﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ . [ النساء : 1 ] .
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا . يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ . [ الأحزاب : 70 – 71 ] .
في هذا الحديث الصحيح بيان للعلاج والدواء لهذا الذي حل بالمسلمين من الذل الذي سيطر عليهم أجمعين ، إلا أفرادًا قليلين منهم لا يزالون يتمسكون بالعروة الوثقى لا انفصام لها . لقد بين الرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث المرض الذي إذا حل بالمسلمين أذلهم الله ، ثم وصف لهم الدواء والخلاص من هذا الداء ، فقد قال – عليه الصلاة والسلام – في مطلع هذا الحديث : ( إذا تبايعتم بالعينة ) . بيع العينة لا نريد الكلام عنه إلا بإيجاز ، هو : بيع من البيوع الربوية التي ابتلي بها كثير من الناس في العصر الحاضر ، وهو إنما ذكره الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – على سبيل التمثيل وليس على سبيل التحديد ، مما يقع فيه المسلمون فيستحقون به وبسببه أن يذلهم الله – تبارك وتعالى – ، ذكر بعض الأمثلة في نص هذا الحديث :
قال – عليه الصلاة والسلام – من باب التحذير : ( سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، وهذا الذل المسلط على المسلمين أمرٌ لا يخفى على كل ذي عقل ، وهنا يحتاج الأمر إلى كثير من البيان ، وحسبنا تذكيرًا ما أصاب المسلمين في احتلال اليهود لفلسطين – فضلاً – عن البلاد الشامية الأخرى ، التي لا تزال الفتن فيها تترى ، ولا يزال الحكام غير المسلمين أو الحكام المسلمون جغرافيون يعيثون فيها فسادًا ، كل ذلك ذلٌ سلطه الله – تبارك وتعالى – على المسلمين ، وليس ذلك ظلم منه ، وحاشاه !
فإن ربنا – عز وجل – لا يظلم الناس شيئًا ، ولكن الناس أنفسهم يظلمون ، ربنا – عز وجل – يقول : ﴿ فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ ﴾ . [ النساء : 160 ] . فالله – عز وجل – لما سلط الذل علينا فبظلمٍ منا ، فهو ظلم واضح في كثير من الأمور ، وقد ضرب الرسول – عليه السلام – لنا هذه الأمثلة الثلاثة : التبايع بما حرم الله . التكالب على حطام الدنيا . ترك الجهاد في سبيل الله . فكانت النتيجة أن يسلط الله علينا ذلك الذل المخيم بصورة مجسدة مجسمة في بلادنا العزيزة فلسطين ، وإذا كان هذا الذل ؛ فما الخلاص منه !؟ وما النجاة منه !؟
الدواء الناجع للخروج من الذل والمهانة : يقول الرسول – عليه الصلاة والسلام – الذي وصفه ربنا في القرآن بحق حين قال : ﴿ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ . [ التوبة : 128 ] . قال – عليه السلام – في تمام الحديث : ( سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، فهذا هو العلاج ، قد وصفه الرسول – عليه السلام – واضحًا مبينًا في خاتمة هذا الحديث حيث قال : ( حتى ترجعوا إلى دينكم ) .
وحينما أروي لكم هذا الحديث وأعلق بعض هذه التعليقات عليه لا آتيكم بشيء جديد ؛ لأن المسلمين جميعًا على ما بينهم من اختلافات في العقائد وفي الفروع – كما يقولون – ، كلهم مجمعون على أن سبب الذل الذي حل بالمسلمين إنما هو تركهم لدينهم ، وكلهم يقولون : إن العلاج هو الرجوع إلى الدين ، هذا كله أمر معروف لديهم أجمعين . لكن الشيء الذي أريد أن نذكِّر به ، وقد يكون أمرًا جديدًا بالنسبة لبعض الناس ، ولكنه هو الحق مثلما أنكم تنطقون ، هذا الشيء هو : لِمَ وصف الرسول – صلى الله عليه وسلم – الدواء لهؤلاء المسلمين المستذلين بسبب ما ارتكبوا من مخالفات لدينهم ، وصف لهم الدواء بأن يرجعوا إلى دينهم !؟
فما هو هذا الدين – هنا بيت القصيد في كلمتي هذه – ما هو هذا الدين الذي هو علاج المسلمين بنص هذا الحديث ، والمسلمون – كما ذكرنا – كلهم يقولون : على المسلمين أن يعملوا بدينهم ، لكن ما هو هذا الدين !؟
إن الشيء المؤسف أن هذا الدين الإسلامي قد أخذ مفاهيم عديدة جدًا في مسألة التاريخ الطويل من بعد السلف الصالح – رضي الله عنهم – ، ليس فقط في الأمور الفقهية التي يصفونها بأنها فرعية ؛ بل حتى في المسائل الاعتقادية ، وكلنا يعلم حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – الذي أخبرنا بافتراق المسلمين إلى ثلاثٍ وسبعين فرقة ، حين قال : ( تفرقت اليهود إلى إحدى وسبعين فرقة ، وتفرقت النصارى إلى اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة ، قالوا : من هم يا رسول الله !؟ قال : هم الجماعة ) . هذه هي الرواية الصحيحة ، وهناك رواية أخرى في سندها شيء من الضعف ، ولكن يوجد ما يشهد لها ، ألا وهي قوله – عليه السلام – : ( هي ما أنا عليه وأصحابي ) .
وفي الواقع هذه الرواية ليس فيها شيءٌ جديد بالنسبة للرواية الأولى إلا التوضيح والترتيب ، فالرسول – صلوات الله وسلامه عليه – حين قال في وصف الفرقة الناجية : ( هي الجماعة ) . فسرها في الرواية الأخرى بأنها هي التي تكون على ما كان عليه الرسول – صلى الله عليه وسلم – وأصحابه .
إذًا : فالرسول – عليه السلام – يخبرنا في هذا الحديث أن المسلمين سيتفرقون إلى ثلاث وسبعين فرقة ، وهذه الفرق كلها ضالة إلا فرقة واحدة ، صفتها : ما كان عليه الرسول – عليه الصلاة والسلام – وأصحابه ، نحن اليوم نعيش في خضم هذا الاختلاف الكثير والكثير جدًا ، الذي ورثناه طيلة هذه السنين الطويلة المديدة ، وكل من هذه الفرق ليس فيها طائفة تتبرأ من الإسلام ، ليس فيها طائفة تقول : ديننا غير الإسلام ، كلهم يقولون : ديننا الإسلام ، ومع ذلك – أيضًا – يقولون كلهم : علاج المسلمين هو تمسكهم بالدين .
إذًا : هذا الدين الذي تفرق فيه المسلمون إلى ثلاث وسبعين فرقة – أي : تفرقوا في فهمه هذا التفرق الشديد – إذا كان الرسول – صلوات الله وسلامه عليه – قد جعل العلاج إنما هو بالرجوع إلى هذا الدين ، فبأي مفهوم ينبغي أن يفهم هذا الدين حتى يكون هو العلاج كما قال – عليه الصلاة والسلام – : ( سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم ) !؟
لا نذهب بكم بعيدًا في ضرب الأمثلة ، فها نحن في المثال الأول الذي نصبه الرسول – عليه الصلاة والسلام – أول هذا الحديث ، حيث قال : ( إذا تبايعتم بالعينة ) ، بيع العينة : المذاهب اليوم مختلفة فيه ، فمنهم من يبيحه ، ومنهم من يحرمه ، والرسول – صلى الله عليه وسلم – في هذا الحديث يجعل من أسباب مرض المسلمين واستحقاقهم الذل أنهم يتبايعون بالعينة ، فإذًا بأي منهج وبأي مفهوم للدين يجب أن نفهم هذا الدين حتى يكون عبادة وسببًا لخلاصنا من هذا الذل الذي سيطر علينا !؟
إن بيع العينة الذي ذكره الرسول – عليه السلام – في شرح هذا الحديث قد استباحه بعض المسلمين ، ولا أعني الجهلة والعامة ، وإنما أعني الخاصة وبعض المؤلفين والمصنفين من القدامى والمحدَثين ، ذكروا أن بيع العينة بيع حلال ، وهو داخل في عموم قوله تعالى : ﴿ وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا ﴾ . [ البقرة : 275 ] . لكن هذا الحديث يبين لنا أن بيع العينة ليس مشروعًا بل هو محرم ، ولذلك جعله سببًا من أسباب استحقاق المسلمين للذل .
إذًا : معنى هذا الحديث أنه لا يجوز بيع العينة ، فإذا أردنا أن نرجع إلى ديننا ليعزنا ربنا – عز وجل – ، ويرفع الذل الذي سيطر علينا ، فنبيح بيع العينة أم نحرمه !؟ لابد أن نحرمه ، وهذا التحريم جاء في حديث ، لكن تحليله جاء في بعض الروايات وبعض الأقوال .
إذًا : حينما قال الرسول – صلى الله عليه وسلم – في آخر الحديث : ( حتى ترجعوا إلى دينكم ) ، إنما يعني الدين المذكور في القرآن والمفصل في حديث الرسول – عليه الصلاة والسلام – ، الدين كما قال – عز وجل – : ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الإِسْلامُ﴾ . [ آل عمران : 19 ] ، وقال : ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ﴾ . [ المائدة : 3 ] . وقال : ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ﴾ . [ آل عمران : 85 ] . إلى آخر الآيات .
إذًا : الدين الذي هو العلاج هو الاستسلام ، لكن الإسلام قد فهم على وجوه شتى في الأصول – في العقائد – فضلاً عن الفروع .
فضيلة العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله
https://www.sahab.net/home/index.php?threads_id=154
بارك الله فيك وجزاك خيرا.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون احسنه
اللهم اجعل القرآن ربيع قلوبنا و نور صدورنا و جِلاء همّنا و ذهاب غمّنا
اللهم ذكرنا منه مانسينا وعلمنا منه ماجهلنا وارزقنا تلاوته اناء الليل واطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا.
بارك الله فيك ونفع بك وجعله في ميزان حسناتك