إخواني و أخواتي أتمني منكم مساعدتي الى العودة الى الطريق الصحيح، فانا فتاة اخطات في حياتي و لكن ليس لدرجة الحرام و لكني فعلت أشياء تغضب الله، و ذلك لقلة اهتمام الأهل فانا ليس مقربة الى اي فرد من عائلتي … و لكني لما ادركت لما أنا فيه قررت التوبة لله ،فليست الحجاب و لكني اقصر في صلواتي احيانا كما أني لا أخشع في الصلاة ، و بما انني طالبة جامعية اصبحت اغار من الفتيات اللواتي بسمين انفسهن عصريات و صرت أخاف ان اقلدهم … لقد فقدت ثقتي في نفسي و احس انني أعيش في عالم من ظلام … و لكني احب النصيحة لذا أرجوكم ساعدوني !!
وقال ربكم أدعوني استجب لكم
أختاه إن باب الله مفتوحة وأنا وأنت و كلنا نخطئ ويجب أن نتوب توبة نصوح ولا تفشلي إن عدت للخطأ فبمرور الوقت ستزداد العزيمة على التوبة فلا تيئسي من روح الله
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أما بعد:
اعلم وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين ، أن الذنوب حجاب عن الله ، والانصراف عن كل ما يبعد عن الله واجب ، وإنما يتم بالعلم والندم والعزم ورد المظالم ، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن الله لم يندم على الذنوب ولم يرد المظالم ، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد ، وإذا لم يتوجع لم يرجع ، والتوبة الرجوع عن المعصية إلى الطاعة والإنابة ، وهي واجبة من كل ذنب.
قد أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة ، وبين ما للتائبين من الكرامة والأجر ، فقال : [[يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ]].
قال ابن القيم رحمه الله : والنصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء . الأول : تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته .
والثاني : إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع كل إرادته وعزيمته مبادرا بها .
الثالث : تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من خشية الله ، والرغبة فيما عنده ، والرهبة مما عنده ، لاكمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ، أو لحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله أو استدعاء حمد الناس ، أو لهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل .
وقد أخبر سبحانه أنه غفار للذنوب التائبين فقال : [[وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ * أُوْلَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ]].
وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { إن الله تعالى يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها } رواه مسلم .
والأحاديث في هذا كثيرة ، ولأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله لذلك يجب الهرب منها والتوبة إلى الله على الفور ، وليحذر الإنسان كل الحذر من الذنوب والمعاصي الكبائر والصغائر ، فعلى العاقل أن يسترشد قلبه باستمرار ويراقب حركاته ويسجل تصرفاته ولا يتساهل ولا يقول إنها من التوافه الصغار وهذه هي مبادئ تربية النفس وسبيل التزكية بالتربية وصدق رسول الله حيث قال: { إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل يهلكنه } وإلى هذا أشار الشاعر : ولا تحقرن كيد الضعيف فربما تموت الأفاعي من سموم العقارب
وقد هد قدما عرش بلقيس هدهد وخرب حفر الأرض سد مأرب
وقال آخر:
لا تحقرن صغيرا في مخاصمة .. إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
علامات قبول التوبة .
قال ابن القيم رحمه الله :
اعلم أن صاحب البصيرة الذي ربى نفسه وحملها على المراقبة لمن رباه ويراه إذا صدرت منه الخطيئة فله نظرٌ إلى أمور : أحدها أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة . والإقرار على نفسه بالذنب .
قلت: فيدفعه ذلك إلى اللوعة والحسرة والندم وذلك يدفعه إلى التوبة الصادقة النصوح .
قال : والثاني : أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا وخشية تحمله أيضا على التوبة .
قلت : وإذا اجتمع في العبد المذنب الإقرار بالذنب والندم والحسرة على الوقوع فيه ، مع الخوف والخشية لله تعالى ، نتج عن ذلك صدق الرجوع إلى الله والتوبة النصوح . قال: والثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها [ أي المعصية ]وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وانه لو شاء لعصمه منها فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وعفوه وحلمه وكرمه ، وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة ، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته .
قلت : وكل ذلك بسبب تمكين الله له من المعصية وتخليته بينه وبينها ، ورب ذنب يقدره الله على العبد فيكون سببا في دخوله الجنة ، ورب طاعة يقدرها الله على العبد تكون سببا في دخول العبد النار ، فإذا عرف ذلك ، وعلم أن له ربا ، قضى عليه بذلك الذنب وطلب منه التوبة ، وأنه يقبلها منه ويفرح بتوبته ، لم يقنط ورجع إلى مولاه العليم الحكيم ، منكسر الخاطر ، ذليل النفس ، صادق اللجوء ، مراقبا لربه التواب الرحيم .قد حسن حاله ، ظاهرا وباطنا ،وهذه علامات قبول التوبة النصوح . قال ابن القيم :
1 – منها أن يكون العبد بعد التوبة خيرا مما قبلها ، ومنها أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه : أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون . فهنا يزول الخوف .
2- ومنها : انخلاع القلب وتقطعه ندما وخوفا وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها ، وهذا تأويل ابن عيينة رحمه الله لقوله تعالى :لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم . قال : تقطعها بالتوبة . ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه .
وهذا هو تقطعه ، وهذا حقيقة التوبة لأنه ينقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفا من سوء عاقبته إن لم يتجاوز عنه مولاه . 3- ومن موجبات التوبة الصحيحة النصوح وعلامات قبولها أيضا كسرة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ، ولا تكون لغير المذنب ، لا تحصل بجوع ولا رياضة ، ولا حب مجرد ، وإنما هي أمر وراء ذا كله ، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه الذي رباه ويراه طريحا ذليلا خاشعا كحال عبد جان أبق من سيده فأُخذ وأُحضر بين يديه ولم يجد من ينجيه من سطوته ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء ، ولا منه مهربا ، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه ، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته ، هذا مع حبه لسيده وشده تعظيمه له ،وحاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وذله وقوة سيده وعزته . فيجتمع في هذه الأحوال كسرة وذل وخضوع ما انفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه وما أعظم جبره بها وما أقربه بها من سيده فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والاعتراف والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له . وهي قمة تزكية النفس وتربيتها ،والله اشد فرحا بتوبة عبده في هذه الحال .
فلله ما أحلى قوله في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني . أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك ، لا ملجأ ولا منجى إلا إليك ، أسألك مسألة المساكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وادعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت لك رقبته ، ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه ، وضاق عليه حاله ، فتاب ورجع إلى سعة رحمتك فلا تحرمه منها يا أرحم الراحمين . فهذا من آثار التوبة المقبولة ، وعلامات النفس الزكية الذليلة فمن لم يجد ذلك في قلبه ، فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة وما أسهلها باللسان والدعوى ، وما عالج الصادق بشيء أشد عليه من التوبة الخاصة الصادقة النصوح ، وحول ولا قوة إلا بالله
الشيخ أبو بكر يوسف لعويسي الجزائري حفظه الله
والحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وعلى آله الطيبين ، وصحابته الميامين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
أما بعد:
اعلم – وفقنا الله وإياك وجميع المسلمين – أن الذنوب حجاب عن الله ، والانصراف عن كل ما يبعد عن الله واجب ، وإنما يتم بالعلم والندم والعزم ورد المظالم ، فإنه متى لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن الله لم يندم على الذنوب ولم يرد المظالم ، ولم يتوجع بسبب سلوكه طريق البعد ، وإذا لم يتوجع لم يرجع ، والتوبة الرجوع عن المعصية إلى الطاعة والإنابة ، وهي واجبة من كل ذنب.
ومن رحمة الله تعالى بعباده أن فتح لهم باب التوبة والاستغفار بعد أن غرز فيهم حب الدنيا وما فيها من الملذات والشهوات التي هي مظنة الخطيئة ، والمعصية ، فقد يبلغ بالبعض منهم أن يسرف على نفسه بالذنوب ، حتى إذا تذكر واستيقظت فيه نزعة الخير وأبصر عاقبة ذلك خاف على نفسه من كثرة ذنوبه ، فربما دفعه ذلك إلى القنوط واليأس ، فأنزل الله تعالى وحيا بين له فيه أنه سبحانه يغفر الذنوب جميعا ، وأنه لا يقنط من رحمته إلا القوم الضالون .
قال سبحانه وتعالى : { قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ } (54)سورة الزمر .
وقال عز وجل :{ قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } (56)سورة الحجر .
ولذلك أمر الله سبحانه وتعالى بالتوبة ، وبين ما للتائبين من الكرامة والأجر ، فقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(8) سورة التحريم .
وقال عز من قائل :{وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } (3)سورة هود .
وقوله تعالى :{ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} قال ابن منظور في لسان العرب ( 2/616): وقال أَبو إِسحاق: توبةٌ نَصُوح بَالِغَةٌ فِي النُّصْح، وَمَنْ قرأَ نُصُوحاً فَمَعْنَاهُ يَنْصَحُون فِيهَا نُصوحاً.
وقال أحمد بن فارس في معجم مقاييس اللغة (5/435) تحقيق عبد السلام هارون : النُّصْحُ وَالنَّصِيحَةُ: خِلَافُ الْغِشِّ. وَنَصَحْتُهُ أَنْصَحُهُ. وَهُوَ نَاصِحُ الْجَيْبِ لِمَثَلٍ، إِذَا وُصِفَ بِخُلُوصِ الْعَمَلِ، وَالتَّوْبَةُ النَّصُوحِ مِنْهُ، كَأَنَّهَا صَحِيحَةٌ لَيْسَ فِيهَا خَرْقٌ وَلَا ثُلْمَةٌ .ا هـ
فالتوبة النصوح الخالية من الغش للنفس ، الخالصة النقية مما يشوبها من كدر حب المعصية والذنب الراسب في أعماق النفس التي عزمت على العودة إلى الله تعالى .
قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : وَأَصْلُ مَادَّةِ (ن ص ح) لِخَلَاصِ الشَّيْءِ مِنَ الْغِشِّ وَالشَّوَائِبِ الْغَرِيبَةِ، وَهُوَ مُلَاقٍ فِي الِاشْتِقَاقِ الْأَكْبَرِ لِنَصَحَ إِذَا خَلَصَ، فَالنُّصْحُ فِي التَّوْبَةِ وَالْعِبَادَةِ وَالْمَشُورَةِ تَخْلِيصُهَا مِنْ كُلِّ غِشٍّ وَنَقْصٍ وَفَسَادٍ، وَإِيقَاعُهَا عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ، وَالنُّصْحُ ضِدُّ الْغِشِّ.
وقال – رحمه الله – : وَهَذَا يَتَبَيَّنُ بِذِكْرِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ وَحَقِيقَتِهَا، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ}(8) التحريم. فَجَعَلَ وِقَايَةَ شَرِّ السَّيِّئَاتِ – وَهُوَ تَكْفِيرُهَا – بِزَوَالِ مَا يَكْرَهُ الْعَبْدُ، وَدُخُولِ الْجَنَّاتِ – وَهُوَ حُصُولُ مَا يُحِبُّ الْعَبْدُ – مَنُوطًا بِحُصُولِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ.
وَقَدِ اخْتَلَفَتْ عِبَارَاتُ السَّلَفِ عَنْهَا، وَمَرْجِعُهَا إِلَى شَيْءٍ وَاحِدٍ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، وَأُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: التَّوْبَةُ النَّصُوحُ أَنْ يَتُوبَ مِنَ الذَّنْبِ ثُمَّ لَا يَعُودَ إِلَيْهِ، كَمَا لَا يَعُودُ اللَّبَنُ إِلَى الضِّرْعِ .
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: هِيَ أَنْ يَكُونَ الْعَبْدُ نَادِمًا عَلَى مَا مَضَى، مُجْمِعًا عَلَى أَنْ لَا يَعُودَ فِيهِ.
وَقَالَ الْكَلْبِيُّ: أَنْ يَسْتَغْفِرَ بِاللِّسَانِ، وَيَنْدَمَ بِالْقَلْبِ، وَيُمْسِكَ بِالْبَدَنِ.
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ: تَوْبَةً نَصُوحًا، تَنْصَحُونَ بِهَا أَنْفُسَكُمْ، جَعَلَهَا بِمَعْنَى نَاصِحَةٍ لِلتَّائِبِ، كَضَرُوبِ الْمَعْدُولِ عَنْ ضَارِبٍ.
وقال – رحمه الله -: والنصح في التوبة يتضمن ثلاثة أشياء .
الأول : تعميم جميع الذنوب واستغراقها بها بحيث لا تدع ذنبا إلا تناولته .
والثاني : إجماع العزم والصدق بكليته عليها بحيث لا يبقى تردد ولا تلوم ولا انتظار بل يجمع كل إرادته وعزيمته مبادرا بها .
الثالث : تخليصها من الشوائب والعلل القادحة في إخلاصها ووقوعها لمحض الخوف من خشية الله ، والرغبة فيما عنده ، والرهبة مما عنده ، لا كمن يتوب لحفظ جاهه وحرمته ومنصبه ورياسته ، أو لحفظ حاله أو لحفظ قوته وماله أو استدعاء حمد الناس ، أو لهرب من ذمهم أو لئلا يتسلط عليه السفهاء أو لقضاء نهمته من الدنيا أو لإفلاسه وعجزه ونحو ذلك من العلل التي تقدح في صحتها وخلوصها لله عز وجل .
حقيقة التوبةقال ابن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين )1/312- 314(تحقيق : محمد البغدادي : وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ إِنَّمَا يُفَسِّرُ التَّوْبَةَ بِالْعَزْمِ عَلَى أَنْ لَا يُعَاوِدَ الذَّنْبَ ، وَبِالْإِقْلَاعِ عَنْهُ فِي الْحَالِ ، وَبِالنَّدَمِ عَلَيْهِ فِي الْمَاضِي، وَإِنْ كَانَ فِي حَقِّ آدَمِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنْ أَمْرٍ رَابِعٍ، وَهُوَ التَّحَلُّلُ مِنْهُ . وَهَذَا الَّذِي ذَكَرُوهُ بَعْضُ مُسَمَّى التَّوْبَةِ بَلْ شَرْطُهَا،(1) وَإِلَّا فَالتَّوْبَةُ فِي كَلَامِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ – كَمَا تَتَضَمَّنُ ذَلِكَ – تَتَضَمَّنُ الْعَزْمَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَالْتِزَامِهِ فَلَا يَكُونُ بِمُجَرَّدِ الْإِقْلَاعِ وَالْعَزْمِ وَالنَّدَمِ تَائِبًا، حَتَّى يُوجَدَ مِنْهُ الْعَزْمُ الْجَازِمُ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ، وَالْإِتْيَانِ بِهِ.
هَذَا حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ، وَهِيَ اسْمٌ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ، لَكِنَّهَا إِذَا قُرِنَتْ بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ كَانَتْ عِبَارَةً عَمَّا ذَكَرُوهُ، فَإِذَا أُفْرِدَتْ تَضَمَّنَتِ الْأَمْرَيْنِ، وَهِيَ كَلَفْظَةِ التَّقْوَى الَّتِي تَقْتَضِي عِنْدَ إِفْرَادِهَا فِعْلَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ، وَتَرْكَ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ، وَتَقْتَضِي عِنْدَ اقْتِرَانِهَا بِفِعْلِ الْمَأْمُورِ الِانْتِهَاءَ عَنِ الْمَحْظُورِ.
فَإِنَّ حَقِيقَةَ التَّوْبَةِ الرُّجُوعُ إِلَى اللَّهِ بِالْتِزَامِ فَعْلِ مَا يُحِبُّ، وَتَرْكِ مَا يَكْرَهُ، فَهِيَ رُجُوعٌ مِنْ مَكْرُوهٍ إِلَى مَحْبُوبٍ، فَالرُّجُوعُ إِلَى الْمَحْبُوبِ جُزْءُ مُسَمَّاهَا، وَالرُّجُوعُ عَنِ الْمَكْرُوهِ الْجُزْءُ الْآخَرُ، وَلِهَذَا عَلَّقَ سُبْحَانَهُ الْفَلَاحَ الْمُطْلَقَ عَلَى فِعْلِ الْمَأْمُورِ وَتَرْكِ الْمَحْظُورِ بِهَا.
فَقَالَ {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [النور: 31] .
فَكُلُّ تَائِبٍ مُفْلِحٌ، وَلَا يَكُونُ مُفْلِحًا إِلَّا مَنْ فَعَلَ مَا أُمِرَ بِهِ وَتَرَكَ مَا نُهِيَ عَنْهُ، وَقَالَ تَعَالَى {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].
وَتَارِكُ الْمَأْمُورِ ظَالِمٌ، كَمَا أَنَّ فَاعِلَ الْمَحْظُورِ ظَالِمٌ ، وَزَوَالُ اسْمِ الظُّلْمِ عَنْهُ إِنَّمَا يَكُونُ بِالتَّوْبَةِ الْجَامِعَةِ لِلْأَمْرَيْنِ، فَالنَّاسُ قِسْمَانِ : تَائِبٌ وَظَالِمٌ لَيْسَ إِلَّا، فَالتَّائِبُونَ هُمُ {الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ} [التوبة: 112]
فَحِفْظُ حُدُودِ اللَّهِ جُزْءُ التَّوْبَةِ، وَالتَّوْبَةُ هِيَ مَجْمُوعُ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَإِنَّمَا سُمِّيَ تَائِبًا لِرُجُوعِهِ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ مِنْ نَهْيِهِ، وَإِلَى طَاعَتِهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، كَمَا تَقَدَّمَ.
فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ حَقِيقَةُ دِينِ الْإِسْلَامِ، وَالدِّينُ كُلُّهُ دَاخِلٌ فِي مُسَمَّى التَّوْبَةِ وَبِهَذَا اسْتَحَقَّ التَّائِبُ أَنْ يَكُونَ حَبِيبَ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ، وَإِنَّمَا يُحِبُّ اللَّهُ مَنْ فَعَلَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَتَرَكَ مَا نَهَى عَنْهُ.
فَإِذًا التَّوْبَةُ هِيَ الرُّجُوعُ مِمَّا يَكْرَهُهُ اللَّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا إِلَى مَا يُحِبُّهُ ظَاهِرًا وَبَاطِنًا، وَيَدْخُلُ فِي مُسَمَّاهَا الْإِسْلَامُ، وَالْإِيمَانُ، وَالْإِحْسَانُ، وَتَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الْمَقَامَاتِ، وَلِهَذَا كَانَتْ غَايَةَ كُلِّ مُؤْمِنٍ، وَبِدَايَةَ الْأَمْرِ وَخَاتِمَتَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ، وَهِيَ الْغَايَةُ الَّتِي وُجِدَ لِأَجْلِهَا الْخَلْقُ، وَالْأَمْرُ وَالتَّوْحِيدُ جُزْءٌ مِنْهَا، بَلْ هُوَ جُزْؤُهَا الْأَعْظَمُ الَّذِي عَلَيْهِ بِنَاؤُهَا.
وَأَكْثَرُ النَّاسِ لَا يَعْرِفُونَ قَدْرَ التَّوْبَةِ وَلَا حَقِيقَتَهَا، فَضْلًا عَنِ الْقِيَامِ بِهَا عِلْمًا وَعَمَلًا وَحَالًا، وَلَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ تَعَالَى مَحَبَّتَهُ لِلتَّوَّابِينَ إِلَّا وَهُمْ خَوَاصُّ الْخَلْقِ لَدَيْهِ.
وَلَوْلَا أَنَّ التَّوْبَةَ اسْمٌ جَامِعٌ لِشَرَائِعِ الْإِسْلَامِ وَحَقَائِقِ الْإِيمَانِ لَمْ يَكُنِ الرَّبُّ تَعَالَى يَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ ذَلِكَ الْفَرَحَ الْعَظِيمَ، فَجَمِيعُ مَا يَتَكَلَّمُ فِيهِ النَّاسُ مِنَ الْمَقَامَاتِ وَالْأَحْوَالِ هُوَ تَفَاصِيلُ التَّوْبَةِ وَآثَارُهَا.
وقد أخبر سبحانه أنه غفار لذنوب التائبين فقال : { وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ () أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ }( 135 – 136)آل عمران .
وقال تعالى {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ}( 52): هود.
وعَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ، قَالَ: سَمِعْتُ أَبَا عُبَيْدَةَ ، يُحَدِّثُ عَنْ أَبِي مُوسَى، عَنِ النَّبِيِّ r– قَالَ: << إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يَبْسُطُ يَدَهُ بِاللَّيْلِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ النَّهَارِ، وَيَبْسُطُ يَدَهُ بِالنَّهَارِ لِيَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ، حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا>> رواه مسلم (2759).
وعن ابْنَ عُمَرَ – رضي الله عنهما- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ- r- : << يَا أَيُّهَا النَّاسُ تُوبُوا إِلَى اللهِ، فَإِنِّي أَتُوبُ، فِي الْيَوْمِ إِلَيْهِ مِائَةَ، مَرَّةٍ>>رواه مسلم (2702).
والآيات والأحاديث في هذا كثيرة ، ولأن الذنوب مهلكات مبعدات عن الله لذلك يجب الهرب منها والتوبة إلى الله على الفور ، وليحذر الإنسان كل الحذر من الذنوب والمعاصي الكبائر والصغائر فعلى العاقل أن يسترشد قلبه باستمرار ويراقب حركاته ويسجل تصرفاته ولا يتساهل ولا يقول إنها من التوافه الصغار ، فيحتقرها فلعلها تكون سببا في هلاكه .
وصدق رَسُولُ اللهِ -r- حيث قَالَ: << إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ فَإِنَّمَا مَثَلُ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَقَوْمٍ نَزَلُوا فِي بَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ، وَجَاءَ ذَا بِعُودٍ حَتَّى أَنْضَجُوا خُبْزَتَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ >> (2). وإلى هذا أشار الشاعر :
ولا تحقرن كيد الضعيف فربما – – – تموت الأفاعي من سموم العقارب
وقد هد قدما عرش بلقيس – – – هدهد وخرب حفر الأرض سد مأرب
وقال آخر:
لا تحقرن صغيرا في مخاصمة – – – إن البعوضة تدمي مقلة الأسد
علامات قبول التوبة .
قال ابن القيم – رحمه الله – : اعلم أن صاحب البصيرة إذا صدرت منه الخطيئة فله نظرٌ إلى أمور : أحدها أن ينظر إلى أمر الله ونهيه فيحدث له ذلك الاعتراف بكونها خطيئة . والإقرار على نفسه بالذنب .
قلت : فيدفعه ذلك إلى اللوعة والحسرة والندم وذلك يدفعه إلى التوبة الصادقة النصوح، قد يكون ذلك سببا في بلوغه المنازل الرضية ، والسبق إلى رضوان الله في الحنة العالية من قد أبدله الله سيئاته حسنات .
ألم تسمع إلى قوله تعالى :{ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا () يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
فِيهِ مُهَانًا () إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا () وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا}(68- 69-70-71) سورة الفرقان .
قال ابن القيم في طريق الهجرتين : هَذَا مِنْ أَعْظَمِ الْبِشَارَةِ لِلتَّائِبِينَ إِذَا اقْتَرَنَ بِتَوْبَتِهِمْ إِيمَانٌ وَعَمَلٌ صَالِحٌ، وَهُوَ حَقِيقَةُ التَّوْبَةِ.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ t: مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ – r- فَرِحَ بِشَيْءٍ قَطُّ فَرَحَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ لَمَّا أُنْزِلَتْ وَفَرَحُهُ بِنُزُولِ{إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا()لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ}.
قال ابن كثير في تفسيرها َقَوْلُهُ: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} : فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: {يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَوْلَانِ 3).
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ بُدِّلُوا مَكَانَ عَمَلِ السَّيِّئَاتِ بِعَمَلِ الْحَسَنَاتِ. قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ: {فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ} قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ، كَانُوا مِنْ قَبْلِ إِيمَانِهِمْ عَلَى السَّيِّئَاتِ، فَرَغِبَ اللَّهُ بِهِمْ عَنْ ذَلِكَ فحوَّلهم إِلَى الْحَسَنَاتِ، فَأَبْدَلَهُمْ مَكَانَ السَّيِّئَاتِ الْحَسَنَاتِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ تِلْكَ السَّيِّئَاتِ الْمَاضِيَةَ تَنْقَلِبُ بِنَفْسِ التَّوْبَةِ النَّصُوحِ حَسَنَاتٍ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا أَنَّهُ كُلَّمَا تَذَكَّرَ مَا مَضَى نَدِمَ وَاسْتَرْجَعَ وَاسْتَغْفَرَ، فَيَنْقَلِبُ الذَّنْبُ طَاعَةً بِهَذَا الِاعْتِبَارِ. فَيَوْمَ الْقِيَامَةِ وَإِنْ وَجَدَهُ مَكْتُوبًا عَلَيْهِ لَكِنَّهُ لَا يَضُرُّهُ وَيَنْقَلِبُ حَسَنَةً فِي صَحِيفَتِهِ، كَمَا ثَبَتَتِ السُّنَّةُ بِذَلِكَ، وَصَحَّتْ بِهِ الْآثَارُ الْمَرْوِيَّةُ عَنِ السَّلَفِ، رَحِمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى -وَهَذَا سِيَاقُ الْحَدِيثِ .
قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ(5/170):حَدَّثَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ، عَنِ الْمَعْرُورِ بْنِ سُوَيْد، عَنْ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ- r- : << إِنِّي لَأَعْرِفُ آخِرَ أَهْلِ النَّارِ خُرُوجًا مِنَ النَّارِ، وَآخِرَ أَهْلِ الْجَنَّةِ دُخُولًا إِلَى الْجَنَّةِ: يُؤْتَى بِرَجُلٍ فَيَقُولُ: نَحّوا كِبَارَ ذُنُوبِهِ وَسَلُوهُ عَنْ صِغَارِهَا، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا.. وَكَذَا ..كَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا.. وَكَذَا ..كَذَا؟ فَيَقُولُ: نَعَمْ -لَا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئا – فَيُقَالُ: فَإِنَّ لَكَ بِكُلِّ سَيِّئَةٍ حَسَنَةً. فَيَقُولُ : يَا رَبِّ ، عَمِلْتُ أَشْيَاءَ لَا أَرَاهَا هَاهُنَا؟. قَالَ: فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ >> (4).
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: لَيَأْتِينَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِأُنَاسٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدِ اسْتَكْثَرُوا مِنَ السَّيِّئَاتِ ، قِيلَ : مَنْ هُمْ يَا أَبَا هُرَيْرَةَ؟ قَالَ: الَّذِينَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ. أخرجه الطبراني في الكبير .
وهذا يؤيده ما في البخاري (4810) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ نَاسًا، مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ كَانُوا قَدْ قَتَلُوا وَأَكْثَرُوا، وَزَنَوْا وَأَكْثَرُوا، فَأَتَوْا مُحَمَّدًا – t- فَقَالُوا: إِنَّ الَّذِي تَقُولُ وَتَدْعُو إِلَيْهِ لَحَسَنٌ، لَوْ تُخْبِرُنَا أَنَّ لِمَا عَمِلْنَا كَفَّارَةً فَنَزَلَ: {وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ، وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالحَقِّ، وَلاَ يَزْنُونَ} [الفرقان: 68] وَنَزَلَتْ {قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] وسنن أبي داود (4273 ) والنسائي (3452 ).
قال ابن القيم : والثاني : أن ينظر إلى الوعد والوعيد فيحدث له ذلك خوفا وخشية تحمله أيضا على التوبة .
قلت : وإذا اجتمع في العبد المذنب الإقرار بالذنب والندم والحسرة على الوقوع فيه ، مع الخوف والخشية لله تعالى ، نتج عن ذلك صدق الرجوع إلى الله والتوبة النصوح .
قال: والثالث : أن ينظر إلى تمكين الله له منها [ أي المعصية ] وتخليته بينه وبينها وتقديرها عليه وأنه لو شاء لعصمه منها فيحدث له ذلك أنواعا من المعرفة بالله وأسمائه وصفاته وحكمته ورحمته وعفوه وحلمه وكرمه ، وتوجب له هذه المعرفة عبودية بهذه الأسماء لا تحصل بدون لوازمها البتة ، ويعلم ارتباط الخلق والأمر والجزاء والوعد والوعيد بأسمائه وصفاته .
قلت : وكل ذلك بسبب تمكين الله له من المعصية وتخليته بينه وبينها ، ورب ذنب يقدره الله على العبد فيكون سببا في دخوله الجنة ، ورب طاعة يقدرها الله على العبد تكون سببا في دخول العبد النار ، فإذا عرف ذلك ، وعلم أن له ربا ، قضى عليه بذلك الذنب وطلب منه التوبة ، وأنه يقبلها منه ويفرح بتوبته ، لم يقنط ورجع إلى مولاه العليم الحكيم ، منكسر الخاطر ، ذليل النفس ، صادق اللجوء ، مراقبا لربه التواب الرحيم .قد حسن حاله ، ظاهرا وباطنا ،وهذه علامات قبول التوبة النصوح .
قال ابن القيم – رحمه الله – في مدارج السالكين :
1 – منها أن يكون العبد بعد التوبة خيرا مما قبلها ، ومنها أنه لا يزال الخوف مصاحبا له لا يأمن مكر الله طرفة عين فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه : {أن لا تخافوا ولا تحزنوا وابشروا بالجنة التي كنتم توعدون }. فهنا يزول الخوف .
2- ومنها : انخلاع القلب وتقطعه ندما وخوفا وهذا على قدر عظم الجناية وصغرها وهذا تأويل ابن عيينة – رحمه الله – لقوله تعالى : { لا يزال بنيانهم الذي بنوا ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم } قال : تقطعها بالتوبة . ولا ريب أن الخوف الشديد من العقوبة العظيمة يوجب انصداع القلب وانخلاعه .
وهذا هو تقطعه ، وهذا حقيقة التوبة لأنه ينقطع قلبه حسرة على ما فرط منه وخوفا من سوء عاقبته إن لم يتجاوز عنه مولاه .
3- ومن موجبات التوبة الصحيحة النصوح وعلامات قبولها أيضا كسرة تحصل للقلب لا يشبهها شيء ، ولا تكون لغير المذنب ، لا تحصل بجوع ولا رياضة ، ولا حب مجرد ، وإنما هي أمر وراء ذا كله ، تكسر القلب بين يدي الرب كسرة تامة قد أحاطت به من جميع جهاته وألقته بين يدي ربه طريحا ذليلا خاشعا كحال عبد جان أبق من سيده فأخذ وأحضر بين يديه ولم يجد من ينجيه من سطوته ولم يجد منه بدا ولا عنه غناء ، ولا منه مهربا ، وعلم أن حياته وسعادته وفلاحه ونجاحه في رضاه عنه ، وقد علم إحاطة سيده بتفاصيل جناياته ، هذا مع حبه لسيده وشده تعظيمه له ،وحاجته إليه وعلمه بضعفه وعجزه وذله وقوة سيده وعزته .
فيجتمع في هذه الأحوال كسرة وذل وخضوع ما أنفعها للعبد وما أجدى عائدتها عليه وما أعظم جبره بها، وما أقربه بها من سيده فليس شيء أحب إلى سيده من هذه الكسرة والاعتراف والخضوع والتذلل والإخبات والانطراح بين يديه والاستسلام له . والله أشد فرحا بتوبة عبده في هذه الحال .
فلله ما أحلى قوله في هذه الحال : أسألك بعزك وذلي إلا رحمتني . أسألك بقوتك وضعفي وبغناك عني وفقري إليك هذه ناصيتي الكاذبة الخاطئة بين يديك ، عبيدك سواي كثير وليس لي سيد سواك ، لا ملجأ ولا منجى إلا إليك ، أسألك مسألة المساكين ، وأبتهل إليك ابتهال الخاضع الذليل ، وادعوك دعاء الخائف الضرير ، سؤال من خضعت لك رقبته ، ورغم لك أنفه ، وفاضت لك عيناه ، وذل لك قلبه ، وضاق عليه حاله ، فتاب ورجع إلى سعة رحمتك فلا تحرمه منها يا أرحم الراحمين .
فهذا من آثار التوبة المقبولة ، فمن لم يجد ذلك في قلبه ، فليتهم توبته وليرجع إلى تصحيحها فما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة وما أسهلها باللسان والدعوى ، وما عالج الصادق بشيء أشد عليه من التوبة الخاصة الصادقة النصوح ، وحول ولا قوة إلا بالله .
اللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه أعوذ بك من شر نفسي ومن شر الشيطان وشركه وأن أقترف على نفسي ذنبا أو أجره إلى مسلم .
اللهم ساتر العيوب غافر الذنوب قابل التوب استر عيوبي ، واغفر ذنوبي ، كبيرها وصغيرها باطنها وظاهرها سرها وعلنها فأنت أحصيتها وأنت أعلم بها ، فقد تبت منها ولا يغفرها إلا أنت يا رحيم يا ودود ، يا حي يا قيوم يا أرحم الراحمين .
وكتب :
أبو بكر يوسف لعويسي
الدويرة الجزائر العاصمة :27 جمادى الآخرة 1445هـ
الموافق 7/5/2015م
————-
1- تلك هي شروط التوبة ، ويضاف إليها أن تكون لتوبة قبل بلوغ الروح الغرغرة ، وقبل أن تطلع الشمس من مغربها أو تظهر الدابة .
2 – الحديث في الصحيحة (ح389) وقال في صحيح الجامع (2686 )(صحيح) [حم طب هب الضياء] عن سهل بن سعد. الروض النضير (351).
3– نقل ابن القيم أيضا القولين وعقبهما بكلام ماتع رائع في كتابه طريق الهجرتين فليراجع .
4– انْفَرَدَ بِهِ مُسْلِمٌ برقم (190) (315) بلفظ :<< فَيُقَالُ: اعْرِضُوا عَلَيْهِ صِغَارَ ذُنُوبِهِ، وَارْفَعُوا عَنْهُ كِبَارَهَا، فَتُعْرَضُ عَلَيْهِ صِغَارُ ذُنُوبِهِ، فَيُقَالُ: عَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، وَعَمِلْتَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: نَعَمْ، لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْكِرَ وَهُوَ مُشْفِقٌ مِنْ كِبَارِ ذُنُوبِهِ أَنْ تُعْرَضَ عَلَيْهِ…>> الحديث وأخرجه الترمذي (2596) وقال هذا حسن صحيح ، وابن حبان (7375) ، وابن منده في الإيمان (849) من طريق أبي معاوية، بهذا الإسناد .وقال الشيخ الألباني في صحيح الجامع برقم (2485 ) وقال صحيح .ولابن القيم كلام في بيان معنى هذا الحديث جميل جدا في كتابه طريق الهجرتين .
اهل الاثر
والذي نفسي بيدِه ! لو لم تذنبوا لذهب اللهُ بكم ، ولجاء بقومٍ يذنبون ، فيستغفرون اللهَ ، فيغفرُ لهم الراوي: أبو هريرة المحدث:مسلم – المصدر:صحيح مسلم – الصفحة أو الرقم: 2749
خلاصة حكم المحدث: صحيح
بارك الله فيك وكثر الله من امثالك اختنا الكريمة
موضوعك يفرح القلب ، ما اروع ان نعود الى طريق الله
اختاه الايمان و الخوف و الوجل يزيدون بالطاعة و ينقصون بالمعصية فاكثري العبادات و تجنبي الملهيات و المعاصي
و الله أني على طريق التوبة و أتمني ان اكمل مسيرتي عليه حتى الموت ، و شكرًا لكم للنصيحة و المساعدة، زادها الله في ميزان آجركم …