تخطى إلى المحتوى

التاريخ والثقافة والدين في فلسفة الحضارة لدى مالك بن نبي 2024.

  • بواسطة

ثانيا الحضارة والثقافة

لا نستطيع أحيانا التمييز بين مصطلح الثقافة ومصطلح الحضارة في الاستعمال الحديث في اللّغة العربية، فهما مترادفان، لكن يوجد ما يفصل بينهما على أساس أن الثقافة تمثل الجانب المعنوي والحضارة تمثل الجانب المادي داخل المجتمع.

إذا انطلقنا من المعنى اللّغوي للكلمتين نجد أن الثقافة إنتاج معرفي وعقلي، أما الحضارة فتتكون في المدن، لكن تبقى العلاقة بين الثقافة والحضارة حسب "ابن خلدون" علاقة تلازم فهو يقول "إن حضارة أي مجتمع أو ثقافته إنما تتمثل في القيّم والمعاني والتنظيم التي تنطوي عليها حياته". ويظهر هذا التلازم في كون حضارة أي أمة عبر التاريخ هي التطبيق المادي والاجتماعي للتراث الثقافي، وهي من إنتاج هذا التراث في المحيط الذي نما وازدهر فيه.

نجد لفظة الثقافة تدل على معنى الحضارة في اللغة الألمانية، فالثقافة أو الحضارة ذات دلالتين: ذاتية وهي ثقافة العقل، وموضوعيه وهي سائر العادات والظروف الاجتماعية والتراث الفكري والعلمي والفنون والآداب وألوان التفكير والقيّم الرائعة في مجتمع معين، "أو هو طريقة حياة الناس وكل ما يملكونه ويتداولونه اجتماعيا لا بيولوجيا".

ليس الغرض هنا الوقوف على المعنى اللغوي لكلمة ثقافة أو لفظة حضارة والبحث في تطور المفهوم عبر التاريخ إنّما الوقوف على صلة الثقافة بالحضارة في فلسفة "مالك بن نبي". إذا مدرسة الغرب تعتبر الثقافة والحضارة ثمرة الفكر فإن المدرسة الماركسية تعتبرهما من إنتاج المجتمع، لكن "مالك بن نبي" لا يقتصر على المعنى الفكري النظري للثقافة بل يتناول المعنى في إطار الأوضاع التي عبّر بها العالم أجمع من جهة والعالم الإسلامي المعاصر من جهة أخرى، فهو يراعي بدرجة كبيرة الجوانب والمعطيات العملية والاجتماعية والتربوية والتاريخية، إذ انطلق مما وضع الباحثين في تباين بين نظراتهم، حيث يوجد من نظر إليها من الناحية النفسية الفردية وهناك من نظر إليها من الجانب الاجتماعي فوقف هو على الجوانب الثلاثة الجانب النفسي والجانب الاجتماعي وجانب الصلة بين الفرد المجتمع، فاعتبر القضية قضية إنسان بشكل عام، وتجاوز في ذلك التفسير الأحادي الجانب بنظرته شمولية.

يربط "مالك بن نبي" مفهوم الحضارة بالثقافة من حيث مفهومها ووظيفتها الاجتماعية والتاريخية فثقافة عنده هي "علاقة متبادلة، هي العلاقة التي تحدد السلوك الاجتماعي لدى الفرد بأسلوب الحياة في المجتمع، كما تحدد أسلوب الحياة بسلوك الفرد". إنّ التبادل يتمّ بين جانبين متصلين هما الفرد والمجتمع وهذا ما يمثل الجانب النفسي والجانب الاجتماعي في الثقافة، وإن كان بعض المفكرين يعتبرون الثقافة قضية فرد فقط و بعضهم الآخر يعتبرونها قضية مجتمع فحسب.

إنّ العلاقة المتبادلة تنمو لدى الفرد وتكبر من خلال صلته بالمحيط الحيوي وحياته النفسية وفاعليته الاجتماعية، هذه الصلة تنبعث في الأساس من رغبة الفرد في غريزة الحياة في الجماعة في تكوين وحدة اجتماعية تاريخية، "والتي تتيح له تكوين القبيلة والعشيرة والمدينة والأمة، والقبائل الموغلة في البداوة تستخدم هذه الغريزة لكي تجتمع، أما المجتمع الذي يجتمع لتكوين حضارة فإنه يستخدم نفس الغريزة، ولكنه يهذبها ويوظفها بروح خلقي سام".

إنّ الثقافة لا تمثل علما من العلوم تتخصص فيه فئة معينة، إنّما هي نظام تقتضيه الحياة بشكل عام بكل ما تحتويه من أصناف التفكير والتغيّرات داخل المجتمع وقد تكون وسيلة للتحضر، "وعلى الأخص إذا كانت الثقافة هي الجسر الذي يعبره البعض إلى الرقي والتمدن فإنها أيضا ذلك الحاجز الذي يحفظ البعض من السقوط من على الجسر إلى الهاوية".

إنّ وظيفة الثقافة اجتماعية تربوية تاريخية، فدورها بمثابة الدور الذي يلعبه الدم، "والثقافة هي ذلك الدم في جسم المجتمع، يغذي حضارته ويحمل أفكار الصفوة كما يحمل أفكار العامة وكل من هذه الأفكار منسجم في سائل واحد من الاستعدادات المتشابهة والاتجاهات الموحدة المتناسبة".

لا يمكن الحديث عن الحضارة دون ربطها بالثقافة، فهي المجال الذي برز فيه المجتمع المتحضر، "إنها الوسط الذي تتكون فيه جميع خصائص المجتمع المتحضر، وهي الوسط الذي تتشكل فيه كل جزئية من جزئياته تبعا للغاية العليا التي رسمها المجتمع لنفسه، بما في ذلك الحدّاد والفنان والراعي والإمام والعالم وهكذا يتركب التاريخ."[

يؤكد "مالك بن نبي" على الطابع الشمولي للثقافة فرديا واجتماعيا وإنسانيا وعلى التكامل بين هذه الجوانب في الحياة بقوله: "فالثقافة هي تلك الكتلة نفسها بما تتضمنه من عادات متجانسة، وعبقريات متقاربة وتقاليد متكاملة، وأذواق متناسبة وعواطف متشابهة وبعبارة جامعة: هي كل ما يعطي الحضارة سيمتها الخاصة، ويحدد قطبيها: من عقلية ابن خلدون، وروحانية الغزالي أو عقلية ديكارت وروحانية جان دارك، هذا هو معنى الثقافة في التاريخ".

تكبر الصلة بين الثقافة والحضارة لكون الثقافة عامل اجتماعي مهم جدا في التاريخ، "إذ لا يمكن أن تتصور تاريخا بلا ثقافة، فالشعب الذي يفقد ثقافته يفقد حتما تاريخه".

إنّ ثقافة أي مجتمع تعكس نمط العيش عند أفراده، كما تحدد أنماط التفكير وأساليب العمل ووسائله واتجاهاته، كما تقوم بحفظ ونقل ذلك على أنه تراث ثقافي من جيل إلى آخر ومن حقبة تاريخية إلى أخرى، وثقافة المجتمع المتحضر تعكس حضارة ذلك المجتمع وخصوصيات تلك الحضارة، كما تحافظ على عناصرها وتتكفل بنقلها إلى الآخرين، فهي تشكل إرادة الفرد وإرادة المجتمع والإرادة الفردية والاجتماعية المشتركة باعتبارها محيط يعكس الحضارة التي يصنعها الأفراد داخل المجتمع في مرحلة تاريخية معينة، فالثقافة تُنشأ الحضارة وتوجهها وتعكس سماتها وتمثل المحيط الذي يتحرك فيه الإنسان المتحضر، أما الحضارة فهي منتجات ثقافية ومادية نتجت عن قدرة الإنسان على الإبداع والتجديد وتفرده بالذكاء والعبقرية، فبين الثقافة والحضارة تداخل وتلازم دائمين.
يتبع

الدكتور جيلالي بوبكر
المقال الاصلي من هنا

بارك الله فيك

جزاك الله خير موضوع رائع

شكرااااا بارك الله فيك

جزاك الله خير

chokran 3ala lmawdo3

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.