الرياضيات:
الإشكالية :فلسفة العلوم
ما موضوع الرياضيات وما منهجها؟
من المعلوم أن كل علم يتميز عن غيره من العلوم الأخرى بموضوعه ومنهجه بل إن منهج كل علم يتاثربطبيعة موضوعه ومنه نطرح السؤال التالي ما موضوع الرياضيات وما منهجها؟
ما موضوع الرياضيات؟
إذا كان موضوع العلوم التجريبية هوا لظواهر الحسية القابلة للملاحظة فان موضوع الرياضيات غير هذا تماما، لأنها تبحث في المقادير القابلة للقياس أي الكم ،لهذا تسمى الرياضيات بعلم الكميات،إذن فموضوعها هومجموعة من المفاهيم الكمية المجردة التي ليس لها ما يقابلها في العالم الحسي،فالعدد 2 أو الرمز س والنقطة لاتنطبق على شيء معين في الواقع بل تنطبق على مالانهلاية من الأشياء،لأن الرياضيات مفاهيم عقلية مجردة ينشئها الذهن ويجرّدها من كل اعتبار حسي،والكم نوعان:
1/الكم المنفصل:وهوالكم الذي تكون وحداته منفصلة،يزيد وينقص وفق متتالية حسابية وميدانه علم الحساب أوعلم الجبر.
2/الكم المتصل:وهوالكم الذي تكون وحداته متصلة أوبين وحداته حدود مشتركة،يزيد وينقص وفق متتالية هندسية وميدانه الهندسة.
ما منهج الرياضيات؟
إذا كان موضوع الرياضيات عقلي مجرد (الكم)،فإن منهجها يكون منهجا عقليا،ويسمى بالبرهان أو الاستنتاج (الاستدلال الاستنتاجي): فعندما تكون لدينا قضية رياضية نريد البرهنة عليها أي قضية مجهولة ،فإننا نلجأ إلى ربطها بقضية بقضية واضحة بسيطة (يقبلها العقل بدون برهان)، فإذا تحقق لنا ذلك تصبح القضية المراد إثباتها (المجهولة) قضية معلومة وواضحة،وكل استنتاج رياضي هوبرهان يتضمن لزوم النتيجة عن المقدمات،فالرياضي عندما يريد أن يبرهن على صحة قضية ما فانه يعتمد في ذلك على مبادئ هي مقدمات وتلك القضية هي النتيجة.فماهي مبادئ الاستدلال الرياضي؟
إن الاستدلال الاستنتاجي هو استدلال يعتمد بالضرورة على منطلقات أولية أو مبادئ وأسس لإقامة البرهان على صدق أو كذب قضية مطروحة للحل وتتمثل هذه المبادئ في:
أ/ مبادئ الرياضيات الكلاسيكية التقليدية: تعتمد الرياضيات التقليدية مجموعة مبادئ وضعها العالم اقليدس306ق.م283ق.م تتمثل في:
– البديهيات : قضايا أولية بسيطة صادقة بذاتها، واضحة لا تحتاج إلى برهان ، يصدق بها العقل دون برهان،تفرض نفسها على جميع العقول لأنها منطقية وأي محاولة للبرهنة تقتضي الاستناد إليها،من بينها:
* الكل اكبر من الجزء لا *الكميتان المساويتان لكمية ثالثة متساويتان
*إذا أضيفت كمية ثابتة لطرفين متساويين لن يغير من تساويهما
– المسلمات/المصادرات/ الموضوعات : وهي قضايا غير واضحة بذاتها،تحتاج إلى برهان،لكن يسلم العقل بصدقها لكي يستطيع بناء البرهان الرياضي ،ولكي يرى ما يترتب عليها من نتائج،لذا فهي من وضع العقل أو من صنع العقل كالافتراضات ينشئها الخيال الرياضي ، صادقة بالنظر إلى ما يؤسس عليها من بنيان رياضي متماسك.من بينها مسلمات إقليدس:
* من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نرسم سوى مستقيم واحد مواز له.
* الخطان المتوازيان لا يلتقيان مهما امتدا
* المكان ذوثلاثة أبعاد : طول عرض ارتفاع
– التعريفات :وهي قضايا يضعها العالم قصد تحديد خواص الموضوعات التي يدرسها أي تحديد المفاهيم الرياضية وخواصها،ولا تدخل المفاهيم مجال البحث الرياضي إلا إذا صاغها العقل صيغة عقلية تجريدية بعيدة عن واقع التجربة.وهو نوعان:
* التعريف التحليلي:ويكون بذكر خصائص المعرف أو الموضوع، مثال ذلك:المثلث شكل هندسي ذو ثلاث أضلاع وثلاث زواياه مجموعها يساوي قائمتين.
*التعريف الإنشائي/التركيبي:وهو التعريف القائم على أساس تركيب الموضوع،مثال ذلك: النقطة هي حاصل التقاء خطين،مربع العدد هو حاصل ضرب العدد في نفسه،الخط هو حركة نقطة إلى مالا نهاية.
أساليب البرهنة وفي الرياضيات:
إذا كان العالم الرياضي يلجأ إلى مجموعة من الأسس والمبادئ لإثبات القضايا ،فكيف يتم الانتقال منها إلى النتائج التي تلزم عنها،وما هي أساليب البرهنة الرياضية؟ إن للرياضي طريقتين في إثبات قضاياه وبنائها:التحليل والتركيب.
أ/البرهان التحليلي: ويقوم على إرجاع القضية المعقدة و المراد إثباتها إلى قضايا أخرى معروفة لدينا أبسط منها وسبق لنا إثباتها،وهواستنتاج ينتقل من النتائج إلى المبادئ أي من القضية المعطاة وصولا إلى القضية المبدأ التي لا يمكن تحليلها إلى قضية أبسط منها في حركة تنازلية،وهونوعان:
*التحليل المباشر:بحيث ينتقل الاستنتاج من قضايا معقدة(النتائج)إلى قضايا أبسط منها (المبادئ) مباشرة،مثال ذلك:حل المعادلة التالية: س+8=10فحل هذه المعادلة تعتمد على مبدأ رياضي وهوالبديهية القائلة:بأن طرح كمية ثابتة من طرفين متساويين لن يغيرمن تساويهما،فنطرح (-8)من طرفي المعادلة الأولى: س+8-8 = 10 – 8 ومنه س=.2
*التحليل غير المباشر:يلجا إليه الرياضي عندما يكون التحليل المباشرغيرممكن،ونعني به إثبات قضية ما بإبطال نقيضها،فإذا كان نقيضها كاذب فالقضية الأصلية صادقة،فعوضا من رد القضية المراد إثباتها إلى مبادئها الأولية،فان الرياضي يسلم بصدقها ثم يحاول بأن نقيض القضية المراد البرهنة عليها كاذب،ومن كذب النقيض يستنتج صدق المطلوب،وتقوم هذه البرهنة على مبدأ منطقي هام هو مبدأ عدم التناقض، وهذا ما يعرف البرهان بالخلف ومثال ذلك:البرهنة على:إذا كان (أ )\ (ب)، (ب)\ (ج)المطلوب
( أ\ج)؟
ب/البرهان التركيبي :وهو الانتقال من المبادئ والأسس إلى النتائج ،أي انتقال الرياضي من قضايا بسيطة معروفة وصادقة لديه ثم يصعد من قضية إلى أخرى وصولا إلى إثبات نتائج جديدة (قضايا معقدة ) وهنا تتجلى فاعلية الفكر الخلاقة في إنشاء نتائج مركبة وإبداع علاقات جديدة،والبرهان التركيبي عكس البرهان التحليلي يسير وفق حركة تصاعدية،ومثال ذلك:لدينا
س- 2= 0
س- 3=0
إذا أردنا أن نستعمل البرهان التركيبي هنا يقتضي أن نضرب المعادلتين في بعضهما ونحصل على:
س- 5س+6 =0
وهكذا انتقلنا من معادلة بسيطة من الدرجة1الى معادلة مركبة من الدرجة.2
ما قيمة الرياضيات؟
الرياضيات متميزة بموضوعها و منهجها عن باقي العلوم باعتبار الأولى علم الكم والثانية علوم كيفية،هذا الاختلاف كان سبب الانفصال بينهما حتى مطلع القرن17م،فقد شهدت العلوم ارتباطا بالرياضيات،واعتبر الكثير من العلماء والفلاسفة أن الرياضيات هي علم اليقين والدقة من خلال منهجها ونتائجها،كما أنها معرفة تقوم على الالتزام بالمبادئ والأسس وتحرص على تحقيق الانسجام المنطقي بين هذه المبادئ والنتائج اللازمة عنها مما أضفي عليها نوعا من الصرامة المنطقية التي تقوم العقل ، وتجعله لا يقع في الخطأ حيث أصبحت النموذج المثالي للفكر الصحيح،وقد بدأت صلة الرياضيات بالعلوم عندما طبق بعض الفلكيين والفيزيائيين المفاهيم والعلاقات الرياضية على الظواهر المادية بغرض معرفتها معرفة صحيحة وكانت البداية مع كبلر1571/ 1630عندما قام بحساب حركة كوكب المريخ والعالم الفلكي الايطالي غاليلي1564-1642 عندما ضبط نظام الجاذبية وقام بصياغته صياغة جبرية،وكذلك ديكارت عندما قدر حركة الكواكب تقديرا كميا،ثم تطور استعمال الرياضيات في علم الفلك والفيزياء على يد نيوتن1642-1727ومن بعده آنشتاين1879-1955،وهكذا ظهر ما يعرف بالفيزياء الرياضية والكيمياء الرياضية،وانتقلت الرياضيات إلى العلوم البيولوجية ممثلة في تجارب مندل 1822-1884فيما يخص القوانين الوراثية وظهر ما يعرف بعلم الهندسة الوراثية،وانتقلت إلى العلوم الإنسانية خاصة علم النفس وعلم الاجتماع من خلال الدراسات الإحصائية ، وبالتالي يمكن القول أن العالم استطاع بفضل الرياضيات أن يحول سبل البحث العلمي من الكيف إلى الكم قصد الوصول إلى نتائج أكثر دقة واطمئنانا،أصبح العلماء لا يقتنعون بالدراسة الوصفية أوالكيفية للظواهر بل نزعوا في أعمالهم إلى البحث عن الجانب الكمي، فمثلا اختلاف كيفية الأصوات يعود إلى اختلاف كمية الأمواج،وشدة الصوت تابعة لسعة الأمواج،وارتفاعه تابع لعددها،وهذا ما أدى إلى تطوير وسائل القياس،كما أن القانون العلمي تأثر بالرياضيات،فلقد كان القانون العلمي بمفهومه القديم يقوم على العلاقة بين السبب والمسبب ولا يعبر عن حقيقة العلاقة بين الظواهر وشروطها لأنه يهتم بكيفية حدوث الظاهرة ، لكن القانون العلمي بمفهومه الحديث أصبح يقوم على أساس التلازم في التغير بين ظاهرتين أو أكثر وتحديده كميا،وهكذا أصبحت الرياضيات وسيلة لبلوغ الحقيقة التي لا يتخللها شك أوريب بفضل لغة الأعداد وما تمتازبه من دقة،لهذا يقول العالم الرياضي الفرنسي هنري بوانكاري: « إن جميع القوانين مستخرجة من التجربة و لابد من التعبير عنها باستعمال لغة خاصة ،لأن اللغة العادية مبهمة جدالا تصلح للتعبيرعن العلاقات الدقيقة، ذلك هو السبب الأول في عدم استغناء العالم الطبيعي عن الرياضيات،إن الرياضيات هي اللغة التي يستطيع العالم أن يتكلم بها».
إلى أي حد يمكن وصف الرياضيات بالصناعة الصحيحة؟
إن الرياضيات صناعة صحيحة بالنظر إلى العلاقة المنطقية التي تربط بين مبادئها بنتائجها،ما دام الفكر الرياضي يبقى وفيا من خلال استدلالاته لمبدأ عدم التناقض ،لكن إلى أي حد يمكن وصفها بالصناعة الصحيحة في منطلقاتهاواستنتاجاتها؟ والى أي مدى يجب الثقة فيها؟
1/ إن الحقائق الرياضية المتصفة باليقين عندما تنزل إلى التطبيقات التجريبية تفقد دقتها وتقع في التقريبات تقدير العدد (تقدير العدد تقديرا حسابيا وعمليا )
2/ إن المطابقة بين التقدير الكمي والحوادث الطبيعية ليست دقيقة إذ بين اينشتاين أن مدارات الكواكب ليست اهليليجية كما كان يظن كيبلر،كما أن المطابقة بين التقدير الكمي والحوادث الكونية بصفة عامة لا تزال نسبية إلى حد الآن.
3/تعدد الأنساق الهندسية : لقد كانت الهندسة الإقليدية الكلاسيكية تمثل اليقين الفكري الذي لا يمكن نقضه ، ولقد حاول الرياضيون أن يناقشوا مبادئ هذه الهندسة وعلى الخصوص المصادرة التي مفادها :من نقطة خارج مستقيم لا يمكن رسم سوى خط مواز له،ولكنهم لم يفلحوا لأنها كانت تبدو مبادئها أكثر منطقية وتمثل اليقين الفكري الذي لا يمكن نقضه.لكن في العصر الحديث أثاروا المسألة من جديد وأثاروا شكوكا حول هذه المسلمة بالذات، وكان العالم الرياضي الروسي لوبتشوفسكي 1793-1857 أول من أثار الشك حول مصادرة إقليدس،وتمكن في عام1830 من نقضها حيث اهتدى إلى الأساس الذي بنيت عليه وهو المكان المستوي وأثبت أنه لا يوجد أي دليل عقلي أن المكان مستوي ذو( 3)أبعاد،وهكذا تصور مكانا آخر يختلف تماما عنه ،وهو المكان المقعر (الكروي من الداخل)،واستنتج أنه يمكن رسم متوازيات كثيرة من نقطة خارج مستقيم،وجاء بعد ذلك العالم الرياضي الألماني ريمان 1826-1856وشك أيضا في مصادرة إقليدس،وتمكن من نقضها أيضا،وتصورالمكان محدبا (كروي من الخارج)واستنتج بناء على ذلك أنه لا يمكن رسم أي مواز من نقطة خارج مستقيم،وهكذا ظهرت الهندسات اللااقليدية التي تختلف عن الهندسة الإقليدية من حيث الأسس أوالمبادئ :*أساس هندسة إقليدس : عندما بني إقليدس هندسته افترض المكان الحسي أي المستوي ،واعتماداعلى هذا تصور قضايا الهندسة تصورا حسيا من بينها المصادرات والتعريفات التالية:
– من نقطة خارج مستقيم لا يمكن أن نرسم سوى مواز واحد له
– الخطان المتوازيان لا يلتقيان أبدا
– زوايا المثلث تساوي 180ْ
* أساس هندسة لوباتشوفسكي:تقوم هندسته على افتراض المكان به انحناء كالمقعرأو الكروي من الداخل،وعلى هذا التصورالعقلي للمكان بنى هندسة مخالفة لهندسة إقليدس ومن أبرز مبادئها:
– من نقطة خارج مستقيم يمكن رسم مالا نهاية من المتوازيات
– زوايا المثل أقل من 180ْ
* أساس هندسة ريمان:أما ريمان فافترض المكان الكروي الشكل مثل كروية الأرض.واعتمادا على هذا التصورالعقلي للمكان بنى هندسة أخرى من مبادئها:
– من نقطة خارج مستقيم لا يمكن رسم أي مواز
– كل مستقيم منته لأنه دائري
– زوايا المثلث أكثر من 180
وهكذا أصبحت الهندسة الكلاسيكية – التي كانت حتى القرن 19ممأخوذة كحقيقة مطلقة- تظهر كحالة من حالات الهندسة،وأصبحت مبادئ الرياضيات متغيرة نظرا لتعدد الأنساق،حيث يقول بولغان إن كثرة الأنظمة في الهندسة لدليل على أن الرياضيات ليس فيها حقائق مطلقة،وأصبحت منطلقات الفكر الرياضي مجرد افتراضات .
ظهور النسق الأكسيوماتيكي:إن الهندسة اللاإقليدية قد جلبت انتباه الرياضيين وغيرت نظرتهم على المبادئ التي يشيدون عليها البرهنة الرياضية. وأصبح التمييز بين مبادئ البرهان الرياضي أمرا ثانويا وإنما تؤخذ جميعا كمنطلقات أوفروض وقع عليها الاختيار،إنها بتعبير هنري بوانكاري مجرد مواضعات فما هو واضح عند شخص قد يكون غير ذلك عند شخص آخر،وأصبح المهم عند الرياضي هو وجود انسجام وتسلسل منطقي بين أسسه الافتراضية وبين النتائج المترتبة عليها، عدم وجود تناقض داخلي،وتحول البرهان الرياضي من برهان استنتاجي ينطلق من مبادئ صادقة بذاتها إلى برهان فرضي استنتاجي يقوم على أسس افتراضية،وعليه فإن مجموع القضايا أو الأوليات التي يختارها الرياضي لبناء نسق رياضي معين هي ما يطلق عله اسم الاكسيوماتيك باعتباره مجموعة من المبادئ المتجانسة التي لا يمكن التمييز بينها ،يقوم عليها كل البرهان الرياضي.