إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
من العجب أن بعض المسلمين يهون عليه التحفُّظ والاحتراز من أَكْلِ الحرام، والظلم، والفواحش، والرِّبا، والزنا، وشرب الخمر، والنظر المحرَّم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفُّظ من حركة لسانه، حتى يُرى الرجل يشار إليه بالبنان في الدِّين والزهد والعبادة؛ وهو يتكلَّم بالكلمة في سخط الله لا يلقي لها بالاً ينزل بها مما بين المشرقين، وكم ترى من رجل تورَّع عن الفواحش والظلم؛ ولسانه يفري في أعراض الناس: الأحياء منهم والأموات، لا يبالي ما يقول.
وتزداد خطورة الإثم، ويعظم الذنب، وتَكبُر المعصية؛ إن كان الجرح في العلماء، فهم سادة الأمة، وحُرَّاس الشريعة، وسياج الدين، ونجوم الأرض، ولا خير في قوم لا يعرفون للعلماء قدرهم، ولحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أعراض منتقصيهم معلومة.
ومن ابتلي بترصُّد عثرات العلماء، وزلاَّت الفضلاء، إنما أُوتي من جهله بالطريق، والجهل بها وبآفاتها والمقاصد لها يوجب التَّعب والنَّصب مع الفائدة القليلة، فإن صاحبه: إما أن يجتهد في نافلة مع إضاعة للفرض، أو في عمل الجوارح دون مواطأة من القلب، أو عمل بالباطن والظاهر لم يتقيَّد بالاقتداء.
لذا؛ تقرَّر عند العقلاء أن لكلِّ صنعة أهلَها، والله قسم بين الناس معيشتهم، ومن ذاك مراتب الإدراك والعلم، فكان فوق كلِّ ذي علم عليمٌ، ولكلٍّ فتح باب، وسبل السلام كثيرة، والصراط المستقيم واحد، فتوجب على السائل أن يعود أهل الصنعة، وعلى المتطفِّل أن يراعي للعلم قدره، فمن حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يعنيه، ومما لا يعنيه ما لا يعيه، ولو سكت كلُّ جاهلٍ لقلَّ الخلاف.
ففي زمننا هذا بُلينا بأزمات عِدة، وتداعت علينا المصائب، فلما طلع بصيص نور من صحوة – سُمِّيت إسلاميَّة – اشتدَّ بأسنا، لكن بيننا، لا على غيرنا! وإن سلمنا أن تلك الصحوة تلزمها صحوة؛ وأن عُرى الدين لا تشيَّد دون أمر بمعروف ونهي عن منكر، ولزام على العلماء الذبُّ عن المحجة البيضاء، وألا يكتموا عن الناس دين الله – تعالى – إلا أن الطامة بأن دخل العراك من ليس منهم، وصارت الدعوة لدى رهط من الناس لا لله، بل لأفراد أو أحزاب أو مذاهب، وهمُّهم التكاثر، فحملت الردود بين أهل العلم ما أثقلها، وتصدر الفتنة أحداث أسنان، سفهاء أحلام، لا يألون في من خالفهم إِلاًّ ولا ذمة، سيماهم بين ذويهم القطيعة، بأسهم بينهم شديد، لا تسمع لهم عن غير ذويهم همسًا، ولا تحس لهم رِكزًا.
من هنا كان لزامًا مراجعة هؤلاء ببيان أصول العلماء في الكلام في الآخر، وضوابط تصنيفهم للناس، وقواعد التعامل مع المخالف في الرأي، أو العقيدة، أو المذهب، وتوضيح شروط من له الأهليَّة الشرعيَّة لتصنيف الناس والحكم عليهم، وتقرير صور معاملتهم.
فالتباين في تقدير المصلحة والمفسدة لدى تزاحم الأحكام تتصدَّر أولويَّات المشاكل المطلوب التنظير لها وإجلاؤها؛ نظرًا لاتساع جبهات الهجوم على الإسلام والمسلمين، ثم اتساع الصحوة المباركة في أرجاء من المعمورة ضمن أجواء غير إسلاميَّة بشكلٍ عام؛ للوهن الذي لحق بالمسلمين، وتسلُّط مِلَل الكفر عليهم.
وحفظ الله – تعالى – دينه بأن جعل لأنبيائه ورثة، هم العلماء، يدفعون عنه الدَّخيل، ويمنعون عنه الحادث وإن كان قليلاً، فضبطوا أحكامه ببناء أصوله من الأدلة الشرعيَّة؛ كيما تساير الزمان والمكان، وراعوا الشريعة بوضع الأدلة وبناء الأصول من الكتاب والسُّنَّة؛ لضبط الأحكام الشرعيَّة العارضة، والتوسُّط في الأخذ بين الإغفال المهلك، والشدِّة في غير موضعها.
وبيان مقاصد الخوض والدعوة ممن ليس أهلاً له بأن يراجع بيان أهل العلم فيه؛ لا أبغي به الغلبة لطرف على آخر، ما أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما أَجْرِي إلا على الله، فكلُّ المختلفين هم من رجال الدعوة الأفاضل وأعلامها، وكلٌّ له من الفضل والسبق ما يزكيه بإذن الله – تعالى – وإنما هو اجتهاد العلماء، وهم مأجورون جميعًا.
إذ من مشاكل واقعنا الموهنة لصفِّ المسلمين: قضية التطرُّف في تقييم الشخصيَّات الإسلاميَّة التي ساهمت بقدر أو آخر في بَذْل ما تملك من الفضل والخير في إصلاح واقع الأمة، ممن يعدون رموزًا وأعلامًا عند طوائف من المسلمين.
وبادي الأمر بيان أن الكثير من هؤلاء الرموز والأعلام ليسوا علماء، بل هم دُعاة برزوا في ظروف صعبة؛ قَلَّ فيها العلماء، وزاد في الأمة البلاء، فعظمت الحاجة إلى غيث هؤلاء، والفضل الذي قدموه في ذانك الزمن وذاك المكان كان خيرًا عامًّا، وإن خلطوا عملاً صالحًا وآخر سيِّئًا.
فوقوع الأعلام والفضلاء في شيء من الأخطاء أو البدع والشطحات أمر متوقَّع ليس بغريب، غير أن المعضلة كامنة في أن العامة على دين كبرائها وأعلامها، فتقتدي بهم فيما قارفوا من زَللٍ على يقين أن ذاك من الدين؛ لذا تعيَّن التنبيه عليها والنصح لهم، فواقع الأمة لم يتحرَّر بعد من التعصُّب للمقالات، والغلوِّ للأشخاص، والجهل ضارب أطنابه بربوعنا، وموروثات زمن السُّبات لم تزل بعد، غير أن بوادر الصحوة المعاصرة للمسلمين تنبي عن نور من مشكاة كأنها كوكب دُرِّي يضيء على الناس أجمعين، لما يلمس من توظيفٍ لجوانب القوة والخير في أفراد الأمة الإسلاميَّة، ومظاهر الهدي الإسلاميَّة والاستقامة، ورد فعل الشعوب المسلمة على المتجرئ على نبيِّها – عليه الصلاة والسلام – وأمور عدة تُثْلِجُ الصدر وتبعث الأمل.
لكن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا قوام له دن ضوابط علميَّة وأخلاقيَّة، فمن يعرف الحق ولا يفقه الدعوة إليه عليه بالصمت، ومن درى نقطة من علم ما له، والنكير على من خالفه، ولو علم قدره لآوى لركن يلتقط منه، نبذ العلم.
فوعي ضوابط الدعوة إلى الله – تعالى – وفقه قواعد النقد للآخر، تلزم العامي أن يَعي حَدَّه، والشادي المبتدئ أن يعرف قدره، والمتمكن أن يحترم غيره، ولكلِّ صنعة أهلها، فلا يتقن الجرح والتعديل إلا من رسخ قدمه في العلم، وعَلاَ كعبه في مقاصد الإسلام؛ إذ التشدُّد يحسنه كل أحد، لكن العلم الرخصة تأتيك من فقيه، وإلا حال الجرح إلى تشريح.
ولو فتح باب تتبع عورات العلماء والأعلام والفضلاء من أهل الذِّكر وأهل الفكر، ما نجا منها أحد، ولا سلم من الأمة حتى الأئمة، ولكن على النُّقاد أن يسددوا ويقاربوا، ولا يدري لأهل الفضل فضلهم غير أولي الفضل، ولا يزن الرجال وينزلهم منازلهم غير الرجال.
والذي دفعني للتنبيه على الموضوع، تصدُّر بعض الأحداث لنقد الغير بحق أو بغيره، لكن وهم مشحونون بجانب عاطفي لا يتكئ على – ولو- عود من علم في تقييم الآخرين، فلا هم هشوا بذاك مفسدة، ولا دُري لهم مآرب أخرى غير الخوض في أعراض الناس: العام منهم والخاص دون أثارة من علم.
فكثر التجنِّي على العلماء والدُّعاة والفضلاء، وجعلت لهم قوائم، وهذا من شر البلاء، ثم تجاوزوا من الكلام فيهم إلى الخوض في أعراضهم وأهليهم، وأورد في الردود ما لا يرد إلا عن سفيه وحيدة عن الجادة، فطعن في النيِّات والدِّين، وبنيت أحكام على التخمين، بل شهدنا أحكام ألقيت من "علماء" السائل فيها مجهول، والمسؤول عنه مجهول، وما قيل عن المطعون فيه لا سياق له، ولا شاهد، ولا قرين!
ولك أن تلج الشبكة العنكبوتيَّة من الأبواب إلى المواقع إلى المنتديات إلى المدوَّنات، حتى غُرَف المحادثة والمراسلات، سَتُبْهَت من زخم الفِرَى والبهتان، وإن صدق في الاتهام، ساء في الكلام، فلا علم ولا أدب!
وإن كان النقد من عالم لآخر، جعل حديث الساعة وفاكهة المجالس، وقلَّ أن يتعامل مع الردود بين العلماء بعلم، فتراهم يطيرون بها يؤولونها على غير ما نزلت، ويبنون من الأحكام على ذاك ما لم يَفُهْ به صاحبه.
وعلى النقيض برز من رام دفن الكلِّ، وأفتى بأن الردود من فِتَن الأمة وسِيَم تخلّفها! وجهل أو تجاهل أن ميراث الأمة الضخم من العلم – الذي أثقلت به كواهل من خلف عن حمله – مجمله ردود ومناظرات وجدال وترجيح وتحقيق، بل هذا الدين قائم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولزام على العلماء بيان السُّنن ودرء البدع.
فالخلل كامن في الوعي بضوابط النقد، ولمن الأحقيَّة والأهليَّة الشرعيَّة للنقد، وكيف يتعامل مع النقد والناقد والمنتقد.
وهنا أبغي بعض الشباب الذي ولج في ما لا طاقة له به، وصارع في غير ميدانه، وتقدَّم لمن هو أرسخ منه قدمًا وأعلى كعبًا في العلم، فلا هو تسلُّح بعلم، ولا هو تترُّس بأدب، فكان نتاجهم إسهالاً فكريًّا في أمور لا تفيد ولا تغني من جهل، وإن تَلمس نفعًا، فأولى لهم ثم أولى أن يتلمسوه بأدب.
بليل عبدالكريم
بارك الله فيك أخي الفاضل
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم