الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا ومولانا محمد وعلى آله وسلم وأهل بيته أجمعين. وبعد:
يقول الله سبحانه : ((رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ)) . [هود : 73]
ويقول سبحانه : ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) . [الأحزاب : 33]
ويقول تعالى: ((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) [الشورى : 23](
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه ، عن زيد بن أرقم : قام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوماً فينا خطيباً بماء يدعى خماً – بين مكة والمدينة – فحمد الله وأثنى عليه ، ووعظ وذكر ، ثم قال : "أما بعد … ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله ، واستمسكوا به" فحث على كتاب الله ورغّب فيه ، ثم قال : "وأهل بيتي : أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي ، أذكركم الله في أهل بيتي" .
وعلى ضوء هذا التوجيه النبوي المعصوم يتضح أول ما يتضح :
إن من أحب شيئا آثره ، وآثر موافقته ، وإلا لم يكن صادقاً في حبه، وكان مدعياً ونيل الشيء بعد الطلب ، ألذْ وأعزْ من المُساق بغير تعب، والمحبة بعد القطيعة أحلى من المحبة بلا قطيعة والصفاء بعد الجفاء أصفى من الصفاء بلا جفاء ، وفطام النفس من مألوفاتها وعوائدها أشد معالجة من النفس السلسة المنقادة من غير تعب ، فالأجر أو القدر على قدر التعب .
والصادق في حب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من تظهر علامة ذلك عليه بالاقتداء به صلوات الله وسلامه عليه ، وإتباع سنته في أقواله وأفعاله، وأحواله ، وامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، والتأدب بآدابه ، ولزوم طاعته في حبه لآل بيته ، وحب آل بيته لحبه صلى الله عليه وآله وسلم.
وأهل البيت هم المختصون بالطهارة الحقة ، فهم الذين اختصهم الله بمحبته ، وانتدبهم لأن يكونوا ورثة علمه والداعين إليه ، وأظهرهم ليظهر لك عجائب قدرته ، وأكرمهم بمختلف الكرامات ، وخلصهم من طبائع نفوسهم ، ونجاهم من إطاعة هوى أنفسهم حتى صارت كل أفكارهم مستقلة به سبحانه وتعالى ، وعلاقاتهم معه لا مع غيره فمحبتهم أساس الطريق إلى الله تعالى ، وأصله وكل الأحوال والمقامات درجات للمحبة ولقد أكرم الله سبحانه وتعالى أهل البيت بتعليم جاهلهم ، وإرشاد ضالهـم ، وتقوية ضعيفهم ، فالتواضع لهم حق ، والإستنصاف لهم واجب ، والخدمة بقدر الإمكان لهم قرب وإذا كان الله سبحانه وتعالى، تفضل وأولى وطهر وزكى ، وكرم وأكرم آل بيت النبوة كما جاء بذلك قوله سبحانه : ((إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً)) . [الأحزاب : 33]
فلا أقل من أن يكون هذا التفضيل الإلهي ، والكرم الرباني ، له إيثاره في قلوب بني البشر ، استجابة لأمر الله ، وتحقيقاً لدعوة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم .
والإيثار لحب أهل بيت النبوة ، استجابة لله ولرسوله ، والأدب معهم إنما يتحقق ذلك بحفظ حرمتهم غائبين أو حاضرين ، فلا يغتاب أحد منهم ولا ينقص قـدره ، فالغيبة حرام بالإجماع لاسيما في حق أهل البيت والأولياء ؛ لأن لحومهم سموم قاتلة كلحوم العلماء والأنبياء .
أما الذين لهم قوة اليقين ، ونور البصيرة ، فإنهم ساكنون تحت جريان الحكـم : يرون الغائبات عن الحواس بعيون البصيرة من وراء ستر رقيق ، فلا الطوارق تهزمهم ، ولا هواجم الوقت تستفزهم وعن قريب يلوح علم اليسر ، وتنجلي سحائب العسر ، ويمحق الله كيد الكائدين.
فأهل القلوب والبصائر ، والذوق والمشاهدة ، يؤثرون أهل البيت بالحب الصادق ، والوفاء الكامل ، والإخلاص المخلص ، والإجلال الوافر لا ابتداعاً منهم ، بل امتثالاً لأمر خالقهم ، وتعظيماً لقدر نبيهم ، واستجابة لقول رسول صلى الله عليه وآله وسلم ، فيما أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، وأبو الشيخ، وابن حبان في صحيحه ، والبيهقي مرفوعاً انه صلى الله عليه وآله وسلم قال:
"لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من نفسه ، وتكون عترتي أحب إليه من عترته ، وأهلي أحب إليه من أهله ، وذاتي أحب إليه من ذاته".
وكما أخرج البيهقي ، وأبو الشيخ ، وابن حبان في صحيحه عن علي كرم الله وجهه قال : (خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مغضباً حتى استوى على المنبر ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : "ما بال رجال يؤذونني في أهل بيتي ؟ والذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى يحبني ، ولا يحبني حتى يحب ذريتي") .
ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه:
"صلة قرابة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أحب إلي من صلة قرابتي".
ويتفاعل سيد الخلق صلى الله عليه وآله وسلم تفاعل الحكيم الناطق بالحق فيقول : فيما أخرجه الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك عن ابن عباس رضي الله عنهما : "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه ، وأحبوني لحب الله ، وأحبوا أهل بيتي لحبي" . ويعلق صاحب فيض القدير على قوله : "أحبوا الله لما يغذوكم به من نعمه" فيقول : أحبوا الله لجلّ إنعامه عليكم بصنوف النعم ، وضروب الآلاء الحسية : كتيسير ما يتغذى به من الطعـام والشراب ، والمعنوية : كالتوفيق والهداية ، ونصب أعلام المعرفة ، وخلق الحواس ، وإفاضة أنوار اليقين على القلب ، وغير ذلك من الأغذية الروحية المعلوم تفصيلها عند علماء الآخرة .
ثم يعلق الفخر الرازي على هذا فيقول : "ونعم الله سبحانه وتعالى لا تحصى ؛ لأن كل ما أودع فينا من المنافع واللذات التي ننتفع بها، والجوارح والأعضاء التي نستعملها في جلب المنافع ، ودفع المضار وما خلق في العالم مما يستدل به على وجود الصانع وما أوجد فيه مما يحصل الزجر برؤيته عن المعاصي مما لا يحصى عدده ، كله منافع ؛ لأن المنفعة من اللذة ، أو ما يكون وسيلة إليها وجميع ما خلق الله كذلك؛ لأن كل ما يلتذ به نعمة ، وكل ما لا يلتذ به وسيلة إلى دفع ضرر ، وهو كذلك وما لا يكون جالباً للنفع الحاضر ، ولا دافعاً للضرر هو صالح للاستدلال به على وجود الصانع الحكيم يقع وسيلة إلى معرفته وطاعته، وهما وسيلتان للذات الأبدية فثبت أن جميع مخلوقاته نعمة على العبيد" .
وبما تقرر عرف أن محبة العبد لله لا تحتاج إلى تأويل بخلاف عكسه .
يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى ورضي عنه : "محبة العبد لله حقيقة لا مجازية ، إذاً المحبة في وضع أهل اللسان ، ميل النفس إلى مواقف العشق : الميل الغالب المفرط والله تعالى سبحانه ، محسن جميل، والإحسان والجمال موافقة ومحبة الله للعبد مجازية… ترجع إلى كشف الحجاب حتى يراه بقلبه وإلى تمكينه إياه بالقرب منه".
وفي شرح المواقف … محبتنا لله تعالى ، كيفية روحانية مترتبة على تصور الكمال المطلق له تعالى ، على الاستمرار ومقتضيه إلى التوجه التام لحضرة قدسه ، بلا فتور ولا قرار .
"وأحبوني لحب الله"
بمعنى إنما تحبوني لأنه سبحانه وتعالى أحبني فوضع محبتي فيكم، كما يصرح به الخبر الصحيح : "إذا أحب الله عبداً ، نادى جبريل : إن الله يحب فلاناً فأحبوه" .
"وأحبوا أهل بيتي لحبي" . أي إنما تحبونهم لأني أحببتهم بحب الله تعالى لهم . وقد يكون أمراً بحبهم ؛ لأن محبتهم لهم تصديق لمحبتهم للنبي صلى الله عليه وآله وسلم .
((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) [الشورى : 23] .
وأهل بيته صلوات الله وسلامه عليه ساووه – كما يقول الفخر الرازي في خمسة أشياء : في الصلاة عليه وعليهم في التشهد… وفي السلام يقال في التشهد : السلام عليك أيها النبي .
وقال تعالى : ((سَلامٌ عَلَى آلْ يَاسِينَ)) . [الصافات : 130]
وفي الطهارة قال تعالى : (طه) سورة طه : 1 – أي يا طاهر.
وقال تعالى : ((قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) [آل عمران : 31] .
وقال تعالى : ((قُل لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ)) [الشورى : 23] .
وحـب آل بيت سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وودهم والولاء لهم ، وتعظيمهم واحترامهم وتكريمهم ، ورد به الأمر الإلهي في القرآن الكريم ، والأحاديث الصحيحة وإجماع السلف والخلف من الأمة .
وليس هذا فحسب … بل ويقضي بذلك العقل أيضاً قياساً على ما تقرر من وجوب شكر المنعم ، وسيدنا رسول الله صلى الله وعلى آله وسلم ، نبي الرحمة وهادي الأمة ، ومنقذ البشرية منعم علينا بذلك كله فشكره وتقديره واحترامه وتكريمه واجب علينا ، ومن شكره وتقديره إكرام ذريته والتودد إليهم .
منقول للفائدة