلى اليد التي تحمل الريشة والأصابع التي تعزف المقطوعة الموسيقية، فنمجد المخلوق وننسى أو نتناسى الخالق.
ليس المقصود هنا في هذا البحث القصير شخص أغسطينوس بالذات, بل اليد الخفية المتحركة التي كانت تعمل وتبدع. كما يصنع الفخاري من الطين آنية جميلة رائعة تخلب الألباب، إلى الصانع الحي الذي دعا أغسطينوس ليرفع مشعل النور وسط ظلمة الليل الحالك، الذي يغطي عالمنا. ليحمل رسالة المسيح في حياته وعلى شفتيه وبفكره ومداده.
هو القديس أغسطينوس الذي تفتخر به الكنيسة في الغرب كما في الشرق، وهو اللاهوتي الشهير الذي تستشهد بآرائه الحصيفة الكنيسة الجامعة, وهو الصوفي المسيحي الحق، والأسقف المتواضع، والخادم الأمين. وهو الرجل الذي كان باستمرار في بوتقة الصلاة ينصهر كل يوم في الله، فكان الناس يرون فيه بريق ولمعان سيده وفاديه. فكان أغسطينوس أعجوبة أو معجزة صنعها الله في حياته؟ فعلينا نحن أيضاً أن نقدم شكرنا وحمد قلوبنا لله جلّ جلاله.
نشأته :
أبصر أغسطينوس النور بتاريخ 13 نوفمبر (تشرين الثاني) سنة 354 بعد الميلاد في مدينة تغاسطا Thagaste المعروفة حالياً بسوق أهراس التابعة لولاية عنابة بالجزائر القريبة من تونس والتي كانت تسمى آنذاك «نوميديا».
كانت هذه المنطقة خاضعة للأمبراطوبية الروماينة التي حكمت بلاد شمال أفريقيا منذ سنة 164 قبل الميلاد حتى سنة 430 بعد الميلاد. نشروا في المغرب الكبير (تونس والجزائر والمغرب) لغتهم وحضارتهم وآدابهم وعلومهم. فظهر بين المغاربة مؤرخون وكتّاب وشعراء استطاعوا أن يقدموا لنا وصفاً دقيقاً عن الثقافة والحضارة المغربية في تلك الحقبة من الزمن باللغة اللاتينية. ورغم هذا التأثير الروماني ومحاولة طبع هذه الرقعة من العالم بطابع روماني محض، فإنّ الشعب المغربي ظل محافظاً على هويته المغربية في التحدث بالفينيقية، اللغة التي كانت منتشرة انتشاراً واسعاً آنذاك.
في زمن أغسطينوس كانت الديانة الوثنية والمسيحية منتشرتين على نطاق واسع, والبيت الذي نشأ وترعرع فيه كان يجمع الديانتين، حيث كان الوالد «باتركس» وثنياً والأم «مونيكا» مسيحية، تقية وغيورة لإيمانها متحمسة لدينها، مثلاً في سلوكها المسيحي وسط مجتمعها وأمام أفراد أسرتها. كان اهتمامها ومطمعها الوحيد أن ترى جميع أهل بيتها يدينون بدينها ويعيشون تحت ظل الإيمان بالمسيح، والسير في طريق الصلاح والتقوى. كان لمونيكا والدة أغسطينوس طفل أنجبته بعد أغسطينونس أسمته «نافيكس» وطفلة لم يُعرف اسمها.
عاشت «مونيكا» حياة التقوى والطهارة والعفة حتى أنّ حياتها كانت تشهد لعمل النعمة فيها مطيعة لزوجها خاضعة له رغم الحزن والمرارة التي كان يسببهما لها من وقت لآخر. مثالية في جميع تصرفاتها وتعاملها مع زوجها الشرير، حيث كانت تقابل شدته بالليونة والهدوء التام، وشره وبطشه بالصبر ورباطة الجأش، حتى أنّ الجيران والأقارب كانوا يتعجبون من سلوكها الحكيم هذا.
أما باتركس والد أغسطينوس فكان وثيناً شريراً كما ذكرنا. حاد البطع، خشن المعاملة، همه الوحيد هو تعليم ابنه مضحياً في سبيل ذلك بكل ما يملكه لتحقيق أمنيته العزيزة على قلبه، في أن يصل ابنه إلى أعلى درجة من العلم. وقد قيل أنّه قبل وفاته بقليل اعتنق الدين المسيحي، لكن سلوكه لم يطرأ عليه أي تغيير, وبقي لا يعبأ بالدين ولا يقيم له وزناً طيلة حياته.
كان العلم والثقافة العالية في المجمتع الروماني هما الركيزة الوحيدة لضمان النجاح في الحياة والتصدر في المجتمع. فكان على والدي أغسطينوس أن يدخلا ابنهما إلى المدرسة الابتدائية في مدينة تغاسطا (سوق أهراس) بين سنة 361-365، متوسمين في ابنهما الخير والنجاح. فبدآ يعدانه لمستقبل باهر. ويصف لنا أغسطينوس في كتابه «الاعترافات» أمنية الوالدين هذه بقوله:
«كم تلاعبا بي يوم اقترحا عليّ قاعدة لسلوكي في الحياة، أنا الحدث الطري العود، أن أطيع معلميّ كي ألمع بين الناس، وأبرع في الفنون الكثيرة الكلام التي تضمن لي مجداً بشرياً وثرات زائفة».
هذا هو واقع البيت والمجتمع الذي نما فيهما أغسطينوس وترعرع، إذ كانا يجمعان كل التناقضات الروحية: الإيمان والكفر، إيمان أم تقية ورعة، حياتها كلها صلاة وتضرع لله الخالق، وأب وثني شرير لا يكترث للدين ولا يهمه من الحياة إلا المجد والثروة. فعاش أغسطينوس في صراع مستمر باحثاً عن الراحة لنفسه القلقة المضطربة وسط تشابك مع المادة والروح، مع الحياة الزمنية الفانية والحياة الدهرية الخالدة.
عندما أكمل أغسطينوس الثانية عشرة من عمره, انتقل إلى معهد شهير في مادورا لمتابعة تعليمه الثانوي من سنة 366-369. فانكبّ الفتى الطريّ العود الحادّ الذكاء على التهام العلم التهاماً عن أساتذة أكفاء. وفي هذا الوقت المبكر من حياته بدأ يتعلم الشقاوة واللهو والهزء بالغير. ويخبرنا عن هذه الفترة من حياته قائلاً: «أواه… ما كان أقبحني أمام ناظريك يوم كنت أسيء التصرف وأولئك الأشخاص أنفسهم، أساتذتي ومعلميّ ووالديّ، فأخدعهم مراراً لأشبع نهمي إلى اللعب وأروي ظمأي من المشاهد المسرحية المتهتكة المجونية».
وهكذا انطلق الفتى في درب المجون وقد أخذت الخطيئة والشهوة الرديئة بلب قلبه فابتدأ يغش أساتذته في المدرسة ورفاقه أثناء اللعب. وعندما بلغ سن السادسة عشرة من عمره بلغ أوج ذروة الشقاوة والتخاتل، حيث برع في فن السرقة وإيقاع الأذى بالناس, إلى أن صار يتزعم شرذمة من الأصحاب الأردياء.
ويحدثنا عن الدافع الذي جعله يسرق مرة، قائلاً: «قد سرقت، ولم يكن مني عن عوز، ولا عن ولع بالربح، ولكن نكاية بالحلال. وحباً بالحرام. وقد دفعني إليها فراغ قلبي من العدل وسأمه منه بسبب طغيان معاصيّ عليّ. سرقت شيئاً كنت أملك أفضل منه وأوفر، لا طمعاً بالمسروق عينه بل حباً بالسرقة والإثم».
ويسرد لنا في كتابه «الاعترافات» حادث السرقة التي كان يقوم بها, ويصف لنا اللذة التي كان يجنيها من وراء ذلك العمل المشين، وعن زيغه وطيشه قائلاً: «إلى جانب كرمنا, شجرة إجاص مجدلة بأثمارها، ولكن إجاصها لم يكن شهياً ولا لذيذ الطعم. قصدتها تحت جنح الظلام الحالك، مع زمرة من الصبيان الجهال، بعد أن قضينا وطراً من اللعب في الأزقة، طبقاً لعادتنا الكريهة، حتى بلغ الليل أشده, ثم قضينا منها وطراً وعدنا بأحمال ثقيلة، لا لنتلذذ بها، لأن ثمارها هذه غير الناضجة كان حقها أن تُرمى للخنازير، وغبطتنا ولذتنا كانت في أن نفعل ما كان محرماً ومكروهاً وبإتيان المنكر وحسب».
في هذه المرحلة من العمر – السادسة عسرة – لم يستطيع أبوه أن يؤمن له السفر لمدينة قرطاجة (مدينة تونس حالياً) لإتمام دراسته هناك، فعاد من مادورا مسافة 24 كلم إلى مدينة تاغسطا ومكث سنة كاملة توغل فيها في اللهو والمجون وانفتح باب الشقاوة أمامه على مصراعيه لارتكاب ما يحلو ويطيب أمام عينيه، إلى أن أصبحت هذه السنة من أشر سنوات حياته، غلب عليه تيار التحرر، فجره إلى مهاوي الرذيلة على شتى أنواعها واشكالها لم يسنها طوال حياته.
اغيستان في قرطاجة :
كانت مدينة قرطاجة آنذاك (تونس حالياً) مزدهرة من عدة جوانب، وقدلعبت دوراً عظيماً في تاريخ شمال أفريقيا عسكرياً ومدنياً وتجارياً وفكرياً. كانت مدينة قرطاجة تنافس مدينة روما من حيث التقدم والازدهار الحضاري والعمراني وفي ميدان العلوم والآداب والصناعة والتجارة. كما أن الطابع التجاري كان غالباً عليها، والطبقة الأرستقراطية هي الحاكمة. كان طابع الترف والبذخ والغنى بادياً عليها، فيها العديد من المسارح ودور الملاهي والأندية المختلفة، كما أنها كانت العاصمة الفكرية لمنطقة شمال أفريقيا، حيث كان يتوافد عليها الطلاب من جميع أطراف بلاد شمال أفريقيا، لطلب العلم والمزيد من المعرفة، لأنّ التعليم العالي كان متوفراً فيها، من فلسفة ومنطق ومحاماة وعلوم البيان والأدب. كما أنّ البدع والهرطقات كانت رائجة هناك على اختلاف أنواعها.
وبعد أن قضى أغسطينوس سنة كاملة في تاغسطا متوقفاً عن التعليم، بسبب عدم إمكانية والده المادية في تأمين السفر له لمدينة قرطاجة لمتابعة تعليمه العالي هناك، قام أحد أثرياء تاغسطا يُدعى «رومانبانوس» «باتركس» والد أغسطينوس بمساعدته لاتمام دراسته في العاصمة العلمية قرطاجة. وهناك صار أغسطينوس يلتهم العلم التهماماً، يدرس بكل ما أوتي من قوة الذاكرة والاستيعاب دون كلل أو ملل، حتى أصبح بارعاً بين زملائه في فن الخطاية وظفر ببعض الشهادات العليا.
وعندما بلغ الثامنة عشرة من عمره تعرّف على امرأة اتخذها لنفسه خليلة أحبها حباً جنونياً، فأنجب منها ولداً غير شرعي سماه «أديوداتس» وقدة عاشر هذه المرأة مدة أربعة عشر عاماً.
ويصف لنا أغسطينوس العلاقة التي كانت تجمعهما قائلاً: «اتخذت لي زوجة ولم تكن شرعية. اتخذتها إشباعاً لشهوة جامحة ولم يكن لديّ سواها وحفظت جميع عهودي معها. ثم تحققت تماماً بنفسي الفرق بين الميثاق الزوجي العاقل المعقود في سبيل إعطاء الحياة وبين ما يرتكز على إشباع اللذة الحيوانية إيلاداً للبنين».
أما أمه «مونيكا»فقد وقفت تعارضه بالنسبة لمعاشرته هذه المرأة، إذ لم تكن على الإطلاق راضية بعلاقته معها، ولا بحياته التي هوت به للحضيض، بسبب بعده عن شريعة الله واتباعه شريعة العالم الشرير. فتسلحت الأم الحنون بسلاح الصلاة والتضرع إلى الله من أجل هداية ابنها الضال الذي قاده عمى قلبه وزيغه وطيشه إلى قعر الشر والرذيلة.
ففي هذه المدينة الكبيرة الضخمة تحقق حلم أغسطينوس في إغناء فكره بالعلوم وإشباع نفسه المتعطشة للسؤ والشهوة العارمة والمتأججة في أعماعه.