الرغم من أهمية الانكباب على موضوع "العنف" في شتى مجالاته(عنف الرجل ضد المرأة، عنف الآباء ضد الأطفال، عنف المشغل ضد العامل…)، فإن ما يمارس من عنف في مؤسساتنا التعليمية لم ينل الحظ الكافي من الدراسة والتحليل، وحتى ما أسهب فيه المحللون في هذا المجال يكاد يدور في نطاق مظاهر العنف التي يمارسها المربي على المتعلم، حيث يغدو المعلِّم/ المربِّي، من خلال هذا المنظور، رجلاً فضاً لا يرحم تلامذته، ويذيقهم أقسى العقوبات.
فقد كان هناك تركيز على ربط العنف بمرحلة معينة من التاريخ الدراسي وهو مرحلة التعليم الابتدائي مع المعلم أو ما قبله مع الفقيه، وقلما نجد تركيزاً على مرحلة المراهقة. رغم أهمية المرحلة العمرية التي يمر بها التلاميذ، بصفتها مرحلة انتقالية من الطفولة إلى الرشد، يرافقها كثير من التغييرات الجسدية والنفسية والتي تترك بصماتها العميقة في شخصية الفرد، وتكيفه مع المؤسسة والمجتمع والبيئة المحيطة به.
ذلك أن هناك حاجة ملحة للمربين وأولياء الأمور، ومن يتعاملون مع هؤلاء المراهقين إلى التعرف على خصائص شخصية المراهقين وما يرافقها من انفعالات مختلفة…بحيث يمكنهم التعامل معهم بوعي، ومساعدتهم لتجاوز مشكلاتهم النفسية، وانفعالاتهم الطارئة وردود فعلهم المختلفة… و على هذا الأساس، فإن الهدف الأساس من التعرض لقضية العنف المدرسي لدى المراهق، هو إثارة الانتباه لهذه الظاهرة التي لم تعد مجرد حديث عابر نسمعه في الشارع وكفى، بل وصلت عدواها إلى مؤسساتنا التعليمية.
وقد تمظهرت أشكال ممارسة هذا العنف المادي من خلال فعل الضرب والجرح وإساءة الآداب، والعنف الرمزي…(التحرشات المختلفة، استفحال ظاهرة الكلام النابي، تنامي السلوكات غير المتسامحة …)، كل هذا وغيره هو الذي وجب التنبيه إليه، والتحذير من مغبته، وبالتالي قرع ناقوس الخطر على المنحى اللاتربوي الذي غدت تعرفه الكثير من مؤسساتنا التعليمية.
تحديد المفهوم العنف:
بصفة عامة، قضية كبرى، عرفها الإنسان منذ بدء الخليقة(قتل قبيل لهابيل)، كما أنه أحد القوى التي تعمل على الهدم أكثر من البناء في تكوين الشخصية الإنسانية ونموها، وهو انفعال تثيره مواقف عديدة، ويؤدي بالفرد إلى ارتكاب أفعال مؤذية في حق ذاته أحيانا وفي حق الآخرين أحياناً أخرى.
ولقد أسهب الباحثون في تحديد مفهوم العنف كل من زاويته الخاصة، حيث يعرفه جميل صليبا، في معجمه الشهير:"المعجم الفلسفي"، بكونه فعل مضاد للرفق، ومرادف للشدة والقسوة، العنيف(Violent) هو المتصف بالعنف،فكل فعل يخالف طبيعة الشيء، ويكون مفروضاً عليه، من خارج فهو، بمعنى ما، فعل عنيف،والعنيف هو أيضاً القوي الذي تشتد سورته بازدياد الموانع التي تعترض سبيله كالريح العاصفة، والثورة الجارفة، العنيف من الميول:"الهوى الشديد الذي تتقهقر أمامه الإرادة، وتزداد سورته حتى تجعله مسيطراً على جميع جوانب النفي، والعنيف من الرجال هو الذي لا يعامل غيره بالرفق، ولا تعرف الرحمة سبيلاً إلى قلبه.
وجملة القول إن العنف هو استخدام القوة استخداماً غير مشروع، أو غير مطابق للقانون"().
أما في معجم "قاموس علم الاجتماع"، فإن العنف يظهر عندما يكون ثمة فقدان "للوعي لدى أفراد معينين أو في جماعات ناقصة المجتمعية. وبهذه الصفة يمكن وصفه بالسلوك"اللاعقلاني"(). في حين يرى بول فولكي في قاموسه التربوي أن العنف هو اللجوء غير المشروع إلى القوة، سواء للدفاع عن حقوق الفرد، أو عن حقوق الغير"كما أن العنف لا يتمظهر بحدة إلا في وجود الفرد/المراهق في مجموعة ما"(). أما أندري لالاند فقد ركز على تحديد مفهوم العنف في أحد جزئياته الهامة، إنه عبارة عن"فعل، أو عن كلمة عنيفة"(). وهذا ما يدخل في نطاق العنف الرمزي…فأول سلوك عنيف هو الذي يبتدئ بالكلام ثم ينتهي بالفعل. وهكذا فتحديدات العنف تعددت واختلفت، إلا أن الجميع يقرُّ على أنه سلوك لا عقلاني، مؤذي، غير متسامح.
العوامل المولدة للعنف لمدرسي
إذا كان العنف المدرسي ليس وليد الساعة طبعاً، فإن حدته ارتفعت وأصبحت بادية للعيان، فقد باتت الأوضاع الأمنية بمؤسساتنا التعليمية تدعو إلى القلق، وهي ظاهرة تكاد تمس أغلب هذه المؤسسات؛ لأنها مرتبطة في نظر العديد من الباحثين بعدة عوامل، نسرد منها الأساسي منها:
أ ـ عوامل ذات صلة بالظروف الإجتماعية
تسجل ظواهر العنف المدرسي بحدة مؤسساتنا التعليمية الموجودة في مناطق معزولة وكذا في الأحياء الهامشية، إذ تظل الظروف الاجتماعية من أهم الدوافع التي تدفع التلميذ للممارسة فعل العنف داخل المؤسسات التعليمية، إذ في ظل مستوى الأسرة الاقتصادي المتدني، وانتشار أمية الآباء والأمهات، وظروف الحرمان الاجتماعي والقهر النفسي والإحباط…كل هذه العوامل وغيرها تجعل هؤلاء التلاميذ عرضة لاضطرابات ذاتية وتجعلهم، كذلك، غير متوافقين شخصياً واجتماعياً ونفسياً مع محيطهم الخارجي؛ فتتعزز لديهم عوامل التوتر، كما تكثر في شخصيتهم ردود الفعل غير المعقلنة، ويكون ردهم فعلهم عنيفاً في حالة ما إذا أحسوا بالإذلال أو المهانة أو الاحتقار من أي شخص كان.
وهنا يجب التركيز على دور التنشئة الاجتماعية وما تلعبه من أدوار طلائعية في ميدان التربية والتكوين، فعندما تعمل التنشئة الاجتماعية على تحويل الفرد ككائن بيولوجي إلى شخص ككائن اجتماعي، فإنها، في الوقت نفسه، تنقل ثقافة جيل إلى الجيل الذي يليه، وذلك عن طريق الأسرة والمدرسة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى، فالتنشئة الاجتماعية من أهم الوسائل التي يحافظ بها المجتمع عن خصائصه وعلى استمرار هذه الخصائص عبر الأجيال، وهذه التنشئة هي التي تحمي التلميذ من الميولات غير السوية والتي قد تتبدى في ممارسة فعل العنف الذي يتسبب، بالدرجة الأولى، في أذى النفس أولاً وأذى الآخرين ثانياً.
ومن هذا المنطلق، وجب التأكيد على أن التربية"ليست وقفاً على المدرسة وحدها، وبأن الأسرة هي المؤسسة التربوية الأولى إلى حد بعيد في تنشئة الأطفال وإعدادهم للتمدرس الناجح، كما تؤثر في سيرورتهم الدراسية والمهنية بعد ذلك…"(). فهل ما يزال هذه الجدل قائما بين مؤسساتنا التعليمية وباقي المؤسسات الاجتماعية الأخرى(الأسرة على الخصوص…)؟
وعلى الرغم من أهمية التنشئة الاجتماعية ودورها الفاعل في تغيير ميولات التلميذ غير السوية، فإن التباين حول إمكانات التنشئة الاجتماعية وحدودها لا زال إشكالاً فلسفياً قائماً، تعبر عنه بوضوح جملة من الأسئلة الإشكالية العامة من قبيل: هل بمقدور التنشئة الاجتماعية أن تحقق الهدف المطلوب، بصورة كافية، في أوساط أسرية متفككة، فقيرة ومقهورة ؟ و هل يمكن الحديث عن تنشئة اجتماعية في ظل غياب أولياء الأمور عن تتبع المسار الدراسي لأبنائهم؟ وبعبارة مختصرة، هل للتنشئة الاجتماعية ذلك المفعول القوي حتى في حالة تلميذ عنيف يعاني من مشكلات أسرية عميقة(انفصال الوالدين، مرض أفراد الأسرة…الخ)؟
ب ـ عوامل نفسية
من الخطأ القول إن هذا التلميذ أو ذاك مطبوع بمواصفات جينينة تحمله على ممارسة العنف دون سواه، وأن جيناته التي يحملها هي التي تتحكم في وظائف الجهاز العصبي، فما قد يصدر عن التلميذ من سلوك عنيف له أكثر من علاقة تأثر وتأثير بالمحيط الخارجي، وبتفاعل كبير مع البيئة الجغرافية والاجتماعية التي يعيش التلميذ في كنفها، ذلك أن المؤسسة التعليمية تشكل نسقاً منفتحاً على المحيط الخارجي أي على أنساق أخرى: اجتماعية واقتصادية وبيئية…ومن تم فإن عوائق التربية المفترضة في المؤسسة التعليمية تتفاعل مع العوامل الخارجية بالنسبة للمؤسسة التعليمية في كثير من الأحيان.
هذه المقاربة النسقية للعوائق النفسية الاجتماعية المفترضة في المؤسسة التعليمية، تقود من الآن إلى توقع تعقد وتشابك هذه العوائق، وتبعاً لذلك تؤدي إلى تبدد مظاهر البساطة والبداهة في رؤية هذا الموضوع ومقاربته.
فالأشخاص، حسب العديد من الباحثين، يختلفون من حيث استعداداتهم للتأثر بتجاربهم، لكن يظل التفاعل بين تراثهم الجيني والوسط المعيشي هو المحدد لطبيعة شخصيتهم، طبعاً باستثناء الحالات المرضية، فالجينات لا تخلق أشخاصاً لهم استعداد للعنف أو سلوك عدواني، كما لا تفسر سلوك اللاعنف، رغم تأثيرها على مستوى إمكانيات سلوكنا لكنها لا تحدد نوعية استعمال هذه الإمكانيات، كما يجمع العديد من العلماء، كذلك، على أن العنف موجود ولكنه مختلف المظاهر ومتنوع الأسباب، فالكل قد يمارس فعل العنف بدرجة أو بأخرى في يوم من الأيام، فإذا كانت درجة العنف في الحدود المعقولة كان الإنسان سوياً يتمتع بالصحة النفسية، وأمكنه أن يسيطر بعقله على انفعالاته، وإذا كانت درجة العنف كبيرة عانى الفرد من اضطرابات نفسية وشخصية.
ومن منظور فرويد، فإن مصادر العنف ترتدُّ إلى ما يلي:
1 ـ يبقى الطفل حتى حل عقدة أوديب لديه، تحت تأثير الرغبة في تأمين استئثاره بعطف الأمومة.
2 ـ تزجه هذه الرغبة في نزاع مزدوج مع أشقائه وشقيقاته من جهة، ومع أبيه وأمه من جهة أخرى.
3 ـ إن هذا النزاع الذي يجد من الناحية الواقعية نهايته"عادة" في "مجتمعية" الولد، يمكن أن يترافق في اللاوعي الفردي بالرغبة في قتل كل من يعارض تحقيق رغبتنا المكبوتة بشكل كامل تقريباً.
4 ـ وحتى عند الراشد، فإنه يمكن إعادة تنشيط هذه الرغبة بمناسبة حالات غامضة من الكبت والعدوانية المفتوحة التي يتعرض لها الفرد خلال حياته().
وعلى هذا الأساس، فإن التلميذ المراهق يعيدنا إلى ضرورة تحديد مفهوم "المراهقة"، بما أنها مفهوم سيكولوجي، يقصد بها المرحلة التي يبلغ فيها الطفل فترة تحول بيولوجي وفيزيولوجي وسيكولوجي، لينتقل منها إلى سن النضج العقلي والعضوي، فالمراهقة، إذن، هي المرحلة الوسطى بين الطفولة والرشد.
في هذا السياق، وهو سياق بناء الذات من منظور التلميذ ـ المراهق، لا بد أن تصطدم هذه الذات، الباحثة عن كينونتها، بكثير من العوائق، بدءاً من مواقف الآباء مروراً بموقف العادات والتقاليد انتهاء بموقف المربين… فبالإضافة إلى موقف الأسرة الذي عادة ما يكون إما معارضاً أو غير مكترث، فإن سلطة المؤسسات التعليمية غدت هي الأخرى تستثير التلميذ المراهق، وتحول دون ممارسته لحريته، كما يراها هو.
وبناء على ذلك، نستطيع الحديث عن العلاقة التسلطية ما بين المعلم والمتعلم: فسلطة المعلم لا تناقش(حتى أخطاؤه لا يسمح بإثارتها، ولا تكون له الشجاعة للاعتراف بها)، بينما على الطالب أن يمتثل ويطيع ويخضع…الأمر الذي يؤدي في بعض الأحيان إلى تعارض صارخ بين الطرفين، تنتج عنه ردود فعل عنيفة من طرف هذا أو ذاك، الأمر الذي تبرزه العديد من الأبحاث التربوية في هذا المجال، والتي ترجع دوافع العنف إلى ذلك التناقض الحاد بين التلميذ والأستاذ في ظل انعدام ثقافة حوارية منتجة وخلاقة وإيجابية.
هذه العلاقات التسلطية التي تدور في فلك الفعل ورد الفعل"تعزز النظرة الانفعالية للعالم، لأنها تمنع الطالب من التمرس بالسيطرة على شؤونه ومصيره، وهي المسؤولة إلى حد كبير عن استمرار العقلية المتخلفة لأنها تشكل حلقة من حلقات القهر الذي يمارس على مختلف المستويات في حياة الإنسان المتخلف"().
ويعتقد بعض علماء علم النفس أن الانفعالات: كالعدوان، والخوف، والاستثارة الجنسية، مثلاً هي عبارة عن"حوافز يتم التخفف منها أو خفضها خلال ذلك المسار الخاص بالتعبير عنها، فإذا كان الأمر كذلك، فقد تكون أفضل طريقة للتعامل مع الانفعالات القوية هي الوعي بها ومواجهتها"().
وهنا يمكننا الحديث عن كبت للمشاعر التلقائية، وبالتالي كبت تطور الفردية الأصيلة الذي يترسخ في مرحلة المراهقة، والذي يبدأ مبكراً مع الطفل. إذ يجب أن يبقى الهدف هو تدعيم استقلال التلميذ الباطني والحفاظ على فرديته ونموه وتكامله، وهذا ما غدا مألوفاً في أدبيات التربية الحديثة، وتكرس مع ميثاق التربية والتكوين الذي يعتبر قراءة جديدة للوضع التربوي المغربي الراهن على ضوء المستجدات التي طرأت على مفهوم التربية والتعليم.
فهناك شواهد على أن التعبير المباشر عن العدوان(Agression ) يعمل على تناقض احتمالية حدوث النشاطات العدائية( Hostile) التالية. فتوفير الفرصة للشخص الغاضب للتعبير عن مشاعره/مشاعرها العدائية في التو واللحظة "يعمل على خفض الحاجة للتعبيرات اللاحقة عن الغضب، حتى لو كان هذا التعبير العدواني الكلي كبيراً على نحو ملحوظ"(9).
ومن المعقول أن نفترض هنا أنه من دون مثل هذا التنفيس عن المشاعر العنيفة سيكون التلميذ العنيف أكثر تهيؤاً للعنف بمجرد إحساسه بأي استفزاز أو اختراق داخلي.
كما تجدر الإشارة إلى أن غالبية التلاميذ الذين يمارسون العنف هم ذكور، وقلما نصطدم بفتاة/تلميذة تمارس فعلاً عنيفاً في مواجهة الآخر (ذكراً كان أو أنثى)، وهذا الأمر سبق له أن كان موضوع دراسات متخصصة في الغرب؛ ففي دراسة قام بها هوكانسون (Hokanson ) روقبت مستويات ضغط الدم الخاصة بالأفراد عندما كان غضبهم يستثار من خلال سلوك مشاكسة ـ ما يتم على نحو متعمد ـ من جانب بعض الشركاء الضمنيين للمجرب في هذه الدراسة. وقد لاحظ هذا الباحث أن ضغط الدم الخاص بالرجال المشاركين في التجربة كان يعود بشكل أسرع إلى حالته الطبيعية الأولى، إذا عبروا عن غضبهم بشكل صريح، أما بالنسبة للنساء فقد كان ضغط الدم الخاص بهن يعود إلى حالته الطبيعية الأولى على نحو أسرع إذا اتسمت تعاملاتهن مع العاملين ـ المتعاونين خفية مع المجرب ـ بالمودة أكثر من اتسامها بالعدوانية. ربما كان السلوك العدائي الخارجي هو السلوك الطبيعي المكمل للغضب لدى الرجال، مقارنة بالنساء، فهن يمتلكن وسائل أكثر تحضراً من الرجال في التعامل مع المشاعر العدوانية"().
ج ـ عوامل تربوية
لا يزال عدد كبير من الناس يعتقد أن النظام التربوي كفيل بتغيير شكل أي مجتمع وتطويره، ولكن الحقيقة هي أن مهمته في مجتمع يسوده الفقر والكبت وثقافة الإقصاء هي حمايته والإبقاء عليه، وهذا الأمر يبدو جلياً في إخفاق معظم تجارب نظامنا التربوي الذي غدا حقلاً مكروراً للتجارب الفاشلة نظراً لما يسود هذه الأنظمة التربوية المفروضة من ارتجالية وفرض لا يحتمل إلا التنفيذ على علاته.
ولقد كان السبب الرئيسي في هذا الإخفاق أن إنسان هذه المجتمعات لم يؤخذ بعين الاعتبار، كعنصر أساسي ومحوري في أي خطة تنمية، في الوقت الذي تؤكد فيه الدراسات العلمية والتجارب المجتمعية "أن التنمية مهما كان ميدانها تمس تغيير الإنسان ونظرته إلى الأمور في المقام الأول، مما يوجب وضع الأمور في إطارها البشري الصحيح، وأخذ خصائص الفئة السكانية التي يراد تطويره نمط حياتها بعين الاعتبار، ولا بد بالتالي من دراسة هذه الخصائص ومعرفة بنيتها و ديناميتها"().
كما أن أول شيء يثير انتباه المهتم بدراسة قضايا التربية والتعليم في بلادنا هو سيادة "ثقافة الصمت" في المدرسة المغربية، فقد أصبح معتاداً أن ندخل قاعة الدرس ونجد تلاميذ في حالة صمت مطبق، أو في حالة فوضى عارمة، وثقافة الصمت هي وسيلة من وسائل الاحتجاج والممانعة ضد كل ما هو مفروض قسراً على التلميذ. يقول جيمس جويس، على لسان سارده، في روايته/ سيرته الشهيرة "صورة الفنان في شبابه"، في هذا الصدد:"سأحاول أن أعبر عن نفسي في الحياة أو في الفن على أكثر الأشكال حرية وكمالاً، مستخدما للدفاع عن نفسي الأسلحة الوحيدة التي أسمح لنفسي باستخدامها: الصمت، النفي، المقدرة…"().
فما هي أبعاد "ثقافة الصمت" داخل المدرسة المغربية؟ إن أبعاداً عديدة بما في ذلك رد الفعل العدواني المعارض الصادر من التلاميذ. فالبعد الأول هو استضمار التلاميذ لأدوار سلبية يحويها نص الفصل الدراسي التقليدي. وهكذا تنشئ البيداغوجية الرسمية التلاميذ باعتبارهم شخوصاً سلبيين/عدوانيين().
هناك، إذن، أزمة كبيرة ناتجة عن مقاومة التلاميذ للبرامج الرسمية(تغليب جانب الكم على الكيف، مناهج تعليمية عتيقة، عدم تحيين البرامج التعليمية لما هو سائد)؛ ففي ظل عدم لامبالاة المسؤولين بهذه الأوضاع التعليمية المختلة، وفي ظل رفض القيام بتغيير حقيقي للبرامج التي تستلب التلاميذ؛ فإن التلاميذ، من جهتهم، يرفضون الإنتاج في إطار البرامج الرسمية، وهكذا يراوح النظام التعليمي الرسمي مكانه دون جدوى.
إضافة إلى مشكلة البرامج التربوية، هناك انعدام آفاق مستقبلية تحفز المتعلم، وتشحذ همته من أجل البحث والتحصيل، ففي ظل هذه الرؤية السوداوية القاتمة، فإن ما يقوم به التلاميذ في الواقع هو"إنجاز إضراب برفضهم التعلم تحت هذه الظروف وانعدام الشروط المادية وغموض الآفاق وانعدام الشغل…فالبطالة هي مآل الأغلبية الساحقة من التلاميذ. وهكذا أضحى التلاميذ يرون أنه من السذاجة والجنون الخضوع لقواعد لا يستفيدون منها أي شيء وهي من وضع كائن آخر"().
محاور العنف في مؤسساتنا التعليمية
يمكن استجلاء الأطراف الأساسية التي تدخل في معادلة ممارسة فعل العنف أو الخضوع لفعل العنف في مؤسساتنا التربوية، وهي علاقات الفاعل والمفعول به، ويمكن أن نركز دوائر هذا العنف في المحاور العلائقية التالية:
أ ـ التلميذ في علاقته بالتلميذ
تتعدد مظاهر العنف التي يمارسها التلاميذ فيما بينهم، إلا أنها تتراوح بين أفعال عنف بسيطة وأخرى مؤذية ذات خطورة معينة، ومن بين هذه المظاهر:
o اشتباكات التلاميذ فيما بينهم والتي تصل، أحياناً، إلى ممارسة فعل العنف بدراجات متفاوتة الخطورة.
o الضرب والجرح.
o إشهار السلاح الأبيض أو التهديد باستعماله أو حتى استعماله.
o التدافع الحاد والقوي بين التلاميذ أثناء الخروج من قاعة الدرس.
o إتلاف ممتلكات الغير، وتفشي اللصوصية.
o الإيماءات والحركات التي يقوم بها التلميذ والتي تبطن في داخلها سلوكا عنيفاً.
ب ـ التلميذ في علاقته بالأستاذ
لم يعد الأستاذ بمنأى عن فعل العنف من قبل التلميذ، فهناك العديد من الحالات في مؤسساتنا التعليمية ظهر فيها التلميذ وهو يمارس فعل العنف تجاه أستاذه ومربيه. وتكثر الحكايات التي تشكل وجبة دسمة في مجامع رجال التعليم ولقاءاتهم الخاصة، إنها حكايات من قبيل: الأستاذ الذي تجرأ على ضرب التلميذ، وهذا الأخير الذي لم يتوان ليكيل للأستاذ صفعة أقوى أمام الملأ…أو أن يضرب التلميذ أستاذه، في غفلة من أمره، ثم يلوذ بالفرار خارج القسم، أو أن يقوم التلميذ بتهديد أستاذه بالانتقام منها خارج حصة الدرس، حيث يكون هذا التهديد مصحوباً بأنواع من السب والشتم البذيء في حق الأستاذ الذي تجرأ، ومنع التلميذ من الغش في الامتحان…الخ.
وهذا ما تؤكده العديد من تقارير السادة الأساتذة التي يدبجونها حول السلوك غير التربوي لعينة من التلاميذ المشاغبين، وكلها تقارير تسير في اتجاه الاحتجاج على الوضع غير الآمن لرجل التعليم في مملكته الصغيرة (القسم).
ففي كثير من اللقاءات التنسيقية ما بين الطاقم الإداري ومجالس الأساتذة ترتفع الأصوات عالية بدرجات العنف التي استشرت في المؤسسات التربوية، وهذه الأصوات العالية كان لها الصدى المسموع أحياناً لدى الجهات المسؤولة، وترجم ذلك بمذكرات وزارية أو نيابية(حملات التحسيس بأهمية نشر ثقافة التسامح، منع حمل السلاح الأبيض داخل المؤسسات التعليمية…). وكلها مذكرات تنص على تفاقم تدهور الوضع الأمني في المؤسسات التعليمية من جراء العديد من مظاهر العنف. وبموجب هذه المذكرات فإنه على الإداريين أن يكونوا على يقظة من أمرهم، وذلك بتقفي أثر كل ما يتسبب في انتشار العنف الذي يزداد يوماً بعد يوم في كنف مؤسساتنا التعليمية.
ونعرف أن هذا النوع من الحلول بعيد عن النجاعة والفاعلية ما دام صدى هذه المذكرات لا يتجاوز رفوف الإدارة، بعد أن يضطلع عليها المعنيون بالأمر، لتظل حبراً على ورق كما هو سابق من مذكرات وتوصيات، تحتاج، بالدرجة الأولى، إلى وسائل وآليات التنفيذ أكثر مما هي بحاجة إلى الفرض الفوقي الذي لا يعدو أن يكون ممارسة بيروقراطية بعيدة عن ميدان الممارسة والفعل.
ج ـ التلميذ في علاقته برجل الإدارة
قد يكون رجل الإدارة، هو الآخر، موضوعاً لفعل العنف من قبل التلميذ، إلا أن مثل هذه الحالات قليلة جداً، ما دام الإداري، من وجهة نظر التلميذ، هو رجل السلطة، الموكول له تأديب التلميذ وتوقيفه عند حده حينما يعجز الأستاذ عن فعل ذلك في مملكته الصغيرة(القسم)…وهذا ما يحصل مراراً وتكراراً في يوميات الطاقم الإداري، فكل مرة يُطلب منه أن يتدخل في قسم من الأقسام التي تعذر على الأستاذ حسم الموقف التربوي فيه.
بارك الله فيكم على مروركم