أثر الفقه المالكي في التشريعات الغربية
الأستاذ عبد العزيز بن عبد الله
في عام 1937 أقر مؤتمر لاهاي ما قرره مؤتمر واشنطن عام
1935 من أن الشريعة الإسلامية مصدر للقانون مستقل عن
مصادر اليونان والرومان.
وقد أكد برنارد شو في كتابه "backto" بأن قلب التوجه العالمي
سينتقل في القرون المقبلة من الغرب إلى الشرق وأكد أن الشريعة
الإسلامية ستصبح المدونة الوحيدة للحياة قادرة على تجديد وجهة
وضبط حياة الإنسان على الأرض في أي مسار مستقبلي.
ولذلك أمثلة عديدة تبلور تأثير الفقه الإسلامي عامة والفقه المالكي
خاصة في البحر الأبيض المتوسط والقارتين الأوربية والأمريكية.
فقد أعدت دراسات في الفقه المقارن تحلل تفاصيل وأبعاد أثر الفقه
المالكي في بعض التشريعات الأجنبية خاصة مدونة الفقه المدني
المعروفة بمدونة نابليون وقد اقتبس هذا الأخير الكثير خاصة في
مادة الأحكام والعقود والالتزامات، وقد أشار الأمير شكيب أرسلان
في: "حاضر العالم الإسلامي" إلى بعض ذلك وهو قل من كثر مما
أثر في الفكر القانوني الحديث ابتداء من الحرب العالمية الأولى.
التأثير في الحقل الاقتصادي
ولا شك أن انبساط الحكم العثماني على بقاع شاسعة من العالم، كان
له أعمق الأثر على القوانين في مختلف ميادين الحياة، وخاصة في
الأقاليم الأوروبية التي خضعت للآستانة، ولا يزال على رجال
القانون المقارن أن يسبروا أغوار هذه التأثيرات والمبادلات بين
الفقه الإسلامي والقوانين الوضعية فيما يسمى اليوم بالدول
الاشتراكية التي كان معظمها تابعا للأتراك إلى حدود سيبيريا حيث
يمتد ما يسمى بالجمهوريات الإسلامية السوفياتية.
ومن مجالي هذا التأثير في الحقل الاقتصادي قضايا الشركات وقد
ضمنها البنوك، وهي تقوم في العالم المعاصر بأجل الخدمات
لتنشيط مختلف مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فالشركة
بصورة عامة في المذهب المالكي هي كما يقول ابن عرفة: "شركة
بقدر متمول بين ملكين فأكثر ملكا فقط"، والشركة في القانون
الفرنسي شبيهة بها بل تستعمل "المدونة الفرنسية" نفس التعابير
التي وجدت في النصوص الفقهية القديمة بما يدل على أن التشريع
الفرنسي اقتبس منها، وقد تأثر القانون المدني الإسباني بالفقه
المالكي في الاستغناء عن عقود الزواج خارج الكنيسة، ولاحظ
الأستاذ "أوكطاف بيل" في كتاب له حول الشركة والقسمة في
المذهب المالكي، أن الشركات المالكية شركات تنبني على عقود
أمانة، وهو ما يجري به العمل في فرنسا قديما. (ربما تحت تأثير
الأندلس).
وأهم أنواع الشركات اليوم وخاصة في أبرز دولة اقتصادية بأوروبا
هي ألمانيا الغربية الشركة المعروفة بالقراض.
والقراض Commandite أهم أنواع الشركات في المذهب
المالكي لأنها لا تمس رأسمال المشارك فيها وإنما تقتصر مسؤوليته
على حصته في الشركة أي أن أرباب المال ملزمون على قدر
المال كما في القانون الفرنسي وغيره من القوانين الأوروبية
وخاصة منها القانون الألماني الذي أصبحت العمليات المصرفية
تجري اليوم في نطاقه على نسق البنوك بدون فائدة وهو مظهر
لأثر الفقه الإسلامي في المجتمع الألماني اليوم.
بصمات الفقه المالكي في أوروبا وأمريكا
وحتى في المناطق التي استقلت قبل أن ينزاح الحكم العربي عن
الأندلس بقرون ظل المسلمون يطبقون الشريعة الإسلامية مؤثرين
في محيطهم بمنطقية ورصانة الأحكام الفقهية وقد أكد محمد بن عبد
الرفيع الأندلسي الذي توفي عام (1052هـ ـ 1642م) بعد الجلاء
الأخير عن الأندلس بخمس وثلاثين سنة في كتاب "الأنوار النبوية
في آباء خير البرية" أنه بقي في طليطلة أناس يدينون بالإسلام في
الباطن بعد أن زال عنها حكم الإسلام بخمسمائة عام.
ولا شك أن للفقه المالكي خاصة بصمات تقوى وتضعف حسب
الأقاليم التي تأثرت في أوروبا وأمريكا بالإشعاع القانوني الإسباني
والبرتغالي انطلاقا من الأندلس التي استمرت فيها تطبيقات فقهية
مالكية إلى القرن الماضي.
وقد نقل دوزي عن صاحب كتاب (لوس ـ وزار ايبس دوطوليد) أن
بعض القرى الأندلسية بناحية بلنسية استعملت العربية إلى أوائل
القرن التاسع عشر وقد جمع أحد أساتذة جامعة مدريد 1151 عقدا
في موضوع البيوع محررا بالعربية كنموذج للعقود التي كان
الإسبان يستعملونها في الأندلس.
ونعطي مثالا آخر لهذا التأثير أيضا في مفهوم: الجنسية، في الفكر
الإسلامي. فالجنسية في الحقيقة ميزة تتسم بها أمة بعينها وهي
أيضا وصف لمن ينتسب لأمة من الأمم ولم يهتم الإسلام بالجنسية
أو العنصر بقدر ما اهتم بالملة أو النحلة الدينية ولكن ليس معنى
هذا أن أحكام هذا المفهوم لم تكن واضحة مضبوطة في الإسلام فقد
قال النووي في تقريبه نقلا عن عبد الله بن المبارك وغيره أن من
أقام في بلدة أربع سنين نسب إليها وقد تحدث المراكشي في إعلامه
عن أمد الحصول على هذه الجنسية حسب الفقه الإسلامي
(الإعلام :1/150).
وقد اختارت مدونات قانونية أوروبية وأمريكية نفس المدة لإقرار
جنسية الأجنبي المقيم في البلد، راجع "الجنسية في قوانين المغرب
العربي الكبير" دراسة مقارنة 1971 مصفحة 861 لإبراهيم عبد
الباقي، معهد الدراسات والبحوث العربية.
تأثير على القانون الكنسي والفقه اليهودي
وقد كان للفقه المالكي وخاصة بالمغرب والأندلس تأثير بليغ لا على
القانون الكنسي بل على التلمود والفقه اليهودي منذ القرن العاشر
بمدينة فاس وهو العصر الذي انتشر فيه المذهب المالكي بالمغرب
بعد فترة ساد خلالها الفقه الحنفي والفقه الشافعي وفقه الأوزاعي.
ومن أمثلة ذلك أن أبا سعيد بن يوسف الفيومي المعروف بالحاخام
سعديا 942هـ الذي يعتبر واضع الفلسفة اليهودية في العصور
الوسطى قد صنف ترجمة عربية للعهد القديم واستكمل قانون
الميراث اليهودي مستعينا بالشريعة الإسلامية.
وهنالك عالم يهودي مغربي هو إسحاق بن يعقوب الكوهن الملقب
بالفاسي الذي ولد عام 404هـ /1013م في قلعة بن أحمد، قرب
فاس وتوفي بالوسينة بالأندلس عام 497هـ /1103م له شرح على
التلمود في عشرين مجلدا يعتبر لحد الآن من أهم كتب التشريع
التلمودي كما له ثلاثمائة وعشرون فتوى محررة كلها بالعربية،
وهي مقتبسة من الفقه المالكي السائد بالأندلس والمغرب آنذاك،
وهو الذي أسس بالوسينة هذه هي التي آوى إليها في فترة من حياته
العلمية الإمام بن رشد الحفيد الذي جمع بين الفقه المالكي والفلسفة
والطب والتف حوله طلبة يهود أندلسيون.
تلك نظرة مركزة عن هذا الموضوع الذي نعني به اليوم للتعرف
على أهمية مذهب الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة وحامل
لواء السنة في المجالات الجديدة التي تواجهنا في اختياراتنا
المستقبلية.