– شهادة الدراسات الجامعية العليا سنة 1986م.
– دكتوراه الدولة سنة 1992م.
الأعمال المهنية:
– عمل أستاذا لعلم أصول الفقه ومقاصد الشريعة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ جامعة محمد الخامس، وبدار الحديث الحسنية ـ بالرباط ، ( 1986 إلى سنة 2024)
الأنشطة العامة
– مستشار أكاديمي لدى المعهد العالمي للفكر الإسلامي.
– شارك في تأسيس وتسيير عدد من الجمعيات العلمية والثقافية.
– أمين عام سابق لجمعية خريجي الدراسات الإسلامية العليا.
– رئيس لرابطة المستقبل الإسلامي بالمغرب (1994ـ1996).
– رئيس لحركة التوحيد والإصلاح بالمغرب (1996ـ2017).
– المدير المسؤول لجريدة " التجديد " اليومية (2017ـ2017).
إذا كان لكل شيء ضد، فللحرية أضداد متعددة؛ فالتسلط والاستبداد، والقهر والاستعباد، والاحتلال والاستغلال، والأغلال والقيود، والحواجز والحدود. وكذلك التسيب والتحلل، والفوضى والاستهتار. كلها أضداد للحرية ونقائض ونواقض لوجودها وممارستها. أضداد الحرية هذه ونواقضها، قد تصيب الإنسان في جسمه فيسجن أو يعذب، أو في حياته فيقتل ويعدم، أو في سيادته فيسترق ويستعبد، أو في عزته وكرامته فيذل ويهان، أو في رزقه وماله فيمنع من كسبه أو من حرية التصرف فيه، أو في حرية القول والتعبير، فيمنع من الكلام، أو يعاقب إذا تكلم.
كل هذه أحوال مقيتة بغيضة لا يرضاها حر لنفسه ولا لغيره، بل هي محنة ووبال على الإنسان فرداً وعلى الإنسان جنساً. غير أن أسوأ نواقض الحرية وأخطرها على الإنسان، هي تلك التي تصيبه في عقله وفكره وعلمه، وخاصة حينما تصبح حرية العقل وحرية الفكر وحرية الفهم مكبلة ومعاقة ذاتياً وداخلياً، وبنوع من الاقتناع والارتياح.
ويوم جاء الإسلام، كان العرب -على سبيل المثال- يتمتعون بدرجة عالية من الحرية ومن العزة والكرامة؛ يتحركون ويتنقلون بحرية، ويتكلمون ويعبرون بحرية، ويتصرفون في مكاسبهم وممتلكاتهم بحرية، ويحاربون أو يسالمون بحرية. ولكن حرية الفكر كانت عندهم مشلولة ومعطلة، أو على الأقل معاقة ومكبلة. ولم يكن ذلك من خارجهم ومن متسلط عليهم، بل كان من ذاتهم ومن داخلهم، وبرضاهم وتمسكهم. مع العرب كان يعيش اليهود في تجمعات سكنية مستقلة، تتمتع أيضاً بقدر كبير من الحرية. وكانوا أصحاب تراث ديني وثقافي عظيم، من أهم ما كانت تملكه البشرية يومئذ. ولكنه تراث أصبح معطلاً ومكبلاً، وأصبح أصحابه مثلهم "كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا" (الجمعة: 5).
ولقد كان في مقدمة مقاصد البعثة المحمدية تحرير العقل والفكر، ورفع ما أحاط بهما من آصار وأغلال وقيود وأوهام. قال تعالى: "وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ." (الأعراف: 156-157)
أولاً: في البدء كانت الحرية
مما يلفت الانتباه في قصة خلق آدم كما يحكيها القرآن الكريم، تلك العناية والحفاوة البالغة التي أحيطت بها هذه الواقعة وهذا المخلوق: "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً" (البقرة: 30)، "وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ. فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ" (الحجر: 28-29)، "وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ" (الأعراف: 11)، "وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا." (البقرة: 31)
ولم تقف الحفاوة عند هذا الإعلان الإلهي الجليل، ولا عند تسمية هذا المخلوق خليفة، ولا عند تصويره وتسويته بيد العناية الربانية، ولا عند النفخ فيه من روح الله تبارك وتعالى، ولا عند إسجاد الملائكة له وهم عباد بررة مكرمون، لم تقف الحفاوة الإلهية بالإنسان عند هذا، بل امتدت وسمت إلى حد إسكانه الجنة وإطلاق يده وحريته فيها، دون أن يكون قد فعل ما يستحق به شيئاً من هذا كله "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا." (الأعراف: 19) ولم يكن مع هذه الحرية المطلقة ومع هذه الإباحة الشاملة سوى استثناء رمزي، لا تعدو نسبته إلى الجنة وما فيها، أن تكون كقطرة في بحر أو حبة رمل في صحراء.
وهكذا خلق الإنسان أول ما خلق عزيزاً كريماً، وحراً طليقاً. وإذا كانت الأخطاء وعوارض أخرى متعددة قد غيرّت وتُغَيَّر من وضعيَّة الإنسان وتَحُدُّ من حركته وحريته، فإنها لا يمكن أن تغيّر من أصله وجوهره.
فكرامة الإنسان وحريته هي أصله وهي الأصل فيه. وهذا هو المعنى الذي ما فتئ العلماء والمفكرون ينصون عليه ويعبرون عنه، كل بطريقته وعبارته. وقد عبر عنه الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه بقولته الشهيرة "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً؟" ثم جاء الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر سنة 1948 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، ليكرر ويقرر هذا المعنى في مادته الأولى التي تقول: "يولد جميع الناس أحراراً متساوين في الكرامة والحقوق."
ولعل خير من تناول هذه المسألة من علماء الإسلام هو العلامة الشيخ محمد طاهر بن عاشور في كتابيه أصول النظام الاجتماعي في الإسلام، ومقاصد الشريعة. ففي الكتاب الأول اعتبر الحرية هي إحدى المصالح الأساسية والضرورية التي يقوم عليها المجتمع ويجب على ولاة الأمور تحقيقها وصيانتها. وبعد استعراضه لمفهوم الحرية الذي يتضمن معنيين هما: حرية الرقبة، وحرية التصرف، قال: "والحرية بكلا المعنيين وصف فطري نشأ عليه البشر، وبه تصرفوا في أول وجودهم على الأرض حتى حدثت بينهم المزاحمة فحدث التحجير."
وهذا التقييد -أو التحجير- للحرية لا ينبغي اللجوء إليه إلا عند الضرورة ومن أجل دوافع ومصالح راجحة، يقول رحمه الله: "إن الحرية خاطر غريزي في النفوس البشرية، فيها (أي الحرية) نماء القوى الإنسانية من تفكير وقول وعمل، وبها تنطلق المواهب العقلية متسابقة في ميادين الابتكار والتدقيق. فلا يحق أن تسام بقيد إلا قيداً يدفع به عن صاحبها ضر ثابت أو يجلب به نفع." ويؤكد أصالة الحرية و فطريتها في موضع آخر بقوله: "والحرية بهذا المعنى حق للبشر على الجملة، لأن الله لما خلق للإنسان العقل والإرادة وأودع فيه القدرة على العمل فقد أكنَّ فيه حقيقة الحرية وخوله استخدامها بالإذن التكويني المستقر في الخلقة."
فابن عاشور يتجاوز ذلك النقاش والتأرجح الذي عرفه فلاسفة الحرية واللبرالية الغربيون حول أصل الحرية ومصدرها، هل هو الخلقة الأولى للأفراد وما فيها من نزوع إلى حرية التصرف واتباع هوى النفس وميولها، أم هو العقل والنظر العقلي، والعمل بمقتضاهما؟ وهي القضية التي يعرضها جون ديوي كما يلي: "كانت فكرة الحرية مرتبطة في تقاليد مذهب الأحرار -عند كل من الأمريكيين والإنجليز- بفكرة "الفردية"، أي بالفرد نفسه من حيث هو فرد. وكان هذا الارتباط وثيقاً وكثير الورود على الألسنة، حتى خاله الناس أمراً ذاتياً أصلياً. فكان الكثيرون يدهشون إذا ما سمعوا بأن أحداً يزعم أن للحرية مصدراً آخر وأساساً آخر غير طبيعة هذه الفردية نفسها. ومع ذلك فقد كان المأثور عند الأحرار في القارة الأوربية أن فكرة الحرية إنما ترتبط بناحية العقل والاستدلال. فالأحرار عندهم هم الذين يوجهون سلوكهم ويسيرون أمورهم بحسب ما يمليه عليهم العقل وحده، أما أولئك الذين يتبعون هواهم ويجرون وراء شهواتهم وحسهم، فمحكومون بهذا الهوى وبتلك الشهوات والحواس، فهم ليسوا بأحرار."
الرؤية الإسلامية لابن عاشور تتجاوز هذا التجاذب الثنائي في مرجعية الحرية ومعيارها، فكون الحرية صفة فطرية غريزية تلقائية، لا ينفي اعتمادها -تأصيلاً وممارسة- على العقل والنظر العقلي. وهذا ما يفسر لنا كون الحرية ولدت مع الإنسان، ولكنها أيضاً ولدت مقيدة من اللحظة الأولى، ولو أن تقييدها جاء في البداية رمزياً واستثنائياً. يقول ابن عاشور: "وقد دخل التحجير في بني البشر في حريته من أول وجوده، إذ أذن الله لآدم وزوجه -حين خلقا وأسكنا الجنة- الانتفاع بما في الجنة، إلا شجرة من أشجارها. قال تعالى: "وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ." (الأعراف: 19) ثم لم يزل يدخل عليه التحجير في استعمال حريته بما شرع له من الشرائع والتعاليم المراعى فيها صلاح حاله في ذاته، ومع معاشريه، بتمييز حقوق الجميع ومراعاة إيفاء كل بحقه."
وقد ألف الأستاذ محمد زكي عبد القادر كتاباً لطيفاً، يعد بمثابة استقراء لما قيل عن الحرية لدى مختلف الأمم والشعوب وعلى مدى عشرات القرون من الزمن. ويلخص المؤلف فكرة كتابه وثمرته بقوله في مقدمته: "وهذا الكتاب الذي أقدم له جمع أقوالاً في الحرية والكرامة الإنسانية، اختيرت من مختلف اللغات في الشرق والغرب: من العربية، والإنجليزية، والفرنسية، والإغريقية القديمة، واليونانية الحديثة، والإسبانية والإيطالية والألمانية، والأردية، والنرويجية، وعلى الجملة من عدد كبير من اللغات التي يتحدث بها البشر، ومن مختلف العصور. فيها أقوال قيلت قبل الميلاد بألف سنة، وفيها أقوال قيلت منذ سنوات. وعلى طول ما يفصل بينها من الزمن لا تكاد تجد المعاني تغيرت، ولا حب الحرية والافتتان بها قل أو تحول. وفي هذا دليل على أن الحرية والكرامة الإنسانية ليستا شيئين ينموان بنمو الإنسان، ولكنهما شيئان ولدا معه وأحس بهما وكافح من أجلهما وأراق دمه في سبيلهما؛ قد يتطور مدلولهما ويتقدم ويتسع، وقد يتخذ أشكالاً متعددة، ولكنهما من حيث الجوهر باقيان خالدان."
وإذا كانت الحرية صفة فطرية من صميم خلقة الإنسان ومن صميم مؤهلاته الأولية، فمن الطبيعي أن يجعل الإسلام -وهو دين الفطرة- هذه الحقيقة أساساً مرجعياً في تشريعاته وأصوله التشريعية..
قرأت لعدد من المشايخ المعاصرين، وسمعت من بعضهم على الفضائيات، اعتراضهم على إطلاق لفظ الشهيد والشهداء على أشخاص معينين ممن يُقتلون في معارك جهادية وقضايا عادلة. وقال بعضهم: "لو رأينا رجالا يقاتلون ويقولون: نحن نقاتل للإسلام دفاعا عن الإسلام، ثم قتل أحد منهم، فهل نشهد له بأنه شهيد؟ فالجواب: لا، لا نشهد بأنه شهيد…". وقال: "هذا حرام، فلا يجوز أن يُشهَد لكل شخص بعينه بالشهادة" (الكلام للشيخ العثيمين رحمه الله، من موقعه الإلكتروني).
وأهم دليل يستدلون به على هذا الاعتراض والمنع من إطلاق وصف الشهادة على أشخاص معينين، هو قول الإمام البخاري في صحيحه: "باب لا يقول فلان شهيد. قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: الله أعلم بمن يجاهد في سبيله، والله أعلم بمن يُكْلَم في سبيله."
وفي الباب حديث طويل، نتيجته وحكمه العام في قوله عليه الصلاة والسلام في آخر الحديث: "إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة"
كما يستدلون بحديث الإمام مسلم – وغيره – عن عمر بن الخطاب قال: لما كان يَوْمُ خَيْبَرَ أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ، إِنِّى رَأَيْتُهُ فِى النَّارِ فِى بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ».
ويستدلون أيضا بقول لعمر رضي الله عنه في هذا المعنى…
وقبل الرد على هذا الرأي وما بني عليه من فهم، لا بد من تقرير أمر متفق عليه، حتى لا يبقى في محل النزاع والنقاش، وهو: أن مقام كل واحد وحقيقتَه عند الله، ومآلَه في الدار الآخرة، لا يعلمه يقينا إلا الله تعالى. فهو سبحانه – وحده – الذي يعلم المؤمن حقا، والشهيد حقا، والسعيد حقا. ويعلم وحده من هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار، ومن هو المغفور له وغير المغفور له. وحتى أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام، فلا علم لهم بشئ من ذلك، إلا ما أعلمهم إياه وأوحى إليهم به.
فهذا لا نزاع فيه.
ولكن هذا لا يمنع من إطلاق وصف الشهيد على شخص معين أو جماعة معينة من الناس. بل إن هذا الإطلاق موافق للشرع عموما وللسنة النبوية خصوصا. وبيان ذلك وأدلته ما يلي.
1. حديث عمر المتقدمُ ذكرُه، وفيه: " … أَقْبَلَ نَفَرٌ مِنْ صَحَابَةِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ، فُلاَنٌ شَهِيدٌ، حَتَّى مَرُّوا عَلَى رَجُلٍ فَقَالُوا فُلاَنٌ شَهِيدٌ. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «كَلاَّ، إِنِّى رَأَيْتُهُ فِى النَّارِ فِى بُرْدَةٍ غَلَّهَا أَوْ عَبَاءَةٍ». فالحديث صريح في أن الصحابة – وهم يستعرضون نتائج المعركة – سموا شهداءهم في معركة خيبر، وأنهم فلان وفلان وفلان… ولم يعترض رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا على واحد فقط ممن سموهم، وذلك لِما علمه من حاله وحقيقة فعله. بمعنى أن الرسول لم يعترض على وصف صحابة معينين بالشهداء، بل أقر ذلك، فهي بذلك سنة تقريرية. لكنه اعترض على حالة معينة لها سببها الذي عَلمَه بوحي من الله تعالى.
2. ما أخرجه الإمام البخاري في صحيحه "عن جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما أن أباه استشهد يوم أحد، وترك ست بنات وترك عليه دَينا، فلما حضر جُدادُ النخل أتيتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله قد علمتَ أن والدي استشهد يوم أحد…" الحديث. ففي هذا الحديث أيضا وصفُ الصحابي لوالده عبد الله الأنصاري بكونه شهيدا، وفيه إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لذلك. فهي سنة تقريرية كذلك.
3. ما شاع عند الصحابة فَمَن بعدهم من تسمية مَن قتلوا في سبيل دينهم بالشهداء، ومنهم سمية أم عمار رضي الله عنهما، التي توصف دائما بأنها أول شهداء الإسلام. ففي مصنف ابن أبي شيبة "عن مجاهد قال: أول شهيد استشهد في الاسلام أم عمار ، طعنها أبو جهل بحربة في قُبُلها".
وفي مصنف ابن أبي شيبة أيضا "عن سعد بن عبيد القارئ يومَ القادسية: إنا لاقُو العدوِّ غدا إن شاء الله، وإنا مستشهَدون، فلا تغسلوا عنا دما ولا نكفن إلا في ثوب كان علينا".
ومن هنا قال الحافظ ابن حجر "أطبق السلف على تسمية المقتولين في بدر وأحد وغيرهما شهداء". ومعلوم أن هؤلاء الشهداء معروفون بأعيانهم، ومذكورون بأسمائهم.
4. من المعلوم أن للشهداء القتلى أحكاما خاصة في تغسيلهم وتكفينهم والصلاة عليهم، وتفاصيل ذلك مبينة في كتب الحديث والفقه… ومراعاة هذه الخصوصيات تتوقف ضرورة على إعطاء صفة شهيد لهذا الميت أو ذاك.
فكل هذه الأدلة تفيدنا أن إطلاق وصف الشهيد على أشخاص معينين جائز في مواضعه، وقد يكون متعينا، وأنه قد جرى العمل به من أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم.
وأما الآثار التي يتعلق بها المعترضون، فالمقصود بها التنبيه على أن هناك حالات يكون باطن أصحابها على خلاف ظاهرهم، فلا ينبغي الجزم على ما هو غيب عند الله. وإنما نحن نحكم بالظواهر والله يتولى السرائر. فالحكم بأن فلانا شهيد، أو بأن هؤلاء شهداء، إنما هو من باب حسن الظن والبناءِ على ظاهر الأمور، فهو جائز لا إشكال فيه. وأما الاسترسال فيه بلا ضابط، والجزمُ بذلك رجما بالغيب، فهذا لا يصح ولا ينبغي. وفي هذا جاء ما جاء عن عمر رضي الله عنه، وعليه يحمل كلام الإمام البخاري. ولذلك قال الحافظ ابن حجر في الفتح "قوله (أي البخاري): باب لا يقال فلان شهيد؛ أي على سبيل القطع بذلك إلا إن كان بالوحي … وإن كان مع ذلك يعطَى حكمَ الشهداء في الأحكام الظاهرة".
وفي حاشية السندى على صحيح البخاري: "قوله: (باب لا يقول فلان شهيد) أي: بالنظر إلى أحوال الآخرة ، وأما بالنظر إلى أحكام الدنيا فلا بأس".
والواقع أن من يعمر المسجد قد يكون مؤمنا وقد لا يكون. فالمسجد يعتاده المؤمنون وهو الغالب والظاهر، وقد يعتاده منافقون، وقد يعتاده جواسيس من اليهود والنصارى والملحدين… وحتى المسجد الحرام قد يدخله بعض هؤلاء لأغراضهم المختلفة. ولكن هذا كله لا يمنعنا من وصف كافة رواد المساجد بالمؤمنين والشهادةِ لهم بالإيمان. لكننا لا نقطع لهم بذلك. فهكذا أمر الشهادة والشهداء…
أما التلازم فحسبنا منه أن العمرة لم تذكر في القرآن الكريم إلا مقترنة بالحج. قال تعالى” وأتموا الحج والعمرة لله” ثم قال” فمن تمتع بالعمرة إلى الحج …”(1) وفي موضع آخر قال سبحانه” فمن حج البيت أو اعتمر…”(2).
وأما النبي صلى الله عليه وسلم فقد عبر عن العلاقة الاندماجية بين الحج والعمرة بقوله’‘دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة”(3)
وبهذا الدخول أو التداخل يصح عند كثير من العلماء الإحرام بالحج ثم تحويله إلى عمرة، وهو ما يسمى عند الفقهاء” فسخ الحج إلى العمرة ”. وبهذا التداخل يمكن أيضا أداء المناسك المشتركة بين الحج والعمرة بعمل واحد لها معا، كما في الطواف والسعي في حالة القران. ومن هذا التداخل أيضا أن كل الحجاج تقريبا يؤدون عمرتهم مع حجتهم في موسم واحد. وكما هو معلوم فإن أعمال العمرة كلها توجد في الحج، ويزيد الحج بأمور ليست في العمرة. ومن هنا يطلق على العمرة” الحج الأصغر”.
إذا كان الأمر على هذا بين الحج والعمرة، وأنهما في الجوهر عبادة واحدة ذات أداءين أحدهما أكبر والآخر أصغر، أو أن إحداهما إعادة مزيدة أو إعادة مختصرة عن الأخرى، فإن الحديث عن مقاصدهما لا يمكن أن يكون إلا واحدا. وفيما يلي بيان لأهم المقاصد الشرعية المتوخاة من مناسك الحج والعمرة، حسبما دلت عليه نصوصهما وأحكامهما.
الحج قصد و نية وتهيؤ للرحيل
النية الخالصة لله تعالى أساس كل عبادة و كل عمل تعبدي. فلا تصح عبادة ولا يقبل عمل إلا بهذه النية. ولكن النية والقصد في الحج أكثر أهمية وأشد لزوما من أي عبادة أخرى. حتى إن اسم”الحج” نفسه يتضمنها، ذلك أن الحج معناه”التوجه والقصد إلى شيء”. و القصد أيضا هو توجه الإرادة و الرغبة والعزيمة. ولذلك لا يكون الحج حجا حتى يكون قصدا ونية وتوجها. والحج هو القصد إلى بيت الله والهجرة الفعلية إليه. هذا هو ظاهره، ولكنه في عمقه وحقيقته قصد إلى الله ، وهجرة إليه مما سواه ، فشد الرحال والارتحال إنما هو في الحقيقة إلى رب البيت لا إلى ذات البيت. فلذلك وجب على الحاج أن يعتقد أنه متوجه بقلبه و نيته، ورغبته وشوقه، و بهمته وإرادته إلى ربه. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: ”وليتحقق أنه لا يقبل من قصده و عمله إلا الخالص. وإن من أفحش الفواحش أن يقصد بيت الله و حرمه، و المقصود غيره”(4)
والمؤمن يتوق و يشتاق إلى لقاء ربه في الدار الآخرة، وهو طيلة حياته يعمل لكي يلقاه وهو راض عنه، في المحشر والحساب والثواب. والحج من مقاصده التذكير بالله والوقوف بين يدي الله ، والتذكير بفراق الدنيا والرحيل إلى الدار الآخرة. فمشاهد الحج التي تبلغ ذروتها في ذلك الموقف المهيب والمشهد الرهيب بعرفات، إنما هي تجسيد مصغر لمشاهد الحشر والوقوف بين يدي الله يوم القيامة.
فعلى الحاج وهو يستعد لسفره ويتزود لرحلته، ويفارق أهله وماله وبلده،أن يتذكر انه عما قريب يفارق أهله وماله وبلده إلى غير رجعة، وأن عليه أن يتزود أكثر فأكثر لسفره الأكبر ومرحلته الأخطر. فليتعلم من رحلته إلى الحج و تزوده لها ومفارقته من يحب وما يحب، أنه لابد مرتحل ومفارق، و أن لكل ارتحال زادا واستعدادا وأن زاد الآخرة هو التقوى والعمل الصالح: (و تزودوا فإن خير الزاد التقوى). (5)
ومن أهم لوازم التقوى التي يتزود بها الذاهب إلى ربه، أن يبرئ ذمته من المظالم وحقوق العباد. فيرد منها ما يمكن رده، و يستسمح ممن يمكن الاستسماح منه، ويستغفر الله ويتوب إليه مما لا يعلمه ولا يستطيع رده ولا التحلل منه، حتى لا يكون في سفره مثقلا ومكبلا بالمظالم وآثامها.
الحج ذكر ودعاء
مما يلفت الانتباه بسرعة وبقوة عند النظر في النصوص والأحكام المتعلقة بالحج والعمرة، ذلك الإلحاح المتكرر كثيرا على ذكر الله في كافة مراحلهما ومناسكهما.
قال تعالى في سورة البقرة ” فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم وإن كنتم من قبله لمن الضالين. ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم. فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا(6)” ثم قال ”واذكروا الله في أيام معدودات…”(7)
وفي سورة الحج نقرأ” ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات” ”ولكل أمة جعلنا منسكا ليذكروا اسم الله على ما رزقهم من بهيمة الأنعام” ”فاذكروا اسم الله عليها صواف” ” كذلك سخرها لكم لتكبروا الله على ما هداكم” (8)
فالأمر بذكر الله تعالى والحث عليه والتذكير به هو أمر ملازم كما نرى لكل أعمال الحج ومحطاته. ومن المعلوم أن افتتاح أعمال الحج والعمرة يكون بالتلبية وهي ذكر. وهذه التلبية تستمر وتتكرر حتى تصبح شعارا للحج والحجاج. كما أن وقوف يوم عرفة -الذي هو أعظم أيام الحج وأعظم أعماله- إنما هو يوم ذكر ودعاء. وإذا كان الحديث الشريف يقول ”الحج عرفة” (9) فمعناه ”الحج ذكر ودعاء”.
ويتأكد هذا المقصد الأعظم من مقاصد الحج والعمرة إذا لاحظنا كذلك أن سائر أعمال الحج تكون مصحوبة بالأدعية والأذكار. وليس الجديد الخاص بالحج هو الذكر والدعاء، فهذا قد يتحقق في حياة المسلم كلها وفي عباداته جميعا أو في كثير منها، ولكن الذي يمتاز به الحج هو هذه الكثافة وهذا التتابع في أيام معلومات وأيام معدودات، وفي أماكن مهيبة ومشاهد خاشعة، تجعل الحاج المعتمر ذاكرا لله في حالة انقطاع وتجرد وتفرغ واستغراق…
الحج أشمل العبادات وأعمقها
لقد أكرمنا الله تعالى وشرفنا بعبادات متعددة ومتنوعة، حتى يجد كل الناس -على اختلاف ظروفهم وأحوالهم وقدراتهم- فرصتهم ونصيبهم ومجال قوتهم منها. وأيضا حتى يجد كل مكلف أنواعا من العبادات تتسع لكل ما فيه وما لديه من جسم وعقل وروح ومال ووقت. فالصلاة عبادة لروحه وعقله وبدنه، والصيام عبادة أخرى لبدنه ولنفسه، والزكاة عبادة لماله ونفسه، والجهاد عبادة لبدنه، أو لماله، أو للسانه، والذكر عبادة لقلبه وعقله ولسانه..
ولكن الحج يجمع كل هذا ويزيد عليه. فالحاج يعطي غير قليل من وقته في رحلته ومناسكه، وهو يضحي بماله الذي ينفقه وبماله الذي يتركه أو يفوته كسبه. والحاج يجاهد ويعاني ببدنه وكافة حواسه. وهو ينهمك في حجه بقلبه وروحه ويلبي ويذكر ويدعو بقلبه ولسانه، ويمشي بقدميه ويرمي بيديه.
وهكذا، فالحج عبادة تستغرق من الحاج كل كيانه وكل ما يملك. ففي الحج نصب وتعب ومجاهدة ومعاناة، وفيه صلاة ودعاء، وفيه ذكر وفكر وحلم وصبر، وفيه نفقات وصدقات. وقد وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه ”جهاد لا قتال فيه”(10)
ومن جهة أخرى فالعبد يبلغ في عبادات الحج أقصى درجات التعبد والعبودية، حتى إنه ليأتي أفعالا وتصرفات لا يعقل لها معنى ولا يدرك لها مغزى، سوى أن الله تعالى أمره بها، فهو يمتثل أمر ربه تعبدا وعبودية. حتى لقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه خاطب الحجر الأسود بقوله: إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع، ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك.
ويقول الإمام الغزالي مقارنا عبادات الحج مع غيرها من العبادات :”… وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية: فإن الزكاة إنفاق، ووجه مفهوم وللعقل إليه ميل. والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل. والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع، وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل، فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها، فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الاتباع فقط(…) فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما، فيكون ذلك الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد (…) وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات”(11)
لا رفث ولا فسوق ولا جدال
إذا كان الحج عبادة مركبة من عدة عبادات، بل هي دورة تعبدية شاملة، فهو أيضا تربية ودورة تربوية تدريبية نادرة.
قال الله عز وجل" الحج أشهر معلومات، فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج. وما تفعلوا من خير يعلمه الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقون يا أولي الألباب) (12)
وفي الحديث النبوي الشريف:”من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه”( 13) . ومجمل ما دلت عليه الآية والحديث أن الحج يمنع فيه منعا جازما حاسما الاستجابة لشهوة الفرج وكل ما يتصل بها ويمهد لها أو يحركها، من قول أو عمل أو إشارة. وهذا هو الرفث. كما يتأكد فيه النهي والزجر عن أي مخالفة شرعية، سواء تعلقت بالرفث نفسه، أو بغيره من الأقوال والأفعال. وإذا كان النهي مؤكدا والزجر مشددا كان الإثم في ذلك مضاعفا. فإن المعاصي والمخالفات يعظم إثمها بعظم حرمة زمانها ومكانها، وبمقدار التشديد والتوكيد في النهي عنها. فعلى الحاج أن يلتزم في أثناء مدة حجه بأعلى درجات الطاعة والانضباط بحدود الله تعالى وأحكام شريعته. وإذا كان الشرع قد أمعن في كف الحجاج عن عدد من المباحات الجائزة في غير الحج كالجماع وما يتصل به والصيد واللباس والتطيب، فكيف لا يكف الحاج نفسه عما هو محرم ومنهي عنه من أصله كالكذب والسباب وأذى المسلمين وأخذ حقوقهم أو ارتكاب محرمات وفواحش؟
كما نهى الله تعالى في الآية عن الجدال، والجدال في غالب الأحيان إنما هو مضيعة للوقت الذي يكون الحاج في أمس الحاجة لاستغلاله والاستفادة منه في الذكر والعبادة والمناسك، كما أن الجدال في الغالب أيضا يكون سببا للمشاحنات ومقدمة للخصومات والمنازعات. فالحجاج إذن يجب أن يكونوا على درجة عالية من حسن الخلق ومن الرفق واللين والتسامح . وأن يعتبروا أن الحج فرصة نادرة لترويض النفس وتدريبها على التواضع والهدوء والخشوع والبر والعفو والحلم. فكل هذه أخلاق ضرورية لكي يكون الحج مبرورا وناجحا ومقبولا. وبهذا يعود الحاج على غير الحالة التي ذهب عليها، ويعود كيوم ولدته أمه، يعود وقد أصبح من الكاظمين الغيظ ومن العافين عن الناس، يعود وقد أصبح يدرأ بالحسنة السيئة ويدفع بالتي هي أحسن، يعود وقد ألزم نفسه بكف الأذى عن الناس، بل أصبح يتغاضى عن أذاهم ويقابله بالحلم والغفران.
أما من ذهب على من كان عليه من سوء الخلق وفظاظة الطبع و كثرة الجدال والخصام والأذى.. ثم بقي هناك وعاد على ما كان عليه، فما استفاد من حجه، وما ضمن حجا مبرورا متقبلا.
أدب الضيف عند مضيفه
قال الله تعالى يقول (ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه) (14)
إن الحاج وهو في حرم الله وفي بيت الله، يعد ضيفا من ضيوف الرحمان ويكون في بيت الضيافة الربانية. ونحن إذا كنا ضيوفا عند غيرنا من الناس، نكون على غاية ما يمكن من الأدب والهدوء والانضباط واللياقة. فكيف بمن يكون في بيت الله وفي ضيافة الله وكيف إذا كان المضيف في غاية الإكرام والتنعيم لضيفه ونزيل بيته؟ وكيف إذا كان معه ضيوف من كل فج عميق، ضيوف من كل الأقطار ومن كل الأجناس، كلهم ضيوف الرحمن؟ إن الإساءة في مثل هذا المقام تكون جريمة وفضيحة، فهي إساءة إلى المضيف و بيته وحرمه، وإلى ضيوفه ونزلائه، وهي فضيحة تسير بذكرها الركبان، ويتحدثون بها في مختلف الشعوب والبلدان.
فاحذر أيها الحاج أن تسيء إلى ربك ومضيفك، وتسيء إلى قومك وبلدك، أو تسيء إلى إخوانك ورفقائك. واعلم أنك ستسيء بذلك إلى نفسك وحجك ومقامك.
ليشهدوا منافع لهم
يقول الله تبارك وتعالى: (وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت ألا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات) (15)
لقد ذكر الله سبحانه أن حجاج بيته الحرام يأتون ليشهدوا منافع لهم، وهذه المنافع لم يحددها، فبقيت مطلقة مفتوحة، مما يدل على أن منافع الحج كثيرة متنوعة وغير محصورة. ولا شك أن العبادات والفضائل العظيمة المذكورة من قبل هي من أعظم منافع الحج ، إذا أحسن الحاج تحصيلها والمحافظة عليها . كما أن لقاء المسلمين القادمين من كل فج عميق، هي فرصة عظيمة غنية بالعبر و المنافع.
فليتأمل الحاج في عظمة الإسلام الذي جعل ملايين الناس تقبل- كل سنة خ على بيت الله حاجين معتمرين،من غير أن يأتي بهم أحد، ومن غير أن يضغط عليهم أحد. يأتون طائعين راغبين مشتاقين. تهوي أفئدتهم إلى بيت الله الحرام، وإلى زيارة نبيهم صلى الله عليه وسلم، وإلى لقاء إخوانهم المسلمين من مختلف أصقاع الدنيا.
وهكذا تتاح لك أيها الحاج فرصة لا مثيل لها لتلقى المسلمين من كل أرجاء المعمور، لتستفيد منهم وتتعرف عليهم وعلى أحوالهم، في محبة وأخوة لا يمنعها اختلاف الألوان والملامح والألسنة. وقد أصبح الحج الفرصة الوحيدة التي تتجلى فيها الوحدة الكاملة للأمة الإسلامية بكافة شعوبها وأعراقها وأقطارها. فهي فرصة لكل حاج لكي يجسد هذه الوحدة ويستمتع بها ولو لبضعة أيام أو أسابيع، فيعمق شعوره بها، ويوثقها بحسن التعارف والتآلف، وبحسن التعامل والمعاملة، ويتبادل الأخبار والآراء والمعلومات. كما أن الحج فرصة علمية وثقافية. وقد كانت الرحلات والأسفار إحدى وسائل التعلم والتثقيف عند أسلافنا. فرحلة الحج من أولها إلى آخرها ينبغي أن تكون رحلة علمية ثقافية، بذهابها ورجوعها، وبإقامتها وتنقلاتها. فمشاهدة البلدان وأهلها، ومجالسة العلماء والمثقفين، وحضور الدروس والمحاضرات، وزيارة المواقع والمآثر الإسلامية، وعلى رأسها مواقع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته،التي شهدت بزوغ فجر الإسلام وسطوع نوره على الأرض…ك ل ذلك علم وثقافة، وتفقه وخبرة، لا ينبغي للحاج أن يضيعها أو يقلل من شأنها، لأنها من المنافع التي دعانا الحق سبحانه لأجل شهودها وتحصيلها باعتبارها من مقاصد الحج وثماره.
__________________________________________________
الهوامش:
1 سورة البقرة 195
2 سورة البقرة 158
3 الحديث رواه مسلم وأحمد وأبو داود والنسائي
4 إحياء علوم الدين 1/316
5 سورة البقرة 196
6 سورة البقرة 197/199
7 سورة البقرة 201
8 سورة الحج الآيات 3526
9 الحديث رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة
10 رواه أحمد وابن ماجة
11 إحياء علوم الدين1/315
12 سورة البقرة 196
13 الحديث متفق عليه
14 سورة الحج 28
15 سورة الحج 2524 .
"العمل بالأغلبية" ـ أو الأكثرية ـ يراد به : ترجيحُ الرأي الذي قال به أكثر المشاركين برأيهم في مسألة من المسائل المتداول بشأنها ، والأخذُ به .
وأما "الأغلبية" نفسها ، فهي العدد الغالب من ذوي الرأي في المسألة ، أي ما زاد على نصفهم . وهذا ما يعرف بالأغلبية المطلقة . فإذا قيل:"الأغلبية" بدون تقييد ، فهي المقصودة . وأما الأغلبية المحددة بنسبة معينة ، فهذه تذكر عادة بنسبتها المحددة ، كأنْ يقال:أغلبية الثلثين ، أو أغلبية ثلاثة أرباع ، أو نحو ذلك.
العمل بالأغلبية المطلقة ـ وأحيانا بأغلبية محددة ـ شائع ومسلم اليوم في مجالات واسعة وكثيرة ، كالاستفتاءات ، والانتخابات العامة والخاصة ، واتخاذ القرارات داخل الهيئات الجماعية، سواء في مؤسسات الدول والحكومات ، أو في الهيئات الأهلية ، وحتى في الهيئات الخاصة كالشركات.
فما هو موقع الأغلبية وحكمها في الإسلام ، وفي الثقافة الإسلامية؟
أول ما يسجل بهذا الصدد ، هو أن هذه القضية لم تبحث بشكل واسع جامع . بمعنى أنها ليس لها موضع معلوم تعالج فيه ، كبعض أبواب الفقه ، أو في مباحث معينة من علم أصول الفقه ، أوفي كتب السياسة الشرعية . وإنما تذكر بشكل مقتضب ، مع تطبيقات متفرقة لها ، فيعدد من العلوم الإسلامية . ولعل أول بحث جامع لها ـ نسبيا ـ هو الذي جاء في أطروحتي للدكتوراه ( نظرية التقريب والتغليب وتطبيقاها في العلوم الإسلامية) ، التي نوقشت سنة 1992. ففيها فصل خاص عن هذه القضية.
الترجيح بالكثرة في الفكر الإسلامي
لعل مصطلح "الترجيح بالكثرة"، الوارد في عدد من العلوم الإسلامية ، هو الأكثر استعمالا والأكثر تعبيرا عن قضيتنا.
ـ ففي علوم الحديث ، نجد مناقشات وتطبيقات ، حول الترجيح بالكثرة بين الأحديث المتعارضة ، الواردة في الموضوع الواحد ، أو بين الروايات المختلفة للحديث الواحد ، إذ اختلفت بالزيادة والنقص أو غيرهما من وجوه الاختلاف .
وفي المسألة نقاش حول أي الترجيحين مقدم على الآخر : الترجيح بالأحفظية ، أو الترجيح بالأكثرية ؟ بمعنى: إذا اختلف الرواة ، هل نرجح رواية من هو أحفظ وأضبط ، أم نرجح الرواية التي عليها الأكثرية من الرواة ؟ وهذه الموازنة والمفاضلة بين الترجيحين ، إنما يُلجؤ إليها ، إذا كان جميع الرواة من أهل الحفظ والأمانة ، ولكن بعضهم أحفظ من بعض ، فحينئذ تجري المفاضلة ترجيح عنصر الحفظ أو عنصر الكثرة ، أما الرواة الضعفاء ، فلا يمكن ترجيحح روايتهم على رواية الثقة الواحد ، مهما كثر هؤلاء الضعفاء.
والذي يعنيني الآن هو أن الترجيح بالكثرة أو بالأكثرية ، بين الروايات الحديثية ، موجود ومعمول به لدى علماء الحديث . وأساسه أن زيادة عدد الرواة الثقات ، له مزية ورجحان على رواية الواحد الثقة ، وعلى رواية العدد الأقل من الثقات.
ـ وفي المجال الفقهي أيضا، يُعتمد الترجيح بالكثرة عند اختلاف الأقوال الفقهية الاجتهادية . وينطبق هذا ابتداء من الصحابة رضي الله عنهم . قال أبو إسحاق الشيرازي "وإذا كان على أحد القولين أكثر الصحابة، وعلى الآخر الأقل ، قُدّم ما عليه الأكثر، لقوله صلى الله عليه وسلم "عليكم بالسواد الأعظم." [1] وقال ابن القيم "فإن كان الأربعة ـ يقصد الخلفاء الراشدين ـ في شق، فلا شك أنه صواب، وإن كان أكثرهم في شق، فالصواب فيه أغلب." [2]
وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: "استشارني عمر في أمهات الأولاد (يعني الإماء)، فأجمعت أنا وهو على عتقهم ، ثم رأيت بعدُ أن أُرقَّهم. فقال له عبيدة (هو عبيدة السلماني، تابعي): رأيُ ذَوَيْ عدل أحب إلينا من رأي عدل واحد." [3]
وفي مسألة أخرى مماثلة قيل له : لَأمْرٌ جامعتَ عليه أمير المؤمنين، و تركت رأيك ، أحب إلينا من أمر تفردت به ، فضحك.[4]
قال البزدوي : "وإنما اختار أبو عبيدة أن يكون قول علي منضما إلى قول عمر رضي الله عنهما، لأنه كان يرجح قول الأكثر على قول الأقل ، وعلي لا يرى الترجيح بالكثرة بل بقوة الدليل"[5]
على أن الاختلاف ـ أحيانا ـ في الترجيح بالكثرة أو عدمه، لا يلغي كون هذا المبدأ قد عُمل به عند عامة الفقهاء ، وأن لكل فقيه أن يأخذ به ، إذا لم يظهر له وجه الصواب في المسألة ،" لأن الأغلب أن الصواب يكون مع الأكثر" كما يقول أبو الحسين البصري [6].
ولذلك قرر شمس الأئمة السرخسي أن " الترجيح بالكثرة … أصل في الفقه ، فإن للأَكثر حكم الكمال"[7]
وذهب بعض الفقهاء إلى الترجيح بالكثرة في شهادة الشهود أمام القضاء ، فتقدم شهادة الشهود الأكثر عددا على الأقل عددا . غيرأن هذا القول يجد اعتراضا أكثرلدى الفقهاء ، لما يمكن أن يشوب تكثيرالشهود من تلاعب وحشد للمأجورين أو التابعين أو المتحيزين .
وعموما يمكن القول : إن العلماء قد أخذوا بالأكثرية العددية ، واعتبروها مرجحا ، فيما ليس فيه مانع معتبر. وقد عملوا بهذا المبدأ في مجال الرواية ومجال الدراية معا.
ـ وأما في المجال السياسي ، فقد نص العلماء على فكرة الأغلبية، لكن بصيغ وعبارات مختلفة في معظم الأحيان . ويتجلى ذلك في اشتراطهم لانعقاد البيعة الصحيحة ، أن يؤيدها ويلتف حولها من الناس ، ما تحصل به الشوكة والمنعة والانقياد العام.[8]
غير أن الإمام الغزالي كان أكثر تصريحا وتوضيحا في التنصيص على اشتراط الأغلبية لذلك . فهو يرى ـ كشيخه الجويني ـ أن مبايعة عمر لأبي بكر لم تصبح لازمة نافذة ، إلا بالتأييد الواسع والفوري ، الذي حظيت به ، " ولو لم يبايعه غيرُ عمر، وبقى كافة الخلق مخالفين ، أو انقسموا انقساما متكافئا لا يتميز فيه غالب عن مغلوب ، لما انعقدت الإمامة."
ثم يضيف : "فإن شرط ابتداء الانعقاد قيامُ الشوكة ، وانصرافُ القلوب الى المشايعة ، ومطابقة البواطن والظواهر على المبايعة ، فإن المقصود الذي طلبنا له الإمام جمعُ شتات الآراء ، في مصطدم تعارض الأهواء . ولا تتفق الإرادات المتناقضة والشهوات المتباينة المتنافرة ، على متابعة رأي واحد ، إلا إذا ظهرت شوكته ، وعظمت نجدته، وترسخت في النفوس رهبته ومهابته ، ومدار جميع ذلك على الشوكة ، ولا تقوم الشوكة إلا بموافقة الأكثرين من مـعْـتَـبَـري كل زمان."[9]
السيرة النبوية والأخذ بالأغلبية
نبي الله ـ كما هو معلوم ـ مؤيد بالوحي معصوم . فلو أنه لم يستشر قط في حياته أحدا ، لكان الأمر واضحا لا غبار عليه . ولكنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ كان يتصرف ليَسُن لأمته، وليرسم النهج للأئمة من بعده . فلذلك كان يستشير ويكثر الاستشارة ، حتى قال أبو هريرة رضي الله عنه : ( ما رأيت أحدا قط كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه و سلم )[10]
لكن هل كان يلتزم ـ في مشاوراته مع الصحابة ـ الأخذ برأي أكثريتهم ، أم يُمضي ما يراه حتى لوكان على خلاف مستشاريه ؟
الحقيقة أنه لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استشار الصحابة في أمر، ثم خالف رأيهم أو رأي أكثريتهم فيه ، بل الثابت هو العكس . وفيما يلي نماذج من ذلك
في غزوة بدر:
لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بأن قريشا قد تجهزت لقتال المسلمين، استشار الصحابة في شأن الاستعداد لملاقاة قريش ومناجزتها . فتكلم أبو بكر وعمر والمقداد بن عمرو، وكلهم أيدوا الرأي النبوي لمواجهة قريش ، ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا كلهم من المهاجرين، وكان عليه السلام يريد أساسا معرفة رأي الأنصار، فاستمر يقول: "أشيروا علي أيها الناس". قال ابن إسحاق: "وإنما يريد الأنصار، وذلك أنهم عدد الناس".([11]) أي أكثريتهم.
فقد كان عيله السلام ، حريصا على معرفة رأي الأكثرية ، ومدى استعدادهم للقتال ضد قريش. فلذلك أراد أن يسمع رأي زعماء الأنصار بالذات . فلما علموا هذا وفهموه ، قاموا فأعلنوا تأييدهم وجاهزيتهم للمعركة . فلما ضمن ذلك وتأكد منه، بتصريح سادتهم وزعمائهم أمر بالانطلاق قائلاً: "سيروا وأبشروا فإن الله تعالى قد وعدني إحدى الطائفتين، والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم".([12])
وفي غزوة أُحُد :
لما علم المسلمون بتجهز قريش وتحركها لمقاتلتهم بالمدينة ، استشار عليه السلام عموم الصحابة ، فكان رأي أكثرهم الخروج لمناجزة المشركين خارج المدينة ، حتى لا يظن الأعداء وعموم العرب ، أن المسلمين ضعفوا وجبنوا . وكان رأي النبي وجماعةٌ من شيوخ الصحابه ، هو الـمُـكث في المدينة ، فإذا دخلها المشركون سهُل على جميع المسلمين الانخراط في قتالهم ، ومع ذلك فقد أخذ عليه الصلاة والسلام ، برأي الأكثرية المخالفة لرأيه.
وفي غزوة الأحزاب
لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن تحالف المشركين واليهود والمنافقين ، وحصارهم للمدينة ، قد أوقع المسلمين في خطر ماحق ، فكر في خطة يكسر بها هذا الحصار المطبق ، فلجأ إلى أضعف حلقاته ، قبيلة غطفان ، ففاوض زعماءهم ، وعرض عليهم الخروج من هذ الحلف مقابل ثلث ثمار المدينة لتلك السنة ، فقبلوا . لكنه اشترط مشاورة أهل الثمار، وهم الأنصار أهل المدينة . فلما عرض الأمر على زعماء الأنصار، سألوه إن كان هذا وحيا من الله فيطيعوه ، أو هو شيئ يحبه النبي ويرغب فيه فيلبوا رغبته ، أم هو شيئ يصنعه رفقا بهم وتخفيفا عليهم ؟ فلما أخبرهم أنه اجتهاد منه ليخفف عنهم وطأة الحصار ، قالوا ـ على لسان سعد بن معاذ ـ : "يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها إلا قرى أو بيعا، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا إليه، وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟! والله ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فأنت وذاك" فتناول سعد بن معاذ الصحيفة، فمحا ما فيها من الكتاب ثم قال: ليجهدوا علينا" ([13])
لقد كان بإمكان النبي الأمين ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جميع هذه الحالات ، وغيرها مما لم أذكره ، أن يستعمل صلاحيته النبوية ، أو صلاحيته القيادية ، فينفذ ما يراه بمفرده ، أو ما يراه وقلة من الصحابة ، ولكنه لم يكن يفعل. وإن في ذلك لمغزى ومنهجا ، يجب فهمه واتباعه.
——————————————————————————–
([1]) شرح اللمع 2/751
([2]) نقله ابن القيم عن البيهقي، أعلام الموقعين 4/122
([3]) العدة في أصول الفقه لأبي يعلى، 4/1301، وانظر جامع بيان العلم لابن عبد أبر 2/74
([4]) العدة لأبي يعلى 4/1300
[5] كشف الأسرار 6/155
([6]) المعتمد 2/182
[7] المبسوط 3 / 93
[8] انظرعلى سبيل المثال: الغياثي ، للجويني ص19 ومنهاج السنة ، لابن تيمية 1/526 ـ 527
[9] فضائح الباطنية 1 / 177
[10] : مصنف عبد الرزاق 5 / 330 ، والحديث في الترمذي ومسند الإمام أحمد ، وغيرهما
([11]) سيرة ابن هشام 2/653
([12]) المرجع السابق 2/653 ـ 654
([13]) سيرة ابن هشام 3/1033ـ 1034. وانظر البداية والنهاية ، لابن كثير 4/106
جاءت أحكام الشريعة تحقيقاً لمصالح العباد في الدنيا والآخرة , وقد وردت كثير من النصوص الدالة على أن الشريعة وُضعت لمصالح العباد في العاجل والآجل , نذكر منها قوله تعالى: { لعلكم تهتدون } [البقرة:53] وقوله سبحانه : { لعلكم تتقون } [البقرة:21] وقوله: { ولكم فيها منافع } [غافر:80] وغير ذلك من الآيات والأحاديث التي تفيد هذا المعنى.
ومن هذا القبيل، مشروعية العيد، فإن لمشروعيته حِكَماً ومقاصد، يمكن تلمُّسها وتدبرها من خلال النصوص الواردة، في هذا الشأن؛ ونحن نحاول تلمس شيء من ذلك – أخي الكريم – في المقال الذي بين يديك.
فمن أهم المقاصد التي شُرع العيد لأجلها، الالتقاء بين المسلمين والاجتماع فيما بينهم.
وأبرز ما يتجلى ذلك في صلاة العيد، وهم يذكرون الله واحد " الله أكبر الله أكبر"
وما يستشعره كل فرد منهم من رابطة الأخوة التي تجمع بينهم، والإيمان الذي يوحد قلوبهم، تحت راية واحدة، هي راية الإسلام، وشعار واحد هو شعار التوحيد" لا إله إلا الله"، ولأجل هذا المعنى كان من السُّنَّة أداء صلاة العيد في المصلى، حيث يجتمع معظم أهل البلد في مكان واحد، وعلى صعيد واحد، يؤدون صلاة العيد، ويتبادلون أطراف الحديث في أمر دينهم ودنياهم.
ومن مقاصد العيد إدخال الفرحة على المسلمين بعد أدائهم عباداتهم، فعيد الفطر يأتي بعد صوم شهر رمضان، وعيد الأضحى يأتي بعد انقضاء أعظم أركان الحج وهو يوم عرفة، فالعيد مرتبط بالعبادة ولصيق بها، وفي ذلك إشارة عظيمة أن تعب المتعبدين يأتي بعده الفرح والسرور، وأن العيد إذا كان جائزة المتعبدين في الدنيا، فإن الجائزة الكبرى في الآخرة جنات تجري من تحتها الأنهار.
ومن مقاصد العيد أنها تفتح مجالاً لوصل ما انقطع بين الأرحام والأقارب والأصدقاء، فليس هناك وقت تصفو فيه النفوس، وتقبل على بعضها كأيام العيد، فهي أيام حري بكل ذي حقد على إخوانه أن ينبذه، وبكل من طبعت علاقته بأهله شائبة أن يزيلها، فتتآلف القلوب وتتعانق الأرواح في سماء المحبة والإخاء.
ومن مقاصد العيد أن يحيى الفقراء المسلمون جميعاً في كفاف من قوتهم ولبسهم، فيفرحون بالعيد كما يفرح غيرهم، ويلبسون الثياب النظيفة كما يلبس غيرهم، ولا يتعرضون لذل السؤال، لذلك شرع الله صدقة الفطر لمواساتهم؛ كما ورد في الحديث عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : ( فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر، وقال أغنوهم في هذا اليوم )رواه الدار قطني ، وفي سنده ضعف.
ومن مقاصد العيد المعتبرة، تغيير نمطا الحياة المعتادة، وكسر رتابتها الثابتة، وذلك أن من طبيعة النفس الإنسانية أنها تحب وتتطلع دوماً إلى تغيير ما اعتادته وألفته من عادات، فكان العيد مناسبة لتغيير نمط الحياة، بحيث يشعر المسلم في هذه المناسبة بصلة جديدة مع من حوله، ويحس واقعاً متجدداً من الحياة.
ومن مقاصد العيد التوسعة على المسلم باللهو المباح، يرشدك لهذا المعنى قوله عليه الصلاة والسلام لـ أبي بكر رضي الله عنه، وقد دخل على عائشة رضي الله عنها في يوم عيد ووجد عندها جاريتين تغنيان، فأنكر عليها ذلك، فأشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم دعهما ، والحديث في "الصحيحين" و المراد من قوله عليه الصلاة والسلام : ( دعهما) مراده صلى الله عليه وسلم أن لكل قوم في عيدهم فرحاً ومسرة وشيئاً من اللهو، فهذاإعلام بالرخصة في غناء الجاريتين، لأجل كون اليوم يوم عيد. وقد اشترط أهل العلم أن يكون الغناء من جاري وهي ما دون سن البلوغ من النساء وكذا أن يكون الغناء كغناء يوم بعاث , غناء حماسي وعفيف دون أدوات موسيقية أو مزامير ، فتبين من ذلك أن من جملة المقاصد في تشريع العيد إجمام النفوس وارتياحها.
وقريب مما تقدم، كان من مقاصد العيد مباسطة الأهل ومداعبتهم والتوسعة عليهم، خاصة بعد أن أختل ميزان العلاقات الاجتماعية، إذ باعدت تكاليف الحياة وشؤونها وشجونها بين الأب وأبنائه، وبين الزوج وزوجته، وبين الإنسان وأرحامه؛ فيأتي العيد لِيُعيد شيئاً من ذاك التوازن المفقود، ويصحح الوجهة وفق الهدف المنشود.
فهل يتنبه المسلمون لهذه المعاني الرفيعة في شرعية العيد، فيلتمسوها ويمتثلوها { إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد } [ق:37].
في فلسطين زاد أي زاد، زاد للإيمان والقلب، وزاد للعقل والفكر، فيها زاد لكل المتزودين وعبرة لكافة المعتبرين.
في الجزيرة العربية وفي الجزائر والمغرب يكتشفون آبار النفط والغاز ومناجم الفحم والفوسفاط، ويجدون منها زادا يكفي لجيل أو جيلين من حاجات البلد بيعا واستهلاكا.
أما في فلسطين فنكتشف ويكتشف العالم آبار الإيمان والإسلام، ومناجم العزة والكرامة، ومعادن الرجولة والبطولة.
من فلسطين تتدفق الأنابيب الساخنة المليئة بالآمال والبشائر، وتتعالى أصوات المستضعفين من الشيوخ والنساء والولدان، لتقول لنا ولكل من يعنيهم الأمر:
إذا الشعب يوما أراد الحياة
فلابد أن يستجيب القدر
ولابد لليل أن ينجلي
ولابد للقيد أن ينكسر
فهذا هو زاد فلسطين الذي يتزود منه اليوم جميع المسلمين، وهو يكفي لكي تتزود منه أجيال بعد أجيال. فتزودوا منه يرحمكم الله، وتشبعوا وتضلعوا، وتفكروا وتدبروا…
هذا الشعب الصغير الفقير، يواجه منذ سبعين سنة الحركة الصهيونية والمنظمات اليهودية، بكل أموالها وممتلكاتها في العالم، وبكل تغلغلها ونفوذها وتحكمها في العديد من دول العالم ومنظماته، ويواجه منذ أكثر من نصف قرن دولة الاغتصاب والإرهاب، بجيشها الجهنمي وجبروتها الفرعوني، ويواجه حرب إبادة وتهجير وتجويع وتعذيب، تستعمل فيها وتجرب فيها كل الأسلحة الحديثة الجديدة، ويواجه هذا الكيان المدعوم إلى حد الاحتضان والتبني من طرف دول هي أعتى وأقوى وأغنى الدول في العالم.
يواجه هذا الشعب الصغير الفقير حصارا وضغطا وقمعا وخنقا تمارسه عليه دول شقيقة لصيقة. وقد تعرض للتقتيل مرارا في لبنان، وتعرض للتقتيل في الأردن، ويخضع للإقامة الجبرية المحروسة في سوريا، ويتعرض للقهر والتطويع والتطبيع قسرا على يد سلطته "الوطنية"
هذا الشعب الصغير الفقير تقدم له الشعوب العربية والإسلامية الكثير من العطف والحنانومن الإهمال والخذلان، والقليل من العون والإحسان.
ومع ذلك نجد هذا الشعب الصغير الفقير يقدم للأمة الإسلامية قاطبة زادا متدفقا في الصبر والمصابرة، في التضحية والفداء، وفي العطاء بعد العطاء، حتى نحسبه لكثرة البلاء والعطاء أنه قد دخل مرحلة الفناء، فإذا به يضخ إليناـ حينا بعد حين ـ زاده وعطاءه. ألا فتزودوا من شعب فلسطين.
في القرآن الكريم سورتان متشابهتان ومتجاورتان في الزمان والمكان، هما سورة المزمل وسورة المدثر. فأما تشابههما فحسبنا منه التشابه اللفظي والمعنوي في الاسم المأخوذ من نداء الافتتاح لكل منهما (يا أيها المزمل) (يا أيها المدثر) وكذلك ابتداء كل منهما بالأمر بالقيام.
وأما تجاورهما في الزمان فهو نزولهما متتابعتين أو متقاربتين ضمن أول ما نزل من القرآن الكريم. وأما تجاورهما المكاني فأعني به تتابعهما في ترتيب السور بالمصحف الشريف، مع أن كثيرا من سور القرآن وآياته تتابعت عند النزول وتباعدت عند الترتيب.
ما أريد الوقوف عنده في أمر السورتين الكريمتين هو الأمر بالقيام الوارد في مطلع كل منهما:
ـ (يا أيها المزمل قم الليل…)
ـ (يا أيها المدثر قم فأنذر…)
أمران بلفظ واحد، لكن في اتجاهين مختلفين. أما الأمر الأول (قم الليل) فقد أصبح له شأن وذكر في الدين والتدين، وفي التعبد والتقرب، وفي التربية والتزكية. وأصبح له اسمه الخاص به الدال عليه بلا غموض ولا التباس، وهو "قيام الليل".
وأما الأمر الثاني (قم فأنذر) فلم يحظ بشيء مما حظي به الأمر الأول، ولذلك فهو قصدي في هذه الورقة من "أوراق التجديد".
لقد كان المفروض بالنظر إلى سورة المدثر ومطلعها، ومقارنتها مع شقيقتها سورة المزمل ومطلعها، أن نتحدث عن "قيام النهار" مثلما نتحدث عن "قيام الليل" وإذا كان مضمون قيام الليل هو الصلاة والذكر والتلاوة (قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا) فإن قيام النهار هو الدعوة بكل صيغها وما تتطلبه من مجاهدة ومكابدة (قم فأنذر وربك فكبر وثيابك فطهر والرجز فاهجر ولا تمنن تستكثر ولربك فاصبر) وسورة المزمل التي جاءت بقيام الليل هي نفسها لم تلبث أن وجهت الأنظار إلى قيام النهار قبل أن تصرح به شقيقتها المزمل. فبعد قوله تعالى تنويها بقيام الليل وأهميته (إن ناشئة الليل هي أشد وطئا وأقوم قيلا) أضاف سبحانه (إن لك في النهار سبحا طويلا).
قال العلامة ابن عاشور يوضح مغزى هذه اللفتة القرآنية (فيتحصل من المعنى: قم الليل، لأن قيامه أشد وقعا وأرسخ قولا، ولأن النهار زمن فيه شغل عظيم لا يترك لك خلوة بنفسك، وشغل النبي صلى الله عليه وسلم في النهار بالدعوة إلى الله وإبلاغ القرآن وتعليم الدين ومحاجة المشركين وافتقاد المؤمنين المستضعفين فعبر عن جميع ذلك بالسبح الطويل) التحرير والتنوير ج 92 ـ ص 462.
وكما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشغل جزءا من ليله في قيام الله، فقد كان يشغل عامة نهاره بقيام النهار، وفي مواجهة المناوئين له المتكتلين ضده (وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبَدا قال إنما أدعو ربي ولا أشرك به أحدا).
وإذا كان "قيام الليل" له ماله من عظيم الفضل وعظيم الأثر في التربية والتزكية فإن حكمه في الدين يبقى في حدود الندب والترغيب، ويبقى مجاله الزمني في حدود جزء من الليل يزيد أو ينقص، أما "قيام النهار"، بما هو دعوة وتبليغ، ومجاهدة ومكابدة، ومجادلة ومجالدة، يتضمن عددا من الفرائض والواجبات، فضلا عن مندوباته ومستحباته، لذلك فهو ألزم وآكد، ولذلك كان زمانه والقيام به "سبحا طويلا".
إننا اليوم ـ وفي هذه الأيام بالذات ـ بحاجة إلى إحياء قيام النهار واستعادة مكانته وفاعليته. إننا بحاجة إلى قيام الدعوة مثلما نحن بحاجة إلى قيام الدعاء. إننا بحاجة إلى الأعمال المكونة لقيام النهار (قم: فأنذر- وربك فكبر- وثيابك فطهر- والرجز فاهجر- ولا تمنن تستكثر) مثلما نحن بحاجة إلى الأعمال المكونة لقيام الليل (الركوع- السجود- التلاوة- الذكر- الدعاء). بل الأعمال الأولى هي أوجب في الشرع وآكد في الواقع.
مما لا نزاع فيه ولاشك، أن المذهب المالكي هو أحد الأركان الكبرى التي قام عليها الكيان المغربي، وإحدى السمات البارزة للمغرب منذ ما يزيد عن عشرة قرون، وما فتئ علماء المغرب وملوكه وزعماؤه يشهدون ويؤكدون أن المغرب مدين في وحدته وتماسكه وانسجامه واستقراره إلى المذهب المالكي، وأن وحدته المذهبية هذه أعطته قوة وصلابة وتميزا ثقافيا وسياسيا واجتماعيا، قلما حظي به قطر إسلامي آخر.
لقد وحد المذهب المالكي في المغرب العلماء فيما بينهم، ووحد العلماء والأمراء، ووحد العامة والخاصة، بمختلف طوائفهم وانتماءاتهم. فقد دمج بين المحدِّثين والمتكلمين، وبين الأشاعرة والسلفيين، واستوعب الصوفية بكافة طرقهم ومسالكهم. واستوعب خصوم الأشعرية والتصوف أيضا، فهؤلاء جميعا عرفهم تاريخ المغرب، فاختلفوا وتنافسوا، وربما تصارعوا وتعاركوا، ولكنهم جميعا كانوا مالكية، ويسلمون للمذهب المالكي، حتى صارت "الوطنية المغربية" هي "المذهب المالكي".
ويظن بعض الناس أن قوة المذهب المالكي وهيمنته بالمغرب، إنما تحققت بفضل ترسيمه ونصرته من بعض الدول الحاكمة التي اعتمدته مذهبا رسميا في التدريس والقضاء والإفتاء. ولا شك أن شيئا من هذا صحيح، ولكن الصحيح الأصح هو أن للمذهب المالكي أهليته وقوته الذاتية، وله علماؤه وفقهاؤه الذين استماتوا ـ وأحيانا ماتوا ـ دفاعا عنه ودفاعا عن حق المغاربة في التمسك به والتوحد حوله.
إن قوة المذهب المالكي الحقيقية إنما ترجع إلى قدرته على الاجتهاد والتجدد، من خلال أصوله وقواعده التي تجعله أقدر المذاهب على استيعاب التطورات والمستجدات، كما ترجع إلى ريادته في الأخذ بمقاصد الشريعة المستمدة من نصوصها، إذ لا مقاصد بلا نصوص. كما لا نصوص بلا مقاصد.
وإذا كانت بعض الدول قد خدمت المذهب المالكي بتبنيها له ودفاعها عنه، فإنها لا شك قد استفادت منه ومن قوته ومن علمائه أكثر مما أفادته.
على أن من أعظم تجليات القوة الذاتية للمذهب المالكي والرسوخ الذاتي له بالمغرب ـ وبالغرب الإسلامي عامة ـ هو تلك الحملات الشرسة التي استهدفته وحاولت استئصاله. وأخبثها وأشدها ما قامت به الدولة العبيدية (المتشيعة) التي قامت في مصر، ثم امتد نفوذها وشرها إلى بقية أقطار شمال إفريقية، بما فيها المغرب.
وقد أصيب فقهاء المذهب المالكي على يد العبيديين وأعوانهم بشتى صنوف الضغط والقمع والترهيب؛ من سجن وقتل وتعذيب وتهديد… فصمدوا وتحملوا، حتي ذهب العبيديون، وبقي المذهب المالكي قويا راسخا.
وفي المغرب خاصة ـ حاول الموحدون ـ وهم في أوج قوتهم وشعبيتهم ـ إقصاء المذهب المالكي والقضاء عليه ومحوه من المغرب. وقد قام ملوك الموحدين الأوائل بضغوط وحملات شديدة ضد المذهب المالكي وفقهائه، فهددوا وعذبوا وسجنوا وقتلوا، وزادوا فأحرقوا قناطير مقنطرة من كتب الفقه المالكي، ثم في النهاية انتصر المذهب واستسلمت الدولة الموحدية أمامه.
ومن اللحظات التاريخية الشهيرة في حرب الموحدين ضد المذهب المالكي، ما رواه المؤرخون عن الفقيه المالكي أبي بكر بن الجد، قال: "لما دخلت على أمير المؤمنين أبي يعقوب أول دخلة دخلتها عليه، وجدت بين يديه كتاب ابن يونس (في الفقه المالكي)، فقال لي: يا أبا بكر أنا أنظر في هذه الآراء المتشعبة التي أحدثت في دين الله، أرأيت يا أبا بكر المسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أقوال أو أكثر من هذا، فأي هذه الأقوال هو الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ به المقلد؟ فافتتحت أبين له ما أشكل عليه من ذلك، فقال لي ـ وقطع كلامي ـ: يا أبا بكر، ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا، وأشار إلى كتاب سنن أبي داود، أو السيف". (انظر كتاب: العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين، للعلامة المرحوم محمد المنوني).
وإذا كان خصوم المذهب المالكي من الموحدين قد حاولوا أن يفرضوا على العلماء التخلي عن المذهب وفقهه والاقتصار على ظاهر القرآن والسنة، وإلا فالسيف" هذا، أو هذا، أو السيف"، فإن للمذهب المالكي وللفقه المالكي ـ والفقه الإسلامي عامة ـ اليوم خصوم لا هم من الموحدين، ولا هم يعترفون أصلا بالكتاب ولا بالسنة. وإذا كان الخليفة الموحدي قد خير الفقهاء بين "هذا، أو هذا، أو السيف" فإن الخصوم من غير الموحدين اليوم يقولون للفقهاء: "لا هذا ولا هذا، وإنما هو السيف"، سيف العلمانية، وسيف "المواثيق المزعومة"، والحداثة الموهومة، وسيف الاستئساد بالضغوط والتدخلات الأجنبية. عن هؤلاء "المغاربة الأجانب" يقول العلامة الأستاذ علال الفاسي رحمه الله: "فقد أصبح هؤلاء يعتقدون في القاضي الأجنبي والقانون الأجنبي واللسان الأجنبي، أكثر مما يعتقدون في أنفسهم وفي مقدساتهم، زيادة على ما أصبح يربط بعضهممع الأجانب من رباط مادي ومصلحة شخصية، لا يبالون أن يقفوا من أجلها في صف الدفاع عن مخلفات الاستعمار" (دفاع عن الشريعة ص 23).
إن معركة الشريعة الاستعمارية ضد الشريعة الإسلامية تعود إلى بداية الاستقلال، وإلي ما قبل الاستقلال، وكان علال الفاسي قد عبر بمرارة شديدة عن دهشته وخيبة أمله، حين نجح أنصار الشريعة الاستعمارية وممثلوها بالمغرب في إيقاف عملية أسلمة القوانين المغربية ـ التي انطلقت بعد الاستقلال ـ وحصْرِها في الأحوال الشخصية. قال رحمه الله: "ولم يكن يخطر ببال جلالته (يقصد محمد الخامس رحمه الله) ولا ببالنا، نحن أعضاء لجنة التدوين الذين شرفهم جلالته بتعيينهم لأداء هذه المهمة، أن عملنا سيقتصر على مجرد الأحوال الشخصية. والدليل على ذلك أننا اشتغلنا في قسم "الأموال" بعد إنجازنا لـ"الأحوال". ولكن قسم التشريع بالكتابة العامة (الأمانة العامة للحكومة) الذي يشرف عليه لحد الآن فنيون فرنسيون أوقف أمر البت فيه، وترتب على ذلك أن توقف سير التدوين في بقية أبواب الفقه الأخرى" (دفاع عن الشريعة ص 71).
لكن ما لم يخطر على بال علال الفاسي وأمثاله من العلماء والمجاهدين من أجل استقلال المغرب وسيادته وإسلاميته، هو أن تمتد مطاردة الشريعة الإسلامية وأحكامها حتى في مجال "الأحوال الشخصية" الذي تم استثناؤه وانتزاعه من براثن الشريعة الاستعمارية.
فها هم المتغربون من الجيل الثاني والثالث لا يرون أي فائدة وأي معنى لمراجعة مدونة الأحوال الشخصية سوى إخضاعها لمقتضيات الشريعة الاستعمارية والقضاء على صبغتها الإسلامية.
كل هذا جرى ويجري في المغرب المسلم، قلعة المذهب المالكي عبر التاريخ، وفي مؤسسات الدولة التي ظل المذهب المالكي علي الدوام أحد مقومات وجودها واستقرارها، ومازال ملوكها يعلنون اعتزازهم وتمسكهم بذلك. وللأسف فإن بعض المسؤولين قد جعلوا من "المذهب المالكي" مجرد شعار سياسي لمواجهة "الأصوليين" ومحاصرة "الوهابيين" وقمع "المتطرفين"، وبعضهم جعل منه مجرد سند إداري لعزل بعض الخطباء وتهميش بعض العلماء.
فإلى متى سيستمر الاستخفاف بالمقدسات وتحطيم المقومات، ضدا على إرادة الشعب المغربي المسلم تارة، وفي غفلة منه تارة أخرى؟؟
أن الفقه الحق لا بد أن يكون واقعياً، يعرف الواقع ولايجهله، يلتفت إليه ولايلتفت عنه، يُعمله ولايهمله، يبني عليه ولا يبني في فراغ. ويتم ذلك على وجوه، منها:
1 – تحقيق المناط:
ولست أعني به المعنى الضيق الذي ينحصر في الكشف عن وجود علة الأصل في الفرع لاجراء القياس به. ولكني أعني به معرفة المحكوم فيه على حقيقته، ومعرفة ما يدخل فيه وما لايدخل فيه. وهذا يقتضي المعرفة الجيدة بالواقع ومكوناته، وبالأشياء وأوصافها، وبالأفعال وأسبابها وآثارها… إذ من دون هذا يمكن أن يقع تنزيل الأحكام على غير ما وضعت له، أو على أكثر مم وضعت له، أو على أقل مما وضعت له، ويمكن أن يقع تعطيل الحكم مع وجود محله ومناطه.
وحين يغيب تحقيق المناط نرى ناساً ينفذون الحدود في غير موضعها، وآخرين يضعون القتال في غير موضعه، وغيرهم يضعون السلم في غير محله.
ولقد ذهب الامام الشاطبي في تحقيق المناط مذهباً فذاً وارتقى به مرتقى صعباً، وهو الذي سماه (تحقيق المناط الخاص)، وهو الذي لايكتفي المجتهد فيه بتحقيق المناط بصفة عامة وإجمالية، وتنزيل الأحكام والتكاليف على من هم داخلون تحت عموم مقتضياتها، وإنما ينظر في الحالات الفردية ويقدر خصوصياتها وما يليق بها ويصلح لها في خصوصياتها تلك.
فإذا كان تحقيق المناط العام يقتضي معرفة الواقع في عمومه، ومعرفة الحالات في إجمالها، فإن تحقيق المناط الخاص يقتضي معرفة الواقع الخاص ومقدار خصوصيته وما تستوجبه تلك الخصوصية في ميزان الشرع. بعبارة أخرى: فإن المجتهد صاحب تحقيق المناط العام يجتهد لقضايا موصوفة مبينة، وصاحب المناط الخاص يجتهد لحالات معروفة معينة.
فالنظر الأول «نظر في تعيين المناط من حيث هو لمكلف ما».
وأما النظر الثاني فهو «نظر في كل مكلف بالنسبة الى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية…» وهو نظر «فيما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص… فصاحب هذا التحقيق الخاص هو الذي رزق نوراً يعرف به النفوس ومراميها، وتفاوت ادراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها او ضعفها، ويعرف التفاتها الى الحظوظ العاجلة او عدم التفاتها. فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناءً على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكليف…».
ومما يدخل في هذا الباب مراعاة الإمكان، أي تقديرها مايمكن وما لا يمكن، وتقدير حدود الإمكان فيما هو ممكن. ذلك أن التكليف الشرعي يدور مع القدرة والإمكان وجوداً وعدماً وقدراً. وإذا كان (الميسور لايسقط بالمعسور) فإن (المعسور لايُلحق بالميسور). وتمييز ما هو مقدور مما ليس بمقدور، وما هو معسور مما هو ميسور يحتاج الى دراية بالواقع وأهله.
والمقصود عندي هو أن الفقيه المجتهد لكي يتمكن من تحقيق المناط، سواء في مستواه العام أو في مستواه الخاص، لابد له أن يكون عارفاً خبيراً بصيراً بالواقع الذي فيه يجتهد وفيه يفتي، ولابد له أن يستحضره ويأخذه بعين الاعتبار وهو يجتهد ويفتي.
2- اعتبار المال:
ومعناه النظر فيما يمكن أن تؤول إليه الأفعال والتصرفات والتكاليف موضوع الاجتهاد والافتاء والتوجيه، وإدخال ذلك في الحسبان عند الحكم والفتوى.
واذا كان تحقيق المناط يقتضي معرفة ما هو واقع، فإن اعتبار المآل يقتضي معرفة ما هو متوقع، أي ما ينتظر أن يصير واقعاً. ومعرفة ما هو متوقع لا تأتي إلا من خلال المعرفة الصحيحة والدقيقة بما هو واقع. ومن هنا فإن معرفة المآل، واعتبار المآل جزء من معرفة الواقع وثمرة من ثمراتها.
3- مراعاة التغيرات:
الواقع كالنهر الجاري الذي قيل عنه: (إنك لاتستحم في نهر مرتين). ففي كل مرة تستحم فيه، تكون في نهر جديد، أي ماء جديد غير الذي استحممت به سابقاً. وكذلك الواقع، ففي كل يوم، بل في كل لحظة، واقع جديد، يختلف كثيراً أو قليلاً عن سابقه.
نحن لايعيننا الآن ما يعرفه الواقع في كل يوم وفي كل لحظة من تغيرات طفيفة وبطيئة، ولكن تعنينا التراكمات التي تتجمع من خلال تلك التغيرات الطفيفة والبطيئة. كما تعنينا التغيرات الكبيرة والعميقة التي قد تحدث أحياناً في وقت وجيز، وبعبارة أخرى: تعنينا التغيرات المؤثرة سواء جاءت بطيئة أو سريعة.
هذه التغيرات اذا أصابت أموراً هي مناط لبعض الأحكم فلابد أن تتغير تلك الأحكام التي تغيرت متعلقاتها.
الحديث الآن إنما هو عن الجوانب الأخرى، الجوانب المتغيرة والمتقبلة في حياة الناس. فهذه هي التي يحتاج الفقيه الى معرفتها ورصد تغيراتها، وتقدير حجم التغيرات، ومدى تأثيرها فيما بنيت عليه الأحكام منها.
فاذا ثبت أن الاعتبارات التي تغيرت، كانت هي مناط الحكم، وعليها ولأجلها وضع الحكم، فلابد للفقيه ان يعيد النظر في ذلك الحكم، موازناً بين ما تغير وما جدَّ لتقرير الحكم الملائم للوضع الجديد وللحالة الجديدة، ذلك أن الحكم الذي وضعه الشرع، أو اجتهد فيه المجتهدون، لم يوضع للحالة الجديدة التي بين أيدينا.
وإذا كانت الشريعة قد أخذت بمبدأ النسخ، بين شريعة وأخرى، وفي الشريعة الواحدة، أفلا نعتبر بذلك ونستفيد من هذا النهج؟
طبعاً ليس لأحد من الناس، ولا لجماعتهم، حق نسخ شيء من الأحكام المنصوصة، ولكن أخذ العبرة من مبدأ النسخ يفيدنا في أن الأحكام الشرعية تأخذ بعين الاعتبار الظروف والأحوال التي تتنزل عليها وتطبق فيها، وأن التغيرات اذا أصابت ماله شأن ووزن في وضع الأحكام، مأخوذة أيضاً بين الاعتبار.
ومما هو مسلم به في هذا الباب – على الأقل من الناحية المبدئية والنظرية – أن ما بني على أعراف وعادات، فإنه يتغير بتغيرها.
أهم مؤسسة عمومية في الإسلام هي مؤسسة المسجد، وإذا كان الحديث النبوي الشريف قد أنبأنا عن أكثر عرى الإسلام صلابة وصمودا، وآخرها انتقاضا واختلالا، ألا وهي فريضة الصلاة، فإن هذه الفريضة تتوقف إقامتها ودوامها على إقامة المساجد ودوامها.
وإلى هذا، فإن الآثار الإيجابية للمسجد تنعكس وترجع بالفائدة على الدين كله، إذ في المسجد يتعلم الناس دينهم ويقوون إيمانهم، وفيه يتلقون قرآنهم وسنتهم، وفيه يعرفون أحكام شريعتهم، وفيه يتلقون الوعظ والإرشاد والهداية والسداد، وفيه يتلقون ويتعارفون، فيتآلفون ويتعاونون، وإليه يأوي الضعيف والفقير وابن السبيل.
وارتبطت بالمسجد ـ من أيامه الأولى ـ وظائف ومصالح كثيرة تتحقق فيه ومن خلاله الجماعة المسلمة، إلى حد أستطيع أن أقول معه: إن قيام المساجد في أي بلد إسلامي ـ أو في العالم الإسلامي ـ أهم عندي من قيام الخلافة!
هذه المؤسسة العظمى، لا يتوقف وجودها ولا استثمارها ولا تسييرها على دولة ولا حكومة، نعم يمكن لأي دولة أن تساعد وتساهم قليلا أو كثيرا. وهذا جيد ومفيد، ولكن ليس عن هذا أتحدث…
إن الأمة الإسلامية، في كافة أقطارها، وكافة مدنها وقراها، قد تكلفت عبر تاريخها الطويل، بإقامة هذه المؤسسة، إقامة مادية ومعنوية، فإقامة المسجد، وعمارته وصيانته، وتسييره وتدبير شؤونه، هي مسؤولية الجماعة ووظيفة الجماعة.
فالمسجد مؤسسة جماعية…وملكية جماعية، لا يملكه شخص، ولا يتحكم فيه شخص ولا مجموعة أشخاص، إلا بمقدار ما تكلفهم أو تفوضهم جماعة المسجد.. والمسجد كما هو معلوم يسمى "بيت الله"، حتى لا يظن أحد أن له عليه تملكا خاصا، لكونه مثلا: بناه، أو موله، أو ينفق عليه، أو يؤم فيه، أو يقع في دائرة إمرته، أو تحت وصايته.
المسجد ليس ملكا لبانيه، وليس ملكا للدولة، وليس ملكا لوزارة الأوقاف. بل هو لله تعالى. وما كان لله تعالى فهو لعامة عباده. والمحبسون حينما يحبسون المساجد، فإنهم يجعلونها أساسا لجيران المسجد وأهل منطقته القريبين منه.
ولهذا فالمسجد في أي حي أو قرية أو بلدة، إنما هو شأن مشترك بين أهل الحي أو القرابة أو البلدة، ممن هم رواده وعماره، وشؤونه داخلة في قوله تعالى: (وأمرهم شورى بينهم)، فيجب أن يكون مؤسسة للشورى المباشرة اليومية. والأحاديث النبوية تدفع في هذا الاتجاه وترشد إليه وترشده.
فمن ذلك نهيه صلى الله عليه وسلم من كان أجنبيا عن المسجد وأهله عن أن يتقدم لإمامتهم. لأن الأصل في الإمام أن يكون من أهل المسجد ومن أهل البلد. فعن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من زار قوما فلا يؤمهم، وليؤمهم رجل منهم" (1).
وكان الصحابي مالك بن الحويرث إذا زار مسجدا للوعظ والتعليم، فقدمه أهل المسجد، امتنع عن إمامتهم واستدل بهذا الحديث (2)
وقد وردت عدة أحاديث يعضد بعضها بعضا ـ من حيث الثبوت ـ يلعن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أم قوما وهم له كارهون" (9).
قال الإمام الترمذي في جامعه "كره قوم من أهل العلم أن يؤم الرجل قوما وهم له كارهون. فإذا كان الإمام غير ظالم فإنما إثمه على من كرهه". وقال أحمد وإسحاق في هذا: "إذا كره واحد أو اثنان أو ثلاثة فلا بأس أن يصلي بهم، حتى يكرهه أكثر القوم" (10).
ومعنى هذا أن الإمام يجب أن يكون مقبولا لدى أهل المسجد كلهم أو معظمهم على الأقل. أما أن يفرض عليهم، أو يفرض نفسه عليهم وهم له كارهون، فهذا لا يجوز ولا يصح.
ومن هذا الباب يصبح لزاما على جمهور أي مسجد أن يتشاوروا ويتداولوا في اختيار إمامهم وتغييره عند الاقتضاء. ولكن أيضا لابد للسلطة المشرفة على المساجد أن تتيح هذه الفرصة للناس، وأن تسهم في تنظيم هذا السلوك والتشجيع عليه، بدل إلغائه لفائدة التعيين المركزي والتسيير المركزي، الذي أصبح عاجزا ومتجاوزا.
لقد أثبتت التجارب القديمة والحديثة نجاعة الاعتماد على السكان في إقامة مساجدهم وعمارتها وتسييرها بأنفسهم، وتعرف اليوم تجربة التشييد والتسيير الجماعي ـ والجمعوي ـ للمساجد انبعاثا ونجاحا ظاهرين، سواء بالمغرب أو بغيره من الأقطار. كما تثبت التجربة الفعلية أيضا أن المساجد المسيرة أهليا ومحليا عادة ما تكون أكثر حيوية وفاعلية في وظائفها ورسالتها، وأكثر كفاية في حاجياتها المادية والمعنوية.
وكأنه النبع الذي لاينضب زلاله…قرأت وقرأت …وسأعود لأقرأ كلما سنحت الفرصة جزاك الله كل خير عنا أيتها الزميلة الفاضلة..
موضوع رائع و جميل
بارك الله فيك فعلا استفدت منه و يستحق الحفظ و المراجعة
جعله فى ميزان حسناتك و حسنات و الديك
بارك الله فيك الاستاذة الفاضلة
اتمنى ان يثبت هذا الموضوع الثري والقيم لتعميم الاستفادة
بارك الله فيك