الكاتب : د. العياشي أدراوي: المغرب
من المسلمات الثابتة عند المشتغلين بالفكر الإنساني عموماً والفكر اللساني خصوصاً أن اللغة هي الوعاء الأوفى الذي يحفظ قيم الأمة الفكرية والروحية والفنية ومنجزاتها العلمية، كما أنه يعكس مرتبتها على سلم الحضارة الإنسانية تميزاً أو انحطاطاً. وتضاف إلى هذا مسلمة أخرى وهي (أن غلبة اللغة بغلبة أهلها، وأن منزلتها بين اللغات صورة لأمتها بين الأمم)، كما يرى ابن خلدون. ومعنى هذا أنه لا تفاضل في الأصل بين اللغات، ولا تمايز بينها في حد ذاتها؛ بحيث توصف -مثلاً- إحداها بالقوة وتوصف الأخرى بالضعف. أو ينظر إلى لغة بعين الإجلال والتعظيم لثرائها وانفتاحها، وإلى ما سواها بعين الاستخفاف والتحقير لفقرها وانغلاقها.
بناء على هذا يبدو جلياً التلازم القائم بين اللغة (أية لغة كانت) وأهلها الناطقين بها. إنها تضعف بضعفهم وتقوى بقوتهم، بل إنه لا قوة لهم إلا بتقوية اللسان الدال عليهم وجعله علامة مميزة لهم دون سواهم. وعليه فلا أمن لهذه الأمة أو تلك، ولا استمرارية -في التاريخ الإنساني- لهذا الشعب أو ذاك إلا بحفظ اللسان وتأمين اللغة. وعلى هذا يؤكد شاعر صقلية (إجنازيو بوتيتا) بالقول: «إن الشعوب يمكن أن تكبل بالسلاسل وتسد أفواهها وتشرد من ديارها فتظل مع ذلك غنية موجودة. إن الشعب يفتقر ويستعبد ما أن يسلب اللسان الذي تركه له الأجداد؛ عندئذ يضيع إلى الأبد».
واضح إذن أن الأمن اللغوي مقدم على غيره من أنواع الأمن الأخرى كالأمن السياسي والاجتماعي والغذائي وغيرها من المقومات الحياتية التي توليها الدول والحكومات رعاية واهتماماً خاصين، بل إنه يجوز القول إن تأمين اللسان أساس لما سواه، لارتباطها به وانبنائها عليه من حيث هو شرط وجود الهوية وعامل صونها وتطورها. وعلى هذا الأساس فإن المطالبة بأمن لغوي يحفظ الكيان العربي ويزيل التشوهات التي لحقت الهوية العربية ضرورة تقتضيها السياسة اللغوية التي يجب أن تستنبت في تربة المجتمعات الناطقة بلغة الضاد.
فكما أنه لا بقاء للأمة العربية إلا بوجود أنظمة سياسية وأجهزة عسكرية حديثة وباقتصاد قوي متطور، وبتعليم عصري وإبداع وابتكار متميزين، فكذلك لا وجود حقيقياً لما ذكر إلا في ظل لغة أصيلة نقية، ولسان متين حصين وليس مخترقاً من خارجه (أو داخله)، مكتفياً بذاته غير تابع لسواه ولا مرهون بغيره، وما يتبع ذلك من مناعة واستقلال لغويين. فالتفريط في اللغة الأم تفريط في السيادة والهوية.
إن الواقع يؤكد أن هناك تهديداً للأمن اللغوي العربي، وهو تهديد ليس جديداً وإنما يعود -على الأقل- إلى الفترة الاستعمارية ليتجدد منذ مطلع العقدين الأخيرين من القرن الماضي مع انتشار الفضائيات ووسائط الاتصال وفتح العديد من الجامعات والمدارس الأجنبية في البلاد العربية، ومن ثمة سيادة الثقافة الغربية تحديداً. الأمر الذي جعل بعض المستشرقين المتعصبين، وحتى بعض المتخاذلين من أبناء العروبة، يرون أن اللغة العربية قد دخلت خانة اللغات الموات التي أتى عليها الدهر وأنه ينبغي أن تنزوي لتفسح المجال للغات (الحية المتطورة) أو اللهجات العامية التي يجب أن تصير لغة التعبير والتفكير المثلى. فاللغة العربية عند هؤلاء عاجزة قاصرة عن استيعاب الرموز الثقافية والتطورات العلمية. لذا فمصيرها -حسب هذا التوجه- التلاشي والانقراض كنظيرتها اللاتينية, فما جرى على هذه من القانون الطبيعي يجري حتماً على العربية.
وغير خاف أن هذه المعاداة والتحامل على لغة الضاد راجعان أساساً إلى فكر الاحتلال وإلى مواقف عدد من الباحثين الأجانب الذين قرنوا اللسان العربي بالتخلف وعدوا لغتهم لغة العصر والعلوم التي يتعين هجر العربية إليها. وربطوا العامية بالحياة والفطرية فيما الفصيحة بالموت والصعوبة والاستعصاء، وطعنوا في الحرف العربي ومجدوا الحرف اللاتيني وأرادوا أن تكتب به الفصيحة والعامية على السواء. وما من شك أن الحملة على اللغة العربية هي حملة على كل شيء يعنينا -نحن العرب- وعلى كل تقليد من تقاليدنا الثقافية والاجتماعية والدينية كما على الفكر والوعي. وتبعاً لهذا فإن الحاجة إلى أمن لغوي عربي اليوم أكثر إلحاحاً من أي زمن آخر، كما أنه مطلب، الكل مدعو لتحقيقه، ومشروع الجميع مطالب بالإسهام فيه.
شكراااا بارك الله فيك على ما قدمت
بارك الله فيك يأستاذ