فيا خسار من بغى ومن تعدى وطغى
وشب نيران الوغى لمطعم أو مطمع
* * * * * * * * *
ولقد كان الصالحون .. يصبّرون أنفسهم على الطاعات .. وينهونها عن المحرمات .. ويجعلون موعد الراحة الجنات ..
نعم .. يستطيعون أن يزنوا .. أتظنهم عاجزين عن ذلك ؟
ويستطيعون أن يمتعوا أعينهم بالنظر إلى المحرمات .. وأسماعهم بسماع الأغنيات .. ويكثروا أموالهم بالربا ..
يستطيعون ذلك كله .. فما الذي يمنعهم ..؟!
نعم ما الذي يمنعهم ؟!
إنهم يخشون أن يتجرعوا من الحميم .. ويقاسوا العذاب الأليم ..
يخشون من يوم تزيغ فيه الأبصار .. ويشتد غضب الجبار ..
يخافون يوماً كان شره مستطيراً ..
* * * * * * * * *
كان الإمام أحمد بن حنبل يكثر على نفسه التعبد .. والصلاة والقيام ..
فقال له ابنه عبد الله يوماً : يا أبتِ .. متى ترتاح ؟!
فقال : أبو عبد الله : أرتاح .. إذا وضعت أولى قدمي في الجنة ..
* * * * * * * * *
فاجمع قواك لما هناك وغمض * العينين واصبر ساعة لزمان
ما هاهنا والله ما يسوى قلا * مة ظفر واحدة ترى بجنان
يا غافلا عما خلقت له انتبه * جد الرحيل فلست باليقظان
سار الرفاق وخلفوك مع الألى * قنعوا بذا الحظ الخسيس الفاني
ورأيت أكثر من ترى متخلفاً * فتبعتهم ورضيت بالحرمان
والله لا يرضى بهذا تائب * ذو همة طلباً لهذا الشان
والله ما ينجي الفتى من ربه * شيء سوى التقوى مع الإيمان
ولسوف تعلم حين ينكشف الغطا ماذا صنعت وكنت ذا إمكان
* * * * * * * * *
وعلى التائب أن يصبر على ما قد يصيبه .. بعد التوبة من بلاء .. أو سخرية واستهزاء .. ويتحمل ذلك في ذات الله ..
فإن أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الصالحون .. ثم الأمثل فالأمثل .. ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يدعه يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة ..
ولا يغتر بكثرة الواقعين في المعاصي ..
ولا يلتفت إلى الهالكين في الشهوات ..
ممن استغواهم الشيطان .. فأصبح أكبر هم أحدهم شهوة فرجه ..
أو فمه وبطنه ..
والله يقول : { وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ } ..
* * * * * * * * *
أما الحياة بعد التوبة .. فهي الحياة التي خلقت لأجلها ..
وأوجدك الله لها ..
فأي لذة للحياة .. إذا كنت تشعر في كل لحظة منها .. أنك عدوٌ لله ..
متتبع للشهوات .. واقع في المحرمات ..
وربك الذي يطعمك ويسقيك .. وإذا مرضت فهو يشفيك .. وهو الذي يميتك ثم يحييك ..
بل .. كل شعرة من شعراتك .. وذرة من ذراتك ..
لا تتحرك إلا بإذنه ..
ومن صدق لله في توبته ..
تحول بعدها إلى جندي من جنود هذا الدين .. يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ..
ويحمل همَّ الإسلام ..
ولقد كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يبسط أحدهم يده فيبايع محمداً صلى الله عليه وسلم ..
ثم يستشعر أنه بهذه البيعة أصبح جندياً يعمل لهذا الدين ..
ذكر ابن إسحاق وأصل القصة في البخاري ..
أن النبي صلى الله عليه وسلم .. لما تمكن في المدينة ..
بدأ يبعث أصحابه إلى ما حوله من القرى والوديان .. يدعون الناس إلى الإسلام ..
فبعث أحد الصحابة إلى وادي نعمان قرب الطائف ..
فلما وصل ذلك الصحابي إليهم .. فإذا أعراب في بواديهم .. لا يعقلون من الحياة إلا إبلهم وغنمهم ..
فدعاهم إلى الله .. وأبان لهم الدين .. فأعرضوا ..
فانطلق رجل منهم إلى المدينة .. لينظر في خبر هذا النبي ..
انطلق الرجل على ناقته .. حتى وصل إلى المدينة ..
ثم دخلها .. وأقبل يصيح بين الناس : أين ابن عبد المطلب .. أين ابن عبد المطلب ..
فدله رجل على المسجد .. فتوجه إليه ..
فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً مع أصحابه يوماً .. إذ أقبل الأعرابي الجلد .. وقد جعل شعره جديلتين ..
فأناخ بعيره على باب المسجد .. فعقله .. ثم دخل المسجد .. وقال :
وصاح بالناس : أيكم ابن عبد المطلب ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا ابن عبد المطلب " ..
فقال : محمد ؟
فقال :" نعم " ..
فقال : يا ابن عبد المطلب ! إني سائلك .. ومغلظ عليك في المسألة .. فلا تجدن في نفسك علي ..
فقال صلى الله عليه وسلم : " لا أجد في نفسي فسل عما بدا لك " ..
فقال : من رفع السماء ؟ قال : الله ..
قال : فمن بسط الأرض ؟ قال : الله ..
قال : فمن نصب الجبال ؟ قال : الله ..
قال : فأسألك بالذي رفع السماء .. وبسط الأرض .. ونصب الجبال .. آلله بعثك إلينا رسولاً ؟
قال : " اللهم نعم " ..
قال : فأنشدك الله .. آلله أمرك أن نعبده لا نشرك به شيئاً .. وأن نخلع هذه الأنداد التي كان آباؤنا يعبدون ؟
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اللهم نعم " ..
ثم جعل يذكر فرائض الإسلام فريضة .. فريضة :
آلله أمرك أن نصلي خمس صلوات ؟
آلله أمرك أن نزكي أموالنا ؟
آلله أمرك أن نصوم ؟
ويعدد فرائض الإسلام .. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم نعم ..
حتى إذا فرغ قال :
فأنا ضمام بن ثعلبة أخو بني بكر بن سعد .. وإني أشهد أن لا إلـه إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وسأؤدي هذه الفرائض .. وأجتنب ما نهيتني عنه .. لا أزيد ولا أنقص ..
ثم انصرف خارجاً من المسجد .. راجعاً إلى بعيره ..
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين ولى : " إن يصدق ذو العقيصتين .. يدخل الجنة "
ثم أتى بعيره .. فأطلق عقاله .. وانطلق عليه حتى قدم على قومه ..
فاجتمعوا عليه ..
فكان أول ما تكلم به أن قال : بئست اللات والعزى ..
فقالوا : مه يا ضمام .. اتق البرص .. والجنون .. والجذام ..
قال : ويلكم .. إنهما ما يضران ولا ينفعان .. إن الله قد بعث رسولاً .. وأنزل عليه كتاباً استنقذكم به مما كنتم فيه .. وإني أشهد أن لا إلـه إلا الله .. وأن محمداً عبده ورسوله .. وإني قد جئتكم من عنده بما أمركم به ونهاكم عنه ..
فما زال بقومه .. يدعوهم .. ويستنقذهم من النار ..
حتى ما غابت الشمس ذلك اليوم .. وفي قومه أحد كافر ..
* * * * * * * * *
فهل نجد عند التائبين اليوم .. مثل هذه الحماس .. في نشر الدين .. ومناصرة عن المؤمنين ..
كم من تائب كان في جاهليته رأساً في المنكرات .. والدعوة إلى الشهوات ..
لكنه بعد توبته .. وصلاحه واستقامته .. أصبح ذيلاً بعد أن كان رأساً .. راجلاً بعد أن كان فارساً ..
عجباً !! جبار في الجاهلية خوار في الإسلام ؟!!
لا ينفع الإسلام ولا المسلمين .. لا في دعوة .. ولا إصلاح ..ولا تعليم جاهل .. أو نصح غافل ..
* * * * * * * * *
ومن عظم قدر ربه في قلبه .. حاسب نفسه أشد المحاسبة ..
وعاتبها أعظم المعاتبة ..
قال زيد بن أرقم :
كان لأبي بكر الصديق مملوك .. يعمل .. ويشتري طعاماً كل يوم ..
فأتاه ليلة بطعام .. فتناول أبو بكر منه لقمة ..
فقال له المملوك : مالك كنت تسألني كل ليلة عن الطعام .. ولم تسألني الليلة ..
قال : حملني على ذلك الجوع .. فمن أين جئت بهذا ..؟
قال : مررت بقوم في الجاهلية .. فتكهنت لهم .. ولا أحسن كهانة ..
فوعدوني بأجرة .. فلما أن كان اليوم مررت بهم .. فإذا عرس لهم .. فأعطوني هذا الطعام ..
فقال أبو بكر : أف لك .. كدت تهلكني ..
فأدخل يده في حلقه .. فجعل يتقيأ .. وجعلت لا تخرج ..
فقيل له : إن هذه لا تخرج إلا بالماء ..
فدعا بطست ماء فجعل يشرب .. ويتقيأ ..
حتى رمى بها ..
فقيل له : يرحمك الله !! كل هذا من أجل هذه اللقمة ؟!!
فقال : لو لم تخرج إلا مع نفسي لأخرجتها ..
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
( كل جسد نبت من سحت فالنار أولى به )
فخشيت أن ينبت شيء من جسدي من هذه اللقمة ..
* * * * * * * * *
أما شهيد المحراب .. العابد الأواب .. عمر بن الخطاب .. فله في محاسبة النفس شأن عجيب ..
ذكر صاحب الحلية :
أن عمر بعث إليه أميره في الشام زيتاً في قرب .. ليبيعه ويجعل المال في بيت مال المسلمين ..
فجعل عمر يفرغه للناس في آنيتهم ..
وكان كلما فرغت قربة من قرب الزيت .. قلبها ثم عصرها وألقاها بجانبه ..
وكان بجواره ابن صغير له .. فكان الصغير كلما ألقى أبوه قربة من القرب أخذها ثم قلبها فوق رأسه حتى يقطر منها قطرة أو قطرتان ..
ففعل ذلك بأربع قرب أو خمس فالتفت إليه عمر فجأة ..
فإذا شعر الصغير حسنٌ .. ووجهه حسن .. فقال : ادهنت ؟ قال : نعم .. قال : من أين ؟ قال : مما يبقى في هذه القرب ..
فقال عمر : إني أرى رأسك قد شبع من زيت المسلمين من غير عوض .. لا والله لا يحاسبني الله على ذلك ..
ثم جره بيده إلى الحلاق وحلق رأسه ..
خوفاً من قطرة وقطرتين ..
* * * * * * * * *
هذا حال المتقين .. الأوابين الخاشعين ..
أما المتهالكون في الشهوات ..
فهم في شقوة في حياتهم .. وحسرة عند مماتهم ..
{ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ } ..
حدثني أحد الأطباء .. قال :
دخلت إلى غرفة العناية المركزة في المستشفى ، ولفت انتباهي شاب في الخامسة والعشرين من عمره مصاب بمرض ( الإيدز ) .. حالته خطرة جداً ..
كلمته برفق فأجاب بكلمات غير مفهومة .. اتصلت بأهله .. فحضرت أمه ..
سألتها عن حال ابنها ..؟
فقالت : كان حاله على ما يرام ، حتى تعرف على تلك الفتاة ..
قلت : هل كان يصلي ؟
قالت : لا .. لكنه كان ينوي أن يتوب ويحج في آخر عمره ( !! ) ..
اقتربتُ من الفتى المسكين .. فإذا هو يعالج سكرات الموت ..
اقتربت من أذنه وقلت : لا إله إلا الله .. قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يفيق وينظر إليّ .. المسكين يحاول بكلّ جوارحه .. الدموع تسيل من عينيه .. وجهـه يتغير إلى السـواد ..
وأنا أردد .. قل : لا إله إلا الله ..
بـدأ يتكلـم بصوت متقطع : آه .. آه .. ألم شديد .. آه .. أريد مسكناً للألم .. آه .. آه ..
بدأت أدافع عبراتي وأقول : قل : لا إله إلا الله ..
بدأ يحرك شفتيه بصعوبة .. فرحت .. سينطقها الآن .. لكنه قال :
لا أستطيع .. لا أستطيع .. أريد صديقتي .. لا أستطيع ..
الأم تنظر وتبكي .. النبض يتناقص .. يتلاشى .. لم أتمالك نفسي .. أخذت أبكي بحرقة ..
أمسكت بيده .. عاودت المحاولة : أرجوك قل لا إله إلا الله ..
وهو يردد : .. لا أستطيع .. لا أستطيع .. ثم بدأ يشهق .. ويشهق ..
توقّف النبض .. انقلب وجه الفتى أسوداً .. ثم مات .. انهارت الأم .. وارتمت على صدره .. تصرخ .. وتصرخ ..
وأنى ينفعه صراخها .. أو حزنها ونحيبها ..
نعم ..
قد مضى الفتى إلى ربه .. لم تنفعه شهواته .. ولا ملذاته .. طالما اغتر بشبابه .. وجمال سيارته وثيابه .. ثم هو اليوم تجالسه في قبره أعماله .. وتحيط به أفعاله .. ما أغنى عنهم ما كانوا يكسبون ..
* * * * * * * * *
قارن حال هذا الشاب .. بذلك الشاب .. الذي بلغ من عمره ستة عشر عاماً .. كان في المسجد يتلو القرآن .. وينتظر إقامة صلاة الفجر ..
فلما أقيمت الصلاة .. رد المصحف إلى مكانه .. ثم نهض ليقف في الصف ..
فإذا به يقع على الأرض فجأة مغمى عليه ..
حمله بعض المصلين إلى المستشفى ..
فحدثني الدكتور الجبير الذي عاين حالته .. قال :
أُتي إلينا بهذا الشاب محمولاً كالجنازة .. فلما كشفت عليه فإذا هو مصاب بجلطة في القلب .. لو أصيب بها جمل لأردته ميتاً ..
نظرت إلى الشاب فإذا هو يصارع الموت .. ويودع أنفاس الحياة ..
سارعنا إلى نجدته .. وتنشيط قلبه ..
أوقفت عنده طبيب الإسعاف يراقب حالته .. وذهبت لإحضار بعض الأجهزة لمعالجته ..
فلما أقبلت إليه مسرعاً .. فإذا الشاب متعلق بيد طبيب الإسعاف ..
والطبيب قد الصق أذنه بفم الشاب .. والشاب يهمس في أذنه بكلمات.. فوقفت أنظر إليهما .. لحظات..
وفجأة أطلق الشاب يد الطبيب .. وحاول جاهداً أن يلتفت لجانبه الأيمن ..
ثم قال بلسان ثقيل : أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .. وأخذ يكررها .. ونبضه يتلاشى .. وضربات القلب تختفي.. ونحن نحاول إنقاذه.. ولكن قضاء الله كان أقوى.. ومات الشاب..
عندها انفجر طبيب الإسعاف باكياً.. حتى لم يستطع الوقوف على قدميه..
فعجبنا وقلنا له : يا فلان .. ما لك تبكي.. ليست هذه أول مرة ترى فيها ميتاً.. لكن الطبيب استمر في بكائه ونحيبه..
فلما .. خف عنه البكاء سألناه : ماذا كان يقول لك الفتى ؟
فقال : لما رآك يا دكتور .. تذهب وتجيء .. وتأمر وتنهى.. علم أنك الطبيب المختص به .. فقال لي :
يا دكتور .. قل لصاحبك طبيب القلب.. لا يتعب نفسه.. لا يتعب.. أنا ميت لا محالة .. والله إني أرى مقعدي من الجنة الآن ..
الله أكبر ..
{ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ * نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ * نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ } .. أسأل الله أن يختم لنا جميعاً بالصالحات ..
* * * * * * * * *
هذا هو الفرق بين المطيع والعاصي ..
والفرق الحقيقي يتبين .. { يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ * أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ } ..
* * * * * * * * *
أما الذين صبّروا أنفسهم عن الشهوات ..
ومنعوها من المحرمات .. فقد وَعَدَهم ربهم بجَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ..
* * * * * * * * *
تلك الجنة التي جعلها الله لعباده المؤمنين نزلاً ..
وأودعها ما لا عين رأت .. ولا أذن سمعت .. ولا خطر على قلب بشر ..
فواعجباً لها كيف نام طالبها ؟
وكيف قرت دونها أعين المشتاقين ؟
فيها الذي والله لا عين رأت*كلا ولا سمعت به الأذنان
كلا ولا قلب به خطر المثا* ل له تعالى الله ذو السلطان
وبناؤها اللبنات من ذهب وأخــرى فضة نوعان مختلفان*
وقصورها من لؤلؤ وزبرجد أو فضة أو خالص العقيان*
حصباؤها در وياقوت كذاك لآليء نثرت كنثر جمان
وترابها من زعفران أو من المسك الذي ما استل من غزلان
سكانها أهل القيام مع الصيا*م وطيب الكلمات والاحسان
وخيامها منصوبة برياضها*وشواطيء الأنهار ذي الجريان
أنهارها في غير أخدود جرت*سبحان ممسكها عن الفيضان
من تحتهم تجري كما شاؤوا مفجرة وما للنهر من نقصان
عسل مصفى ثم خمـــــر ثم أنهار من الالبان
* * * * * * * * *
وطعامهم ما تشتهيه نفوسهم*ولحوم طير ناعم وسمان
لحم وخمر والنسا وفواكه*والطيب مع روح ومع ريحان
وصحافهم ذهب يطوف عليهم*بأكف خدام من الولدان
لهم حياة ما بها موت وعافية بلا سقم ولا أحزان
* * * * * * * * *
وروى مسلم .. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة .. فيصبغ في النار صبغة ..
ثم يقال : يا بن آدم .. هل رأيت خيراً قط ..؟؟ هل مر بك نعيم قط ..؟؟
فيقول : لا والله يا رب ..
نعم .. هذا الرجل الذي ذاق من الدنيا أعظم نعمتها .. ومن الحياة غاية لذتها ..
أنساه كل نعيم الدنيا .. غمسة واحدة غمسها في النار ..
فكيف به إذا تردى في دركاتها .. وصارع حياتها .. وتجرع من زقومها .. وغرق في حميمها ..
بل كيف به إذا استغاث فيها .. فقيل له : { اخسئوا فيها ولا تكلمون } ..
بالله عليك .. هل يذكر في تلك الحال .. فاحشة ارتكبها ..؟ أو أغنية سمعها ..؟ أو خمر شربها ..؟ أو أموال جمعها ..؟
كلا .. بل يقال لهم : { اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ..
قال صلى الله عليه وسلم :
ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا .. من أهل الجنة فيصبغ صبغة في الجنة ..
فيقال له : يا بن آدم .. هل رأيت بؤساً قط ..؟؟ هل مر بك شدة قط ..؟؟
فيقول : لا والله يا رب .. ما مرَّ بي بؤس قط .. ولا رأيت شدة قط ..
نعم .. أنساه كل بؤس الدنيا .. غمسة واحدة غمسها في الجنة ..
فكيف به .. إذا شرب من أنهارها .. وتقلب في أحضان حورها ..
وسكن في قصورها .. وجالس أنبياءها ..
بل كيف به إذا نظر إليه ربه وهو فيها .. ثم قال لهم :
يا أهل الجنة .. هل رضيتم .. ثم ينظرون إلى وجه ربهم جل جلاله ..
هل يذكر شدة طاعة أداها .. أو حسرة شهوة تركها ..
كلا .. بل هو في نعيم دائم .. لا يفنى شبابه .. ولا تبلى ثيابه ..
قال الله : { لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد } ..
* * * * * * * * *
نعم .. ولدينا مزيد ..
روى الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر إلى جنانه وأزواجه ونعيمه وخدمه وسرره مسيرة ألف سنة ..
بالله ..
.. ما عذر امرئ هو مؤمن*حقا بهذا ليس باليقظان
تالله لو شاقتك جنات الــنعيم طلبتها بنفائس الأثمان*
جليت عليك عرائس والله لو*تجلى على صخر من الصوان
رقت حواشيه وعاد لوقته*ينهال مثل نقى من الكثبان
* * * * * * * * *
أسأل الله تعالى أن يرزقنا التوبة والإنابة في الأمور كلها ..
* * * * * * * * *
وقبل الختام .. هنا أربع مسائل مهمة تتعلق بالتوبة ..
المسألة الأولى :
أن المعاصي التي تجب التوبة منها تتفاوت ..
فأكبرها وأعظمها .. الشرك بالله ..
كمن يدعو غير الله في قضاء الحاجات .. ويستغيث بالأولياء في كشف الكربات .. أو يقف عند القبور سائلاً أهلها الحاجات ..
والله يقول : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : تعليق التمائم الشركية .. في الأجساد أو على الأولاد .. أو في السيارات والبيوت .. لدفع العين أو غيرها ..
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد : ( من علَّق تميمة فقد أشرك ) ..
* * * * * * * * *
ومن الشرك : الحلف بغير الله تعالى :
فلا يجوز الحلف بالكعبة .. ولا بالأمانة .. ولا بالشرف .. ولا ببركة فلان .. ولا بحياة فلان ..ولا بجاه النبي .. ولا بجاه الولي .. ولا بالآباء والأمهات .. كل ذلك حرام ..
وقد روى أحمد أنه صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف بغير الله فقد أشرك" ..
ومن جرى على لسانه شيء من هذا بغير قصد .. فكفارته أن يقول : لا إله إلا الله، كما روى البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل : لا إله إلا الله ) ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر الذنوب ..
استعمال السحر والكهانة والعرافة ..
أما السحر فإنه من أكبر الكبائر .. وقد يصل إلى حد كفر ..
ولا يجوز الذهاب إلى السحرة ..
قال صلى الله عليه وسلم كما في المسند : "من أتى كاهناً أو عرافاً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد" صلى الله عليه وسلم..
وقال فيما رواه مسلم : ( من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة ) ..
ومن ذلك اللجوء إلى أبراج الحظ في الجرائد والمجلات .. أو الاتصال هاتفياً على بعض من يدعي معرفة الغيب .. أو سؤالُهم .. كل ذلك حرام ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر الذنوب بل من الكفر .. ترك الصلاة ..
قال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : "بين الرجل وبين الكفر أو الشرك ترك الصلاة " ..
وإذا حكمنا على تارك الصلاة بالكفر .. فهذا يقتضي أنه تنطبق عليه أحكام المرتدين ..
فلا يصح أن يُزوَّج .. فإن عُقد له وهو لا يصلي فالنكاح باطل .. وإذا ترك الصلاة بعد أن عُقد له فإن نكاحه ينفسخ ولا تحل له الزوجة ..
وإذا ذبح لا تؤكل ذبيحته لأنها حرام .. ولا يدخل مكة ..
ولو مات أحد من أقاربه فلا حق له في الميراث ..
وإذا مات لا يغسل ولا يكفن ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين .. ويحشر يوم القيامة مع الكفار ..
ولا يدخل الجنة .. ولا يحل لأهله أن يدعوا له بالرحمة والمغفرة لأنه كافر ..
* * * * * * * * *
ومن أكبر المعاصي ..
الزنا .. وهو أعظم الذنوب بعد الشرك والقتل .. قال تعالى : { وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً } ..
وفي عصرنا فتحت كثير من أبواب الفاحشة .. ففشا التبرج والاختلاط ومجلات الخنا .. وأفلام الفحش ..
فنسألك اللهم رحمتك ولطفك .. وسترك وعصمة من عندك ..
طهر قلوبنا .. وتحصن فروجنا .. واجعل بيننا وبين الحرام برزخاً .. وحجراً محجوراً ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي :
أكل أموال الناس .. أو أكل الربا .. { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ، فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله } ..
وهذا كاف في بيان شناعة هذه الجريمة عند الله عز وجل .
وقال صلى الله عليه وسلم فيما رواه مسلم : لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه وقال : هم سواء " ..
وصح في مستدرك الحاكم أنه صلى الله عليه وسلم قال : " الربا ثلاثة وسبعون باباً أيسرها مثل أن ينكح الرجل أمه ، وإن أربى الربا عرض الرجل المسلم "..
وصح في مسند الإمام أحمد : ( درهم ربا يأكله الرجل وهو يعلم أشد من ست وثلاثين زنية " ..
فاتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي : شرب المسكرات .. أو تعاطي المخدرات ..
قال صلى الله عليه وسلم كما عند مسلم : ( إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : يا رسول الله وما طينة الخبال ؟ قال : " عرق أهل النار أو عصارة أهل النار "..
وصح عند الطبراني .. أنه صلى الله عليه وسلم قال : " من مات مدمن خمر لقي الله وهو كعابد وثن " ..
وقد تنوعت المسكرات .. وتعددت أسماؤها .. فأطلقوا عليها البيرة والعرق والشمبانيا .. وغيرَ ذلك ..
* * * * * * * * *
ومن المعاصي : سماع الغناء :
وقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند البخاري معلقاً :" ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر والحرير والخمر والمعازف … "..
وصح عند الترمذي أنه صلى الله عليه وسلم قال : " ليكونن في هذه الأمة خسف وقذف ومسخ .. وذلك إذا شربوا الخمور واتخذوا القينات وضربوا بالمعازف " ..
ومما زاد البلاء في عصرنا دخولُ الموسيقى .. في أشياء كثيرة كالساعات .. والأجراس .. وألعاب الأطفال .. والكمبيوتر .. وأجهزة الهاتف .. والله المستعان .
وغير ذلك من المعاصي .. ويجب نصيحة أهلها .. { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ } ..
* * * * * * * * *
المسألة الثانية :
أن بعض الناس إذا أراد أن يتوب من معصية سماع الحرام مثلاً .. قال له الشيطان .. لا يصح أن تتوب منها وأنت مقيم على معصية التدخين .. أو التساهل بالصلاة ..
فإما أم تتوب منها كلها .. أو لا تتعب نفسك ..
وهذا باطل .. فإن لكل ذنب توبة .. فيمكن أن تقبل التوبة من الزنا .. مع وجود معاص أخرى .. ولكن عليه أن يجتهد في التوبة من الذنوب كلها ..
واعلم أن الوقوع في الذنب مرة أخرى بعد التوبة منه .. لا يعني أن التوبة بطلت وأن العبد ييأس ويعود إلى المعاصي .. لا .. بل يسارع إلى توبة أخرى ..
وصح في السنن .. أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( ما من رجل يذنب ذنباً ثم يقوم فيتطهر ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله إلا غفر الله له ) ثم قرأ هذه الآية : ( والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون ) ..
* * * * * * * * *
المسألة الثالثة :
شروط التوبة خمسة ..
أولها : الإقلاع عن الذنب فوراً ..
وثانيها : الندم على ما فات ..
وثالثها : العزم على عدم العودة ..
ورابعها : إرجاع حقوق من ظلمهم .. أو طلب البراءة منهم ..
أما الخامس فهو :
أن تكون التوبة في وقت المهلة .. فلا تقبل عند الموت .. ولا تأمن متى ينزل بك ..
ولا تقبل عند طلوع الشمس من مغربها ..
* * * * * * * * *
المسألة الأخيرة ..
من أهم عوامل الثبات على التوبة .. مفارقة مكان المنكر ..
بل ومفارقة الأصحاب الذين يذكرونك به .. أو يدعونك إليه ..
وفي الصحيحين :
قصة ذلك الرجل .. الذي تلطخ بالدماء .. وقتل الأبرياء .. حتى قتل تسعه وتسعين نفساً .. ثم بدا له أن يتوب .. فشك .. هل يقبل الله توبته .. وهو الذي يتم الأطفال .. ورمل النساء .. ومزق البيوت ..
فسأل عن أعلم أهل الأرض .. فدل على رجل عابد راهب .. فأتاه ..
فقال : إنه قتل تسعة وتسعين نفساً فهل له من توبة ؟
فرفع الراهب بصره إليه .. فإذا رجل قد ظلم العباد .. وأكثر الفساد .. حتى قسى قلبه .. وكبر ذنبه .. فقال الراهب : لا .. ليست له توبة ..
فغضب هذا الرجل .. وقتله .. فكمل به مائة ..
ومضى من بين يدي الراهب ..
ثم بدا له أن يتوب .. فسأل عن أعلم أهل الأرض ..
فدُلَّ على رجل عالم .. فأتاه ..
فقال : إنه قتل مائة نفس .. فهل له من توبة ؟
فقال العالم : نعم .. نعم .. ومن يحول بينك وبين التوبة ؟!!
ولكن .. انطلق إلى أرض كذا وكذا .. فإن بها أناساً يعبدون الله .. فاعبد الله معهم ..
ولا ترجع إلى أرضك .. فإنها أرض سوء ..
فانطلق الرجل التائب .. حتى إذا انتصف في الطريق .. نزلس به الموت .. فخر صريعاً ميتاً ..
فاختصمت فيه ملائكة الرحمة .. وملائكة العذاب ..
فقالت ملائكة الرحمة : جاء تائباً .. مقبلاً بقلبه إلى الله ..
وقالت ملائكة العذاب : إنه لم يعمل خيراً قط ..
فأتاهم ملك في صورة آدمي .. فجعلوه بينهم حكماً ..
فقال : قيسوا ما بين الأرضين .. فإلى أيتهما كان أدنى فهو له ..
فأوحى الله إلى هذه أن تباعدي .. وإلى هذه أن تقربي ..
فقاسوه .. فوجدوه أدنى إلى الأرض التي أراد ..
فقبضته ملائكة الرحمة ..
فانظر كيف قال له العالم : فارق بلدك .. واخرج من أرضك فإنها أرض سوء ..
وكذلك من كان يريد أن يتوب من الزنا .. لا بد أن يفارق أماكن الاختلاط .. ومن أراد أن يتوب من ترك الصلاة .. أو من سماع الغناء .. أو من أكل الربا .. أو يتوب من أنواع الشرك .. كل هؤلاء .. لا بد أن يفارقوا كل ما يعينهم على تلك المعاصي ..
أسأل الله بأسمائه الحسنى .. أن يقسم لنا من خشيته ما يحول به بيننا وبين معصيته .. ومن طاعته ما يبلغنا به جنته .. وأن يغفر لنا ذنوبنا .. وإسرافنا في أمرنا .. وأن يغنينا بحلاله عن حرامه .. وبفضله عمن سواه .. وأن يتقبل توبتنا .. ويغسل حوبتنا .. إنه سميع مجيب .. وصلى وسلم على النبي الأمي محمد .. وآله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين