تخطى إلى المحتوى

الطغاة وفلسفة العمر! 2024.

فور متابعتي لقصاصة الأخبار عن المبالغ الخياليَّة التي يَملكها هؤلاء الملوك والرُّؤساء والأمراء، أطرح سؤالاً على نفسي قبلهم: هل تلك الثَّروة من كدِّهم؟ أم هي سرقة موصوفة؟ ماذا سيقولون لربِّهم؟ أيها الحاكم هل أحسنتَ إلى الفقراء والمُحتاجين في وقتٍ كنت تعيش في نعيم الدُّنيا الزَّائل الفاني؟ ألَم تتأثَّر للجوعى والثكالى والعُراة؟ هل أنت مخلوق غير عادي؟ أم الإغراق في ملذَّات الدنيا أنساك همومَ الناس من رعيتك؟! ولا حول ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم.

لله دَرُّ عبدالرحمن بن أبي بكرة – رضي الله عنهما – حين قال: "من تَمنَّى طول العمر؛ فليوطِّن نفسه على المصايب"!

نعم، تَمنَّى القادة الطُّغاة طولَ العمر، والبقاءَ على كرسيِّ الحكم دون أن يزحزَحوا منه – فقد فسَّر الطاغيةُ المَجنون "معمَّرٌ القذافي" الديمقراطية كما يلي: "ديما كراسي"؛ أيْ: إن الطُّغاة العرب دائمون على عروشهم، ولن يحركوا منها رغم أنف الجميع، ورغم ظُلم شعبهم، وإغراقهم في الأُمِّية والفقر المُدْقِع، لكن رغم المدَّة الطويلة التي "نعموا فيها بِثَروات الشُّعوب؛ بدأت المصائب تحوم حولَهم، بدءًا من إسقاطهم من عروشهم، إلى السجن الأبديِّ الذي يغرق فيه كلٌّ مِن "زين الهاربين بن علي" و"حسني مبارك"، ورُبَّما "ستكون العاقبة أسوأ بالطَّاغية المجنون "معمَّر القذافي"، والبقيَّة تأتي…

ألا يَستحضر هؤلاء أنَّ وقت الرحيل قد حان، بنصِّ الحديث النبوي – وليس هذا رجمًا بالغيب – ((أعمار أمَّتِي بين الستِّين إلى السبعين، وأقلُّهم من يجوز ذلك))؛ "صحيح الترمذي" للألباني، 3550 – فأغلب هؤلاء القادة وصَل الستِّين وبعدها؛ غفلوا عن قيمة الوقت، وفرَّطوا في ساعات العمر، وكان الأجدر بِمثلهم أن يكونوا أكثر وعيًا، واستفادةً من ساعات العمر، وأكثرَ استفادة من دروس الخلفاء السَّابقين، مثل: هارون الرَّشيد – رحمه الله – الذي حفر القَبْر في بيته ليتذكَّر مآله بين الفينة والأخرى…

إذْ إنَّ الإنسان كلَّما كبر؛ ازداد فهمًا وتجربةً، فيبعثه ذلك إلى فهم ما يجري حوله، لكن هؤلاء الطُّغاة المفسدين في الأرض، كلَّما ازدادوا في العمر ازدادوا بطشًا وتنكيلاً بشعبهم.

وكلما كبر الإنسان، ازداد حرصًا على الآخرة وتطليق الدنيا، لكن هؤلاء يوثقونها بالسلاسل والأغلال؛ خشيةَ الانفلاتِ من عقالها!

وكلما كبر الإنسان حرص على فعل الخير، ونَشْر العدل؛ لتدارُكِ الموقف، لكن هؤلاء المستبدِّين يستمرُّون في غَيِّهم وإزهاق أرواح المستضعَفين.

وكلما كبر الإنسان تبيَّن مدى استصغاره للدُّنيا، لكن ﴿ أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ﴾ [الأعراف: 179]، نعم! غافلون غارقون في الأوهام والخيال، والبطش والتنكيل بالشَّعب المقهور.

والأغرب أنَّه في بعض البلدان البتروليَّة يصل الفقر المُدْقِع إلى مستويات خطيرة (تحت عتبة الفقر) في وقت تُصْرَف فيه المبالغ الخياليَّة على أتفه الأشياء، لن تزيد إلاَّ في تبليد وتكريس التخلُّف المادِّي والرُّوحي: تكليف مدرِّب أجنبي بِمَبلغ خيالي، وتنظيم مهرجانات الميوعة والفساد بِمَبالغ تَفُوق الخيال، ألِهذا خُلِقنا؟ أبِهذا ننشر العدل؟ أبهذا يسود السِّلم والأمن؟

لماذا لَم يتَّعظ هؤلاء بأقوال حبيبنا المُصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم – حين قال: ((ألا أنبِّئكم بخيركم؟)) قالوا: بلى، قال: ((خياركم أطولكم أعمارًا، وأحسَنُكم أعمالاً))؛ رواه أحمد وابن حبان والبيهقي، "صحيح الترغيب"، 3361.

نعم! حين تَمتزج مبادئ الدِّين مع نفوس معتنِقيه، يستمرُّ العطاء الغزير رغم كبر السن، فلو رجعنا قليلاً إلى بعض المحطَّات التاريخية، لوجدنا كيف حرَصَ القادة المسلمون على النُّهوض بالإسلام والمسلمين، رغم كبر سنِّهم، ولعلَّ قصة أبي بكر الصدِّيق – رضي الله عنه – رغم أنَّه بويع بالخلافةِ وقد تجاوز السِّتين من عمره، تَبْقى منارةً للقادة ولغيرهم؛ من أجْل الحكم بالعدل، والإحساس بالمسؤولية، "فقد كان يحلب للحيِّ أغنامهم، فلمَّا بويع بالخلافة، قالت البنتُ الصغيرة: الآن لا يَحلب لنا منائحَ دارِنا، فسمعها، فقال – رضي الله عنه -: بلى، لأحلبنَّها لكم، وإنِّي لأرجو ألا يغيِّرني ما دخلتُ فيه عن خلُقٍ كنت فيه، فكان يحلب لهم"؛ انظر: " صِفَة الصفوة"، 1/ 258.

أمَّا عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – فقد قال عنه طلحة بن عبدالله: "خرج ليلةً في سواد اللَّيل، فدخل بيتًا، فلمَّا أصبحت، ذهبت إلى ذلك البيت، فإذا عجوزٌ عمياء مُقعَدة، فقلت لها: ما بال هذا الرجل يأتيكِ؟! فقالت: إنَّه يتعاهدني مدَّة كذا وكذا، يأتيني بما يُصلحني، ويُخرج عنِّي الأذى، فقلت لنفسي: ثكلَتْك أمُّك، يا طلحة، أعَثراتِ عُمَر تتَّبِع؟!"؛ انظر: "صِفَة الصفوة"، 1/ 281.

تأمَّل معي – أخي القارئ الكريم – إلى هؤلاء الشموخ والجبال الرَّواسي، إلى من يقلِّل من شأن الدنيا، ويعد العدة ليوم الحسم؟!

تأمل البَوْن الشاسع بين هؤلاء القادة السَّالكين منهج حبيبنا المصطفى – صلَّى الله عليه وسلَّم – وبين قادة اليوم الذي يقتلون شعبَهم، ويبيعون قضيَّة المسلمين الكُبْرى "فلسطين" للكيان الصِّهيَوني بالاتِّفاقيات السرِّية والمُعْلَنة، ويكيدون لبعضهم البعض؛ خدمةً لأعداء هذه الأمَّة.

ورسالتي الأخيرة، والمقتضبة لباقي القادة مِمَّن هم على سدَّة الحكم، ولمن سيتولَّون شؤون المسلمين في المستقبل: آن الأوان لأخذ العِبْرة والعظة، الرُّجوعَ الرجوعَ إلى سِيَر السلف الصالح؛ ففيه النِّبراس والهُدى والفلاح، فهم على الآخِرة أحرص، وعن الدنيا أبعد.

يا من يحرص على بناء القصور الفخمة، والرعيَّةُ تَموت كمدًا بالجوع، يا من يضيع الوقت حمقًا وتنكيلاً، يا من يضيع أموال الشعب في الفساد، وتشجيع العهر والسِّفاد، يا من… فاللَّيل مهما طال فلا بدَّ من طلوع الفجر، والعمر مهما طال فلا بدَّ من دخول القَبْر.
مولاي المصطفى البرجاوي

الجيريا

الجيريا

الجيريا

الجيريا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.