تخطى إلى المحتوى

ا شـرح كتـاب الصيـام من عمدة الفقه 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم

قال المؤلف:
(وإن فعله ناسيا أو مكرها لم يفسد صومه):
لأن المخطئ والناسي والمكره رفع عنهم الإثم في حقوق الله تعالى كما قال صلى الله عليه وسلم: (عفى لامتي عن الخطا والنسيان وما استكرهوا عليه) رواه ابن حبان والدارقطني والحاكم وغيرهم.
النسيان:
أما النسيان فيشهد لذلك ما في حديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه، وبعض الفقهاء يفرقون بين صيام النفل وصيام الفرض، فيرون أن الأكل والشرب ناسيا لا يضره في صيام الفريضة لا النافلة، والجمهور على خلافهم، فالصواب عند أهل العلم أنه لا فرق بين صيام الفرض وصيام النفل.
الإكراه:
وأما الإكراه فهو كذلك عذر وصاحبه معذور وليس عليه قضاء وشرط الإكراه:
1- أن يأكل بقدر الإكراه، فإن قال له: "كل نصف رغيف وإلا قتلتك" فلا يحل له أن يأكل أكثر من النصف.
2- أن يصل إلى حد الإكراه، والفقهاء مختلفون في ذلك فالإمام أحمد يشترط أن يحصل له شيء من الضرب أو نحوه، والجمهور لا يشترطون ذلك.
مسألة:
وإذا أكل شخص الطعام ناسيا فهل يلزم تذكيره ؟
في المسألة قولان: والأقرب أنه يذكر.
وقد سئل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ: (إذا أكل الإنسان ناسيا فهل يجب اخباره ؟ فقال: (لايلزم تذكيره؛ لأنه لم يفعل منكرا، هو معذور. والمسألة فيها قولان، هذا أولاهما. ومن قال إنه واجب فعليه إقامة الدليل) أ.هـ من "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي المملكة".
مسألة من عمل مفسدا للصيام جاهلا:
تعرض المؤلف لمن عمل مفسدا للصيام ناسيا أو مكرها، ولم يتعرض لمن فعله جاهلا بتحريمه، فما حكمه ؟!
اختلف العلماء على قولين :
الأول أنه يفسد صومه بذلك وهو مذهب الشافعي وأحمد:
وقد اختار هذا القول علماء "اللجنة الدائمة"، فقد سئلت اللجنة عمن استمنى في نهار رمضان وهو جاهل أن هذا حرام، ولا يعلم عدد الأيام التي فعل فيها هذا المحرم. فأجابت: (يجب قضاء الأيام التي أفطرتها بسبب العادة السرية لأنها مفسدة للصيام ، واجتهد في معرفة الأيام التي أفطرتها) أ.هـ
والقول الثاني لا يفسد صومه بذلك كما لا يفسد صوم الناسي، وقد اختار هذا القول شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية كما في "الفتاوى الكبرى":
(الصائم إذا فعل ما يفطر به جاهلا بتحريم ذلك: فهل عليه الإعادة ؟ على قولين في مذهب أحمد … والأظهر أنه لا يجب قضاء شيء من ذلك, ولا يثبت الخطاب إلا بعد البلاغ …
وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم المستفيضة عنه في أمثال ذلك، فإنه قد ثبت في الصحاح أن طائفة من أصحابه ظنوا أن قوله تعالى: "الخيط الأبيض من الخيط الأسود" هو الحبل الأبيض من الحبل الأسود، فكان أحدهم يربط في رجله حبلا، ثم يأكل حتى يتبين هذا من هذا فبين النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد بياض النهار, وسواد الليل ولم يأمرهم بالإعادة) أ.هـ
وقال ابن القيم في "إعلام الموقعين":
(وقد عفا (يعني: النبي صلى الله عليه وسلم) عمن أكل أو شرب في نهار الصوم عمدا غير ناس لما تأول الخيط الأبيض والخيط الأسود بالحبلين المعروفين, فجعل يأكل حتى تبينا له وقد طلع النهار, وعفا له عن ذلك, ولم يأمره بالقضاء, لتأويله) أ.هـ
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى عن شاب استمنى في رمضان جاهلا بأنه يفطر وفي حالة غلبت عليه شهوته ، فما الحكم ؟
فأجاب: (الحكم أنه لا شيء عليه، لأننا قررنا فيما سبق أنه لا يفطر الصائم إلا بثلاثة شروط: العلم والذكر والإرادة).
إلا أن مذهب الشافعي يستثني إذا كان الجاهل حديث عهد بالإسلام أو كان ناشئا ببادية بعيدا عن مجتمعات المسلمين فلا يفسد صومه، وهذا صحيح فهناك فرق بين أنواع الجهل،
فالجهل على قسمين:
أحدهما: جهل ناشيء من عدم وصول الدعوة الصحيحة والعلم الصحيح كأن يكون في بادية بعيدة أو في شعاب، وهذا يعذر به صاحبه.
وثانيهما: جهل ناشئ من الإعراض وعدم المبالاة كأن يكون في وسط البلد ولكنه لا يسأل ولا يسمع العلم، فمثل هذا لا يعذر بجهله.
قال النووي في "المجموع":
(إذا أكل الصائم أو شرب أو جامع جاهلا بتحريمه – فإن كان قريب عهد بإسلام أو نشأ ببادية بعيدة بحيث يخفى عليه كون هذا مفطرا – لم يفطر; لأنه لا يأثم فأشبه الناسي الذي ثبت فيه النص, وإن كان مخالطا للمسلمين بحيث لا يخفى عليه تحريمه أفطر; لأنه مقصر) أ.هـ
وتقسيم الجاهل إلى قسمين هي طريقة العلماء في أحكام كثيرة منها: ما تقدم ومنه إتيان شيء من الكفر العملي أو الجحود بشيء معلوم من الدين الضرورة ونحو ذلك.
قال المؤلف:
(وإن طار إلى حلقه ذباب أو غبار أو تمضمض أو استنشق فوصل إلى حلقه ماء أو فكر فأنزل أو قطر في إحليله أو احتلم أو ذرعه القيء لم يفسد صومه):
أي: وإن حصل شيء من هذه الأمور لم يفسد صومه، لأنه لم يباشر الإفطار بنفسه ولم يتسبب قاصدا الإفطار ولذلك فليس عليه شيء.

بعض العلاجات التي تستعمل في رمضان وهي ليست مفطرة:

الأمور التالية لا تعتبر من المفطرات:
1- قطرة العين أو قطرة الأذن أو غسول الأذن أو قطرة الأنف أو بخاخ الأنف إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
2- أقراص الذبحة الصدرية – ذبحة الشريان التاجي – والتي توضع أسفل اللسان لعلاج الذبحة الصدرية وغيرها إذا اجتنب الابتلاع إلى الحلق.
3- ما يدخل المهبل من تحاميل (لبوس)، أو غسول، أو منظار مهبلي، أو إصبع للفحص الطبي.
4- إدخال المنظار أو اللولب ونحوهما إلى الرحم.
5- ما يدخل الإحليل، أي مجرى البول الظاهر للذكر أو الأنثى، من قثطرة (أنبوب دقيق) أو منظار، أو مادة ظليلة على الأشعة، أو دواء، أو محلول لغسل المثانة.
6- حفر السن، أو قلع الضرس، أو تنظيف الأسنان، أو السواك وفرشاة الأسنان، إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
7- المضمضة والغرغرة، وبخاخ العلاج الموضعي للفم إذا اجتنب ابتلاع ما نفذ إلى الحلق.
8- الحقن العلاجية الجلدية أو العضلية أو الوريدية، باستثناء السوائل والحقن المغذية.
9- غاز الأكسجين.
10- غازات التخدير (البنج) ما لم يعط المريض سوائل (محاليل) مغذية.
11- ما يدخل الجسم امتصاصا من الجلد كالدهونات والمراهم واللصقات العلاجية الجلدية المحملة بالمواد الدوائية أو الكيميائية.
12- إدخال قثطرة (أنبوب دقيق) في الشرايين لتصوير أو علاج أوعية القلب أو غيره من الأعضاء.
13- إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
14- أخذ عينات (خزعات) من الكبد أو غيره من الأعضاء ما لم تكن مصحوبة بإعطاء محاليل.
15- منظار المعدة إذا لم يصاحبه إدخال سوائل (محاليل) أو مواد أخرى.
16- دخول أي أداة أو مواد علاجية إلى الدماغ أو النخاع الشوكي.
17- القيء غير المتعمد بخلاف المتعمد (الاستقاءة).
18- إدخال منظار من خلال جدار البطن لفحص الأحشاء أو إجراء عملية جراحية عليها.
19- أخذ عينة من الدم المخبري للفحص، أو نقل دم من المتبرع به أو تلقي الدم المنقول.
ينبغي على الطبيب المسلم نصح المريض بتأجيل ما لا يضره تأجيله إلى ما بعد الإفطار من صور المعالجات المذكورة فيما سبق. (حتى لا يؤثر ذلك في صحة صيامه)."1"
"1" انظر: "مجموع فتاوى شيخ الإسلام" (25/233) (25/245). و"مجالس رمضان" للشيخ ابن عثيمين و"مجلة مجمع الفقه الإسلامي".

منقول من شبكة الامام دار الهجرة العلمية

باب ما يفسد الصوم
أي: هذا باب نذكر فيه مفسدات الصيام مع بيان الواجب فيها.
والفساد ضد الصحة، والمراد بالفساد هنا عدم ترتب الأثر الشرعي على العبادة أو المعاملة، فلا تقع مجزئة ولا تبرأ بها الذمة، ويلزمه قضاء العبادة، وهذا على العكس من الصحيح فالصحيح ترتب الأثر الشرعي على العبادة أو المعاملة فتقع العبادة والمعاملة مجزئة وتبرأ بها الذمة، ولا يلزمه بعده شيء.
قال المؤلف:
(من أكل أو شرب أو استعط أو أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان أو استقاء أو استمنى أو قبل أو لمس فأمنى أو أمذى أو كرر النظر حتى أنزل أو حجم أو احتجم عامدا ذاكرا لصومه فسد):
قوله: "من أكل أو شرب" أفطر وذلك لما دل عليه الكتاب والسنة والإجماع:
أما الكتاب فللآية الكريمة: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر).
وأما السنة فلحديث: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب، فليتم صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا فيما يرويه عن ربه عز وجل: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي) رواه البخاري، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه) رواه البخاري.
فالأحاديث كثيرة جدًا في بيان أن الأكل من المفطرات، وبالجملة فقد أجمع العلماء على أن الأكل والشرب من المفطرات.
ويدخل في الطعام والشراب ما يقوم مقام الطعام والشراب من المغذيات، كالقرب المغذية وهي ما يسمى بـ "الدريبات" والحقن المغذية وغسيل الكلى ونحو ذلك.
غسيل الكلى:
غسيل الكلى هو عبارة عن إخراج دم المريض من جسده إلى "كلية صناعية" تتولى هذه الكلية الصناعية تنقية الدم ثم إعادته إلى الجسم بعد ذلك، ثم يتم إضافة بعض المواد الكيماوية والغذائية كالسكريات والأملاح وغيرها إلى الدم، وهذه فتوى "اللجنة الدائمة" حيث انتهوا إلى أن غسيل الكلى المذكور يفسد الصيام.
**وينبغي أن يعلم أنه لا يشترط أن يكون المأكول أو المشروب مما يتغذى عليه، بل كل ما أكله ابن آدم فإنه يفطره وإن لم يكن مما يتغذى عليه كالتراب أو غيره، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي لأن هذا عندهم في معنى الأكل والشرب المنصوص عليه، وعلى هذا فنقول: إن مثل السجائر ونحوها من المفطرات لهذا المعنى.
**ويرى آخرون: أن المفطر إنما الطعام والشراب وما كان في معناه من المغذيات فقط دون غيره، وهذا قول ابن حزم.
قوله: "استعط": السعوط هو إدخال الماء ونحوه من الأنف، والأنف مدخل معتبر لحديث لقيط بن صبرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (أسبغ الوضوء، وَخَلِّل بين الأصابع، وبالغ في الاستنشاق إلا أن تكون صائمًا" رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وأبو داود وابن ماجة وصححه ابن خزيمة وابن حبان والحاكم والنووي وابن حجر وغيرهم.
وجه الدلالة من الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم اعتبر الأنف منفذا يوصل الماء عبره إلى الجوف، وهذا قول الأئمة الأربعة، وهو اختيار شيخ الإسلام وهذا هو الصحيح.
وجاء عن إبراهيم النخعي أنه لم ير بالسعوط بأسًا، وهو قول داود الظاهري، وتبعه ابن حزم في "المحلى" وردّ على القائلين بالتفطير بالاستنشاق إذا وصل الماء إلى جوفه، أو بالسعوط وحكاه ابن المنذر عن بعض العلماء ولم يُسمِّهم.
قوله: "أو استقاء": أي: تعمد القيء فعليه أن يقضي يوما مكانه.
والمسألة فيها خلاف:
**فهناك من أهل العلم من يرى أن الصائم إذا تعمد القيء فإنه يفطر: وهذا قول مالك والشافعي وأحمد، ونقل بعضهم الإجماع على ذلك كما سيأتي إن شاء الله.
وحجة هذا القول حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ذرعه القيء فليس عليه قضاء، ومن استقاء عمدًا فليقض). وهذا الحديث رواه أحمد والترمذي وأبو داود وابن ماجة وصححه ابن خزيمة، وابن حبان، والحاكم.
وقال الدارقطني: (رواته ثقات كلهم). وقال الحاكم: (صحيح على شرط الشيخين).
وصححه العلامة الألباني في "الإرواء" وغيره، ولكن الحديث أعّله كثير من أئمة الحديث كالبخاري وأحمد والبيهقي، وذكروا أنه قد وهم فيه بعض رواته، وإن كان العلامة الألباني ذكر في "تعليقه على ابن خزيمة" وغيره أنه وجد لها شاهدا ونقل عن شيخ الإسلام أنه يميل إلى تقويته.
ومعنى ذرعه القيء: أي: غلبه من غير قصد، وجاءه من غير اختيار، فهذا ليس عليه شيء، وأما من تعمّد القيء فعليه القضاء، والحديث وإن قلنا بأن فيه شيئا من الإسناد، فحكم الإفطار بتعمد القيء ثابت بأمرين:
الأول: بأثر ابن عمر، فقد روى مالك في "الموطأ" قال: أخبرنا نافع أن ابن عمر كان يقول: (من استقاء وهو صائم فعليه القضاء ومن ذرعه القيء فليس عليه شيء) وهذا سند صحيح.
والثاني: بالإجماع، فقد أجمعوا على أن من استقاء فإنه يفطر فقد قال الخطابي:
(لا أعلم خلافا بين أهل العلم في أن من ذرعه القيء فإنه لا قضاء عليه، ولا في أن من استقاء عامدا أن عليه القضاء، ولكن اختلفوا في الكفارة فقال عامة أهل العلم: ليس عليه غير القضاء، وقال عطاء عليه القضاء والكفارة، وحكي ذلك عن الأوزاعي وهو قول أبي ثور) أ.هـ من "عون المعبود" للعظيم أبادي.
وقال ابن المنذر: (أجمع أهل العلم على أن من تعمد القيء فعليه القضاء).
وقال الطحاوي في "مشكل الآثار": (لا اختلاف بينهم أن من ذرعه القيء لم يكن بذلك مفطرا) أ.هـ
قول المؤلف:
"أو أوصل إلى جوفه شيئا من أي موضع كان": أي: وكل شيء دخل إلى الجوف فهو مفطر، وهذا يدل على أن الضابط في الإفطار هو الدخول إلى الجوف، فإذا ذاقت المرأة الطعام لتعرف مقياس الملح، أو نظف رجل أسنانه بالمعجون ونحو ذلك – مما يبقى في الفم ولا يدخل الجوف – فإنه لا يفطر.
فالذي يفطر هو ما دخل إلى الجوف سواء من الفم أو الأنف أو غيرهما، والصحيح أنه لا مدخل معتبر إلا الفم والأنف فقط، فلا عبرة بدخول شيء من غيرهما كالأذنين والعينين والدبر والإحليل ونحوهما، وسنتكلم عما تيسر من هذه الأشياء التي يذكر أنها منافذ.
منفذ العينين وحكم الكحل:
والصحيح كذلك أن العينين ليستا منفذا إلى الجوف، فلا ينفذ من العينين إلى الجوف لا الدواء ولا الكحل ولا غيرهما، وقد اختلفوا في الكحل هل هو مفطر على قولين:
فالشافعية والحنفية يرون أنه لا يفطر، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية، وقد استدلوا بأنه لا دليل على ذلك، واستدلوا بما رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: (جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اشتكت عيني أفأكتحل وأنا صائم؟ قال: "نعم").
قال الترمذي: (حديث أنس حديث ليس إسناده بالقوي، ولا يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الباب شيء، وأبو عاتكة يضعف). وأبو عاتكة "منكر الحديث" كما قال البخاري.
وجاء عن حماد بن سلمة، وقتادة أﻧﻬم كرهوا الكحل، وقد استدلوا لهم بما جاء في سنن أبي داود عن عبد الرحمن بن النعمان بن معبد بن هوذة عن أبيه عن جده رضي الله عنه (أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالإثمد المروَّح عند النوم، وقال: "ليتقه الصائم").
والإثمد: نوع معروف من أجود أنواع الكحل.
والمروّح: هو الكحل المخلوط بشيء من الطيب ذي الرائحة الطيبة.
قال أبو داود: (قال لي يحيى بن معين: "هو حديث منكر").
منفذ الدبر وحكم ما يدخل منه:
واختلف المتقدمون في الحقنة هل تفطر ؟!
*فأبو حنيفة والشافعي لا يرون التفطير بالحقنة، وهو اختيار شيخ الإسلام،.
*وأما مالك والحنابلة؛ فيرون أﻧﻬا تفطر لأنهم يرون أن الدبر من المنافذ إلى الجوف.
والحقنة عند المتقدمين يراد بها دواء يوضع في الدبر، قال ابن قدامة: (ما يدخل إلى الجوف من الدبر بالحقنة).
الإحليل:
ويقصدون بالإحليل الذكر، والأكثرون يرون أن ما يقطر في الذكر ليس داخلا أصلا فيما يصل إلى الجوف؛ لأن الذي يقطر في الذكر يذهب إلى المثانة، والمثانة غير متصلة بالجوف عندهم، ولهذا يقولون: إنه لا يفطر.
مداواة الجائفة والمأمومة وحكم ما يدخل من الدماغ:
والجائفة: هي الجرح الذي يصل إلى الجوف، فلو جرح إنسان جرحًا ووصل إلى جوفه أو إلى معدته أو بطنه، ثم وضع الدواء في هذا الجرح، فإن الطبيعي أن هذا الدواء يصل إلى الجوف.
والمأمومة: هي جرح في الرأس يخترق العظم ويصل إلى الدماغ، فقالوا: إذا داوى المأمومة، فإن هذا الدواء يصل إلى الدماغ، فيكون بذلك مفطرًا، وهذا مذهب الحنابلة والشافعية.
ومالك يقول: "لا يفطر دواء الجائفة والمأمومة"، وهو قول الظاهرية، واختيار شيخ الإسلام ابن تيمية.
وقوله : "أو استمنى": أي: تعمد إنزال المني بأي شيء سواء كان بيده أو بغير ذلك، فإذا فعله الصائم في ﻧﻬار رمضان فهذا عليه القضاء عند جمهور العلماء وهو مذهب الأئمة الأربعة، وهو الصحيح والدليل على ذلك قوله سبحانه وتعالى فيما رواه النبي صلى الله عليه وسلم: (يترك طعامه وشرابه وشهوته من أجلي). ومن تعمد الاستمناء لم يدع شهوته من أجل الله تبارك وتعالى ففسد بذلك صومه.
وخالف في ذلك ابن حزم وبعض الحنفية وقالوا: إنه لا يفسد الصوم، وأن الصائم ليس عليه قضاء للبراءة الأصلية وعدم الدليل الموجب للقضاء، ووافقه من المتأخرين الشوكاني والصنعاني والألباني وشيخنا مقبل رحمهم الله جميعا.
والقائلون بأن الاستمناء يفطر اختلفوا هل فيه كفارة ؟! على قولين:
الأول أنه فيه كفارة كمن جامع زوجته في نهار رمضان:
وهذا هو المعتمد عند المالكية، وهو رواية عن أحمد، قالوا: لأنه تسبب في إنزال المني فأشبه الجماع.
والثاني أنه لا كفارة فيه: وهذا عند الحنفية والشافعية، وهو قول عند عند المالكية وأحد قولي الحنابلة وهو الصحيح، لأنه إفطار من غير جماع، ولأنه لا نص في وجوب الكفارة فيه ولا إجماع.
قوله : "أو قبل أو لمس فأمنى":
أي: إن قبل زوجته أو لمسها فأمنى فعليه القضاء، وحكى ابن قدامة والبهاء المقدسي في "العدة شرح العمدة" عدم الخلاف في ذلك، فإن كانوا يعنون عند المتقدمين فربما يكون هذا صحيحا، وإن كانوا يعنون المتأخرين فقد خالف في ذلك الظاهرية، ولعلهم لم يعتبروا بخلافهم، فالفقهاء في الاعتبار بخلاف الظاهرية على قولين كما هو معلوم.
قوله: "أو أمذى":
أي: إذا قبل امرأته أو لمس امرأته فأمذى
* فعليه القضاء، وهذا مذهب الإمام مالك وهي رواية عن أحمد هي الصحيح في مذهبه وعليه أكثر الحنابلة،.
* وقيل: لا يفطر وهو قول أبي حنيفة والشافعي، وقد اختاره جماعة من الحنابلة وهو اختيار شيخ الإسلام واستظهره ابن مفلح في "الفروع" وصوبه المرداوي في "الإنصاف" لأن المذي الخارج لا يوجب الغسل فهو أشبه بالبول، فليس عليه غسل ولا قضاء بل صومه صحيح، وهذا هو الراجح، والدليل على ذلك ما في الصحيحين البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يُقبِّل وهو صائم، ويباشر وهو صائم، ولكنه أملككم لإربه).
والمقصود بالإرب: الحاجة، وقيل: العضو، والمعنيان متقاربان، فالمقصود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك، ولا شك أن الإنسان إذا فعل هذا فهو مظنة أن يقع منه المذي، و"ترك الاستفصال في مقام الاحتمال يترل مترلة العموم في المقال" كما يقول الأصوليون.
قوله: "أو كرر النظر فأنزل":
أي: إذا نظر وتابع النظرة بالنظرة فأنزل:
* فيفسد صومه وهذا هو مذهب الإمام أحمد وعليه أكثر الحنابلة،
*وقال بعض الحنابلة: لا يفسد وهو الصحيح لأنه لا دليل عليه.
وقوله: "أو كرر النظر" يخرج به ما لو نظر نظرة واحدة خطأ فإن المؤلف لا يرى ذلك مفطرا لأنه خطأ.
قوله: "أو حجم أو احتجم":
**أي: يفسد صومه بالحجامة سواء كان هو الحاجم أو كان هو المحجوم، وهذا هو مذهب الإمام أحمد وعليه جماهير الحنابلة، وهو من مفردات مذهب أحمد عن سائر المذاهب، واحتجوا بحديث: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحمد وابن خزيمة عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسنده صحيح على شرط مسلم.
**والقول الثاني: أن الحاجم والمحجوم لا يفطران، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي، وهو ثابت عن جماعة من الصحابة، كأبي سعيد الخدري وابن مسعود وعائشة وأم سلمة رضي الله عنهم، وبعض التابعين كعروة وسعيد بن جبير وغيرهم، وهو الصحيح لما يلي:
أولا: لما رواه البخاري في "صحيحه" عن ابن عباس رضي الله عنهما (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم واحتجم وهو صائم).
ولكن هذا اللفظ وإن كان في "صحيح البخاري" فقد أنكره الإمام أحمد وأعلَّه جماعة من الأئمة، وقالوا: (الصواب أنه احتجم وهو محرم، أما زيادة: "وهو صائم" فإﻧﻬا لا تثبت). ورواه مسلم في "صحيحه" بدوﻧﻬا.
وآخرون أثبتوا هذه الزيادة.
وثانيا: ما رواه النسائي في "الكبرى" وابن خزيمة عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم: (رخص في الحجامة للصائم) وسنده صحيح، وهو يشعر بالنسخ وقد أشار إلى النسخ جماعة منهم البيهقي.
وثالثا: صح عن ابن عباس أنه أفتى بعدم الفطر بالحجامة، فقد روى ابن أبي شيبة عن أبي ظبيان عن ابن عباس في الحجامة للصائم قال: (الفطر مما دخل وليس مما يخرج) وهذا سند صحيح، وإنما احتججنا به لأنه يؤيد الحديث، والأصل أن ما خرج لا يفطر إلا ما نص عليه الحديث كتعمد القيء فإنه صح فيه حديث ولم ينسخه شيء.
قوله: "عامدا ذاكرا لصومه فسد":
أي: من فعل ذلك متعمدا ذاكرا لصومه فسد صومه لأنها من مفسدات الصوم.
وقوله: "متعمدا" خرج بهذا القيد المخطئ فلا يفطر.
وقوله: "ذاكرا لصومه" خرج بهذا القيد الناسي فلا شيء عليه لأن الله أطعمه وسقاه كما جاء في حديث أبي هريرة مرفوعا: (من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه، وسيأتي في العبارة القادمة للمؤلف إشارة إلى هذا.

قال المؤلف:

(فإن جامع ولم يكفر حتى جامع ثانية فكفارة واحدة):
أي: فإن جامع في نهار رمضان ولم يكفر حتى جامع مرة أخرى في اليوم نفسه فتجب عليه كفارة واحدة بدون خلاف لأن الكفارتين متداخلتان.
وإنما قلنا في "يوم واحد" لأنه إذا جامع في يوم آخر وجبت عليه كفارة أخرى، فكل يوم له كفارة مستقلة.
قال المؤلف:
(فإن كفر ثم جامع فكفارة ثانية):
أي: فإن جامع ثم أعتق ثم جامع مرة أخرى فعليه كفارة أخرى جديدة لأن الجماع الثاني لا يدخل في الأول إذ هو سبب جديد، لأنه مأمور بالإمساك بعد جماعه الأول، فإذا جامع ثانية فقد أخل إخلالا ثانيا، وهو مذهب أحمد.
وقيل: تلزمه كفارة واحدة، وهو قول الزهري والأوزاعي وأصحاب الرأي، وهو اختيار فضيلة الشيخ محمد بن صالح العثيمين في "الشرح الممتع" و"حاشية الروض".
قال المؤلف:
(وكل من لزمه الإمساك في رمضان فجامع فعليه كفارة):
أي: أن من لزمه الإمساك في رمضان فجامع في نهاره فعليه كفارة، فالمؤلف تحدث هنا عن مسألتين:
المسألة الأولى: من كان معذورا ثم زال عذره فيلزمه الإمساك:
يرى المؤلف أن من أفطر لعذر في أول أول النهار ثم زال عذره فإن عليه أن يمسك إلى آخر النهار، وهذا قول أبي حنيفة وأصحابه.
والجمهور على خلافه .
والصحيح أن ذلك لا يلزمه لأمرين:
أولهما: البراءة الأصلية، وثانيهما: أنه لا فائدة من الإمساك، فلا يصح صيام ذلك اليوم إلا من الفجر، كما قال فضيلة الشيخ العثيمين.
المسألة الثانية: أن من لزمه الإمساك فجامع فعليه كفارة:
يرى المؤلف أن من كان يلزمه الإمساك ثم جامع فعليه كفارة، وهذا أيضا غير صحيح لعدم الدليل، والأصل براءة الذمة فلا يجب شيء حتى يثبت دليل صريح، وعلى هذا فلا يسلم للمؤلف بشيء من المقدمتين، لا الأولى ولا الثانية.
قال ابن قدامة في "المغني":
(فأما من يباح له الفطر في أول النهار ظاهرا وباطنا, كالحائض والنفساء والمسافر والصبي والمجنون والكافر والمريض, إذا زالت أعذارهم في أثناء النهار, فطهرت الحائض والنفساء, وأقام المسافر وبلغ الصبي وأفاق المجنون وأسلم الكافر وصح المريض المفطر ففيهم روايتان:
إحداهما: يلزمهم الإمساك في بقية اليوم وهو قول أبي حنيفة.
والثانية: لا يلزمهم الإمساك، وهو قول مالك والشافعي، وروي عن ابن مسعود أنه قال: "من أكل أول النهار فليأكل آخره") أ.هـ مختصرا.
وعلى هذا فلو أن مسافرا قدم من سفره ظهرا أو عصرا فوجد زوجته طهرت من حيضها فجامعها لم يكن عليه شيء. وبهذا أفتى أبو الشعثاء أحد أئمة التابعين ومن المعاصرين العلامة الألباني رحمهم الله.
ولكن من زال عذره فإنه لا يفطر جهرا أمام الناس، ممن لا يعرف عذره، حتى لا يكون ذلك سببا لإساءة الظن به أو غير ذلك، كما قال الشيخ العثيمين رحمه الله.
مسألة:
حكم من لم يأخذ برخصة الفطر في السفر في رمضان فصام، ثم أفطر متعمدا من غير عذر:
قد اختلف أهل العلم فيمن لم يأخذ برخصة الفطر في السفر في رمضان، ثم أفطر متعمدا من غير عذر على قولين:
الأول : فذهب الحنفية والمالكية إلى أن ذلك حرام وأوجبوا عليه القضاء، وزاد المالكية الكفارة.
الثاني : وذهب الشافعية والحنابلة في الصحيح من المذهب إلى أنه يشرع له ذلك حتى وإن أفطر بالجماع ولا يلزمه إلا قضاء ذلك اليوم، لأنه صوم لا يلزمه المضي فيه، وهذا هو القول الصحيح.
قال المؤلف:
(ومن أخر القضاء لعذر حتى أدركه رمضان آخر فليس عليه غير القضاء):
أي: ومن أخر القضاء حتى داهمه رمضان الآخر، وكان تأخيره لعذر كمرض أو سفر أو نحوهما فليس عليه شيء لأنه غير مفرط.
قال المؤلف:
(وإن فرط أطعم مع القضاء لكل يوم مسكينا):
أي: وإن فرط المسلم – كأن يتساهل – فأخر قضاء رمضان – لغير عذر- حتى جاء رمضان آخر، فعليه صيام القضاء مع إخراج الكفارة وهي إطعام مسكين عن كل يوم، وهذا مذهب الأئمة الثلاثة مالك والشافعي وأحمد.
وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقضي ولا فدية عليه وهو اختيار الشوكاني والشيخ ابن عثيمين من المتأخرين.
والصحيح هو الأول فيجب عليه مع كل يوم يصومه أن يطعم مسكينا، ودليل ذلك ما أفتى به جماعة من الصحابة ولا يعرف له مخالف وهم أعلم بالشريعة.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في "تهذيب السنن":
(وهذا قول ابن عباس وابن عمر وأبي هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير والثوري والأوزاعي والإمام أحمد والشافعي ومالك وإسحاق.
وقال جماعة: يقضي ولا فدية عليه, وهذا يروى عن الحسن وإبراهيم النخعي, وهو مذهب أبي حنيفة.
وقالت طائفة, منهم قتادة: يطعم ولا يقضي) أ.هـ
وضابط التأخير هو شهر شعبان، فإن جاء شهر شعبان وعنده عذر سقطت عنه الكفارة، كالمرأة التي يجب عليها أن تصوم قضاء، ثم شاء الله أن تمرض في شهر شعبان حتى دخل رمضان الآخر، فحينئذ تأخيرها لعذر فلا يجب عليها إلا القضاء وحده.
قال المؤلف:
(وإن ترك القضاء حتى مات لعذر فلا شيء عليه):
حصل في عبارة المؤلف تقديم وتأخير، وقوله: "لعذر" متعلق بالترك لا بالموت، أي: وإن ترك المسلم قضاء الصوم لعذر، حتى مات، فلا شيء عليه، كمريض استمر به المرض حتى توفاه الله، أو مسافر لم يفرغ من سفره حتى مات فليس عليهما شيء، لأن الله أوجب عليهما عدة من أيام أخر، وإذا أوجب الله عليه عدة من أيام أخر؛ فإنه قد استمر معه العذر فلم يجد أياما أخر فسقط عنه الأداء وسقط عنه القضاء فلا شيء عليه.
وهذا قول عامة أهل العلم، واختاره من المعاصرين سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حيث قال في "مجموع فتاواه ومقالاته": (من تأخر في صوم رمضان بعذر شرعي كمرض أو سفر، ثم مات قبل أن يتمكن من القضاء فلا قضاء عنه ولا إطعام؛ لكونه معذورا) أ.هـ
وذهب قتادة إلى أنه يطعم عنه.
قال البغوي في "شرح السنة":
(واتفق عامة أهل العلم على أنه إذا أفطر بعذر سفر أو مرض، ثم لم يفرط في القضاء بأن دام عذره حتى مات أنه لا شيء عليه غير قتادة، فإنه قال: "يطعم عنه"، روي ذلك عن ابن عباس، ويحكى ذلك أيضا عن طاووس) أ.هـ
قال المؤلف:
(وإن كان لغير عذر أطعم عنه لكل يوم مسكينا):
أي: وإن ترك القضاء تفريطا وذلك بأن كان قادرا على القضاء ولم يقض، وجاءته أيام كان يمكنه أن يصوم فيها فمات ولم يصم فعليه الإطعام.
وهذه المسألة مختلف فيها، فمنهم من يرى أن عليه القضاء، وآخرون أن عليه الإطعام على قولين:
القول الأول : أن المسلم إن مات وعليه صيام فإن كان من رمضان فعليه الإطعام عن كل يوم مسكينا، وليس عليه القضاء إلا أن يكون صيام نذر فيصوم عنه وليه: وهذا قول الإمام أحمد وكثير من أصحابه، وسبب التفريق أن رمضان وجب بأصل الشرع ولم يجب بإلزام العبد لنفسه، بخلاف ما لو كان عليه صيام نذر فإن عليه أن يقضيها، لأن العبد هو الذي ألزم نفسه بذلك، فإن مات صام عنه أولياؤه، وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين" والعلامة الألباني في "أحكام الجنائز".
والقول الثاني: أن عليه صيام رمضان فإن مات فعلى أوليائه قضاء ما تركه من الصيام، سواء من رمضان أو النذر، لعموم حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رواه الشيخان عن عائشة، وهذا قول الجمهور وهو اختيار سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز حيث قال رحمه الله: (الصواب أنه عام وليس خاصا بالنذر، وقد روي عن بعض الأئمة كأحمد وجماعة أنهم قالوا: إنه خاص بالنذر، ولكنه قول مرجوح ولا دليل عليه والصواب أنه عام؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "من مات وعليه صيام صام عنه وليه") أ.هـ وهو اختيار فضيلة الشيخ ابن عثيمين.
والصحيح هو الأول، لأن هذا هو قول جماعة من الصحابة ولا مخالف لهم ولاسيما أنهم من رواة الحديث المشار إليه كعائشة وغيرها وهم أعلم بفقه الحديث رضي الله عنهم.
قال المؤلف:
(إلا أن يكون الصوم منذورا فإنه يصام عنه):
أي: إلا أن يكون الصوم الذي في ذمته منذورا فإنه يصوم عنه وليه، لعموم حديث: (من مات وعليه صوم صام عنه وليه) رواه الشيخان عن عائشة، وهذا مما يتفق فيه الحنابلة مع الجمهور، وقد تقدم في المسألة السابقة بسط الأقوال.
قال المؤلف:
(وكذلك كل نذر طاعة):

أي: وليس وجوب الوفاء بالنذر على ولي الميت مخصوصا بنذر الصيام فقط، بل هو عام لكل نذر سواء كان من الصيام أو الصلاة أو الصدقة أو الحج أو غيرهما، فيجب على الولي قضاء كل النذور عن الميت، فلو نذر صلاة ركعتين وجب على أولياء الميت الوفاء بهذا النذر، وهذا هو مذهب أحمد، والجمهور على خلافه وهو الصحيح فلا يقضي الولي عن الميت إلا ما دل النص عليه.

قال المؤلف:
(وعلى سائر من أفطر القضاء لا غير):
أي: ويجب القضاء على من يفطر بغير هذه الأعذار الأربعة المتقدمة، مثل من أفطر تساهلا، ومن أفطر لأنه أُرهق إرهاقا شديدا وأصابه الظمأ، ومن احتاج إلى الفطر لإنقاذ غريق أو لإطفاء حريق أو لقتال مشروع، أو احتاج إلى التقيؤ فتعمد القيء أو غير ذلك.
فهؤلاء كلهم عليهم القضاء ليس غير، فلا يجب عليهم كفارة مع القضاء،
إلا من أفطر تساهلا فعليه أن يتوب إلى الله لأنه ارتكب كبيرة من الكبائر، وهل عليه القضاء ؟!
فيه قولان للعلماء:
القول الأول: أن عليه القضاء للعمومات:
وهذا قول الجمهور ومنهم الشافعي وأحمد، وزاد مالك: وعلية الكفارة.
وقد نقل البغوي الإجماع على وجوب القضاء في أكثر من مكان من كتابه: "شرح السنة".
قالوا: وأما حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أفطر يوما من رمضان في غير رخصة رخصها الله له لم يقض عنه صيام الدهر كله وإن صامه) رواه أبو داود وابن ماجه والترمذي، فالجواب عنه أن الحديث ضعيف ومداره على أبي المطوس وأبيه وهما مجهولان، وقد ضعفه ابن خزيمة في "صحيحه" وضعفه البغوي والمنذري والقرطبي والعلامة ابن القيم والذهبي والحافظ ابن حجر في "فتح الباري" وذكر له الحافظ ابن حجر ثلاث علل: الاضطراب والجهالة والانقطاع.
قالوا: والحديث إن صح فيحمل على أن أجر الصيام في رمضان لا يعادله شيء، فقد قال البغوي في "شرح السنة": (هذا على طريق الإنذار والإعلام بما لحقه من الإثم وفاته من الأجر، فالعلماء مجمعون على أنه يقضي يوما مكانه) أ.هـ
والقول الثاني: أنه ليس عليه قضاء لأن إثمه أعظم من أن تكفره كفارة:
وهو قول جماعة من المتقدمين واختيار شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم في "مدارج السالكين".
قال شيخ الإسلام في "منهاج السنة":
(وكذلك شهر رمضان، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر يوما من رمضان لم يقضه صيام الدهر وإن صامه" قالوا: وإنما يقبل الله صيامه في غير الشهر من المعذوركالمريض والمسافر والحائض ومن اشتبه عليه الشهر فتحرى فصام بعد ذلك فإنه يجزيه الصيام، أما المتعمد للفطر فلا) أ.هـ
وقال: (وهذا قول طائفة من السلف والخلف وهو قول أبي عبد الرحمن صاحب الشافعي وهو قول داود بن علي وابن حزم وغيرهم).
فائدة لغوية:
استعمل المؤلف كلمة: "سائر" بمعنى بقية وهو الصحيح، ويخطئ من يستعملها بمعنى "جميع" كما نبه عليها غير واحد منهم الحريري في "درة الغواص" وابن الصلاح في تعليقه على "الوسيط" وغيرهما.
قال المؤلف:
(إلا من أفطر بجماع في الفرج فإنه يقضي):
أي: إلا من أفطر بأن جامع في الفرج،
فإن عليه أمران
أحدهما: قضاء ذلك اليوم الذي جامع فيه،
والثاني: كفارة الجماع في نهار رمضان وسيأتي الكلام عليها.
وضابط من تجب عليه الكفارة
** أنه الشخص الذي جامع في يوم من رمضان يجب عليه صومه وهو يعلم تحريم الجماع في نهار رمضان،
** فلا تجب الكفارة على الصبي والمجنون: لأنه لا يلزمه الصوم فلا قضاء عليه ولا كفارة، والمجنون كذلك.
**ولا تجب الكفارة على المسافر ولا المريض لأنهما معذوران، حتى وإن صاما في رمضان ثم جامع أحدهم أهله فلا كفارة عليهما على الصحيح لأنه لا يلزمهما صيامه.
**ولا تجب الكفارة على من جامع زوجته جاهلا بتحريم الجماع في نهار رمضان، وضابط الجهل الذي يعذر به هو الجهل بالتحريم لا الجهل بوجوب الكفارة، فإن قال: "أنا أعلم أن الجماع في نهار رمضان حرام لكني لا أعلم بهذه الكفارة". فإن الكفارة تلزمه لا محالة.
**ومن جامع في رمضان وهو معافى ثم مرض، أو جامع وهو عاقل ثم أصابه جنون، فإن ذلك لا يسقط عنه الكفارة لأن العبرة بوقت الجماع، وهذا قول مالك ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي وهو الصحيح لأن العبرة بوقت الجماع، وقيل: تسقط وهو قول أبي حنيفة والقول الآخر للشافعي.
ضابط الجماع:
وضابط الجماع الذي تجب به الكفارة أنه الجماع الذي يوجب الغسل، وهو ولوج الحشفة في الفرج وإن لم ينزل، ويرى الحنابلة أنه يعم الجماع في الفرج قبلا أو دبرا، وانتصر لهم شيخ الإسلام فقد قال كما في "مجموع الفتاوى": (فإن الوطء في الدبر يفسد العبادات التي تفسد بالوطء في القبل كالصيام والإحرام والاعتكاف ويوجب الغسل) أ.هـ
فالجماع في الدبر كالجماع في القبل من جهة إفساد العبادات، لكن هذا من جهة إفساد الصوم لا من جهة الكفارة.
واختلف العلماء في الزنا،
والصحيح أنه لا يلحق بجماع الرجل لزوجته لأمرين:
أحدهما: أن الكفارة لا تكون في المحرم بأصله، وإنما في المحرم بوصفه، ولذلك يقول الفقهاء بالكفارة في جماع الحائض ولم يذكروا كفارة فيمن أتى امرأته في الدبر، ويقولون: إن من حلف يميناً بالله تعالى أو باسم من أسماء الله أو بصفة من صفاته، فيجب عليه أن يحفظ اليمين، فإن رأى غيرها خيراً منها يأتي التي حلف ويكفر عن يمينه، أما رجل حلف بالله كاذبأ وهو يعلم أنه كاذب في يمينه، فليس عليه كفارة، لأنه أتى بشيء ليس بمشروع بالأصل ولا بالوصف.
والثاني: أن الكفارة لا تقدر على تكفير هذه الفاحشة، فهي أعظم إثما وأشد جرما من أن تكفر.
كفارة من جامع زوجته في نهار رمضان:
ومن جامع زوجته في نهار رمضان وهو ممن يجب عليه صوم هذا اليوم فعليه أمران:
الأول قضاء ذلك اليوم: وهذا قول الجماهير وأحد قولي الشافعي، واستندوا إلى رواية: (وصم يوما مكانه) رواها أبو داود وغيره، ولها شواهد عند البيهقي وغيره.
قال الحافظ في "فتح الباري": (وبمجموع هذه الطرق تعرف أن لهذه الزيادة أصلا) أ.هـ
وقال العلامة الألباني تعليقا: (وهو كما قال رحمه الله تعالى فإنه من المستبعد جدا أن تكون باطلة وقد جاءت بهذه الطرق الكثيرة، لا سيما وفيها طريق سعيد المرسلة وهي وحدها جيدة، وبذلك رددنا على ابن تيمية رحمه الله قوله بضعفها في رسالة في "الصيام" فيما علقناه عليها وقد طبعت في "المكتب الاسلامي") أ.هـ
قال البغوي في "شرح السنة":
(وقوله: "صم يوماً واستغفر الله" فيه بيان أن قضاء ذلك اليوم لا يدخل في صيام الشهرين عن الكفارة، وهو قول عامة أهل العلم غير الأوزاعي) أ.هـ
وقال الأوزاعي والشافعي في القول الآخر: إن من كانت عليه كفارة جماع فليس قضاء ذلك اليوم وهو اختيار شيخ الإسلام وقد نقل عن الإمام أحمد أنه ضعف هذه الرواية.
قال شيخ الإسلام: (لا يقضي متعمد بلا عذر صوما ولا صلاة)،
وقال: (ولا يصح منه، وأنه ليس في الأدلة ما يخالف هذا، بل يوافقه، وضعف أمره عليه السلام المجامع بالقضاء لعدول البخاري ومسلم عنه) أ.هـ
والصحيح أن عليه القضاء لصحة الروايات في ذلك، وقد صححه جماعة منهم الحافظ ابن حجر والعلامة الألباني وغيرهم.
والثاني أن يكفر.
وسيأتي الكلام عليه قريبا.
قال المؤلف:
(ويعتق رقبة):
أي: وعليه مع القضاء كفارة، وكفارة المجامع في نهار رمضان هي كفارة الظهار، يبدأها بعتق رقبة، ولا يشترط فيها السلامة من العيب، وإنما يشترط في الرقبة أن تكون مؤمنة وهو قول الجمهور وهو الصحيح, ويصح إعتاق غير المميز بشرط كون أحد أبويه مسلماً.
قال الأزهري:
(إنما قيل لمن أعتق نسمة أعتق رقبة وفك رقبة، فخصت الرقبة دون بقية الأعضاء لأن، حكم السيد وملكه كالحبل في رقبة العبد، وكالغل المانع له من الخروج عنه، فإذا أعتق فكأنه أطلق من ذلك).
قال المؤلف:
(فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين):
**فإن لم يجد رقبة يعتقها فينتقل إلى صيام الشهرين المتتابعين، وتكفي لصيام الشهرين نية واحدة في أول الصيام، إلا إن حصل قطع لهذا الصيام المتتابع بعذر كمرض أو سفر فلابد من استئناف النية ليلاً.
**والنية الواجبة في صيام الشهرين هي نية الصيام لا نية التتابع.
**ولا يشترط أن يتم الشهرين قبل أن يتماسا فإنما ذلك في الظهار، وهذه أحد الفروق بين كفارة الظهار وكفارة المجامع في نهار رمضان.
**وضابط عدم وجود الرقبة هو أنه لا يملكها ولا يملك ثمنها، فإذا كان يملكها لكنه يحتاجها حاجة شديدة ولا غنى له عنها، فلا يعتبر واجدا لأن العتق إنما يكون من المال الفائض على الحوائج الأصلية، وكذلك إذا كانت عنده قيمة الرقبة لكنه يحتاجها للحوائج الأصلية والنفقات على نفسه وأهله وولده فلا تجب عليه، وحدود مال النفقة ما يعادل نفقة سنة لنفسه ولمن يمونه، فإن لم يجد ما يكفيه من المال لعتق الرقبة فله أن ينتقل إلى الصيام، ودليلنا القاعدة الفقهية تقول: (الحوائج الأصلية للانسان لا تعد مالا فاضلا).
قال المؤلف:
(فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا):
فإن لم يستطع صيام الشهرين المتتابعين فينتقل إلى إطعام الستين مسكينا، ولا ينتقل إلا إذا عجز، وضابط العجز عن صيام الشهرين هو ضابط العجز عن صيام شهر رمضان، فلا ينتقل إلى الإطعام إلا إذا عجز عن الصيام لكبر سن, أو مرض لا يرجى برؤه، فإذا كان المرض يرجى زواله فلا يجوز له الانتقال إلى الإطعام.
وسئل الشيخ العثيمين: (ما هو ضابط القدرة في الصيام فيمن وجب عليه كفارة جماع في نهار رمضان ؟ فأجاب: أما القدرة بينه وبين الله، فمن علم من نفسه القدرة لم يجزئه الانتقال من الصيام إلى الإطعام، وينبغي أن يقال للمستفتي: ألم تصم شهر رمضان ؟ فكذلك صم شهرين متتابعين كفارة لما وقع منك، إلا أن يكون معذورا) أ.هـ
"ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين" (ص 118).
والمرجع في الإطعام وجنسه هو العرف لا الشرع وهو ما حققه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله, فيطعم من أوسط ما يطعم أهله قدراً ونوعاً.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى":
(ومقدار ما يطعم مبني على أصل وهو أن إطعامهم: هل هو مقدر بالشرع، أو بالعرف ؟!
فيه قولان للعلماء،
**منهم من قال: هو مقدر بالشرع وهؤلاء على أقوال منهم من قال: يطعم كل مسكين صاعا من تمر أو صاعا من شعير أو نصف صاع من بر كقول أبي حنيفة وطائفة. ومنهم من قال: يطعم كل واحد نصف صاع من تمر وشعير أو ربع صاع من بر، وهو مد كقول أحمد وطائفة، ومنهم من قال: "بل يجزئ في الجميع مد من الجميع كقول الشافعي وطائفة.
**والقول الثاني: أن ذلك مقدر بالعرف لا بالشرع، فيطعم أهل كل بلد من أوسط ما يطعمون أهليهم قدرا ونوعا، وهذا معنى قول مالك قال إسماعيل بن إسحاق: كان مالك يرى في كفارة اليمين أن المد يجزئ بالمدينة، قال مالك: وأما البلدان فإن لهم عيشا غير عيشنا فأرى أن يكفروا بالوسط من عيشهم ؛ لقول الله تعالى: "من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم" وهو مذهب داود وأصحابه مطلقا، والمنقول عن أكثر الصحابة والتابعين هذا القول، ولهذا كانوا يقولون الأوسط خبز ولبن خبز وسمن خبز وتمر. والأعلى خبز ولحم، وقد بسطنا الآثار عنهم في غير هذا الموضع وبينا أن هذا القول هو الصواب الذي يدل عليه الكتاب والسنة والاعتبار) أ.هـ
**وينبغي أن يعلم أن العدد مشروط في كفارة الإطعام، فيجب استيعاب الستين مسكينا في كفارة الإطعام، فإن أطعم عشرة مساكين ست مرات، أو أطعم عشرين مسكينا ثلاث مرات، لم يجزئه إلا بعدد ما أطعم لأن القرآن اشترط العدد، وهذا قول الجمهور.
شرط الكفارة العلم بالتحريم:
**وشرط وجوب الكفارة العلم بالتحريم، فلا تجب الكفارة على من جامع زوجته جاهلا بتحريم الجماع في نهار رمضان.
**وضابط الجهل الذي يعذر به هو الجهل بالتحريم لا الجهل بوجوب الكفارة وبين الأمرين فرق، فإن قال: "أنا أعلم أن الجماع في نهار رمضان حرام لكني لا أعلم بهذه الكفارة". فإن الكفارة تلزمه لا محالة.
**ومن جامع في رمضان وهو معافى ثم مرض، أو جامع وهو عاقل ثم أصابه جنون، فإن ذلك لا يسقط عنه الكفارة لأن العبرة بوقت الجماع، وهذا قول مالك ومذهب أحمد وأحد قولي الشافعي وهو الصحيح، وقيل: تسقط وهو قول أبي حنيفة والقول الآخر للشافعي.
مسألة:
ومن أكل وشرب متعمدا ليجامع زوجته وهو مفطر هل تسقط عنه الكفارة ؟!
تجب الكفارة على من جامع زوجته في رمضان بدون عذر، وسواء سبقه أكل وشرب أو لم يسبقه على الصحيح،
وفي هذه المسألة خلاف، وحقيقتها: أن من أكل وشرب في نهار رمضان ثم جامع زوجته هل تجب عليه كفارة الجماع في نهار رمضان أم لا تجب عليه ؟
في المسألة قولان للعلماء:
أحدهما: أن الكفارة تجب لأن الكفارة متعلقة بالجماع في نهار رمضان سواء أكل قبله وشرب أو لم يأكل: وهو قول الجمهور كمالك وأحمد وأبي حنيفة وغيرهم وهو اختيار شيخ الإسلام وتلميذه العلامة ابن القيم.
والثاني: لا تجب الكفارة لأن الكفارة إنما تجب على من جامع وهو صائم صياما صحيحا ومن أكل وشرب قبل الجماع فإنه قد جامع وهو مفطر فلا كفارة عليه، وهو مذهب الشافعي.
والصحيح هو قول الجمهور لأمور:
الأول: أن الكفارة تجب بهتك حرمة شهر رمضان بالجماع، وهتك حرمة الشهر بالجماع حاصلة في الموضعين بعد الأكل أو بدونه، بل هي في هذا الموضع أشد، لأنه عاص بفطره أولا فصار عاصيا مرتين فكانت الكفارة عليه أوكد.
والثاني: أنه لو لم تجب الكفارة على مثل هذا المتلاعب لصار ذريعة إلى إسقاط الكفارة، فإنه لا يشاء أحد أن يجامع في رمضان إلا أمكنه أن يأكل ثم يجامع بل ذلك أعون له على مقصوده، فيكون قبل الغداء عليه كفارة، وإذا تغدى هو وامرأته ثم جامعها فلا كفارة عليه، وهذا شنيع في الشريعة لا ترد بمثل هذه الحكم، فإنه قد استقر في العقول والأديان أنه كلما عظم الذنب كانت العقوبة أبلغ.
والثالث: أن المجامع كثيرا ما يفطر قبل الإيلاج فتسقط الكفارة عنه بذلك على هذا القول وهذا ظاهر البطلان.
قال المؤلف:
(فإن لم يجد سقطت عنه):
أي: فإن لم يجد قيمة ما يطعم به الستين مسكينا سقطت عنه الكفارة، هكذا يرى المؤلف وهذا اختياره،
والمسألة فيها خلاف على قولين هما قولان للشافعي وروايتان عن أحمد:
الأول: أنه إذا عجز عن الإطعام سقطت عنه الكفارة: وهذا مذهب أبي حنيفة ورواية عن أحمد وهي المذهب عند أصحابه.
والثانية: أنه إذا عجز عن الإطعام تبقى الكفارة في ذمته ويكفر متى ما قدر عليها وهذا مذهب مالك، وهي رواية عن أحمد، وقول آخر للشافعي هو الصحيح من مذهبه.
قال ابن مفلح في "الفروع" (ولعل هذه الرواية أظهر) أ.هـ
وهو اختيار النووي من الشافعية، وهو الصحيح عند التحقيق وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يسقطها عن الأعرابي بعد ما أخبره بعسرته، بل أمر بها الأعرابي لما جاءه العرق، ولأنها كسائر الكفارات واجبة لا تسقط بالعجز عنها.
قال النووي في "شرح صحيح مسلم":
(والصحيح عند أصحابنا أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياساً على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره. وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها، لأنه أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه عاجز عن الخصال الثلاث ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة، فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء ولم يأمره بإخراجه، فدل على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه كان محتاجاً ومضطراً إلى الإنفاق على عياله في الحال، والكفارة على التراخي، فأذن له في أكله وإطعام عياله وبقيت الكفارة في ذمته) أ.هـ باختصار.
مسألة:
وينبغي أن يعلم أن وقت تعيين الواجب من أنواع الكفارة هو وقت وجوب الكفارة، فإذا كان في وقت وجوب الكفارة عاجزا عن العتق، فيجب عليه صيام الشهرين حتى وإن وجد الرقبة فيما بعد، وإذا كان في وقت وجوب الكفارة عاجزا عن صيام الشهرين، فيجب عليه الإطعام حتى وإن قدر على الصيام فيما بعد.
مسألة:
وهل تجب على المرأة كفارة الجماع ؟
قولان للعلماء في هذه المسألة:
أحدهما: أنه تجب عليها الكفارة كما تجب على الرجل، وهذا قول أبي حنيفة ومالك وأحمد وأصحابهم.
واحتجوا بأن النساء شقائق الرجال، وما فرض على الرجال فالأصل أنه مفروض على النساء إلا بدليل يدل على أن المرأة مخصوصة من هذا الحكم.
والثاني: أنها لا تجب عليها كفارة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفرض عليها ولم يشر إليها مع قدرته على ذلك، وهذا مذهب الشافعي وداود.
وأما من احتجوا بأن النساء شقائق الرجال، وما فرض على الرجال فالأصل أنه مفروض على النساء، فيقال: هذا صحيح من حيث الجملة، لكن حكم الرجل في الجماع يختلف عن حكم المرأة، فالرجل هو الذي يملك آلة الجماع وهو الذي يملك إيقاع الجماع وعدمه، وتسبب الرجل في الجماع أعظم من المرأة فلو شاء أن يقع الجماع أوقعه وإن شاء غير ذلك لم يقع، فكان هو المستحق للكفارة دون المرأة، لكن المرأة إن كانت مطاوعة فهي آثمة، وإلا فلا شيء عليها، وهذا هو الصحيح لما تقدم.
مسألة:
ولو كفر عنه شخص آخر جاز، ولكن لا يكفر إلا بإذنه، لأنها من العبادات التي يشرع النيابة فيها، لكن تحتاج إلى نية التوكيل.
وجوب الترتيب في كفارة الجماع في نهار رمضان:
وقول المؤلف فيما تقدم: (فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا) يدل على أنه يرى الترتيب ولا يرى التخيير وهو الصحيح،
** والفرق بين الترتيب والتخيير أن التخيير يخير المسلم فيها بين العتق وصيام الشهرين والإطعام، فأيهما اختار فلا حرج عليه حتى وإن انتقل من الأعلى إلى الأدنى،
** وأما الترتيب فإنه لا يشرع الإنتقال إلى الأدنى إلا بالعجز عن أداء الأعلى، وفي المسألة قولان:
الأول: أنه يجب مراعاة الترتيب وهو قول الجمهور.
والثاني: أنه لا يجب الترتيب وهو قول المالكية وأفضلها الإطعام عندهم.
والصحيح وجوب الترتيب لحديث أبي هريرة: (أن رجلا قال: "يا رسول الله وقعت على امرأتي وأنا صائم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هل تجد رقبة تعتقها ؟" قال: "لا" قال: "فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين ؟" قال: "لا" قال: "هل تجد إطعام ستين مسكينا ؟" قال: "لا" فسكت فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق تمر فقال: "أين السائل؟ "خذ هذا تصدق به" فقال الرجل: "على أفقر مني يا رسول الله ؟" فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أفقر من أهل بيتي" فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه ثم قال: "أطعمه أهلك"). متفق عليه.
فهذه الرواية تدل على وجوب الترتيب، ورواية الصحيحين هي رواية الترتيب،
وجاء في "الموطأ" لمالك وعنه مسلم في "صحيحه" رواية تدل على التخيير وفيها: (فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا)، وهي رواية تدل على التخيير لا الترتيب، والذين رووا رواية الترتيب أكثر عددا وأقوى ضبطا ممن روى رواية التخيير، فقد روى رواية الترتيب أكثر من ثلاثين شخصا، كلهم اتفقوا على أن الرواية على الترتيب وأن الافطار كان بالجماع.
قال العلامة الألباني في "إرواء الغليل": (فروايتهم أرجح لأنهم أكثر عددا، ولأن معهم زيادة علم ومن علم حجة على من لم يعلم، وثمة مرجحات أخرى فانظر "الفتح") أ.هـ
أقول: فالصحيح أنه لا ينتقل إلى شيء حتى يعجز عن الشيء الذي قبله.

تتمة الأربعة الذين ذكرهم المؤلف رحمه الله في قوله :
ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام:
أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له القصر فالفطر لهما أفضل وعليهما القضاء وإن صاما أجزأهما.
الثاني: الحائض والنفساء تفطران وتقضيان وإن صامتا لم يجزئهما.
الثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا.
الرابع: العاجر عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عن كل يوم مسكينا.
—————————————-
قال المؤلف:
(الرابع: العاجز عن الصيام لكبر أو مرض لا يرجى برؤه فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا):
أي: القسم الرابع ممن يشرع له الفطر العاجز عن الصيام عجزا مستمرا.
وهؤلاء قسمان :
أحدهما: العاجز لأنه كبير في السن كالشيخ والشيخة.
والثاني: العاجز لأنه مريض مرض لا يرجى برؤه، لأنه في حكم الكبير لعلة الاشتراك في العجز المستمر، فهذان الصنفان – وهما الكبير والمريض مرضا مزمنا – إذا كان ينالهما بالصوم مشقة لا تحتمل فلا صوم عليهما بلا خلاف،
وقد نقل الإجماع ابن المنذر وغيره، ويكفي وجود المشقة ولا يشترط خوف الهلاك.
ولا ينتقل إلى الكفارة إلا مع وجود العقل، فمن ذهب عقله بجنون أو تخريف، فلا يجب عليه الصوم ولا يطعم عنه بدل الصوم، وإنما يطعم عن المريض مرضا لا يرجى برؤه وعن العاجز عن الصيام لكبر سنه إذا كان عاقلا.
التخريف:
والتخريف عبارة عن ضعف مكتسب وشامل للذاكرة، والمصاب بالخرف يقوم بتصرفات غير معتادة كأن يستيقظ في وقت متأخر من الليل أو يلبس ملابس العمل، ولا يقدر على ولا التمييز بين الأشخاص، ولا بين الأوقات، ولا يقدر على ضبط السبيلين، ويهمل نظافة الجسم ويتحرك بدون هدف، ولا يعرف مكان وجوده والتاريخ واليوم الذي هو فيه، ولا يفهم من يخاطبه حول الصلاة والصيام أو غيرها، وإذا فهم إجمالا فسرعان ما ينسى.
وليس من شرط التخريف أن تظهر كل هذه العلامات بل يكفي بعضها، فمثل هذا سقط عنه التكليف فلا صلاة عليه ولا صيام، ولا يؤمر بهما لأنه غير مكلف.
(وللمزيد حول الشيخوخة راجع مقال: "الشيخوخة مصير…وتحديات: للطبيب / حسان شمسي باشا. استشاري أمراض القلب، والمقالة موجودة ضمن: "مجلة مجمع الفقه الإسلامي" العدد الثاني عشر.)
وفي وجوب الفدية بالإطعام قولان لأهل العلم:
أحدهما: وجوب الإطعام وهو قول جمهور العلماء والشافعي في الجديد،
والثاني: أن الفدية لا تلزمهما وهو قول مكحول وربيعة ومالك وأبو ثور لا فدية والشافعي في القديم واختاره ابن المنذر.
وقوله: "فإنه يطعم عنه عن كل يوم مسكينا" هو نصف صاع الطعام عن كل يوم سواء كان الطعام من البر أو التمر أو الشعير أ وغيرها من أقوات البلد.
وقال أبو حنيفة: يجب لكل يوم صاع تمر أو نصف صاع حنطة، وقال أحمد: مد حنطة أو مدان من تمر أو شعير.
**ويشرع أن يطعم طعاما مطبوخا ويكون بقدر ما يتعارف عليه الناس أنه مشبع،
**ولو أعطى الطعام كله لمسكين واحد فلا حرج لأن العدد غير مطلوب في كفارة الإطعام عن الكبير ونحوه، بخلاف ما لو طلب النص عددا معينا ككفارة اليمين وكفارة الظهار والجماع في نهار رمضان فيجب الوقوف مع العدد امتثالا.
**ولا تدفع الكفارة مالا بل تدفع طعاما وقوفا من النص وهو قول جماهير أهل العلم، وهي "فتوى اللجنة الدئمة"، إلا إذا دفعها لجهة معينة تقوم هذه الجهة بشراء الطعام للمساكين فلا حرج حينئذ، لأن هذا من التوكيل والتوكيل جائز في هذا الباب.
**ويخير في هذا الإطعام إما أن يطعم كل مسكين بيومه، وإما أن ينتظر حتى ينتهي الشهر فيطعم مساكين بعدد أيام الشهر، وقد قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في "الشرح الممتع": (ووقته – يعني وقت الإطعام – بالخيار إن شاء فدى عن كل يوم بيومه، وإن شاء أخر إلى آخر يوم لفعل أنس رضي الله عنه) أ.هـ
وهل يشرع له أن يقدم الإطعام قبل الصوم، كأن يطعم ثلاثين مسكينا في آخر شعبان بنية أنه عن رمضان القادم ؟!
قولان للفقهاء:
**فالشافعية على أن هذا لا يجزئ لأنه تقدم على سببه وما تقدم على سببه فلا يجزئ كمن كفر عن يمين لم يحلفها بعد، أو صلى فريضة ولم يدخل وقتها بعد ونحو ذلك.
قال النووي في "المجموع":
(اتفق أصحابنا على أنه لا يجوز للشيخ العاجز والمريض الذى لا يرجى برؤه تعجيل الفدية قبل دخول رمضان، ويجوز بعد طلوع فجر كل يوم).
واختاره من المعاصرين الشيخ العثيمين فقد سئل رحمه الله: (ما حكم تقديم الإطعام لمريض لا يرجى برؤه لشهر رمضان ؟
فأجاب: لا يفعل لعدم تحقق الوجوب، فقد يموت أثناء الشهر فإن قال: "أفعل وما يحتمل أن يكون زائدا عن الواجب فهو صدقة" صار إطعامه مترددا فيه بين الصدقة والواجب ولا يصح، ولهذا كان أنس رضي الله عنه يجمع ثلاثين فقيرا آخر الشهر فيطعمهم.) أ.هـ
(انظر "ثمرات التدوين من مسائل ابن عثيمين" (ص 116).)
**وآخرون على جواز التقديم،
واختاره من المعاصرين سماحة الشيخ ابن باز حيث قال في "مجموع فتاواه ومقالاته": (ويجوز إخراج الإطعام في أول الشهر وفي وسطه وفي آخره) أ.هـ
والنفس تطمئن إلى الأول.
وإذا شفى الله المريض مرضا مزمنا بعد فترة فإنه يصوم ما سيأتي عليه من أشهر رمضان، وأما ما تقدم من الأشهر فإنه لا يجب عليه قضاؤها على الصحيح لأنه أفطر بطريقة شرعية فسقط عنه الصيام لذلك.
وقوله: "لا يرجى برؤه":
الرجاء هو الأمل، فانعدام الأمل في شفائه يكفي في انتقاله إلى الإطعام، ومعناه أنه يكفي غلبة الظن في الحكم، وهذا صحيح فليس من الشروط أن نقطع قطعا ونجزم جزما بأنه لا يشفى، بل يكفي وجود اليأس عند المتخصصين من أهل الطب ونحوهم.

والمهم أنه لا يشرع له أن يقدم الإطعام عن أيام لم يصمها بعد، كأن يطعم ثلاثين مسكينا في آخر شعبان بنية أنه عن رمضان القادم فهذا لا يجزئ لأنه تقدم على سببه.

الخلاف في حكم الحامل والمرضع

وفي الحامل والمرضع خلاف بين العلماء على أقوال كثيرة نقلها ابن المنذر وابن رشد في "بداية المجتهد" وغيرهما، ونحن نلخصها مع شيء من التوضيح.
فأشهر الأقوال التي فيها أربعة أقوال:
القول الأول أنهما يطعمان ولا قضاء عليهما:

وقد صح ذلك عن ابن عمر وابن عباس، وقال بهذا القول الحسن البصري وعطاء بن أبي رباح والضحاك والنخعي والزهري وربيعة والأوزاعي وأبي ثور وأبي عبيد وإسحاق بن راهويه.

أدلة هذا القول:
الدليل الأول قوله تعالى: (وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين)، فقد أدخل ابن عباس الحامل والمرضع في الآية، فقد روى أبو داود عن ابن عباس أنه قال: (أثبتت للحبلى والمرضع) وسنده صحيح.
وروى أبو داود عن عكرمة عن ابن عباس قال: (فى قوله تعالى: "وعلى الذين يطيقونه": "كانت رخصة للشيخ الكبير والمرأة الكبيرة وهما لا يطيقان الصيام – يعنى يتحملانه بمشقة شديدة – أن يفطرا ويطعما مكان كل يوم مسكينا، والحبلى والمرضع إذا خافتا-يعنى على أولادهما – أفطرتا وأطعمتا).
قال أبو داود: (يعني: على أولادهما أفطرتا وأطعمتا).
وسيأتي معنا إن شاء الله قول ابن عباس لأم ولد له: (أنت من الذين لا يطيقون الصيام عليك الجزاء وليس عليك القضاء) فأدخلها في الآية.
قال أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ":
(وأما الذين رأوا أن عليهما أن يطعما ولا يقضيا، فإنهم أرادوا أنهما ليستا من السفْر ولا المرضى الذين فرضهم القضاء، ولكنهما ممن كلف الصيام وطوقه فليس بمطيق، فهم من أهل الفدية، ليس يلزمهم سواها لقوله: "وعلى الذين يطوقونه فدية طعام مسكين" وهي قراءة ابن عباس وفتياه، فكان تأويله على لفظ قراءته، وكذلك قرأها عكرمة، وسعيد بن جبير وأظن مجاهدا كان عليها أيضا) أ.هـ
قال أبو جعفر بن النحاس في "الناسخ والمنسوخ":
(وحجة من قال عليهما الفدية بغير قضاء الآية أيضا، وليس في الآية قضاء) أ.هـ
واعترض بعضهم على هذا الاستدلال فقال: "إن الآية كلها منسوخة"،
وأجيب بأن هذا ليس بصحيح وإنما المنسوخ بعض الآية،
فقد ذكر ابن حزم في "الناسخ والمنسوخ" وابن سلامة في "الناسخ والمنسوخ" بأن نصف هذه الآية منسوخ ونصفها محكم، لأن الآية اشتملت على مسألتين:
الأولى: مشروعية جواز انتقال المكلف القادر من الصوم إلى الإطعام فهذا منسوخ.
والثانية: أن الشيخ الكبير والمرأة العجوز والحامل والمرضع يطعمون، وهذا الحكم بقي على ما هو عليه.
والدليل الثاني
الآثار عن الصحابة في تفسير هذه الآية:
أخرج ابن جرير في "تفسيره" وابن الجارود في "المنتقى" والبيهقي في "الكبرى" عن ابن عباس قال: (رخص للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة في ذلك وهما يطيقان الصوم أن يفطرا إن شاءا ويطعما كل يوم مسكينا ولا قضاء عليهما ثم نسخ ذلك في هذه الاية: "فمن شهد منكم الشهر فليصمه" وثبت للشيخ الكبير والعجوز الكبيرة اذا كانا لا يطيقان الصوم والحبلى والمرضع إذا خافتا أفطرتا وأطعمتا كل يوم مسكينا).
وروى ابن جرير عن ابن عباس قال:
(إذا خافت الحامل على نفسها والمرضع على ولدها في رمضان قال: "يفطران ويطعمان مكان كل يوم مسكينا ولا يقضيان صوما). قلت: وإسناده صحيح.
وروى الدارقطني عن سعيد بن جبير أن بن عباس: قال لأم ولد له حبلى أو ترضع:
(أنت من الذين لا يطيقون الصيام عليك الجزاء وليس عليك القضاء). قال الدارقطني: (إسناد صحيح).
وروى الدارقطني عن ابن عمر:
(أن امرأته سألته وهي حبلى فقال: "أفطري وأطعمي عن كل يوم مسكينا ولا تقضي"). وإسناده جيد.
وروى الدارقطني عن نافع قال:
(كانت بنت لابن عمر تحت رجل من قريش وكانت حاملا فأصابها عطش في رمضان فأمرها إبن عمر أن تفطر وتطعم عن كل يوم مسكينا). وإسناده صحيح.
واعترض على ما تقدم بما يلي:
الاعتراض الأول:
أن أثر عن ابن عباس قد صح خلافه، فقد روى عبدالرزاق في "المصنف" عن الثوري عن ابن جريج عن عطاء عن ابن عباس قال: "تفطر الحامل والمرضع في رمضان، وتقضيان صياما ولا تطعمان".
قالوا: وإسناده صحيح، وعنعنة ابن جريج عن عطاء محمولة على السماع.
فقد قال الشيخ العلامة الألباني في "إرواء الغليل": (روى أبو بكر بن أبي خيثمة بسند صحيح عن ابن جريج قال: "إذا قلت: قال عطاء فأنا سمعته منه وإن لم أقل سمعت". فهذا نص منه أن عدم تصريحه بالسماع من عطاء ليس معناه أنه قد دلسه عنه،ولكن هل ذلك خاص بقوله: "قال عطاء" أم لا فرق بينه وبين ما لو قال "عن عطاء" كما في هذا الحديث وغيره ؟ الذي يظهر لي الثاني وعلى هذا فكل روايات ابن جريج عن عطاء محمولة على السماع. إلا ما تبين تدليسه فيه. والله أعلم) أ.هـ
وأجيب بأن حملها على السماع إن صح ففيما لا يعارض الآثار الصحيحة عنهم، وعنعة ابن جريج كعنعنة أي مدلس، وما زال العلماء يضعفون الحديث بعنعنة ابن جريج، ومنهم الشيخ الألباني نفسه، فقد ضعف أحاديث بعنعنة ابن جريج عن عطاء في أكثر من موضع من كتبه يضعف الحديث. انظر مثلا: "الإرواء" تخريج: (75)، وإن صح أثر ابن عباس، فقوله الذي هو تفسيره للآية، وموافق لقول ابن عمر، مقدم على القول الآخر المخالف لهما.
والاعتراض الثاني:
أنه قد روى البيهقي في "السنن الكبرى" بالسند المتصل عن ابن عمر، أن امرأة حبلى صامت في رمضان فاستعطشت، فسئل عنها ابن عمر: "فأمرها أن تفطر وتطعم كل يوم مسكينا مدا ثم لا يجزيها فإذا صحت قضته).
وهذا يدل على أن ابن عمر وابن عباس كان يفتيان بما يوافق الجمهور من وجوب القضاء عليهما.
وأجيب بأن أثر ابن عمر المذكور في سنده نظر، ففيه محمد بن عبد الرحمن بن أبي لبيبة، متكلم فيه، وفي روايته اختلاف، فتارة يرويه بالإطعام دون القضاء وتارة مع القضاء، فأثر ابن عمر قد رواه غير واحد من طرق مختلفة، فهو صحيح عنه هو وابن عباس، والأخذ به أولى لأمور كما سيأتي.
الاعتراض الثالث:
إن صحت هذه الآثار فقد رأى بعض العلماء أن قول ابن عباس وابن عمر في عدم القضاء، مخالف لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم فيقدم الحديث كما نقل ابن قدامة عن الإمام أحمد.
وأجيب بأنه ليس هناك حديث صريح في إيجاب القضاء في هذه المسألة.

والقول الثاني أنهما يقضيان فقط:
وبه قال أبو حنيفة وأصحابه وأبو عبيد وأبو ثور.
وحجتهم في القضاء ما يلي:
أولا:
ما ورد عن أنس بن مالك عن رجل من بني عبد الله بن كعب إخوة بني قشير قال: (أغارت علينا خيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فانتهيت – أو فانطلقت – إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يأكل، فقال: "اجلس فأصب من طعامنا هذا". فقلت: إني صائم!. قال: " اجلس أحدثك عن الصلاة وعن الصيام: إن الله تعالى وضع شطر الصلاة – أو نصف الصلاة – والصوم عن المسافر وعن المرضع والحبلى"). رواه أبو داود وغيره وسنده صحيح.
واختاره من المعاصرين سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ العثيمين.
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في "مجموع فتاواه ومقالاته":
(أما الحامل والمرضع فيلزمهما الصيام، إلا أن يشق عليهما فإنه يشرع لهما الإفطار وعليهما القضاء كالمريض والمسافر، هذا هو الصحيح من قولي العلماء في حقهما، وقال جماعة من السلف: يطعمان ولا يقضيان كالشيخ الكبير والعجوز الكبيرة، والصحيح أنهما كالمريض والمسافر تفطران وتقضيان) أ.هـ
وأجيب عما ذكروه بما يلي:
أولا: أن الحديث ليس فيه ذكر القضاء للحامل والمرضع، وإنما فيه أن الله حط عنهما الصيام وهذا شيء متفق عليه، لكن الخلاف هو: هل عليها القضاء أم عليها الإطعام ؟! وليس في الحديث ما يشير إلى أحدهما.
وأما الاستدلال بدلالة اقتران الحامل والمرضع بالمسافر على أنهما كالمسافر في الحكم، فدلالة الاقتران ضعيفة عند كثير من الأصوليين، وربما يستدل بها في مواضع دون مواضع أخرى كما بينه العلامة ابن القيم في "إعلام الموقعين".
ثانيا: احتجوا كذلك بأنهما تقاسان على المريض.
وأجيب عن ذلك بأن الحامل والمرضع ليستا مريضتين لا لغة ولا عرفا، ولا يقاسان على المريض للفارق بينهما، فالحامل والمرضع تمر عليهما عدة سنوات على هذا الحال من حمل يبقى تسعة أشهر إلى رضاعة تبقى سنتين على أقل الأحوال ثم إلى حمل جديد، وهكذا دواليك، بخلاف المريض الذي يعترضه المرض ويطرأ عليه وقتا ثم يذهب، فإن قيستا على المريض فهي إلى صاحب المرض مرضا مزمنا أقرب منها إلى صاحب المرض المؤقت.

والقول الثالث أنهما يقضيان ويطعمان:
وبه قال الشافعي وأحمد، وإنما يوجبون الجمع بين القضاء والإطعام فيما إذا كان الخوف من الصوم على الولد فقط، فحينئذ لهما الفطر وعليهما القضاء والفدية، أما إذا خافتا من الضرر على أنفسهما والولد جميعا، أو على أنفسهما فقط، فيوجبان عليهما القضاء فقط.
وأجيب عن ذلك بأن الإطعام شيء زائد لم يدل عليه دليل من الكتاب ولا من السنة ولا من قول الصحابة.
قال الشيخ العثيمين:
(وقال بعض العلماء: ليس عليهما سوى القضاء على كل حال، لأنه ليس في إيجاب الإطعام دليل من الكتاب والسنة. والأصل براءة الذمة حتى يقوم الدليل على شغلها وهذا مذهب أبي حنيفة وهو قوي) أ.هـ

والقول الرابع أنهما لا يقضيان ولا يطعمان:
وهذا قول ابن حزم، وقد أفتى به بعض المعاصرين من الظاهرية، وقد أنكره عليه الشيخ عبد العزيز بن باز برسالة خاصة موجودة في "مجموع فتاواه ومقالاته" (15/230).
قال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز:
(لا قائل من أهل العلم بسقوط القضاء والإطعام عنهما سوى ابن حزم في المحلى، وقوله هذا شاذ مخالف للأدلة الشرعية ولجمهور أهل العلم فلا يلتفت إليه ولا يعول عليه) أ.هـ

والصحيح أن الحامل والمرضع إذا اختارتا الإفطار فإنه يشرع لهما الإطعام، وليس عليهما القضاء لما يلي:
الوجه الأول:
**أن الصحابة مثل ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما قد أفتوا بالإطعام، ولا مخالف لهم من سائر الصحابة، سوى ما ذكر من أقوال أخرى لهم هم أنفسهم، ولا يصح معارضة هذه الآثار بالروايات الأخرى، لأن أسانيد الإطعام إليهم أصح من الأسانيد المعارضة، فقد روى عن ابن عباس القول بالإطعام كبار الصحابة كسعيد بن جبير وعطاء، وعكرمة وغيرهما، في الوقت الذي نرى أن القول الآخر تقدم أن في بعض أسانيده عنعنة ابن جريج.
الوجه الثاني:
**ثم إن هذه الفتوى موافقة لظاهر الآية: (وعلى الذين يطيقونه). فهو أولى من القول الآخر الموافق لقول الجمهور.
الوجه الثالث:
**والحامل والمرضع هي أشبه بالكبير منها بالمريض، لأن الحامل والمرضع يشق عليها الصيام أداء وقضاء، فالحامل تفطر رمضان وتبقى عدة أشهر وهي حامل، ثم تضع المولود فتبقى ترضعه قرابة السنتين أو أكثر، فيمر عليها قرابة الثلاث سنوات وهي لا تصوم، فيتوالى عليها عدة رمضانات وهي عاجزة عن القضاء، وما إن تنتهي من فترة الرضاع، إلا وتدخل في حمل جديد، فهي أشبه ما يكون بالمريض المزمن، وهذا وإن لم يكن شأن كل الحوالم والمرضعات إلا أنه شأن كثير منهن، فإذا قلنا عليها القضاء فنحن نوجب عليها قضاء عدة سنوات أي: ثلاث رمضانات – على الأقل – وهذا فيه مشقة.
الوجه الرابع
** والقول بالإطعام أقرب إلى الصواب، لأنه الموافق لأصول الشريعة من التخفيف عن العاجز، والعاجز الذي يطعم ليس هو الذي يستمر عذره، بل العاجز هو الذي استمر عذره أو طال كثيرا وخرج على العادة.

تنبيهات:
وقبل ختم الموضوع ننبه على أمور مهمة:
أولا: لا يشرع للحامل والمرضع أن تفطرا بدون عذر كما قال الشيخ العثيمين، وإنما يشرع لهما الإفطار إذا حصل الخوف من الضرر، ويجب عليهما صيام رمضان إذا اختارتا الصيام ولا حرج عليهما.
ثانيا: الخلاف في الحامل والمرضع إنما هو في وجوب القضاء، والصحيح أنه لا يجب عليهما القضاء، لكنهم لم يختلفوا في صحة القضاء إذا اختارته.
ثالثا :
أصحاب المهن الشاقة
ذهب بعض المتأخرين – مثل صاحب "فقه السنة" – إلى أن أصحاب المهن الشاقة يرخص لهم في الفطر، إذا كان الصيام يجهدهم ويشق عليهم مشقة شديدة في جميع فصول السنة، ولاسيما الذين لا يجدون متسعا من الرزق غير ما يزاولون من أعمال، قياسا على الكبير والمريض مرضا مزمنا والحامل والمرضع،
وهذا القياس فاسد لأمور:
أولا: أن تلك الأعذار التي ينتقل بسببها المسلم من الصيام إلى الإطعام أعذار لا يمكن التخلص منها، فهي أعذار لازمة، بخلاف الأعمال الشاقة يمكن لأصحابها أن يتهيأوا لها بالإجازة أو نحوها.
ثانيا: أن عذر العمل الشاق كان موجودا في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وفي وقت نزول القرآن، فلم ينص عليه الشرع ولم يشر إليه – ولو إشار يسيرة -، مما يدل على أنه غير داخل في الأعذار المذكورة، فعرفنا بهذا أن هذا القياس قياس فاسد والله أعلم.

باب
أحكام المفطرين في رمضان

أي: هذه جملة من أحكام المفطرين في نهار رمضان من مرض أو سفر أو غيرهما، وهم على قسمين:
**إما معذور من الصيام مطلقا، فينتقل من الصيام إلى بدله وهو الإطعام.
**وإما معذور من الصيام مؤقتا، فيؤخر الصيام إلى وقت آخر.

قال المؤلف:
(ويباح الفطر في رمضان لأربعة أقسام):
أي: ويباح الفطر في نهار رمضان للمعذورين وهم على أربعة أقسام، وقد بنى المؤلف تقسيمه على أساس أنواع الأعذار.

قال المؤلف:
(أحدها: المريض الذي يتضرر به والمسافر الذي له القصر):
أي: هذا هو أحد الأقسام الأربعة وهما نوعان:
أولهما: المريض مرضا يتضرر معه بالصيام:
وذلك بأن يكون الصيام يضر المريض فيضاعف المرض أو يؤخر الشفاء أو يزيد في الآلام أو نحو ذلك، فهذه رخصة من الله للمريض في الإفطار إذا حصل شيء من ذلك.
قال ابن قدامه في "المغني":
(أجمع أهل العلم على إباحة الفطر للمريض في الجملة. والأصل فيه قوله تعالى: "فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر". والمرض المبيح للفطر هو الشديد الذي يزيد بالصوم أو يخشى تباطؤ برئه. قيل لأحمد: "متى يفطر المريض؟" قال: "إذا لم يستطع". قيل: "مثل الحمى؟" قال: "وأي مرض أشد من الحمى"؟) أ.هـ
وقول: "الذي يتضرر به" يشعر بأن المؤلف لا يرى كل مرض يعذر به صاحبه، وإنما يرى المرض الذي يعذر به صاحبه هو المرض الذي يضره الصوم فيه،
وهذه المسألة العلماء فيها على قولين:
فجماهير العلماء من المتقدمين والمتأخرين على أنه لا يعذر المريض بالفطر إلا إذا كان المرض يضره – كما ذكر المؤلف -.
وذهب عطاء بن أبي رباح إلى أنه يباح الفطر للمريض لأي مرض،
والصحيح هو الأول لأن الشريعة إنما أباحت الفطر لعذر المشقة، وليس كل مريض يشعر بمشقة الصيام، كما يعلمه الأطباء وغيرهم.
وثانيهما: المسافر الذي له القصر:
أي: وممن يباح له الإفطار في رمضان المسافر، فإن المسافر يباح له الإفطار لعذر السفر فهو كالمريض، لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر).

الصوم للمسافر مشروع:
ذهب جماهير العلماء إلى جواز الصوم في السفر وينعقد ويجزئه.
قال النووي:
(ومذهبنا جوازهما (أي: جواز الصوم والفطر في السفر)، وبه قال مالك وأبو حنيفة وأحمد والجمهور من الصحابة والتابعين ومن بعدهم").
وقال ابن قدامة: "وجواز الفطر للمسافر ثابت بالنص والإجماع؛ وأكثر أهل العلم على أنه إن صام أجزاه".
وخالف الظاهرية فقالوا: لا يصح صوم رمضان في السفر، فإن صامه لم ينعقد، ويجب قضاؤه.
قال ابن حزم:
(ومن سافر في رمضان ففرض عليه الفطر إذا تجاوز ميلا أو بلغه أو إزاءه، وقد بطل صومه حينئذ لا قبل ذلك، ويقضي بعد ذلك في أيام أخر).
والصحيح هو ما عليه جماهير العلماء، أنه يجوز الصوم في السفر لمن قدر عليه، والفطر لمن لحقه ضرر ومشقة كما سيأتي بيانه.

وقول المؤلف: "المسافر الذي له القصر"
يدل على أن المؤلف يرى أن السفر على نوعين:
** سفر يباح له القصر وهو السفر الطويل،
** وسفر لا يباح له القصر وهو السفر القصير،
ويرى أن الفطر في رمضان للمسافر إنما يكون للسفر الطويل لا القصير،
والصحيح أنه لا حاجة للتفريق بين الأسفار، وإنما العبرة بما يقال عنه إنه سفر فما يقال عنه إنه سفر فهو سبب من أسباب الرخصة، فالرخص تتعلق بذات السفر لا بطوله وقصره.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (24/34) وهو يرد على من فرق بين السفر الطويل والقصير: (هذا الفرق لا أصل له في كتاب الله ولا في سنة رسوله بل الأحكام التي علقها الله بالسفر علقها به مطلقا). ثم ذكر الآيات في ذلك وذكر الآثار، ثم قال (24/35): (فهذه النصوص وغيرها من نصوص الكتاب والسنة ليس فيها تفريق بين سفر طويل وسفر قصير، فمن فرق بين هذا وهذا فقد فرق بين ما جمع الله بينه فرقاً لا أصل له في كتاب الله ولا سنة رسوله) أ.هـ

الفرق بين المريض والمسافر:
والفرق بين المسافر والمريض أن المريض لا يشرع له الفطر حتى يحصل له المرض، بخلاف المسافر فيشرع له الفطر بمجرد العزم على السفر وترتيب أوضاعه وتهيئة نفسه وإن كان ما يزال في بيته، لحديث أنس بن مالك الكعبي – وهو غير أنس بن مالك الأنصاري الصحابي المشهور – قال: (أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجدته يتغدى فقال: "ادن فكل" فقلت: "إني صائم" فقال: "ادن أحدثك عن الصوم أو الصيام إن الله تعالى وضع عن المسافر الصوم وشطر الصلاة وعن الحامل أو المرضع الصوم أو الصيام" والله لقد قالهما النبي صلى الله عليه وسلم كلتيهما أو إحداهما، فيا لهف نفسي أن لا أكون طعمت من طعام النبي صلى الله عليه وسلم).
والحديث صححه العلامة الألباني في أكثر من موضع، وصححه في رسالة مستقلة واسمها: "تصحيح حديث إفطار الصائم قبل سفره بعد الفجر والرد على من ضعفه". واحتج بها الشيخ على مشروعية الفطر للمسافر قبل خروجه من البيت.

قال المؤلف:
(فالفطر لهما أفضل):
أي: فالفطر للمريض والمسافر أفضل من الصيام لأنها رخصة، ولأن الأخذ بالرخصة مندوب لما سيأتي، هذا معنى كلام المؤلف.
وقد اختلفوا ما هو الأفضل في حق المسافر الصوم أم الفطر أفضل ؟!
فقيل: الصوم أفضل من الأخذ بالرخصة:
لما جاء في الصحيحين عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: (خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة).
ولحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: (سأل حمزة بن عمرو الأسلمي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصيام في السفر فقال إن شئت فصم وإن شئت فأفطر) رواه مسلم.
وأجيب عن هذه الأحاديث بأنها تدل على مشروعية الإفطار لا على أفضليته.

وقيل: الفطر أفضل لأنه رخصة:
لحديث: (إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته) رواه أحمد في "المسند"، وفي رواية: (كما يحب أن تؤتى عزائمه) وهي للطبراني في "الكبير" وابن حبان وغيرهما،
وأجيب بأن النبي صلى الله عليه وسلم قد صام في السفر وهو لا يترك الأفضل.
واستدلوا كذلك بحديث:
(ليس من البر الصيام في السفر) رواه مسلم،
وأجيب عن استدلالهم بهذا الحديث بأن سبب ورود هذا الحديث يوضح معناه،
فقد رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى رجلا قد اجتمع الناس عليه وقد ظلل عليه، فقال: "ما له؟" قالوا: "رجل صائم" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ليس من البر أن تصوموا في السفر"). فالحديث يتحدث عمن شق عليه الصوم لا على من صام بدون مشقة.
قال أبو عبيد في "الناسخ والمنسوخ":
(وإنما وجهه عندنا أن يجشم الإنسان نفسه ما يجهده، ويبلغ المشقة منه حتى يضر ذلك به في الصلاة المفروضة وغيرها، وقد جاء تبيانه في حديث آخر) أ.هـ
ومثله قوله صلى الله عليه وسلم في الصائمين في السفر: (أولئك العصاة)،
فسبب رواية الحديث توضحه، فقد رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح إلى مكة في رمضان فصام حتى بلغ كراع الغميم فصام الناس، ثم دعا بقدح من ماء فرفعه حتى نظر الناس إليه ثم شرب، فقيل له بعد ذلك: "إن بعض الناس قد صام" فقال: "أولئك العصاة أولئك العصاة"). وفي رواية: (إن الناس قد شق عليهم الصيام) فهذه الرواية بينت أن هذا الذم إنما جاء في أناس خالفوا أمره عندما أمرهم بالفطر، وحصلت عليهم مشقة فليس فيه دليل على ذم الصوم في السفر مطلقا.

وقيل: يستوي الصوم والإفطار ولا فضل لأحدهما على الآخر.
وأجيب بأن هناك أدلة تحث على الأخذ بالرخصة فالتسوية بين الأمرين مردود.

وقيل: على حسب حاله إن كان يشق عليه الصوم فالفطر أفضل، وإن كان لا يشق عليه فالصوم أفضل،
وهذا هو الصحيح وعليه تحمل كل الأحاديث، فهذا راجع إلى حال المسافر فإن سهل عليه الصيام وصعب عليه القضاء كان الصيام في حقه أفضل، وإن وجد مشقة ورأى أن القضاء سهل فالفطر أفضل، فإن استوى عنده الفطر والصيام فالفطر أفضل لأنها رخصة.

قال المؤلف:
(وعليهما القضاء):
أي: وعلى المريض والمسافر أن يقضوا الأيام التي أفطروا فيها، لقوله تعالى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر).
والآية فيها تقدير محذوف والمعنى: (فمن كان منكم مريضا أو على سفر فأفطر وأخذ بالرخصة فعدة من أيام أخر) فعرفنا أن قضاء عدة من أيام أخر ليس على كل مريض ومسافر وإنما لمن أفطر منهما.
وقد نقل ابن رشد في "بداية المجتهد" الإجماع على أن عليهما القضاء.

قال المؤلف:
(وإن صاما أجزأهما):
أي: وإن لم يفطرا وصاما صح صيامهما، لأن الإفطار رخصة وليست عزيمة، فإذا ترك المسلم الرخصة ولم يأخذ بها وصام صح صومه.

قال المؤلف:
(الثاني: الحائض والنفساء):
أي: والقسم الثاني ممن يشرع لهم الفطر في رمضان الحائض والنفساء.
والحائض: المرأة في فترة الحيض، والحيض: دم يرخيه رحم المرأة ينزل منها كل شهر بضعة أيام، فالحائض هي المرأة التي في فترة الحيض،
وكلمة الحائض تطلق ويراد بها أحد أمرين:
أحدهما البالغ: فالحائض قد تأتي بمعنى من تحيض من النساء، وهي المرأة البالغ كما في الحديث: (يقطع صلاة المرء إذا لم يكن بين يديه مثل مؤخرة الرحل: المرأة الحائض والحمار والكلب الأسود). فالمراد بالحائض في الحديث هي المرأة البالغ، وإن لم تكن حائض في وقت قطع الصلاة.
والثاني: هي المرأة في فترة الحيض كما في كلام المؤلف هنا.
وأما النفساء: فهي المرأة التي يخرج منها الدم في بسبب الولادة.
وأما المستحاضة: المرأة عندها استحاضة، والاستحاضة: دم ينزل من فرج المرأة بسبب علة ومرض، فلا هي من أهل الحيض ولا من أهل النفاس، فعليها إذن أن تصوم لأنها طاهرة لها أحكام الطاهرات إذا تبين أن ما فيها من الاستحاضة.

قال المؤلف:
(تفطران وتقضيان وإن صامتا لم يجزئهما):
أي: فهاتان المرأتان تفطران وجوبا وعليهما القضاء وجوبا، فإن صامتا لم يجزئهما، لأن من شروط الصيام النقاء من الحيض من أول النهار إلى آخره، فإذا انقطع الحيض بعد دخول الصبح بقليل أو قبل غروب الشمس بقليل لم يصح صومها وعليها قضاء ذلك اليوم، لأن من شرط صومها أن تكون طاهرة من الحيض من قبل دخول الفجر إلى غروب الشمس.
وإذا طهرت قبل الصبح ودخل عليها الصبح وهي في حدث أكبر ولم تغتسل بعد من الحيض فصومها صحيح، وكذلك الجنب فإن أصبح وهو جنب ولم يغتسل حتى طلع الصبح فليس عليهما شيء وإنما عليهما الاغتسال بعد ذلك.

قال المؤلف:
(الثالث: الحامل والمرضع إذا خافتا على أنفسهما أفطرتا وقضتا، وإن خافتا على ولديهما أفطرتا وقضتا وأطعمتا عن كل يوم مسكينا):
أي: والثالث ممن يشرع لهم الإفطارالحامل والمرضع، وسواء أرضعت ولدها أو غير ولدها، فكلاهما معذورتان.

يتبع إن شاء الله ب

الخلاف في حكم الحامل والمرضع

قال المؤلف رحمه الله:
(وإذا رأى الهلال وحده صام):
أي: وإذا رأى المسلم الهلال وحده وجب عليه أن يصوم ولو منفردا وهذا مذهب الجمهور.
وذهب جماعة منهم عطاء والحسن وابن سيرين وأبو ثور واسحق بن راهويه إلى أنه لا يصوم ولا يحل له ذلك، وهذا هو الصحيح لقوله صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم تضحون) رواه الترمذي بسند حسن،
وله شواهد قال فيها الشيخ الألباني في "الإرواء": (وجملة القول أن الحديث بمجموع طرقه صحيح إن شاء الله تعالى).
وهذا القول هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال في رسالته "رسالة الهلال" – وهي مطبوعة في "مجموع الفتاوى" الجزء الخامس والعشرين -: حيث ذكر مسألة مهمة وهي: هل الهلال هو اسم لما يظهر في السماء وإن لم يعلم الناس به، وبه يدخل الشهر؟ أو الهلال اسم لما يستهل به الناس، والشهر لما اشتهر بينهم ؟
ذكر أن فيها قولين للعلماء وأن الصحيح أن شرط كونه هلالا وشهرا أن يكون مشتهرا بين الناس، وأن يستهل الناس به حتى لو رآه عشرة، ولم يشتهر ذلك عند عامة أهل البلد لكون شهادتهم مردودة، أو لكونهم لم يشهدوا به، كان حكمهم حكم سائر المسلمين، فكما لا يقفون ولا ينحرون ولا يصلون العيد إلا مع المسلمين، فكذلك لا يصومون إلا مع المسلمين، وهذا معنى قوله: (صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون وأضحاكم يوم تضحون) وهذا القول هو الراجح.

قال المؤلف:
(فإن كان عدلا صام الناس بقوله):
أي: فإن كان المخبر برؤية الهلال عدلا أخذ الناس بقوله، ولو كان رجلا واحدا، فإذا شهد العدل – وإن كان واحداً – صام الناس بقوله.
وقد اختلفوا في الاعتماد على شهادة الواحد في دخول رمضان على أقوال:
الأول: أنه يكفي في ثبوته شهادة شخص واحد: وهذا هو قول الحنابلة والشافعية، والحنابلة لا يشترطون كون الشاهد ذكرا ولا كونه حرا،
بخلاف مذهب الشافعية فلا يقبلون هنا شهادة المرأة ولا العبد.
والثاني: فلا تقبل إلا أن تكون شهادة عدلين: وهذا مذهب المالكية.
والثالث: أن السماء إن كان بها علة من غيم أو قتر أو نحوهما، فشهادة الواحد على هلال رمضان مقبولة، وفي هذه الحالة لا يشترطون كونه ذكرا ولا حرا، وإن لم يكن بالسماء علة فلا تقبل إلا شهادة جمع كثير يقع العلم بخبرهم، وتقدير ذلك الجمع مفوض إلى الإمام.وهذا مذهب الحنفية.
والصحيح أنه يكفي رؤية الواحد العدل وهو مذهب الجمهور من الحنابلة والشافعية، وهو الصحيح لحديث ابن عمر قال: (تراءى الناس الهلال، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم أني رأيته، فصام وأمر الناس بصيامه) رواه أبو داود، ولحديث ابن عباس عند أبي داود والترمذي والنسائي.
والعدالة المقصودة بها هنا العدالة الظاهرة والباطنة فلا يكفي مستور الحال.

قال المؤلف:
(ولا يفطر إلا بشهادة عدلين):
أي: ويصومون ولو بشهادة رجل واحد، ولكن لا يفطرون لدخول شوال إلا بشهادة عدلين اثنين، لحديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب – وهو ممن ولد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم – أنه خطب الناس في اليوم الذي يشك فيه فقال: (ألا إني جالست أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسألتهم وإنهم حدثوني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته وانسكوا لها فإن غم عليكم فأكملوا ثلاثين فان شهد شاهدان فصوموا وأفطروا"). رواه أحمد والنسائي، وصححه الشيخ الألباني وشيخنا مقبل في "الجامع الصحيح".
فقوله: "فإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا" هو الأصل، والصيام والإفطار لا يكون إلا بشهادة اثنين، لكن خرج الصيام من حديث عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بحديث ابن عمر المتقدم، وعليه فيشرع صيام رمضان ولو بشهادة واحد، ويحمل ما ورد من شهادة اثنين في حديث عبد الرحمن زيد بن الخطاب على أنه أكمل، أما الإفطار فلابد من شهادة اثنين.

قال المؤلف:
(ولا يفطر إذا رآه وحده):
أي: ولا يفطر إذا كان رآه وحده، وهذا مذهب مالك والليث وأحمد،
وذهب الجمهور إلى أنه يفطر، والصواب هو الأول لقوله صلى الله عليه وسلم: (صومكم يوم تصومون وأضحاكم يوم تضحون) رواه الترمذي بسند حسن وله شواهد كما تقدم، وهو ما ذهب إليه المؤلف،
ولكن كيف يفعل ؟!
هذا فيه خلاف فقيل: يفطر سرا، وقيل: يفطر ولو جهرا، والصحيح أنه لا يفطر إذا رآه وحده سواء كان سرا أو جهرا.

قال المؤلف:
(وإن صاموا بشهادة اثنين ثلاثين يوما أفطروا):
أي: وإن صاموا ثلاثين يوما معتمدين عند دخول رمضان على شهادة اثنين، فإنه يشرع لهم أن يفطروا، لما دل عليه حديث عبد الرحمن ابن زيد بن الخطاب المتقدم وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "وإن شهد شاهدان فصوموا وأفطروا".

قال المؤلف:
(وإن كان بغيم أو قول واحد لم يفطروا إلا أن يروه أن يكملوا العدة):
أي: وإن كان صيامهم لرمضان قد اعتمدوا فيه على الغيم في ليلة الثلاثين، أو قول واحد من الناس فقط، لم يفطروا إلا أن يروه أن يكملوا العدة،
وقد ذكر المؤلف هنا مسألتين:
الأولى: أنهم إن صاموا للغيم ليلة الثلاثين، فلا يفطروا إلا أن يروه أن يكملوا العدة، وقد تقدم معنا أن الصحيح أنه لايصام في يوم الغيم وهو قول الجماهير من أهل العلم.
والثانية: أنهم إن صاموا بقول واحد فلا يفطروا إلا أن يروه أن يكملوا العدة،
وهذه المسألة فيها خلاف على قولين هما وجهان عند الشافعية:
الأول: أنهم يفطرون وهو أصح عند الشافعية.
والثاني: لا يفطرون وهو قول جماعة، لأنه إفطار مبني على قول عدل واحد،
والصحيح أنهم إن صاموا بقول واحد، جاز لهم أن يفطروا لدخول شوال برؤية رجلين أو بإكمال العدة.

قال المؤلف:
(وإذا اشتبهت الأشهر على الأسير تحرى وصام):
أي: إذا أشكل على الأسير متى شهر رمضان، فعليه أن يتحرى ويصوم.
والاشتباه: اختلاط الشيء بغيره وعدم تميزه عنه.
والأسير: هو المحبوس والمسجون.
والتحري: هو البحث عن الصواب اعتمادا على الأدلة أو القرائن أو غلبة الظن، وهذا التحري إنما هو في حالة إذا لم يجد أحدا يسأله ممن يعرفون شهر رمضان ممن يوثق بخبره، أما إذا كان هناك من يوثق به فيعتمد عليه.

قال المؤلف:
(فإن وافق الشهر أو ما بعده أجزأه وإن وافق قبله لم يجزه):
فإذا تحرى الأسير وصام فإنه لا يخلو صيامه من ثلاث حالات :
أحدها: أن يوافق الشهر من أوله إلى آخره فصيامه صحيح ويجزئه.
الثانية: أن يتأخر عن شهر رمضان كأن يصوم شهر شوال بعد انتهاء الناس من صيام رمضان، فصيامه صحيح كذلك، لأنه إن لم يصح أداء صح قضاء، وهذا فيه دليل على أن من ظن أنه يؤدي العبادة أداء فظهر له أن العبادة قد خرج وقتها، وأنه إنما يؤديها قضاء صح ذلك، كمن قام من نومه فصلى الظهر يظنها الساعة الواحدة ظهرا فتبين له أن الساعة هي الخامسة وأن وقت الظهر قد خرج فإن هذا لا يضره.
الثالثة: أن يتقدم عن وقتها كأن يظن أن رمضان دخل عليه ثم يظهر أنه شعبان وليس رمضان، فالصيام لا يصح حينئذ لأن العبادة لا يصح تقدمها قبل وقتها، لأنها تقدمت قبل سببها وشرطها.

مسألة:
حكم من لم يعلم بشهر رمضان إلا في النهار:
وإذا قامت البينة على أن هذا اليوم هو أول يوم من رمضان، وكان المسلم قد أكل في أوله، ففي المسألة ثلاثة أقوال:
القول الأول: يجب عليه الإمساك والقضاء، وهي رواية عن أحمد هي مذهبه.
والقول الثاني: أنه لا يجب عليه الإمساك: وهي رواية أخرى عن أحمد.
والقول الثالث: أنه يجب عليه الإمساك ولا يجب عليه القضاء: وهو قول جماعة واختاره شيخ الإسلام والشيخ العثيمين في "حاشية الروض"، وهو الصحيح لحديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه: ("أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً ينادي في الناس يوم عاشوراء "أن من أكل فليتم أو فليصم، ومن لم يأكل فلا يأكل") رواه البخاري، وقد احتج ابن حزم بالحديث على صحة صوم من لم يعلم وجوب الصوم إلا بعد طلوع الفجر.

وأما قول الحافظ في "فتح الباري": (لو غم هلال رمضان فأصبحوا مفطرين ثم تبين أن ذلك اليوم من رمضان فالقضاء واجب بالاتفاق). ففيه نظر.

يتبع ان شاء الله

قال المؤلف ابن قدامة المقدسي رحمه الله :
(ويجب بأحد ثلاثة أشياء: كمال شعبان، ورؤية هلال رمضان ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه):

أي: ويجب صيام رمضان بأحد هذه الأشياء المذكورة، ومعنى هذا أن هذه الثلاثة هي أسباب الصيام عند المؤلف، لأن السبب هو الذي يجب معه الشيء المسبب.
والمؤلف قدم وأخر، وزاد زيادة مرجوحة كما سيأتي،
والأدق أن يقال : إن صيام رمضان يجب بأحد أمرين على الترتيب:
الأول: رؤية هلال رمضان:
لقوله صلى الله عليه وسلم: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غبي عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين) رواه الشيخان.
**والضابط في رؤيته أن تكون بعد الغروب،
**وإذا رئي نهارا بعد الزوال فهو لليلة المقبلة بدون نزاع،
**واختلفوا فيما لو رأوه قبل الزوال على قولين:
فمذهب أبي حنيفة ومالك والشافعي أنها كذلك لليلة المقبلة،
وقال الثوري وابن أبى ليلى وأبو يوسف وآخرون : إن رأوه قبل الزوال فهو لليلة الماضية أو بعده فللمستقبلة سواء أول الشهر أو آخره وهذا أقرب.
والأمر الثاني الذي يعرف به دخول رمضان إكمال عدة شعبان:
للحديث المتقدم، وإنما يرجع إلى إكمال عدة شعبان في حالة عدم رؤية هلال رمضان لا كما توهمه عبارة المؤلف.
مسألة اختلاف المطالع:
والمطالع: جمع مطلع – بكسر اللام – موضع الطلوع ومنه قوله تعالى: (بلغ مطلع الشمس)، ومطلع الهلال: هو الموضع الذي يطلع منه الهلال.
واختلاف المطالع في اصطلاح العلماء في باب الصيام معناه : " "أن يكون وقت طلوع القمر في مكان متقدما على مكان آخر".
ونحب أن نلخص كلام أهل العلم في مسألة اختلاف المطالع وما يتعلق بها إلى ما يلي:
أولا: أجمع المسلمون على أن رؤية هلال رمضان واجب كفائي، إذا قام به بعض المسلمين فتحروا رؤية الهلال، سقط عن الآخرين.
ثانيا: اختلاف مطالع الهلال أمر واقع بين البلاد البعيدة كاختلاف مطالع الشمس، وسبب ذلك هو اختلاف عروض البلاد وأطوالها.
والمطالع مختلفة بالإجماع، فاختلاف المطالع أمر مجمع عليه بين أهل العلم،
وقد نقل الإجماع غير واحد منهم شيخ الإسلام ابن تيمية, ومن المعاصرين هيئة كبار العلماء :
فقد صدر عن هيئة كبار العلماء بيان مهم بهذا الخصوص، جاء فيه: (اختلاف مطالع الأهلة من الأمور التي علمت بالضرورة حسا وعقلا، ولم يختلف فيها أحد من العلماء، وإنما وقع الاختلاف بين علماء المسلمين في: اعتبار خلاف المطالع، وعدم اعتباره) أ.هـ "أبحاث هيئة كبار العلماء" (3/32-33) القرار رقم: (2).
فالمسألة المختلف فيها إذن هي:
هل اختلاف المطالع مؤثر في بدء صيام المسلمين وتوقيتهم لعيدي الفطر والأضحى وسائر الشهور فتختلف بينهم بدءا ونهاية، أم ليس مؤثرا ؟!
ويترتب على هذا الخلاف :
** أن القول بعدم تأثير اختلاف المطالع ، يستلزم أن رؤية الناس للهلال في مكان، تعتبر رؤية لأهل المطالع الأخرى، فرؤية أهل بلد ملزمة للجميع.
**والقول بتأثير اختلاف المطالع يستلزم أن رؤية أهل مطلع للهلال، ليس رؤية لأهل المطالع الأخرى، لأن لكل مطلع رؤيته الخاصة به.
والمسألة فيها أقوال:
القول الأول:
مذهب جمهور الفقهاء منهم مالك وأحمد أنه لا عبرة باختلاف المطالع.
فإذا ثبتت رؤية الهلال في أي بلد إسلامي، ثبتت في حق جميع المسلمين، على اختلاف أقطارهم، متى بلغهم ثبوته بطريق صحيح.
وهذا هو الصحيح لقوة الدليل
** كقوله تعالى "فمن شهد منكم الشهر فليصمه"
** ولقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته"،
** ولأنه يتفق مع ما قصده الشارع الحكيم من وحدة المسلمين.
وعليه فمتى تحققت رؤية هلال رمضان في بلد من البلاد الإسلامية فانه يجب الصوم على جميع المسلمين الذين تشترك بلادهم مع البلد الإسلامي الذي ثبتت فيه الرؤية في جزء من الليل، ما لم يقم ما يناهض هذه الرؤية ويشكك في صحتها.
والقول الثاني:
مذهب إسحاق وغيره ، أن لكل بلد من البلاد رؤيته الخاصة.
واستدلوا بما يلي
أولا:
بما ثبت في "صحيح مسلم" عن كريب مولى ابن عباس أن أم الفضل بنت الحارث بعثته إلى معاوية بالشام قال: (فقدمت الشام على معاوية فقضيت حاجتي، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأيت الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر فسألني عبد الله بن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: "متى رأيتم الهلال" فقلت: "ليلة الجمعة"، قال: "أنت رأيته؟" قلت: "نعم، ورآه الناس فصاموا وصام معاوية"، قال: "لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه" قال: "قلت أو لا تكتفي برؤية معاوية وأصحابه" فقال: "لا هكذا أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم".
وثانيا يدل لهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رئي عنده الهلال، ما كان يبعث إلى الأمصار ليخبرهم برؤية الهلال، فهذا يدل على أن كل بلد له رؤية.
وهناك رسالة واسمها: "الرد على من قال بإختلاف الأهلة واحتج بحديث كريب" كتبها: الحسن بن علي الكتاني الأثري.
والقول الثالث:
مذهب الشافعية وهو اختيار شيخ الإسلام أن لكل بلد رؤيته، إلا إذا اتحدت المطالع كما يقع هذا في البلدان المتقاربة كالبصرة والكوفة.
قال النووي في "المجموع":
(إذا رأوا الهلال في رمضان في بلد ولم يروه في غيره، فإن تقارب البلدان فحكمهما حكم بلد واحد، ويلزم أهل البلد الآخر الصوم بلا خلاف، وإن تباعدا فوجهان مشهوران في الطريقتين: أصحهما: لا يجب الصوم على أهل البلد الأخرى، وبهذا قطع المصنف والشيخ أبو حامد والبندنيجي وآخرون وصححه العبدرى والرافعي والأكثرون. والثاني: يجب … والصحيح الأول) أ.هـ
ثالثا: إذا لم تثبت رؤية الهلال بأى سبب أو مانع كان على المسلمين إكمال عدة شعبان ثلاثين يوما.
مسألة الحساب الفلكي:
تعريفه:
الحساب الفلكي: هو معرفة مسارات النجوم والكواكب وعد أيام سيرها، ومعرفة مواقيت سيرها، وغيابها وظهورها.
والفلكيون يحكمون على دخول الشهر وولادة الهلال وأنه سيكون في يوم كذا اعتمادا على حركة الكواكب وسيرها وغيابها وظهورها، وهذا يدل على أن اعتمادهم إنما هو على التقدير لا على الرؤية البصرية، إذا، قد يحكمون على سير كوكب ودخوله وخروجه دون أن يروه، وإنما استنادا على حركة الكواكب الأخرى، ومعنى هذا أنهم يقررون أن الهلال سيولد في يوم كذا مع اعترافهم بأنهم لن يراه أحد من الناس،
ومن هنا حصل النزاع بين المتأخرين
هل يشرع الاعتماد على الحساب الفلكي الذي يعتمد على التقدير، أم لا يشرع الاعتماد إلا على الرؤية البصرية كما جاء في الحديث: "صوموا لرؤيته" ؟!.
بداية الخلاف في الحساب الفلكي:
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في "مجموع الفتاوى" (25/132-133) عن هذه المسألة:
(ولا يعرف فيه خلاف قديم أصلا، ولا خلاف حديث، إلا بعض المتأخرين من المتفقهة الحادثين بعد المائة الثالثة، زعم أنه إذا غم الهلال جاز للحاسب أن يعمل في حق نفسه بالحساب، فإن كان الحساب دل على الرؤية صام وإلا فلا، وهذا القول وإن كان مقيدا بالإغمام ومختصا بالحاسب فهو شاذ، مسبوق بالإجماع على خلافه، فأما إتباع ذلك في الصحو، أو تعليق عموم الحكم العام به فما قاله مسلم) أ.هـ
بيان الخلاف في الحساب الفلكي:
اختلف علماء العصر في اعتبار الحساب الفلكي وعدم اعتباره إلى قولين:
أحدهما:
اعتبار الحساب الفلكي: وقال بهذا القول بعض الحنفية، وهو قول آخر للمالكية.
والقول الثاني:
عدم اعتبار الحساب الفلكي: وهو قول المتقدمين عامة، ومن المتأخرين هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية وهو الصواب لأمور:
الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بالصوم لرؤية الهلال والإفطار لها في قوله: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته) وحصر ذلك فيها بقوله: (لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تفطروا حتى تروه).
وقد ذكر شيخ الإسلام أن الهلال هو اسم لما يستهل به الناس، والشهر اسم لما يشتهر بينهم، فما كان لا يرى فهو ليس بهلال، فعرفنا أن الأحكام معلقة بالرؤية البصرية لا العلمية،
ويزيد هذا الأمر توضيحا أن هذا هو فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هو وأصحابه الهلال فإن رآه أحد منهم ليلة الثلاثين وإلا أكمل الشهر ثلاثين يوما، وهذا يدل على أن مقصوده صلى الله عليه وسلم بقوله "صوموا لرؤيته" أي: صوموا لرؤيته الرؤية البصرية، وهو صلى الله عليه وسلم ثم أصحابه من بعده أعلم باللغة ومقاصد الشريعة من المتأخرين.
وكلمة "رأى" في اللغة العربية إذا كانت متعدية إلى مفعول واحد فهي بصرية، وإذا كانت متعدية إلى مفعولين فهي علمية، وكلمة "رأى" في الحديث: "صوموا لرؤيته" متعدية إلى مفعول واحد.
الثاني:
أن تعليق إثبات الشهر القمري بالحساب الفلكي فيه مشقة وعسر، وأن تعليق إثبات الشهر القمري بالرؤية المجردة يتفق مع مقاصد الشريعة السمحة؛ لأن رؤية الهلال أمرها عام يتيسر لأكثر الناس، بخلاف ما لو علق الحكم بالحساب فإنه يحصل به الحرج ويتنافى مع مقاصد الشريعة.
الثالث: أن الاعتماد على رؤية الهلال سبب لاجتماع الأمة لا لتفرقها.
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري":
(قوله في الحديث الماضي: "فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين" ولم يقل فسلوا أهل الحساب والحكمة فيه كون العدد عند الاغماء يستوي فيه المكلفون فيرتفع الاختلاف والنزاع عنهم).
الرابع: أن علماء الأمة في صدر الإسلام قد أجمعوا على اعتبار الرؤية في إثبات الشهور القمرية دون الحساب، فلم يعرف أن أحدا منهم رجع إليه في صيامه أو غيره.
قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى" (25/132):
(فإنا نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن العمل في رؤية هلال الصوم أو الحج أو العدة أو الإيلاء أو غير ذلك من الأحكام المعلقة بالهلال بخبر الحاسب أنه يرى أو لا يرى لا يجوز، والنصوص المستفيضة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك كثيرة، وقد أجمع المسلمون عليه) .
وقال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري":
(وقد ذهب قوم إلى الرجوع إلى أهل التسيير في ذلك وهم الروافض ونقل عن بعض الفقهاء موافقتهم، قال الباجي وإجماع السلف الصالح حجة عليهم وقال بن بزيزة وهو مذهب باطل، فقد نهت الشريعة عن الخوض في علم النجوم، لأنها حدس وتخمين ليس فيها قطع ولا ظن غالب، مع أنه لو ارتبط الأمر بها لضاق إذ لا يعرفها الا القليل) .
وقد رد العلماء على من عزى إلى بعض السلف القول بالحساب الفلكي.
فقد عزى القائلون بالحساب الفلكي ذلك إلى مطرف بن عبد الله بن الشخير من التابعين، والشافعي وابن قتيبة من المحدثين، فقد نقل ابن رشد عن مطرف قوله: (يعتبر الهلال إذا غم بالنجوم ومنازل القمر وطريق الحساب). قال: (وروي مثل ذلك عن الشافعي في رواية). واعتبر ابن سريج قوله صلى الله عليه وسلم: "فاقدروا له: خطابا لمن خصه الله تعالى بعلم الحساب، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر: فأكملوا العدة خطابا للعامة.
وأجيب عنه بما قاله ابن عبد البر في "التمهيد":
(ولم يتعلق أحد من فقهاء المسلمين فيما علمت باعتبار المنازل في ذلك، وإنما هو شيء روي عن مطرف بن الشخير وليس بصحيح عنه، ولو صح ما وجب اتباعه عليه لشذوذه ولمخالفة الحجة له) أ.ه
وقال: (والصحيح عنه في كتبه وعند أصحابه أنه لا يصح اعتقاد رمضان إلا برؤية أو شهادة عادلة لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته").
وقال: (وقال ابن قتيبة في قوله: "فاقدروا له" أي فقدروا السير والمنازل وهو قول قد ذكرنا شذوذه ومخالفة أهل العلم له وليس هذا من شأن ابن قتيبة ولا هو ممن يعرج عليه في هذا الباب).
وهي فتوى جماعة من أهل العلم، ومن المعاصرين "هيئة كبار العلماء": فقد صدر عن هيئة كبار العلماء بيان مهم بهذا الخصوص، جاء فيه: (أما ما يتعلق بإثبات الأهلة بالحساب: فبعد دراسة ما أعدته اللجنة الدائمة في ذلك، وبعد الرجوع إلى ما ذكره أهل العلم فقد أجمع أعضاء الهيئة على عدم اعتباره؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: "صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته" الحديث، ولقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تصوموا حتى تروه، ولا تفطروا حتى تروه" الحديث) أ.هـ "أبحاث هيئة كبار العلماء" (3/34) القرار رقم: (2)
وهيئة كبار العلماء في هذه الفتوى هم كثير يصلون إلى سبعة عشر عالما وكان اجتماعهم في عام 1971م الموافق عام 1391هـ، وأشهرهم: الشيخ محمد الأمين الشنقيطي، والشيخ عبد العزيز بن باز، والشيخ عبد الرزاق عفيفي، والشيخ عبد الله بن حميد، والشيخ صالح بن غصون، والشيخ إبراهيم بن محمد آل الشيخ، والشيخ عبد الله بن غديان، والشيخ صالح اللحيدان، والشيخ عبد الله بن منيع وآخرين.
ولسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز فتوى خاصة به موجودة في "مجموع فتاواه ومقالاته" كما أنه موجودة في موقعه الخاص.
(هذا وقد اختصرت الكلام على حجج القائلين بعدم الاعتماد على الحساب الفلكي لأنه هو القول الصواب، ولم أجمع حجج الفريقين ولم أناقش الأقوال، لأن هذا الأمر قد قام به غيري على أحسن ما يكون فيراجع: "أبحاث هيئة كبار العلماء"، و"الموسوعة الفقهية الكويتية"، ورسالة: "دخول الشهر القمري بين رؤية الهلال والحساب الفلكي" إعداد: فهد بن علي الحسون، و"بطلان العمل بالحساب الفلكي في الصوم والإفطار وبيان ما فيه من مفاسد ووجوب العمل بالرؤية الشرعية وائل بن علي الدسوقي، ورسالة: "بيان حكم اختلاف المطالع والحساب الفلكي" / كتبه سامي وديع عبد الفتاح القدومي.)

قال المؤلف:
(ووجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دونه):
أي: ويجب صوم رمضان بسبب آخر ثالث، هو وجود غيم أو قتر يمنع من رؤية الهلال، والغيم: هو السحاب، والقتر: هو السواد أو الغبار،
فيكون الترتيب عند المؤلف كما يلي:
أولا: رؤية الهلال.
ثانيا: ثم عدم رؤية الهلال لغيم أو قتر.
ثالثا: ثم إكمال عدة شعبان.
وما ذكره المؤلف من أن الصوم واجب بعدم رؤية الهلال لغيم أو قتر غير صحيح،
** لما ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين، إلا أن يكون يصوم صوما فليصمه).
**وروى أهل السنن – والبخاري معلقا – عن عمار ابن ياسر: (من صام اليوم الذي يشك فيه فقد عصى أبا القاسم صلى الله عليه وسلم).
وفي المسألة قولان لأهل العلم هما روايتان لأحمد:
إحداهما: وجوب الصوم بوجود غيم أو قتر ليلة الثلاثين يحول دون رؤية الهلال:
وهذا هو المشهور من المذهب وهو المشهور في كتب المتأخرين من الحنابلة وهو اختيار الخرقي وابن قدامة،
واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له) أي: فضيقوا عليه بجعله تسعة وعشرين يوما، قالوا: لأن القدر معناه التضييق ومنه قوله تعالى: (وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه) أي: ضيق عليه، وهذا ما فعله ابن عمر فقد قال نافع : "كان عبدالله بن عمر إذا مضى من الشهر تسعة وعشرون يوما يبعث من ينظر له الهلال فإن رأى فذاك وإن لم ير ولم يحل دون منظره سحاب ولا قتر أصبح مفطرا وإن حال دون منظره سحاب أو قتر أصبح صائما, وهذا تفسير ابن عمر وهو راوي الحديث، وهو أعلم بمعناه فيجب الرجوع إلى تفسيره.
والثانية عدم الوجوب:
وهي التي عليها المحققون من الحنابلة، وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية في رسالته "رسالة الهلال" – وهي مطبوعة في "مجموع الفتاوى" الجزء الخامس والعشرين -: حيث قال: (ليس الهلال هو الذي يستهل بالسماء بل الهلال ما استهل عند الناس)، بل قال رحمه الله: (لا أصل للقول بوجوب الصوم حال وجود القتر والغيم عن الإمام أحمد).
وشيخ الإسلام يرى أن الإمام أحمد يجيز صوم يوم الغيم ويجيز الفطر فيه، والصوم عنده أفضل، وإنما ينكر شيخ الإسلام من نقل عن الإمام أحمد وجوب الصوم،
فقد قال رحمه الله: (وأكثر نصوص أحمد إنما تدل على … أنه كان يستحب صومه ويفعله لا أنه يوجبه) أ.هـ
وتبعه تلميذه العلامة ابن قيم الجوزية، واختيار ابن مفلح حيث قال: "لم أجد نصاً عن الإمام أحمد في وجوب الصوم في يوم الشك"،
واختيار الحافظ ابن عبد الهادي في رسالة خاصة أسماها: "إقامة البرهان على عدم وجوب صوم الثلاثين من شعبان"،
واختيار الشيخ محمد بن عبد الوهاب التميمي النجدي وأبناؤه وتلاميذه.
وأجيب عن قولهم
بأن المراد من قوله صلى الله عليه وسلم: (فاقدروا له)
قد فسرتها الروايات الأخرى في الصحيح:
**(صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته فإن غم عليكم فاقدروا له)
** وفي رواية مسلم: (فاقدروا له ثلاثين) أي: احسبوا له ثلاثين
**وفي رواية للبخاري: (فأكملوا العدة ثلاثين)،
**وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة: (فأكملوا عدة شعبان ثلاثين)
** عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إن الله تعالى جعل الأهلة مواقيت، فإذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غم عليكم فاقدروا له، أتموه ثلاثين).
فهذه الروايات – ولاسيما الرواية الأخيرة – تبين المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (فإن غم عليكم فاقدروا له) أي: احسبوا له ثلاثين وليس بمعنى ضيقوا عليه، ومنه قوله تعالى: (فقدرنا فنعم القادرون)،
فالواجب على المسلمين أن يصوموا لرؤية الهلال، فإن غم عليهم وجب عليهم أن يعدوا ثلاثين يوما ثم يصومون.
وأما ما جاء من فعل ابن عمر فليس بحجة ما دام أنه يعارض السنة،
وقد قال العلامة ابن القيم وغيره: إن ابن عمر لم يأمر الناس ولا ألزمهم بذلك وإنما أخذه بنفسه على سبيل الجواز.

ثم يبدأ الشارح حفظه الله في شرح المتن.
قال ابن قدامة المقدسي رحمه الله (يجب صيام رمضان على كل مسلم بالغ عاقل قادر على الصوم ويؤمر به الصبي إذا أطاقه.)

قال المؤلف:
(يجب صيام رمضان):
الصيام واجب وقد دل الكتاب والسنة على ذلك، وأجمع المسلمون على وجوبه وأنه ركن من أركان الإسلام.
أما الكتاب فلقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم) وقوله تعالى: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه).
وأما السنة فلقوله صلى الله عليه وسلم: (بني الإسلام على خمس) وذكر منها صيام رمضان، والحديث في الصحيحين عن عبد الله بن عمر.
وقد نقل غير واحد الإجماع على وجوب صيام رمضان، منهم:
ابن عبد البر في "التمهيد" وابن حزم في "مراتب الإجماع" والنووي في "المجموع"، وابن قدامة في "المغني"، وشيخ الإسلام ابن تيمية وغيرهم.
قال النووي في "المجموع":
(وكون صوم رمضان ركنا وفرضا مجمع عليه ودلائل الكتاب والسنة والاجماع متظاهرة عليه وأجمعوا على أنه لا يجب غيره) أ.هـ
وهو الصوم الواجب في الشريعة الذي أوجبه الله ابتداء بدون سبب بالإجماع، وما عداه فإنما يجب لسبب كصيام النذر وصيام الكفارة ونحوهما، أو لا يجب أصلا كصيام التطوع.
ونحن رأينا المؤلف يقول: "صيام رمضان" ولم يقل: "صيام شهر رمضان" وهذا صحيح، فإنه لا بأس أن يقال رمضان أو يقال شهر رمضان فكلاهما مشروع، ويرى بعض المالكية أنه لا ينبغي أن يقول رمضان، وإنما يقال شهر رمضان لأن رمضان هو الله، والصحيح أنه لا بأس أن يقال: رمضان أو يقال شهر رمضان فكلاهما مشروع وهو قول جماهير أهل العلم ومنهم الإمام البخاري،
وأما حديث: (لا تقولوا رمضان ولكن قولوا شهر رمضان فإن رمضان من أسماء الله). فقد أخرجه ابن عدي في "الكامل"، والبيهقي في "السنن الكبرى" والديلمي في "مسند الفردوس" من طريق أبي معشر نجيح بن عبد الله السندي عن سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم، وأبو معشر نجيح بن عبد الله السندي ضعيف، وقد أعله أبو حاتم وأشار البخاري في "صحيحه" إلى إعلاله حيث قال: (باب: هل يقال رمضان أو شهر رمضان، ومن رأى كله واسعا) أ.هـ
قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري":
(وأشار البخاري بهذه الترجمة إلى حديث ضعيف رواه أبو معشر نجيح المدني عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تقولوا رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله ولكن قولوا شهر رمضان") أ.هـ
والحديث كذلك ضعفه البيهقي وأورده ابن الجوزي في "الموضوعات" وجعله ابن عدي من مناكير أبي معشر، وضعفه النووي في "المجموع" والحافظ ابن حجر والعلامة الألباني في "الضعيفة" (6768).
قال البيهقي: (وأبو معشر هو نجيح السندي، ضعفه يحيى بن معين، وكان يحيى القطان لا يحدث عنه، وكان عبد الرحمن بن مهدي يحدث عنه، والله أعلم، وقد قيل: عن أبي معشر عن محمد بن كعب من قوله، وهو أشبه) أ.هـ
أي: أشبه بالوقف على محمد بن كعب.

قال المؤلف:
(على كل مسلم):
شرع المؤلف هنا في بيان شروط وجوب صيام رمضان:
فذكر الشرط الأول وهو الإسلام فقال:
"على كل مسلم"، أي: فلا يجب صيام رمضان على الكافر، فالمؤلف يرى أنه لا يجب الصيام على الكافر لأنه اشترط الإسلام لوجوب الصيام، وهل ما ذهب إليه المؤلف من أن الصيام لا يجب على الكافر صحيح ؟!

هذه المسألة متفرعة من مسألة:
"هل الكفار مخاطبون بفروع الشريعة أم ليسوا مخاطبين" ؟!
**فالعلماء متفقون بأن الكفار مخاطبون بأصول الشريعة من الإيمان بالله واليوم الآخر ومكلفون بالدخول في الإسلام،
**لكنهم اختلفوا في فروع الشريعة من إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصيام رمضان وغيرها من الفروع،
هل هي واجبة على الكفار وهل هم سيعذبون على تركها يوم القيامة، أم أنهم مخاطبون بأصول الشريعة ولا يعذبون إلا عليها فقط ؟!
قولان مشهوران للأصوليين:
** فذهب أكثر الحنفية إلى أنهم غير مخاطبين،
** وذهب الشافعية إلى أنهم مخاطبون واختاره المؤلف الموفق ابن قدامة في "روضة الناظر" تبعا للأصل "المستصفى".
والصحيح أنهم مخاطبون بفروع الشريعة كما تقدم معنا في مسألة الصلاة مع زيادة توضيح ذكرناها هناك.
وإذا كان المؤلف ممن يرى أن الكفار مخاطبون بفروع الشريعة، فما معنى كلامه هنا ؟!
معنى كلام المؤلف هنا أن الكافر لا يجب عليه الصيام بمعنى أنه لا يطالب بها في الدنيا ولا يجب على ولاة الأمور أن يأمروا أهل الكتاب أو غيرهم بذلك، لأنها لا تقبل منه كما قال تعالى: (وما منعهم أن تقبل منهم نفقاتهم إلا أنهم كفروا بالله وبرسوله)، وإن كان سيعذب عليها في الآخرة، وهذا صحيح فالكافر لا يطالب بأداء الصلاة في الدنيا ولا يطالب بقضائها إذا تاب وأسلم.
قال النووي في "المجموع":
(وقوله في الكافر الأصلى لم يخاطب به، أي: لم نطالبه بفعله وليس مراده أنه ليس بواجب في حال كفره، فإن المذهب الصحيح أن الكفار مخاطبون بفروع الشرع في حال كفرهم بمعنى أنهم يزاد في عقوبتهم في الآخرة بسبب ذلك، ولكن لا يطالبون بفعلها في حال كفرهم) أ.هـ

قال المؤلف:
(بالغ):
البلوغ
أي: لا يجب الصيام إلا على كل مسلم بالغ، ومعنى بالغ أنه بلغ سن الاحتلام، فيخرج الصغير فلا يجب عليه الصيام لأنه ليس بالغا،
لحديث عائشة مرفوعا: (رفع القلم عن ثلاثة: عن النائم حتى يستيقظ وعن المبتلى حتى يبرأ )وفي رواية: (وعن المجنون حتى يعقل أو يفيق، وعن الصبي حتى يكبر). وفي رواية: (حتى يحتلم). رواه أبو داود والنسائي وابن ماجه وأحمد وسنده صحيح وقد صححه ابن خزيمة والحاكم والعلامة الألباني وغيرهم.
والبلوغ يكون بظهور إحدى علامات البلوغ وهي على قسمين :
أحدهما يشترك فيه الرجال والنساء:
كإتمام خمسة عشر عاماً والاحتلام، فهذه أمور يشترك في الرجل والمرأة.
والثاني: خاص بالنساء: كالحيض فهذا من خصائص النساء.

قال المؤلف:
(عاقل):
العقل
خرج به المجنون فليس مأمورا بالصيام ولا غيره للحديث السابق، ولا يؤمر به حتى على وجه التعليم والتدريب لانعدام السبب الذي من أجله يعلم الصغير.

قال المؤلف:
(قادر على الصوم):
القدرة
أي: ويجب الصيام على المسلم القادر عليه، فخرج بهذا الشرط المسلم العاجز فيسقط عنه صيام رمضان.
والعاجز عن الصيام نوعان أحدهما:
الأول : عاجز عجزا مستمرا كالكبير أو المريض مرضا مزمنا فهذا ينتقل من الصيام إلى بدله وهو الإطعام.
والثاني: شخص عاجز عجزا مؤقتا كالمريض مرضا عارضا مؤقتا فهذا يؤخر الصيام إلى وقت آخر.

قال المؤلف:
(ويؤمر به الصبي إذا أطاقه):
أي: ويؤمر الصبي بالصيام إذا قدر عليه، فيأمره وليه كالأب أو الأم أو غيرهما بالصوم تعليما وتدريبا حتى يسهل عليه إذا بلغ، لأن التدريب في تلك الفترة هو أسهل التدريب وأهونه.
وقد فعله سلفنا الصالح كما في حديث الربيع بنت معوذ قالت: (أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه، قالت: "فكنا نصومه بعد ذلك، ونصوم صبياننا الصغار، و نجعل لهم اللعبة من العهن، ونذهب بهم إلى المسجد، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناه ذلك حتى يكون عند الإفطار"). أخرجه البخاري ومسلم.
وقد ثبت في البخاري أن عمر رفع إليه سكران في نهار رمضان فجلده عمر، وقال: "تشرب الخمر وصبياننا صيام".
وشرط هذا التدريب هو كما ذكر المؤلف أن يقدر الصبي على هذا الصوم، فإذا كان لا يقدر عليه كأن يكون الصبي ممن لا يصبر على الطعام فهذا لا يؤمر بالصيام.
والحديث المتقدم يدل على أن البلوغ شرط وجوب لا شرط صحة فإن الصيام يصح من الطفل المميز وإن لم يكن بالغا.
ومن شروط الصيام شرط النقاء من الحيض من أول النهار إلى آخره، ولا يصح صيام المرأة إلا بذلك،
** فإذا انقطع الحيض بعد دخول الصبح بقليل أو قبل غروب الشمس بقليل لم يصح صومها وعليها قضاء ذلك اليوم، لأن من شرط صومها أن تكون طاهرة من الحيض من قبل دخول الفجر إلى غروب الشمس.
**وإذا طهرت قبل الصبح، ودخل عليها الصبح وهي في حدث أكبر ولم تغتسل بعد من الحيض فصومها صحيح، وكذلك الجنب فإن أصبح وهو جنب، ولم يغتسل حتى طلع الصبح فليس عليهما شيء، وإنما عليهما الاغتسال بعد ذلك.

أركان الصيام:

وللصيام ركنان:
الركن الأول تبييت النية:
فالنية في الصيام واجبة لقوله صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى) متفق عليه، ولحديث: (لا صيام لمن لم يبيت النية بالليل) رواه أهل السنن عن ابن عمر عن حفصة مرفوعا، وقد أعله جماعة بالوقف منهم: الإمام أحمد – كما في "فتح الباري" لابن رجب – والإمام البخاري وأبو حاتم وأبو داود والنسائي والترمذي في "سننه" والبيهقي وشيخ الإسلام ابن تيمية حيث قال كما في "مجموع الفتاوى": (وقيل: إن رفعه لم يصح وإنما يصح موقوفا على ابن عمر أو حفصة). والحافظ ابن كثير في "تحفة الطالب"، وقال أبو حفص عمر بن بدر بن سعيد الموصلي الوراني في "المغني عن الحفظ والكتاب": (لا يصح فيه شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم).

وأجمعوا على أن محل النية وموضعها هو القلب، وخلاف هذا القول شذوذ لا يلتفت إليه، ولذلك قال شيخ الإسلام كما في "مجموع الفتاوى":
(محل النية القلب دون اللسان باتفاق أئمة المسلمين في جميع العبادات: الصلاة والطهارة والزكاة والحج والصيام والعتق والجهاد وغير ذلك) أ.هـ
وعلى هذا فالجهر بالنية بدعة كما قال شيخ الإسلام رحمه الله، حيث قال في الموضع السابق:
(والجهر بالنية لا يجب ولا يستحب باتفاق المسلمين، بل الجاهر بالنية مبتدع مخالف للشريعة إذا فعل ذلك معتقدا أنه من الشرع: فهو جاهل ضال يستحق التعزير وإلا العقوبة على ذلك إذا أصر) أ.هـ

والنية واجبة :
لكنها لا تجب لكل ليلة، ومذهب مالك وإحدى الروايتين عن أحمد أنه يكفي نية واحدة لرمضان جميعا.
وهذا القول الأول.
والقول الثاني: وهي رواية في مذهب أحمد ومن وافقه أنه لابد من نية لكل ليلة،
والصحيح أنه إن نوى في أول ليلة أنه يصوم الشهر كله فتجزئه هذه النية عن صيام الشهر كله، ما لم يفسخ النية بشيء في أثناء رمضان لسفر أو مرض فيجب عليه معاودة النية وتجديدها.
**ولابد من النية في الصوم قبل دخول النهار لكل صيام فريضة، سواء كان رمضان أو كفارة أو غيرهما، إلا في النافلة فتصح النية فيها من النهار، وقد صحت الآثار عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن النية تجزئ من النهار إذا كان الصوم نافلة وهم أعلم بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد قال البخاري في "صحيحه": (باب: إذا نوى بالنهار صوما: وقالت أم الدرداء: كان أبو الدرداء يقول: عندكم طعام ؟ قلنا: لا، قال: فإني صائم يومي هذا، وفعله أبو طلحة وأبو هريرة وابن عباس وحذيفة رضي الله عنهم) أ.هـ
وقد صحح الشيخ الألباني هذه الآثار في "مختصر صحيح البخاري"، وعلى هذا فالنية من وسط النهار في النافلة جائزة على الصحيح، لأنها آثار صحيحة عن الصحابة، وهم أعلم بشرع الله، ولاسيما أنه لا مخالف لهم، والعلة في ذلك أن الشريعة تخفف في النوافل ما لا تخففه في الفرائض كما ذكر شيخ الإسلام، ومن هنا أجاز الشارع صلاة النافلة قاعدا وأجازها على الراحلة ونحو ذلك.
**بل يشرع صوم النافلة ولو كانت النية بعد الزوال والقول بمشروعية صوم النافلة ولو بعد الزوال هو اختيار شيخ الإسلام رحمه الله ولكن يكون الأجر من وقت النية.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمة كما في "مجموع الفتاوى":
(وقد اختلفوا فى تبييت نيته على ثلاثة أقوال: فقالت طائفة منهم أبو حنيفة: أنه يجزئ كل صوم – فرضا كان أو نفلا – بنية قبل الزوال، كما دل عليه حديث عاشوراء، وحديث النبي لما دخل على عائشة فلم يجد طعاما فقال: "إنى إذا صائم".
وبازائها طائفة أخرى – منهم مالك – قالت: لا يجزئ الصوم إلا مبيتا من الليل فرضا كان أو نفلا على ظاهر حديث حفصة وابن عمر الذي يروى مرفوعا وموقوفا: "لا صيام لمن لم يبيت الصيام من الليل".
وأما القول الثالث: فالفرض لا يجزئ الا بتبييت النية كما دل عليه حديث حفصة وابن عمر لأن جميع الزمان يجب فيه الصوم، والنية لا تنعطف على الماضي وأما النفل فيجزئ بنية من النهار كما دل عليه قوله: "إنى اذا صائم" …
وهذا أوسط الأقوال وهو قول الشافعي وأحمد، واختلف قولهما هل يجزئ التطوع بنية بعد الزوال والأظهر صحته كما نقل عن الصحابة) أ.ه

التردد في النية:
ولابد من الجزم بالنية فيقول: "سأصوم غدا"، وإذا قال: "ربما أصوم غدا وقد لا أصوم" أو نحو هذه العبارة، فهذا من التردد وهو قادح في النية، فلا تصح النية إلا بجزم وقطع،
وأما إذا قال: "سأصوم غدا إن شاء الله"، فهذا فيه تفصيل:
** فإن قال: "أنا أصوم غدا إن شاء الله" ويريد الشك والتردد فهذه لا تنفعه،
** وإن أراد التبرك باسم الله فهذا يعتبر جازما بالنية فينفعه هذا الاستثناء.
**وأما إذا قال: (إن كان غدا من رمضان فأنا صائم) ففي صحة صيامه روايتان عن أحمد:
–إحداهما: أن صيامه غير صحيح وهو مذهبه،
–والثانية: أنها تجزئه وهو اختيار شيخ الإسلام وهو الصحيح لأنها نية صحيحة جازمة وإن كانت مقيدة.

والركن الثاني الإمساك عن الطعام والشراب والجماع:
وذلك من طلوع الصبح إلى غروب الشمس.
وقولنا: "من طلوع الصبح" معناه الفجر الصادق، فإذا طلع الفجر فيجب الإمساك عن الطعام والشراب، إلا لمن سمع الأذان وفي يده إناء فلا بأس من أن يأكل أو يشرب ما في يده فقط حتى ينتهي منه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمع أحدكم النداء والإناء على يده فلا يضعه حتى يقضي منه حاجته). رواه أحمد وأبو داود والحاكم.
**وظاهر الحديث أن هذا مخصوص بالإناء الذي في اليد فقط، فيخرج ما يكون على الأرض من الأواني فلا يأكل منها.
**وهناك من أهل العلم من يضعف الحديث كما فعل ابن أبي حاتم في "العلل" نقلا عن أبيه، وهناك من يحمله على أن الأذان في عهد النبي صلى الله عليه كان يقدم قليلا، ولذلك أباح الأكل والشرب حتى يقضي حاجته.
قال البيهقي: (وهذا إن صح فهو محمول عند عامة أهل العلم على أنه صلى الله عليه وسلم علم أن المنادي كان ينادي قبل طلوع الفجر بحيث يقع شربه قبيل طلوع الفجر) أ.هـ
ولكن يجاب عنه بأن ابن أم مكتوم كان لا يؤذن حتى يقال له: "أصبحت أصبحت".
**وهناك من يقول: "إن الحديث صحيح ولا ينبغي حصره بما في الأيادي من الأواني، فهذه ظاهرية جامدة"، كذا قالوا، وهذا رأي بعض أفاضل العلماء المعاصرين.
وأجيب عن ذلك بأنه لا فرق بين الطعام والجماع فكلاهما حاجة يحتاجها الإنسان، وعليه فيلزم من ذلك أنه إذا أذن المؤذن وهو يجامع زوجته فلا يدعها حتى يقضي حاجته، ولما كان هذا باطلا كان الوقوف مع النص هو الأسلم كما ذكرنا.
وهناك من يقول: إن الحديث صحيح لكنه مخصوص بما جاء في النص فقط ولا نتوسع في القياس، وهذا هو الصواب.

بلدان يطول فيها الليل:

وأغلب البلدان معتدلة ومتقاربة من حيث الليل والنهار، لكن هناك بلدان يطول فيها الوقت وهي على قسمين:
الأول: بلدان يكون أغلب الوقت نهارا، أو أغلبها ليلا:
كما هو الحال في مناطق شمال أوروبا، والتي يبقى فيها النهار في بعض الفصول إحدى وعشرين ساعة ويبقى الليل ثلاث ساعات فقط، وفي بعض الفصول ينعكس الوضع، فهؤلاء يجب عليهم ابتداء الصيام مع طلوع الفجر وانتهاء الصيام مع غروب الشمس، لعموم قوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر، ثم أتموا الصيام إلى الليل). ولم يخصص هذا الحكم ببلد ولا بنوع من الناس، بل شرعه شرعا عاما، وهؤلاء داخلون في هذا العموم.
ولكن من أرهقه الصيام وتعب تعبا شديدا واحتاج إلى طعام فيفطر ويقضي يوما مكانه. وهذه فتوى جماعة منهم: "اللجنة الدائمة" وهناك فتوى مستقلة للشيخ عبد العزيز بن باز، وهي كذلك فتوى العلامة العثيمين وغيرهم.

والثاني: بلدان يكون الوقت كله ليلا:
فهنا يجب على أهل هذه المنطقة أن يقدروا للوقت تقديرا، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم، بذلك في أيام الدجال والذي يكون يوم فيه كسنة، وهكذا يومه الذي كشهر أو كأسبوع، ففي "صحيح مسلم" أن النبي صلى الله عليه وسلم حدث أصحابه عن المسيح الدجال، فقالوا: "ما لبثه في الأرض؟" قال: "أربعون يوما: يوم كسنة، ويوم كشهر، ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم"، فقيل: يا رسول الله! اليوم الذي كسنة أيكفينا فيه صلاة يوم؟ قال: "لا، اقدروا له قدره"). فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقدير الصلاة وغيرها.
ولكن العلماء اختلفوا على ماذا يعتمدون في التقدير على أقوال:
القول الأول
أنهم يصومون على تقدير مكة: وهذه فتوى الشيخ أحمد شاكر، واستدل بأن مكة هي أم القرى، فجميع القرى تؤول إليها لأن الأم هي الشيء الذي يقتدي به كالإمام.
وأجيب عن ذلك بأنه يلزم من ذلك أن لا يصوم من ثبتت عنده رؤية الهلال من سكان الجهات الأخرى، إذا لم ير أهل مكة الهلال، وهذا يدل على أنه لا يصح تعيين مطلع دولة معينة أو بلد معين – كمكة مثلا – لتعتبر رؤية الهلال منه وحده.
والقول الثاني:
أنهم يعتبرون في ذلك البلاد الوسط فيقدرون الليل اثنتي عشرة ساعة، ويقدرون النهار اثنتي عشرة ساعة لأن هذا هو الزمن المعتدل في الليل والنهار.
والقول الثالث:
أنهم يصومون على أقرب البلدان إليهم، بحيث تكون أقرب بلد فيها ليل ونهار منتظم:
وهذه فتوى سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز، وفضيلة الشيخ العثيمين.
ولـ"هيئة كبار العلماء" فتوى خاصة بهذا لشأن، فقد قال أعضاء هيئة كبار العلماء وفيهم سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز:
(وكذلك يجب عليهم صيام شهر رمضان، وعليهم أن يقدروا لصيامهم ويحددوا بدء شهر رمضان ونهايته، وبدء الإمساك والإفطار في كل يوم منه ببدء الشهر ونهايته، وبطلوع فجر كل يوم وغروب شمسه في أقرب البلاد إليهم يتميز فيها الليل من النهار، ويكون مجموعهما أربعا وعشرين ساعة لما تقدم في حديث النبي صلى الله عليه وسلم عن المسيح الدجال وإرشاده أصحابه فيه عن كيفية تحديد أوقات الصلوات فيه، إذ لا فارق في ذلك بين الصوم والصلاة.
والله ولي التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه) أ.ه
ـ
وفي الهيئة أمثال سماحة الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ عبد الله بن حميد والشيخ عبد الرزاق عفيفي والشيخ عبد الله بن غديان والشيخ صالح بن غصون والشيخ عبد الله بن قعود والشيخ صالح اللحيدان والشيخ عبد الله بن منيع.
ويقول الشيخ العثيمين:
(وهذا القول أرجح، لأن أقرب البلاد إليهم هي أحق ما يتبعون، وهي أقرب الى مناخهم من الناحية الجغرافية، وعلى هذا فينظرون إلى أقرب البلاد إليهم ليلاً ونهاراً، فيتقيدون به سواء في الصيام أو في الصلاة) أ.هـ

شرح متن
الشرح المختصر على (كتاب الصيام من عمدة الفقه) للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي



شرحه
الشيخ أبو عمار علي بن حسين الشرفي
المعروف بالحذيفي
منقول من منتدى سبل الهدى

كتـاب الصيـام

تعريف الصيام:
الصيام في اللغة هو الإمساك، فمن أمسك عن شيء وتوقف عنه فيقال عنه: "إنه صائم"، كما قال النابغة الذبياني:
خيل صيام وخيل غير صائمة تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما
ويعني بالصائمة: الممسكة عن الصهيل.
والصيام في الشرع: عبارة عن الامساك عن الطعام والشراب والجماع وسائر المفطرات تعبدا لله تعالى، من طلوع الصبح إلى غروب الشمس.
وقولنا: "من طلوع الصبح": لقوله تعالى: (وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأسود من الخيط الأبيض من الفجر).
وقولنا: "إلى غروب الشمس": لقوله تعالى: (ثم أتموا الصيام إلى الليل).
فوقت الصوم هو من طلوع الصبح إلى غروب الشمس.

والمفطرات هي الطعام والشراب – وما قام مقامهما – والجماع،
ويذهب بعض الفقهاء – كابن حزم – إلى الحكم بالفطر على الصائم إذا وقع في معصية كالغيبة والنميمة ونحوهما، وهو قول لم يسبق إليه، وقد أجيب عن ذلك بأن المعصية تنقص من أجر الصوم لا أنها تفسدة بالكلية كما ينقص اللغو أجر صلاة الجمعة لا أنه يفسده.

فرض صيام شهر رمضان:
فُرض صوم رمضان في السنة الثانية من الهجرة من شهر شعبان كما قال النووي في "المجموع" وابن حجر في "شرح الأربعين"، وعليه فقد صام رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع رمضانات بالإجماع كما في "الروض المربع".
ورمضان مأخوذ من الرمَضَ، وهو شدة الحر. ومنه الحديث: (صلاة الأوابين عندما ترمض الفصال).

قال ابن السكيت:
(الرمض: مصدر رمض الرجل يرمض رمضا: احترقت قدماه من شدة الحر، ورمض الفصال: أن تحترق الرمضاء – وهو الرمل – فتبرك الفصال من شد حرها، وإطراقها أخفافها وفراسنها).

كانت الأمم السابقة تصوم:

وجنس الصيام كان مكتوباً على من قبلنا كما في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون). وهذا يدل على أن الله تعالى يحب الصيام وأن له مصالح عظيمة.
ولكن لا نعرف كيف كان صيام الأمم السابقة، ولا متى يبدأ ولا متى ينتهي ولا ما هي الأشياء المحظورة على الصائم في شرعتهم.

مراحل فرض الصيام:

وقد فرض صيام رمضان بمراحل وهي كما يلي:
أولا: صيام عاشوراء:
فقد روى الشيخان أن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بصيام يوم عاشوراء فلما فرض رمضان كان من شاء صام ومن شاء أفطر). أي: نسخ الوجوب وبقي الاستحباب.

ثانيا: فرض صيام شهر رمضان ولكن يشرع للإنسان أن يفتدي عن الصيام بالإطعام مع استطاعته للصيام.
فقد روى مسلم في "صحيحه" عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: (لما نزلت هذه الآية: "وعلى الذين يطيقونه فدية طعام مسكين" كان من أراد أن يفطر ويفتدي، حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها).

ثالثا: وجوب صيام رمضان بعد نزول الآية: (فمن شهد منكم الشهر فليصمه). حيث نسخت التخيير وألزمت الجميع بالصيام لمن كان قادرا على ذلك.

اختلاف العلماء في فرض صيام قبل فرض صيام رمضان:

ذهب الجمهور إلى أنه لم يجب قط صوم قبل صوم رمضان، وهو المشهور عند الشافعية.
وذهب آخرون إلى أن هناك صياما قد فرض قبل فرض صيام رمضان، ثم نسخ برمضان، ثم اختلفوا في تحديد ذلك الصيام على قولين:
فقيل: إنه يوم عاشوراء:
وبذلك قال أبو حنيفة، وهو رواية عن أحمد، اختارها الأثرم، وشيخ الإسلام ابن تيمية.
لحديث عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يوم عاشوراء يوما تصومه قريش في الجاهلية، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصومه في الجاهلية، فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صامه، وأمر بصيامه، فلما فرض رمضان كان هو الفريضة ، وترك يوم عاشوراء، فمن شاء صامه ومن شاء تركه).
وقيل: إنه ثلاثة أيام من كل شهر: وإليه ذهب عطاء.
والصحيح أن صيام عاشوراء كان مفروضا لظاهر الحديث.

الحكمة من التدرج في تشريع الصيام:

رأينا أن الله تعالى لم يفرض الصوم جملة واحدة، وإنما شرعه على التدرج.
قال ابن القيم في "مفتاح دار السعادة" في بيان الحكمة من ذلك:
(لما كان – أي: الصوم – غير مألوف لهم ولا معتاد، والطباع تأباه، إذ هو هجر مألوفها ومحبوبها، ولم تذق بعد حلاوته وعواقبه المحمودة، وما في طيه من المصالح والمنافع، فخيرت بينه وبين الإطعام، وندبت إليه، فلما عرفت علته – يعني حكمته – وألفته، وعرفت ما ضمنه من المصالح والفوائد: حتم عليها عينا، ولم يقبل منها سواه، فكان التخيير في وقته مصلحة، وتعيين الصوم في وقته مصلحة، فاقتضت الحكمة البالغة شرع كل حكم في وقته؛ لأن المصلحة فيه في ذلك الوقت).

التخفيف في الصيام:

وقد ذكر النووي في "المجموع" وغيره ما خلاصته أنه كان في أول الاسلام إذا غربت الشمس يباح للرجل الأكل والشرب والجماع إلى أن يحصل له أحد أمرين:
الأول: أن ينام، فإذا نام حرم عليه الطعام والشراب.
الثاني: أن يصلي العشاء الآخرة فإذا صلى العشاء حرم عليه أن يأكل بعدها.
فأيهما وجد حصل به التحريم، ثم نسخ ذلك وأبيح كل شيء من طعام وشراب وجماع إلى طلوع الفجر سواء نام أم لا.
وقد روى البخاري في "صحيحه" عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: "كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وإن قيس بن صرمة الأنصاري رضي الله عنه كان صائما فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: "عندك طعام" قالت: "لا ولكن أنطلق فأطلب لك" وكان يومه يعمل فغلبته عيناه فجاءته امرأته فلما رأته قالت: "خيبة لك" فلما انتصف النهار غشي عليه، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية: "أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم" ففرحوا بها فرحا شديدا، ونزلت "وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود".

جزاكِ الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.