نلاحظ ان المنهج البنيوي منهج استقرائي ينطلق من مسلمة مفادها أن الكفاية اللغوية Compétence linguistique تصدر في رأي البنيويين، عن عوامل غير فيزيولوجية، وبالتالي فان المعرفة اللغوية الاعتباطية الاتفاقية بين الأطراف الموجودة في وضعية تواصلية هي التي تحدد هذه الكفاية، وكما ان هذه الكفاية اللغوية باطنية غير قابلة للقياس والملاحظة العلمية فيجب أن نلتجئ الى الاداء اللغوي الذي يرتبط بالاستعمال الحقيقي والفعلي للغة. وهذا الأداء هو نطق صوتي لمواد لغوية مختلفة.
2-3- 2 مفهوم اللغة عند سوسور : يتحدث البنيويون بطبيعة الحال ، عن اللغة واللسان والكلام والنحو والصرف والتركيب والتواصل . وسنحاول عرض بعض التعريفات التي نعدها ضر
* اللغة langue la : يميز سوسور بين اللغة واللسان والكلام. " إن اللغة هي مجموعة من الاتفاقات الضرورية التي وضعها الهيكل الاجتماعي ليسمح باختيار او استخدام ملكة الكلام لدى الأفراد "19 . فهي إذن مجموعة من العلامات والرموز والقواعد المستعملة من طرف عشيرة ما بهدف التواصل( العربية،الفرنسية، الانجليزية ، الصينية …). إنها الجزء الاجتماعي من اللسان langage ، إنها الجزء الخارج عن الفرد ، حيث لا يستطيع وحده خلقه أو تغييره. فاللغة توجد كاتفاق بين جميع أفراد المجتمع لدرجة أن ويتناي Whitney اعتبرها مؤسسة اجتماعية تشبه باقي المؤسسات. وتقع اللغة في نقطة التماس بين الصورة السمعية والمفهوم .
ويعتبر البنيويون اللغة نظاما أو نسقا système يتكون من عناصر فاعلة ومتفاعلة في اطار كلية يحدد فيها كل عنصر بحسب علاقته الخلافية مع العناصر الاخرى حتى اذا طرأ تغيير على احد العناصر تغير النظام كله وربما تعطل .مثال :أ) ينجز الباحث دراسة ميدانية في موضوع البطالة .ب) الباحث دراسة في موضوع البطالة ينجز . اذن نلاحظ ان الجملة الاولى سليمة بينما الجملة الثانية فهي غير سليمة رغم ان عناصر النظام هي نفسها ؛ فالذي تغير هو العلاقة مع النسق ،أي المحور الجدولي ) l’axe paradigmatique)
* اللسان langage le : هو ملكة أو قدرة عامة ( faculté générale )على التعبير بواسطة العلامات ؛ وهو ليس حصرا على اللغات الطبيعية ولكنه يطبع كل شكل من أشكال التواصل البشري. إن وظيفة اللسان ليست طبيعية فقط لأن جهازنا الصوتي ليس موضوعا لأداء وظيفة واحدة هي الكلام كما هو الشان بالنسبة إلى الرجلين مثلا. وخلافا للغة التي هي ذات طبيعة متجانسة، فإن اللسان ذو طبيعة غير متجانسة.
* الكلام la parole : هو الانجاز أو الاستعمال الفردي للغة.
ايضا ،يميز علماء اللغة العرب بين اللغة والكلام ويقول احدهم بان " الكلام عمل واللغة حدود هذا العمل.والكلام سلوك واللغة معايير هذا السلوك …الكلام نشاط واللغة قواعد هذا النشاط …الكلام حركة واللغة نظام …20
وتتضمن دراسة اللسان جزأين هما 1) شق ضروري موضوعه هو اللغة التي هي اجتماعية ومستقلة عن الفرد 2) شق ثانوي: موضوعه هو الجزء الفردي للغة ، أي الكلام بما فيه التنغيم والتصويت. فهو إذن جزء سيكوفيزيولوجي.
العلامة أو الرمز المتباطي من ناحيتين:
* الدال والمدلول : بدون خوض في التفاصيل، نقول ، على حد تعبير دي سوسور، بأن لكل علامة (sème) وجهين : الدال (Signifiant) والمدلول (Signifié).، والعلاقة بينهما علاقة اعتباطية اتفاقية وليست طبيعية مادية. إن الدال عند دي سوسور هو الصورة السمعية التي تكونها الأصوات ، الملتقطة بواسطة الأذنين ، في دماغ المستمع خلال دورة الكلام ، إنها حقيقة نفسية و مادية . أما المدلول ، فهو تلك الصورة الذهنية التي تشكلها نفس الأصوات في ذهن المستمع. الشيء الذي يجعل المفهوم يدل على مجموع الصفات المشتركة بين أفراد الجنس الواحد فيما يدل الما صدق على جميع أفراد الجنس الواحد مثال : الكائن مفهوم يدل على شمول المعنى المجرد وعلى الصفات المشتركة التي هي الكينونة . ما صدق هذا المفهوم هو الانسان والحيوان والجماد . وكلما اضفنا صفة للمفهوم حذفنا فردا من الماصدق مثال الكائن الحي = الانسان والنبات . وقد عبر المنظق الارسطي القديم عن هذه العلاقة الطردية هكذا : ضيق المفهوم يلزم عنه اتساع الماصدق .
* الدلالة : الدلالة عند دي سوسور مجرد " علامة " تتحقق من تآلف الدال والمدلول.وقد ميزت مدرسة النقد الجديد بين المعنىsens الذي هو من وضع صاحب النص والدلالة signification التي هي من وضع القارئ والمتلقي.
* المورفو تركيب : ( morphosyntaxe) " ميزت الدراسات القديمة بين الصرف والتركيب على أساس ان الصرف يعطي الشكل،و يهتم بدراسة الزوائد واللواحق والصيغ والأوزان بينما يعطي التركيب الوظيفة، أي أنه يهتم بدراسة تركيب الكلمات وانتظامها وتداخلها داخل الجملة الواحدة "21 . ولما جاءت البنيوية لم تعد لهذا التمييز مسوغات منهجية. و ظهر مفهوم جديد الا و هو المورفو تركيب الذي يعني الدراسة الوصفية لقواعد تتداخل فيها المورفيمات اوالمونيمات لتؤلف وحدات لغوية كبرى. وفي هذا الصدد نقترح تعريف المصطلحات التالية:ال
* الجذر lexème : هو المادة الأولى الني تشكل الأصل. والجذر ثلاثي في اللغة العربية. ومنه تنطلق المعاجم والقواميس العربية باستثناء لسان العرب لابن منظور في طبعة صادر. إن الأفعال : استدخل وتداخل وتدخل ترجع الى الجذر دخل22.اا
* المـورفـيم morphème :ويسمى صرفة كذلك، وهو مرتبط بالشكل الا أنه يؤثر على المعنى والدلالة. دخل – دخلــوا او دخلـــتـم الاستدخ
* المونـيـم monème : هو" الكلمة " وتساوي الجذر + الـمورفيـم.
* الـفـونـيم phonème : أصغر وحدة صوتية. وليست لها دلالة في اللغة العربية اذا كانت منعزلة. فحرف ك مثلا له دلالة في مـونـيـم كتب ودلالة مغايرة في مونيم اكرم.
* القيم الخلافية : valeurs distinctives : إن حرف ل في السلام ليس هو حرف ل في الصلاة من الناحية الصوتية النطقية. (الحناش). وهناك قيم خلافية أخرى .
2-3-3 مفهوم اللغة عند بلومفليد : تعد اللغة بالنسبة ليلومفليد سلوكا فيزيولوجيا إزاء مثيرات خارجية. ولتوضيح هذا الافتراض يقدم لنا المثال التالي :
كان جاك وجيل يتمشيان في حديقة، وبينما هما كذلك رأت جيل تفاحة ناضجة على شجرة طويلة؛ وبسبب هذا المثير الخارجي بدأت تحرك حنجرتها ولسانها وشفتيها، الشيء الذي جعل جاك يثار فيتسلق الشجرة ثم يقطف التفاحة لجيل 23 . ان التحليل اللساني البنيوي لهذه الواقعة هو كالتالي :
أ – ان التفاحة ورؤية جيل لها حدث فيزيولوجي خارجي سابق لعملية النطق والكلام وبالتالي فهو مثير عملي stimulus وواقع موضوعي مادي ينطلق منه المنهج البنيوي خلال عملية التحليل اللساني.
ب- العملية الكلامية لجيل هي استجابة لغوية réponse لهذا المثير المتمثل في تحريك الحنجرة والشفتين واللسان.
ج- هذه الاستجابة اللغوية لجيل اصبحت مثيرا لغويا لجاك .
د- تسلق جاك للشجرة وجني التفاحة هو استجابة عملية وقد رأينا أن بلومفيلد تأثر كثيرا بالسلوكية فاعتبر كل نطق صوتي استجابة لاثارة خارجية محيطة، وليس له أية علاقة توليدية مع ما يعتمل في الدماغ البشري.
وقد طبق هذا المنهج البنيوي على اللغة الفرنسية من طرف العديد من الباحثين 24 .كما طبق على اللغة العربية من طرف كمال ابو ديب سواء في "جدلية الخفاء والتجلي في الشعر العربي " او في الشعرية "
3) اللسانيات التوليدية والمنهج العقلي
3-1 النشــاة : في حمأة الصراع بين الاتجاهين الفرنكفوني والانجلوسكسوني، وفي مناخ ثقافي مأزوم بمخلفات الحرب العالمية الثانية وما أفرزته من وجودية وظاهراتية وشخصانية وانسية ومادية ماركسية ونزعات لا علموية وايديلوجيات متضاربة،في هذه الظروف الساخنة ، صدرت ثلاثة كتب تهم علم اللسان : الأول لبلومفليد تحت عنوان " اللغة "، والثاني لسنكير تحت عنوان " السلوك اللغوي " سنة 1957.، ثم كتاب شومسكي " البنى التركيبية " structures syntaxiques سنة 1957. ويعد هذا الكتاب الأخير نقطة تحول في الدراسلت اللسانية على الاطلاق رغم ما كتبه هاريس زليغ Harris zellig ورومان جاكويسون Jakobsun Roman وموريس هال Halle Morris
لقد احدث تشومسكي بكتابه هذا ثورة عالمية في اللسانيات المعاصرة. ففي هذا المؤلف يتحدث عن " النظرية اللسانية التي يجب ان تحلل مقدرة المتكلم على ان ينتج الجمل التي لم يسمعها من قبل وعلى ان يتفهمها. وذلك انطلاقا من قواعد ضمنية تمكنه من توليد الجمل وتحويلها توليدا وتحويلا لا متناهيين25 .
– وقد مرت هذه اللسانيات الجديدة ( التوليدية التحويلية) ( Génératives et Transformationnelles)بعدة مراحل يمكن تلخيصها فيما يلي :
أ-مرحلة المباني التركيبية سنة 1957
ب-مرحلة وجوه النظرية النحوية سنة 1965
ج-مرحلة الاعمال التي أنجزها باحثون ذهنيون امثال كاتز Katz و فودور Fodor، والتي تندرج ضمن " علم الدلالة التوليدي" وإذا كان سوسور الأب الروحي للبنيوية، فإن تشومسكي يعد الأب الروحي للتوليدية.
د – مرحلة الاعمال والنماذج الحالية لتشومسكي والتي تميزت بمراجعة هذه الذات العارفة واعادة النظر في نماذجه الاولى ؛ وقد لمينا شخصيا نزوعه الى التصالح مع البنيوية والاتجاهات التكوينية والتجريبية من خلال المناقشات التي جمعت لسانيين ذوي شهرة عالمية26 ، وعلى راسهم جان بياجيه .كما ان امكانية الحديث عن الاثر المنهجي لغاليلي على نظرية تشومسكي امكانية واردة .
3-2 مفهوم اللغة عند التوليديين : ترى المدرسة التوليدية ان اللغة هي مجموعة من الجمل . وهذه الجمل تصنف الى. فئة الجمل المنفية وفئة الجمل المبنية للمجهول وفئة الجمل المثبتة. ويرتبط بعض هذه الجمل بالبعض الآخر. يقول تشومسكي .
<< من الآن فصاعدا نعتبر ان اللغة كناية عن مجموعة ( متناهية وغير متناهية) من الجمل، كل جملة منها طولها محدود ومكونة من مجموعة متناهية من العناصر >>27 . فاللغة في رأيه " ظاهرة بالغة التعقيد، ودراستها تقتضي بناء نظرية بامكانها أن تفسر القضايا اللغوية 28. ان نقطة الاختلاف بين تشومسكي وسوسور هي ان الأول يحلل اللغة انطلاقا من مسلمة انها وسيلة للتواصل او التعبير بينما يحللها ويفسرها الثاني انطلاقا من مسلمة أنها مجموعة جمل كل جملة منها تحتوي على شكل صوتي وعلى تفسير دلالي ذاتي محايث لها. فالأول يتحدث عن اللغة باعتبارها شكلا قبل كل شيء بينما يعطي الثاني الأسبقية للجوهر والبنية العميقة دون ان يهمل البنية السطحية ، أي المعنى الظاهر للغة.فالمهم في اللغة حسب المنهج العقلي ليس هو جانبها المادي البنيوي ولكنه قدرتها على التوليد والانتاج الجملي. فقد تأثر التوليديون كثيرا بديكارت وغيره من العقلانيين وتبنوا مقولات الابداع اللغوي والسلوك الداخلي وما يعتمل من قدرة وطاقات داخل الدماغ او العقل البشري29. لقد الف تشومسكي كتاب : اللسانيات الديكارتية عام 1966 ، و فيه تاثر كثيرا بديكارت وفون همبولت Von Homboldt اللذين يظهر مفهوم الكفاية عندهما بوضوح .
ان اللغة عملية توليدية فعالة في الذهن البشري قادرة على الخلق والابداع من خلال قانون نحوي عام يشمل كافة اللغات البشرية.هذه العملية اللغوية تتكون من 3 عناصر بنيوية هي :
أ) العنصر النحوي : ودوره مزدوج : تنظيمي حيث ينتج معان نحوية منظمة ؛وتوليدي لانه يولد عددا من الجمل النحوية.
مثال : << يشرح الاستاذ الدرس، اليوم، بطريقة جيدة .>>
التنظيم : حيث لا نقول ك<< شرح الدرس اليوم الأستاذ بطريقة جيدة >>
التوليد :<< اليوم، يشرح الاستاذ الدرس بطريقة جيدة >> << يشرح الاستاذ اليوم الدرس بطريقة جيدة >> << الدرس يشرح من قبل الاستاذ بطريقة جيدة >> << ان شرح الاستاذ للدرس شرح جيد اليوم.>>
<< الدرس شرحه الاستاذ >>
ب)العنصر التحويلي : أي قدرتنا على تحويل الجملة الواحدة الى جملة شرطية او تعجبية او استفهامية او منطقية. مثلا : << شرح الاستاذ الدرس>> . << هل شرح الاستاذ الدرس ؟>> << اذا شرح الاستاذ الدرس فان التلاميذ يفهمون>> …ونجد عند تشومسكي ما يسميه بالارتباط البنياني الذي يرتبط به اجراء التحويل مثلا : أ) << قرأ الرجل الكتاب>> نحولها الى ب) << الكتاب قرأه الرجل >>.فالجملة الثانية حولت من الجملة الاولى بواسطة اجراء تحويل نقل الركن الاسمي الى موقع الابتداء .وهذا التحويل يتناول الركن الاسمي الذي يقع على يسار الفعل فينقله الى موضع الابتداء تاركا ضميرا عائدا اليه في الموضع الذي كان يشغله الركن الاسمي .
ج) العنصر التركيبي : وظيفته هي انتاج جمل سليمة سواء أكانت منطوقة أم مكتوبة.
ويقدم مازن الوعر مثالا لصياغة رياضية وعملية توليدية للجملة التالية.
The book could have been written by chomsky يمكن ان يكون الكتاب قد كتب من طرف تشومسكي 3-3 دراسة النحو عند التوليديين : قلنا بان البنيويين اهتموا بالجانب التواصلي في دراسة اللغة. الا أن التوليديين يركزون على البنية العميقة والجانب الضمني، والملاحظ أن تشومسكي مثلا يتحدث عن العمل والعامل والمعمول والرتبة أي عن الفاعل والمفعول والنظام ، ويقول بأن الجملة يمكن ان تكون سليمة من حيث النحوية او القواعدية grammaticalité التي تصف ، بطريقة ملائمة ،وضع ما هو مقبول في نحو ما وما هو غير مقبول . وهي غير صحيحة من الناحية المنطقية المقبوليةacceptabilité . ونلاحظ ان تشومسكي ، في نموذجه الاول 1957، يعطى الأسبقية للنحوية و يقرنها بالكفاية اللسانية على حساب المقبولية التي يقرنها بالانجاز30 ، لكنه عاد في نموذج 1965 ونماذج تالية فاهتم أيضا بالمقبولية.
يرى تشومسكي انه لا بد من نظرية لممارسة التحليل اللساني. وهذه النظرية تتكون من النحو التوليدي التحويلي الكلي اذ يعتبر النظرية النحوية نظرية علمية يمكن تطبيقها على جميع اللغات الطبيعية. فالنحو اذن " نظام من القواعد والمبادئ " والمبادئ المحددة لخصائص الجمل الشكلية والدلالية حيث يستعمل في تفاعله مع مجموعة من الميكانيزمات الذهنية من اجل فهم لغة ما والتحدث بها (…) فالنحو العالمي نظام من المبادئ والقواعد والشروط، أي انه عبارة عن عناصر وخصائص مشتركة بالنسبة لسائر لغات العالم31.
و نظرا لتأثر تشومسكي بالنظريات الفيزيائية ( غاليلي) خاصة والعلمية عامة ،فإنه يقيم تشابها بين خطوات النظرية الفيزيائية وخطوات النظرية النحوية . ففي الفيزياء تبنى النظرية على ما يلي :
– عدد من الملاحظات سواء اكانت طبيعية ام موضوعية ام تتبعية ام تلقائية
– الربط والتركيب بين هذه الظاهرة الملحوظة.
– التنبؤ بظاهرة جديدة.
ويرى انه بإمكان الباحث اللساني ان يطبق في حقله هذه الخطوات كما يلي :
– ملاحظة عدد محدد من النطق الصوتي
– تمييز ما هو نحوي وما هو غير نحوي
– شرح الظاهرة اللغوية بطريقة مبسطة
ولتوضيح هذه الخطوات نقول بأن الباحث يميز بين ما هو نحوي وما هو غي نحوي انطلاقا من القانون العام الذي يحدد الطرائق السليمة لبنية الوحدات اللغوية وصياغتها. وهذا لا يعني ان تشومسكي يتجاهل الدور الذي تلعبه الدلالة والتداول.
3-4 خطوات المنهج التوليدي : تنطلق اللسانيات التوليدية من مسلمة وهي ان تفسير الظاهرة اللغوية تفسيرا لسانيا يقتضي الانطلاق من نظرية مبنية بطريقة علمية ثم الانتقال الى الواقع الذي نقوم بشرحه وتفسيره وفق مبادئ هذه النظرية، خلافا للمنهج البنيوي المادي السلوكي الذي ينطلق من الواقع نحو النظرية كما أسلفنا . فلكي يحلل الباحث اللساني الظاهرة اللغوية فإنه ملزم – كما يرى تشومسكي – بالاقتراب من المتكلم واستكناه قدرته الكلامية التي تشتغل داخل الذهن البشري3-4- 1 وضع فرضية لغوية : انطلاقا من البحث العلمي في مجال اللسانيات ، وانطلاقا من نظرية علمية واضحة المعالم والمحددات والعناصر حيث يقوم الباحث بوضع فرضية البحث والتحليل . وفي هذا الاطار فإن تشومسكي يطرح النحو الكلي (grammaire universelle) ويرى ان الرتبة فاعل – فعل – ( مفعول) التي نجدها في اللغة الانجليزية صالحة للتطبيق على جميع لغات العالم الطبيعية.وينطلق في كلامه هذا من فرضية اننا ننحدر من نوع واحد،وبالتالي يوجد بيننا جميعا اتحاد وليس تغيرات.وهذا ما يشبه الحالة البدائية السابقة عن التجربة. ونفس الاتجاه والمنهج يطبقه الفاسي الفهري على اللغة العربية اذ يقول بأنها تملك رتبتين هما : أ ) فعل-فاعل-(مفعول) مثال:<< يشرح الاستاذ الدرس >>؛ ب) << الاستاذ يشرح الدرس>> او << الدرس شرحه الاستاذ>> او << الاستاذ طلبت منه شرح الدرس>> او<< المجتهد نوه به الاستاذ>> . وهناك من يرى ان اللغة العربية لا تملك الا رتبة واحدة هي : فعل – فاعل – ( مفعول) انها رتبة اصلية سائدة تحكم كل عربية تليدة .و في حالة رتبة ثانية مثل : فاعل – فعل – ( مفعول) ،او مفعول – فعل – ضمير عائد على المفعول – فاعل : الدرس شرحه الاستاذ فان هذا الفاعل " لا يتقدم ولا يصعد من داخل المركب الفعلي الى مكان متقدم على الفعل في مخصص التطابق32 "، واذا وجدنا اسما متقدما في الجملة الثانية : الدرس يشرحه الاستاذ ؛ كما نجد في القرآن الكريم رهبانية ابتدعوها – في حالة رتبة ثانية – ، يحتل الاسم المتقدم في المركب الفعلي موقع الموضع) ( Tوليس موقع الفاعل، مثله في ذلك مثل الاسم المتقدم . وهذا ما قال به الفاسي الفهري (1981 و 1985). ايضا نجد نفس الاختلاف بين مدرسة البصرة ومدرسة الكوفة من حيث اعتبار الاسم المتقدم مبتدءا او فاعل33 . ولكن اذا كانت الجملة خالية من مفعول به وتقدم المركب الاسمي ،فان المتقدم يعد فاعلا لا موضعا في راي الفاسي 1993 ،وراي مدرسة الكوفة الذين يجيزون تقديم الفاعل خلافا لمدرسة البصرة .
خــــــاتــمـة :لقد حاولنا في هذه الدراسة ان نقارن بين مدرستين من حيث المنهج المعتمد في الدراسة اللغوية؛ وحصرنا المحاولة في اللسانيات المعاصرة . وفي نفس السياق نسجل الملاحظات التالية :
-إن الدراسات اللسانيات جد متشبعة ، وبالتالي يكون تصنيفنا لها الى بنيوية وتوزيعية ووظيفية وتوليدية تصنيفا إجرائيا نسعى من ورائه الى جعل المتلقي العادي يكتسب بعض المعارف في تخصص يتميز بقدرته الاختراقية ، فالنظريات اللسانية تفرض نفسها حاليا على جميع الباحثين وفي كل التخصصات والعلوم.
-إن الثنائية الحدية : استقراء / استنباط ، مادي/ عقلي، ذاتي/ موضوعي وخاص/ عام تعتبر في رأينا ثنائية زائفة. وذلك لأنه لا وجود لمعايير ثابتة ومحددة تمكن من رسم حدود انطولوجية وابستمولوجية بين الذات والموضوع فيما يخص انتاج المعرفة وبحث الظواهر والمواد اللغوية . وهذا ما نستشفه من كلام تشومسكي عندما اجاب عن سؤال حول المنهج قائلا : " إنه ليس لي مناهج اطلاقا، ومنهج البحث الوحيد الذي اتبعه هو أن أبذل طاقتي في النظر في مشكلة صعبة معينة ، وان احاول أن أجد بعض الأفكار عما يمكن ان يكون تفسيرا لها 34"
-إن ممارسة النقد على العديد من نظريات العلم المعاصرة. تكشف زيف الثنائية استقراء/ استنباط35 وذلك لعدم امكانية فك التداخل الحاصل بين الذات العارفة الباحثة والمادة اللغوية موضوع المعرفة. ولذلك نجد تشومسكي يقول بالقدح الذي تمارسه التجربة على المعرفة الفطرية.كما أنه يوظف مناهج الفيزياء الغاليلية36.وعموما ، هذه مجرد محاولة بيداغوجية لكنها مؤسسة على مرجعية.
انـتـهـى.
**********
الهوامش:
1 ) فخري، ماجد، ارسطو، المعلم الأول، ص 145-155 ، الأهلية للنشر والتوزيع ، بيروت ، 1977 ، عدد الصفحات 182
2 ) العربي ، اسليماني، مناهج البحث في الجغرافيا ، مقاربة ابستمولوجية ، مركز تكوين المفتشين ، الرباط ، 1997.
3 ) محمد ، الحناش ، البنيوية في اللسانيات ، ص 127-128 ، دار الرشاد ، الحديثة ، البيضاء ، 1980 ، عدد الصفحات 422
4 ) عبد الله غزلان ، اللسانيات وتعليم اللغة العربية وتعلمها ، سلسلة ندوات منشورات كلية الآداب والعلوم الانسانية ، الرباط ، رقم 14 ص 77 عدد الصفحات 184.
5 ) نعام ، تشومسكي ، اللغة ومشكلات المعرفة ، ترجمة حمزة بن قبلان المزيني ، ص 16 ، توبقال ، 1990 عدد الصفحات 170.
6 ) زكريا ، ميشال ، الألسنة التوليدية والتجويلية وقواعد اللغة العربية . ( النظرية الألسنية )، ص 96 ، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ، 1981 عدد الصفحات 180.
7 ) زكريا ، ابراهيم ، دراسات في الفلسفة المعاصرة ج 1 ، ص 194 – 299 دار مصر للطباعة عدد الصفحات 576.
8 ) محمد ، وقيدي ، ما هي الاستمولوجيا ؟ ، ص 155 ، مكتبة المعارف ، 1987 عدد الصفحات 446.
9) Canguilhem ,G , Etudes d’histoire et de philosophie des sciences p 37 à 50 Vrin ,1994 paris 430 pages وكذلك
9 ) زكريا ، ابراهيم ، مشكلة البنية ، سلسلة مشكلات فلسفية رقم 8 ص ص 43 – 44 ، دار مصر للطباعة عدد الصفحات 238.
10 ) أحمد ، عزت راجح ، أصول علم النفس ، ص 42 – 62 – 63 ، المكتب المصري ، مزيدة منقحة ، عدد الصفحات 649. انظر كذلك Hervé, Barreau , l’épistémologie , p 109 , Q.s.j ? , PUF, 1992 Paris ,127 pages
11 ( Cf : Piaget, J, et chomsky, Noam, Théories du langage, Théories de l’apprentissage . Le débat entre Jean Piaget et Noam Chomsky , 1979 le Seuil 545 pages
) زكريا ، ابراهيم ، مشكلات البنية ، مرجع سابق ص 21- 22
13 (Ferdinand de Saussure, Cours de Linguistique Général , p 16 ,Payot,Paris 1981
14 ) محمد ، الحناش ، مرجع سابق ص ص 141 – 152.
15 ) محمد الأطلسي ، بنيوية ليفي ستراوس ، الاتحاد الاشتراكي 28 شتنبر 1980 ص ص 5 – 6
16 ) هناك أنواع أخرى من الملاحظات أنظر عزت راجح م س من 44- 50 وكذلك
17 ) Léonard, Bloomfield, Langage, pp 9 –10, New york 1957.
18 ) محمد ، الحناش ، مرجع سابق ص ص 39 – 339.
19 ) De Saussure, Ferdinant, op, cit, pp 25 – 419
20 ) حسان ، تمام ، اللغة العربية ، معناها ومبناها ، ص 32 ، مطبعة النجاح الجديدة ، البيضاء ، عدد الصفحات 273.
21 ) محمد ، الحناش ، مرجع سابق ،ص 44
22 ) هناك من يميز ، المعجم من القاموس أنظر الحناش مرجع سابق ص 31- 32 وكذلك عيد القادر الفاسي الفهري المعجم العربي نماذج تحليلية جديدة ، دار توبقال للنشر 1999 ، وكذلك المعجمة والتوسيط نظرات جديدة في قضايا اللغة العربية المركز الثقافي العربي 1997 عدد ص 111
23 ( Léonard, J, Bloomfield, op, cit, pp. 22 – 23
24 ) Dubois, J, Grammaire structurale du Français, noms et prénoms, Larousse , 1965, p 195 du même auteur, GSF, le verbe, 1967 224 pages. GSF, ( la phrase et les transformations ) 1969, 192 pages.
25 ) زكريا ، ميشال ، مرجع سابق ص 12.
26 ( Piaget, J et Noam Chomsky, opt, cit.
27 ) زكريا ، ميشال ، مرحع سابق ص 91.
28 ) نفس المرجع ، ص 92.
29 ) يميز تشومسكي، بين الدماغ لذي يلصق به ما هو مادي، والعقل الذي يلصق به ما هو فكري.
30 ) Hymes, Dell, H , Vers la compétence de communication, pp 82 – 130 –131 , Hatier-Crédif paris 1984 ,223 pages
31 ) محمد سبيلا، وعبد السلام ، بنعبد العالي، اللغة ، دفاتر تربوية ع 5 ص 42 دار توبقال للنشر 1994. عدد الصفحات 103.
32 ) عبد الله ، غزلان ، اللسانيات المقارنة م س ص 32 منشورات كلية الآداب رقم 51، الرباط ، مطبعة النجاح الجديدة ، الببضاء ، 1996 ، عدد الصفحات 382.
33 ) محمد ، الرحالي ، ملاحظات عن الرتبة والاعراب ص 31 –57 ، اللسانيات المقارنة واللغات في المغرب ، منشورات كلية الآداب ، الرباط ، رقم 51 ، السنة 1996
34 ) اللغة ومشكلات المعرفة ، مرحع سابق ، ص ص 161 – 162.
35 ) شالمدز، آلان ، نظريات العلم ، ترجمة : الحسين سحبان ، وفؤاد الصفا ، دار توبقال للنشر ، البيضاء ، 1991. عدد الصفحات 169.
36 ) لقد تأثر تشومسكي بديكارت الذي تأثر بمعاصره غاليلي . فديكارت ربط بين الهندسة التحليلية والفيزياء والجبر، وغاليلي ادخل الرياضيات في الفيزياء حيث وظف المسافة في سقوط الاجسام والرياضيات في قياسها . وقد كتب البعض عن النموذج الغاليلي عند تشومسكي انظر الفاسي الفهري وكذلك مقالا لحافيظ اسماعيلي علوي وامحمد الملاخ في مجلة فكر ونقد العدد 30 / 2024 ص 29 –32
مشكور أخي على الموضوع المهم