تخطى إلى المحتوى

تفسير سورة الحجرات مقدّمة بين يدي السّورة – أبو جابر عبد الحليم _ متجدد 2024.

  • بواسطة

الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد:
فقبل الشّروع في تفسير سورة " الحجرات "، فإنّه لا بدّ من مقدّمة للحديث عن مسائل مهمّة تتعلّق بالسّورة، وهي مسائل:
المسألة الأولى: في إثبات اسم السّورة.
فإنّ كثيرا من السّور ثبت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه سمّاها بذلك، كسورة البقرة، وآل عمران، والنّساء، وبراءة، والكهف، وغير ذلك.
وهناك سورٌ لم يثبُت عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أنّه هو الّذي سمّاها ولكنّه ثبت عن الصّحابة، كسورة المائدة، وسورتنا هذه.

فقد صحّ في مسند الإمام أحمد عن الحارث بن ضرار الخزاعيّ رضي الله عنه أنّه ذكر سبب نزول آية:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات: 6] أنّه قال:" فنزلت الحجُرات ".
ثمّ سار على تسميتها بذلك التّابعون والعلماء في تصانيفهم وكتبهم.

ولم يُعلم لها اسمٌ آخر كبعض السّور، وإنّما سمّاها العلماء بـ"سورة الأخلاق" لما سيأتي في فضلها إن شاء الله.

المسألة الثّانية: معنى اسمها:

الحجرات: جمع حجرة، كظلُمات جمع ظلْمة، وتجمع أيضا على الحُجَر مثل غُرْفَةٍ وغُرَفٍ.

والحجرة: أوسع من البيت، فهي الشّيء الجامع للبيوت.

روى الإمام أحمد عن أمّ حميد امرأة أبي حميد السّاعدي أنّها جاءت إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقالت: يا رسول الله، إنّي أحبّ الصّلاة معك، فقال:

(( قَدْ عَلِمْتُ أَنَّكِ تُحِبِّينَ الصَّلاَةَ مَعِي، وَصَلاَتُكِ فِيبَيْتِكِخَيْرٌ مِنْ صَلاَتِكِ فِيحُجْرَتِكِ، وَصَلاَتُكِ فِي حُجْرَتِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِكِ فِيدَارِكِ، وَصَلاَتُكِ فِي دَارِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ، وَصَلاَتُكِ فِي مَسْجِدِ قَوْمِكِ خَيْرٌ مِنْ صَلاَتِكِ فِي مَسْجِدِي )).

المسألة الثّالثة: في اشتقاق الاسم.

الحجرة مأخوذة من الحَجْر، وهو المنع، ومنه أطلق على الحرام الممنوع حِجراً، كقوله تعالى:{وَقَالُواْ هَـذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ} [الأنعام:138].

ومنه: الحَجْر على السّفيه والمفلس في الفقه، وسمّي العقل حِجْراً لمنعه عن القبائح، قال الله تعالى:{هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر:5].

وحَجْرُ الإِنسان وحِجْرُه بالفتح والكسر حِضْنُه؛ لأنّ الشّيء في الحجر معناه أنّه في حمايته، فيمنعه من الضّرر والأذى.

والحُجْرَةُ سمِّيت بذلك؛ لمنعها النّاس من الوصول إلى ما يُحفظ من الأعراض والأموال.

المسألة الرّابعة: الحكمة من تسمية السّورة بالحجرات.

وهذا علْم مهمّ، يبيّن لك حكمة من سمّاها، فإن كان الله تعالى هو الّذي سمّى السّورة فله الحكمة البالغة، وإن كان النبيّ صلّى الله عليهوسلّم أو أصحابه فلن يكون أيضا خاليا عن الحكمة.

قال الزّركشي رحمه الله وهو يبيّن لنا أهمّية هذا العلم في "البرهان" (1/270271):

" ينبغي النّظر في وجه اختصاص كلّ سورة بما سمّيت به، ولا شكّ أنّ العرب تراعي في الكثير من المسمّيات أخذَ أسمائها من نادر أو مستغرب يكون في الشيء من خلق، أو صفة تخصّه .. ويسمّون الجملة من الكلام أو القصيدة الطّويلة بما هو أشهر فيها، وعلى ذلكجرت أسماء سور الكتاب العزيز "اهـ.

قال الشّيخ الطّاهر بن عاشور رحمه الله:" ووجه تسميتها أنّها ذكر فيها لفظ الحجرات ".

والحقّ، أنّ هذا ليس كافيا لتسمية السّورة بذلك.

إنّما جاءت السّورة لتبنِيَ ركناً من أركان هذا الدّين، ألا وهو طاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتعظيمه، فأراد الله أن يؤدّب بعضَ من لم يُحسن مخاطبةَ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم حيث صاروا كما سيأتي معنا إن شاء الله ينادونه صلّى الله عليه وسلّم من وراء الحجرات فأنزل الله تعالى قوله:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْوَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)} [الحجرات].

فهنا على المسلم أن يتأمّل جيّدا قوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ}، فإنّه إذا كان الّذي يخاطب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمثلِ هذه الطّريقة اعتبره الله تعالى غير عاقلٍ وهو أمرٌ يبدو دقيقا صغيرا، فكيف بمن ترك تعظيم أمره ونهيه ؟ فلا شكّ أنّه أدنى منزلة وأحطّ مرتبة.

فكان اسم السّورة يذكّر المؤمنين بهذه الحادثة؛ حتّى يعظّموا نبيّهم صلّى الله عليه وسلّم في كلّ شؤونهم وجميع أحوالهم.

المسألة الخامسة: ما جاء في فضلها.

سورة الحجرات من مفصّل القرآن، بل أوّل سور مفصّل القرآن، فقد روى الإمام أحمد عن واثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ رضي الله عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قالَ:

(( أُعْطِيتُ مَكَانَ التَّوْرَاةِ السَّبْعَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الزَّبُورِ الْمَئِينَ، وَأُعْطِيتُ مَكَانَ الْإِنْجِيلِ الْمَثَانِيَ، وَفُضِّلْتُ بِالْمُفَصَّلِ )).

فالسّبع: هنّ السّبع الطِّوال، وذلك من "البقرة" إلى "براءة".

والمئون: ما كان فيها مئة آية فأكثر.

والمثاني: هي سورة الفاتحة.

أمّا المفصّل فالمراد به السّور الّتي كثرت فصولها، وهي من "الحُجرات" إلى آخر القرآن على الصّحيح كما في "فتح الباري" (9/74).

وليس هناك دليل خاصّ يدلّ على فضل سورة الحجرات بعينها إلاّ ثناء العلماء سلفا وخلفا على أحكامها، وقد ذكر بعض المفسّرين لفضلها حديثا موضوعا وهو: ( من قرأ سورة الحجرات أعطِي من الأجر بعدد من أطاع الله وعصاه ).

ويظهر فضل سورة الحجرات من تسمية العلماء لها بـ" سورة الأخلاق "؛ وذلك لما حوته من الآداب الجليلة والأحكام النّافعة، فهي اشتملت على أنواع الأدب كلّها:

فمن الأدب مع اللهعزّ وجلّ:

1– ألاّ يقدّم العبد قولاً ولا رأياً ولا شخصاً على قوله سبحانه.

2– وألاّ يتسرّع المؤمن في أمره حتّى يعلم حكمَ الله فيه.

3– تكرار الأمر بتقواه سبحانه وتعالى.

4– ألاّ يمنّ أحدٌ على الله إسلامه وطاعته.

5– ألاّ يزكّي المرء نفسه على الله.

6– مراقبة الله تعالى الّتي تضمّنها قوله تعالى:{وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}.

7– تذكّر فضل الله وشكره على أن هدى عباده إلى الإسلام.

8– تذكّر فضل الله وشكرُه على أن حبّب لعباده الصّالحين الإيمان وزيّنه لهم، وكرّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان.

9– اليقين في الله وأمره، والبعد عن الارتياب في أمور الإيمان، وغير ذلك ممّا يأتي في السّورة.

ومن الأدب مع رسول اللهصلّى الله عليه وسلّم:

1– ألاّ يتقدّم أحد بين يديه بأمر ولا نهي.

2– ألاّ يقدِّم أحدٌ قولَه أو قولَ من يعظّمه على قول رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

3– الأدب في ندائه ومخاطبته.

4– على المسلم أن يتّهم رأيه لا سنّة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إذا بدا له أنّه لا يوافق حاله، كما يشير إليه قوله تعالى:{وَاعْلَمُوا أنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ منَ الأَمْرِ لَعَنِتُّمْ}.

5– ترك المنّ عليه بالاتّباع والطّاعة.

ومن الأدب مع الخلق:

1– فعند التّخاطب نخاطبهم بجميل الخطاب والطيّب من القول.

2– ترك السّخرية منهم والاستهزاء بهم.

3– ترك مناداتهم بما يكرهون من الألقاب.

4– ترك ظنّ السّوء بهم.

5– ترك التجسّس عليهم.

6– الحذر من اغتياب واحد منهم.

7– توقير التقيّ والفاضل منهم ومعرفة حقّه.

8– تعليم الجاهل منهم بالحُسنَى.

9– الأخذ على يد ظالمهم ونصرة مظلومهم.

ومن الأدب مع النّفس:

1– حثّها على العمل بطاعة الله وتخليصها من العذاب في الدّنيا والآخرة.

2– ترك مدحها وإنزالها فوق منزلتها.

3– توطينها على التثبّت من الأخبار والتأنّي في الأحكام.

4– تدريبها على الخير.

5– حملها على الحكم بالعدل والقسط.

6– إزالة الشكّ عنها.

7– فعل ما يجلب لها الوقار والاحترام.

وغير ذلك من الأمور النّافعة، ممّا يدلّ على فضلها، وأنّها على وجازتها ومجيئها في ثمانية عشر آية تراها حوت هذا الخير كلّه.

المسألة السّادسة: هل هي مكّية أو مدنيّة ؟

هي مدنيّة باتّفاق أهل العلم، أي: ممّا نزل بعد الهجرة، وحكى السّيوطي في " الإتقان " قولا شاذّا أنّها مكّية، ولا يعرف قائل هذا القول. وهل بٌنِيت الحجرات إلاّ بعد الهجرة ؟

وفي " أسباب النّزول " للواحدي رحمه الله أنّ قوله تعالى:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى} الآية، نزلت بمكّة في يوم فتح مكّة، ولم يثبت أنّ تلك الآية نزلت بمكّة كما سيأتي إن شاء الله .

ثمّ لو ثبت، فإنّ العبرة بالزّمان لا بالمكان.

والله الموفّق لا ربّ سواه.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.