تخطى إلى المحتوى

: : القرآنيون والرد عليهم من الكتاب والسنة : : 2024.

بسم الله الرحمن الرحيم
و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

: : القرآنيون والرد عليهم من الكتاب والسنة : :
للشيخ ابن باز رحمه الله تعالى

القرآنيون وموقفهم من السنة والرد عليهم
ونبغت نابغة بعد ذلك تسمى هذه النابغة الأخيرة القرآنية ويزعمون أنهم أهل القرآن، وأنهم يحتجون بالقرآن فقط، وأن السنة لا يحتج بها؛ لأنها إنما كتبت بعد النبي صلى الله عليه وسلم بمدة طويلة، ولأن الإنسان قد ينسى وقد يغلط، ولأن الكتب قد يقع فيها غلط إلى غير هذا مما قالوا من الترهات والخرافات والآراء الفاسدة، وزعموا أنهم بذلك يحتاطون لدينهم، فلا يأخذون إلا بالقرآن فقط، وقد ضلوا عن سواء السبيل، وكذبوا وكفروا بذلك كفراً أكبر بواحاً.
فإن الله عز وجل أمر بطاعة رسوله عليه الصلاة والسلام واتباع ما جاء به، ولو كان رسوله لا يتبع ولا يطاع لم يكن للأوامر قيمة، وقد أمر أن تبلغ سنته، وكان إذا خطب أمر أن تبلغ السنة، فدل ذلك على أن سنته صلى الله عليه وسلم واجبة الاتباع، وعلى أن طاعته واجبة على جميع الأمة، كما تجب طاعة الله تجب طاعة رسوله عليه الصلاة والسلام.

الرد على القرآنيين من القرآن الكريم
ومن تدبر القرآن العظيم وجد ذلك واضحاً قال تعالى في كتابه الكريم في سورة آل عمران: {وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:131-132] فقُرِنت طاعة الرسول بطاعته {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [آل عمران:132] فعلق الرحمة بطاعة الله ورسوله.
وقال في سورة النساء: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً} [النساء:59] فأمر بطاعته وطاعة رسوله، وكرر الفعل في ذلك: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} [النساء:59] ثم قال: {وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء:59] ولم يكرر الفعل؛ لأن طاعة أولي الأمر تابعة لطاعة الله ورسوله، وإنما تجب بالمعروف، حيث كان ما أمروا به من طاعة الله ورسوله، ومما لا يخالف أمر الله ورسوله.
ثم بين أن العمدة في طاعة الله ورسوله، فقال: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] ولم يقل: لأولي الأمر منكم؛ بل قال: {إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} [النساء:59] فدل ذلك على أن الرد في منازل النزاع والخلاف إنما يكون لله ولرسوله، قال العلماء: معنى (إلى الله) أي: إلى كتاب الله، ومعنى (والرسول) أي: إلى الرسول في حياته وإلى سنته بعد وفاته عليه الصلاة والسلام.
فعلم بذلك أن سنته مستقلة، وأنها أصل متبع، قال جل وعلا: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80] وقال سبحانه: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] وقبلها قوله جل وعلا: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فجعل الفلاح لمن اتبعه عليه الصلاة والسلام: {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف:157] فذكر أن الفلاح لهؤلاء المتبعين لنبي الله عليه الصلاة والسلام دون غيرهم، فدل ذلك على أن من أنكر سنته ولم يتبعه فإنه ليس بمفلح وليس من المفلحين.
ثم قال بعدها: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف:158] فعلق الهداية باتباعه عليه الصلاة والسلام؛ فدل ذلك على وجوب طاعته واتباع ما جاء به من الكتاب والسنة عليه الصلاة والسلام.
وقال عز وجل في آيات أخرى: {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} [النور:54] عليه الصلاة والسلام، ثم قال جل وعلا في هذه السورة سورة النور: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [النور:56] ، وقال في آخرها: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] فذكر جل وعلا أن مخالفي أمر النبي صلى الله عليه وسلم على خطر عظيم من أن تصيبهم فتنة بالزيغ والشرك والضلال، أو عذاب أليم.
نعوذ بالله! وقال عز وجل في سورة الحشر: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر:7] .
هذه الآيات وما جاء في معناها كلها دالة على وجوب اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، وأن الهداية والرحمة والسعادة والعاقبة الحميدة كلها في اتباعه وطاعته عليه الصلاة والسلام، فمن أنكر ذلك فقد أنكر كتاب الله، ومن قال: إنه يتبع كتاب الله دون السنة فقد كذب وغلط وكفر؛ فإن القرآن أمر باتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن لم يتبعه فإنه لم يعمل بكتاب الله، ولم يؤمن به، ولم ينقد له؛ إذ أن كتاب الله أمر بطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأمر باتباعه، وحذر من مخالفته عليه الصلاة والسلام، فمن زعم أنه يأخذ بالقرآن ويتبعه دون السنة فقد كذب؛ لأن السنة جزء من القرآن، طاعة الرسول جزء من القرآن، ودل على الأخذ بها القرآن، وأمر بالأخذ بها القرآن، فلا يمكن أن ينفك هذا عن هذا، ولا يمكن أن يكون الإنسان متبعاً للقرآن بدون اتباع السنة، ولا يمكن أن يكون متبعاً للسنة بدون اتباع القرآن، فهما متلازمان لا ينفك أحدهما عن الآخر.

الرد على القرآنيين من السنة النبوية
ومما جاء في السنة عن رسول الله عليه الصلاة والسلام: ما رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمة الله عليهما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من أطاعني فقد أطاع الله، ومن عصاني فقد عصى الله، ومن أطاع الأمير فقد أطاعني، ومن عصى الأمير فقد عصاني) وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى.
قيل: يا رسول الله! ومن يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى) وهذا واضح في أن من عصاه فقد عصى الله، ومن عصاه فقد أبى دخول الجنة، والعياذ بالله! وفي المسند وسنن أبي داود وصحيح الحاكم بسند جيد، عن المقداد بن معد يكرب الكندي رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا وإني أوتيت الكتاب ومثله معه -الكتاب أي: القرآن، ومثله معه أي: السنة الوحي الثاني- ألا لا يوجد رجل شبعان يتكئ على أريكته يحدث بحديث من حديثي فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه من حلال حللناه، وما وجدنا فيه من حرام حرمناه) ، وفي لفظ: (يوشك رجل شبعان متكئ على أريكته يحدث بأمرٍ من أمري مما أمرتكم به أو نهيتكم عنه، فيقول: بيننا وبينكم كتاب الله، ما وجدنا فيه اتبعناه، ألا وإن ما حرم رسول الله مثل ما حرم الله) عليه الصلاة والسلام.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة، فالواجب على جميع الأمة أن تعظم سنة رسول الله عليه الصلاة والسلام، وأن تعرف قدرها، وأن تأخذ بها وتسير عليها؛ لأنها هي الشارحة والمبشرة لكتاب الله عز وجل، والدالة على ما قد يخفى من كتاب الله، والمقيدة لما قد يطلق من كتاب الله، والخاصة لما قد يعم من كتاب الله، ومن تدبر كتاب الله وتدبر السنة عرف ذلك؛ لأن الله جل وعلا يقول: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل:44] فهو يبين للناس ما نزل إليهم عليه الصلاة والسلام، فإذا كانت سنته غير معتبرة ولا يحتج بها، فكيف يبين للناس دينهم وكتاب ربهم؟ هذا من أبطل الباطل، فعلم بذلك أنه مبين لما قاله الله، وأنه الشارح لما قد يخفى من كتاب الله.
وقال تعالى في آية أخرى في سورة النحل: {وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [النحل:64] فبين جل وعلا أنه أنزل الكتاب عليه ليبين للناس ما اختلفوا فيه، فإذا كانت سنته لا تبين للناس ولا تعتمد بطل هذا المعنى، فهو سبحانه وتعالى بين أنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وأنه عليه الصلاة والسلام يفصل النزاع بين الناس فيما اختلفوا فيه، فدل ذلك على أن سنته لازمة وواجبة الاتباع.
وليس هذا خاصاً بأهل زمانه وصحابته رضي الله عنهم؛ بل هو لهم ولمن يجيء بعدهم إلى يوم القيامة، فإن الشريعة شريعة لزمانه ولمن بعد زمانه عليه الصلاة والسلام إلى يوم القيامة، فهو رسول الله إلى الناس عامة {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107] {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً} [سبأ:28] هو رسول الله إلى جميع العالم، إلى الجن والإنس، العرب والعجم الأغنياء والفقراء، الحكام والمحكومين إلى يوم القيامة، ليس بعده نبي، فهو خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام.
وجب أن تكون سنته موضحة لكتاب الله وشارحة له، ودالة على ما قد يخفى من كتاب الله وسنته أيضاً، فقد جاءت بأحكام لم يأت بها كتاب الله، جاءت بأحكام مستقلة شرعها الله عز وجل ولم تذكر في كتاب الله سبحانه وتعالى.
فمن ذلك: تفصيل الصلوات تفصيل الركعات تفصيل أحكام الزكاة تفصيل أحكام الرضاع، فليس في كتاب الله إلا الأمهات والأخوات من الرضاع، وجاءت السنة ببقية محرمات الرضاع: (يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب) وجاءت السنة بحكم مستقل في تحريم الجمع بين المرأة وعمتها، والمرأة وخالتها، وجاءت بأحكام مستقلة لم تذكر في كتاب الله في أشياء كثيرة؛ في الجنايات، والديات، والنفقات، وأحكام الزكوات، وأحكام الحج.
إلى غير ذلك.

دفاع السلف الصالح عن السنة واعتناؤهم بها
ولما قال بعض الناس في مجلس عمران بن حصين رضي الله عنه: دعنا من الحديث وحدثنا عن كتاب الله، غضب عمران رضي الله عنه واشتد نكيره، وقال: [لولا السنة كيف نعرف أن الظهر أربع، والعصر أربع، والعشاء أربع، والمغرب ثلاث؟] فالسنة بينت لنا تفاصيل الصلاة وتفاصيل الأحكام، ولم يزل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم يرجعون إلى السنة ويتحاكمون إليها ويحتجون بها، ولما ارتد من ارتد من العرب قام الصديق رضي الله عنه وأرضاه ودعا إلى جهادهم، فتوقف عمر في ذلك، وقال: كيف نقاتلهم وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها) ؟ قال الصديق رضي الله عنه: [أليست الزكاة من حقها؟ -أي: من حق لا إله إلا الله- والله لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعه، قال عمر رضي الله عنه: فما هو إلا أن عرفت أن الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال فعرفت أنه الحق] .
ثم وافق المسلمون ووافق الصحابة واجتمع رأيهم على قتال المرتدين، فقاتلوهم بأمر الله ورسوله.
ولما جاءت جدة تسأل الصديق قال: [لا أجد لك شيئاً في كتاب الله ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن سوف أسأل الناس عما جاء في السنة، فسأل الناس، فأخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى لها بالسدس، فقضى لها بالسدس رضي الله عنه وأرضاه] .
وهكذا عمر لما أشكل عليه إملاص المرأة إذا خرج الجنين ميتاً، ما حكمه؟ توقف حتى سأل الناس، فشهد عنده محمد بن مسلمة والمغيرة بن شعبة بأن النبي صلى الله عليه وسلم قضى فيه بغرة عبد أو أمة، فقضى بذلك.
ولما أشكل على عثمان عدة حكم المعتدة من الوفاة: هل تكون في بيت زوجها أو تنتقل إلى أهلها؟ شهدت عنده الفارعة بنت مالك الخدرية أخت أبي سعيد، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تعتد في بيتها، فقضى بذلك عثمان رضي الله عنه وأرضاه.
ولما سمع علي رضي الله عنه عثمان في بعض حجاته ينهى عن المتعة ويأمر بإفراد الحج، أحرم علي رضي الله عنه بالحج والعمرة جميعاً، وقال: [لا أدع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لقول أحد من الناس] .
ولما سمع ابن عباس بعض الناس ينكر عليه الفتوى بالمتعة، ويحتج عليه بقول أبي بكر وعمر أنهما يريان إفراد الحج؛ قال: [يوشك أن تنزل عليكم حجارة من السماء أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقولون: قال أبو بكر وعمر!] .
ولما ذكر للإمام أحمد جماعة يتركون الحديث ويذهبون إلى رأي سفيان الثوري، ويسألونه عما لديه وعما يقول، فتعجب وقال: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته -أي: عن الرسول صلى الله عليه وسلم- يذهبون إلى رأي سفيان، والله تعالى يقول: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور:63] ! ولما ذكر عند أيوب رجل يدعو إلى القرآن ويثبط عن السنة قال: دعوه، فإنه ضال.
المقصود أن السلف الصالح قد عرفوا هذا الأمر، ونبغت عندهم نوابغ بسبب الخوارج في هذا الباب، فاشتد نكيرهم عليهم، وضللوهم وحذروا منهم، مع أنه إنكار غير الإنكار الموجود الأخير، إنكار له شبهة بالنسبة إلى الخوارج وما اعتقدوه في الصحابة في بعضهم دون بعض.
أما هؤلاء المتأخرون فجاءوا بداهية دهياء، ومنكر عظيم، وبلاء كبير، ومصيبة عظمى؛ حيث قالوا: إن السنة برمتها لا يحتج بها كلياً، لا من هنا ولا من هناك، وطعنوا فيها وفي رواتها وفي كتبها، وسار على هذا النهج وأعلنه كثيراً الرئيس القذافي المعروف، فضل وأضل، وهكذا جماعة في مصر وغير مصر، قالوا هذه المقالة؛ فضلوا وأضلوا، وسموا أنفسهم بالقرآنيين.
وقد جهلوا ما قام به علماء السنة، وقد احتاطوا كثيراً للسنة، تلقوها -أولاً- عن الصحابة حفظاً، ودرسوها وحفظوها حفظاً كاملاً دقيقاً حرفياً، ونقلوها إلى من بعدهم، ثم ألف العلماء في القرن الثاني، في رأس القرن الأول وفي أثناء القرن الثاني، ثم كثر ذلك في القرن الثالث؛ فقد ألفوا الكتب، وجمعوا فيها الأحاديث، حرصاً على بقائها وحفظها وصيانتها، فانتقلت من الصدور إلى الكتب المحفوظة المتداولة المتناقلة التي لا ريب فيها ولا شك، ثم نقبوا عن الرجال، وعرفوا ثقاتهم من كذابيهم من ضعفائهم، من شيئي الحفظ منهم، حتى حرروا ذلك أتم تحرير، وبينوا من يصلح للرواية ومن لا يصلح لها، ومن يحتج به ومن لا يحتج به، واعتنوا بما قد وقع من بعض الناس من أوهام وأغلاط سجلوها عليه، وعرفوا الكذابين والوضاعين، وألفوا فيهم وأوضحوا أسماءهم؛ فأيد الله بهم السنة، وأقام بهم الحجة، وقطع بهم المعذرة، وزال تلبيس الملبسين، وانكشف ضلال الضالين، فبقيت السنة بحمد الله جلية واضحة لا شبهة عليها ولا غبار.
وكان الأئمة يعظمون ذلك كثيراً، وإذا رأوا من أحدهم أي تساهل بالسنة أو إعراض أنكروا عليه، فقد حدث ذات يوم عبد الله بن عمر بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تمنعوا إماء الله مساجد الله) فقال بعض أبنائه: والله لنمنعهن.
عن اجتهاد، ومقصوده أنهن تغيرن، وقد يتساهلن في الخروج، وليس قصده إنكار السنة، فأقبل عليه عبد الله وسبه سباً سيئاً، وقال: [أقول لك: قال رسول الله، وتقول: والله لنمنعهن!] .
ورأى عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه بعض أقاربه يخذف، فقال: (إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الخذف، وقال: إنه لا يصيد صيداً، ولا ينكأ عدواً، ثم رآه في وقت آخر يخذف، فقال: أقول لك: إن رسول الله نهى عن ذلك ثم تخذف، لا كلمتك أبداً) .
فالصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعظمون هذا الأمر جداً، ويحذرون الناس من التساهل بالسنة أو الإعراض عنها، أو الإنكار لها لرأي من الآراء أو اجتهاد من الاجتهادات.

تعظيم الأئمة الأربعة وأهل العلم للسنة النبوية
وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه في هذا المعنى: إذا جاء الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فعلى العين والرأس إلى آخر كلامه.
وقال مالك رحمه الله: ما منا إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر عليه الصلاة والسلام.
وقال أيضاً: لن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها وهو اتباع الكتاب والسنة، وهكذا قال غيره من الأئمة.
وقال الشافعي رحمه الله: إذا رأيتم حديثاً صحيحاً ثم رأيتموني خالفته فاعلموا أن عقلي قد ذهب.
وفي لفظ آخر قال: إذا جاء الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقولي يخالفه فاضربوا بقولي الحائط.
وقال أحمد بن حنبل رحمه الله: لا تقلدوني، ولا تقلدوا مالكاً ولا الشافعي وخذوا من حيث أخذنا.
وسبق قوله رحمه الله: عجبت لقوم عرفوا الإسناد وصحته يذهبون إلى رأي سفيان! فالأمر في هذا واضح، وكلام أهل العلم في هذا جلي ومتداول عند أهل العلم، وقد تكلم المتأخرون في هذا المقام كلاماً كثيراً؛ كـ أبي العباس ابن تيمية، وابن القيم، وابن كثير، وغيرهم، وأوضحوا أن من أنكر السنة فقد زاغ عن سواء السبيل، وأن من عظم آراء الرجال فقد ضل وأخطأ، وأن الواجب عرض آراء الرجال مهما عظموا رحمة الله عليهم، يجب عرض آرائهم على كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، فما شهد له منهما بالقبول قبل، وما لا فإنه يرد على قائله.
ومن آخر من كتب في هذا الحافظ السيوطي رحمه الله، حيث كتب رسالة سماها: مفتاح الجنة في الاحتجاج بالسنة، وذكر في أولها أن من أنكر السنة وزعم أنه لا يحتج بها فقد كفر إجماعاً، ونقل كثيراً من كلام السلف في ذلك.

الرد على من رد أحاديث الآحاد ولم يعمل بها
هذه منزلة السنة ومكانتها من الإسلام، وأنها الأصل الثاني من أصول الإسلام، وأنها حجة مستقلة قائمة بنفسها يجب الأخذ بها والرجوع إليها، وأنه متى صح السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وجب الأخذ به مطلقاً، ولا يجب ولا يشترط في ذلك أن يكون متواتراً أو مشهوراً أو مستفيضاً، أو بعدد كذا من الطرق، بل ولو بطريق واحدة، متى استقام الإسناد وجب الأخذ بالحديث مطلقاً، بسند واحد، أو بسندين، أو بثلاثة أو بأكثر؛ سواء سمي خبر تواتر أو خبر آحاد، لا فرق في ذلك، كلها حجة يجب الأخذ بها، مع اختلاف ما تقتضيه من العلم الضروري أو العلم النظري أو الظني، هذا أمر آخر لا يتعلق بالأخذ بها، بل هذا أمر يتعلق بالقلوب يختلف فيه الناس، لكن العمل بها واجب الاتباع، واجب الأخذ بها مطلقاً، متى صح الإسناد وجب الأخذ بذلك، وتحكيم ذلك، وترك ما خالف ذلك.
أما كونه متواتراً، أو كونه مشهوراً أو مستفيضاً، أو آحاداً غير مستفيض ولا مشهور، أو غريب، أو غير ذلك؛ هذه أشياء اصطلح عليها أهل السنة في أصول الحديث، وعرفوها في أصول الفقه أيضاً، وهذا يختلف بحسب اختلاف الناس في العلم، فإنه قد يكون هذا الحديث متواتراً عند زيد وعمرو وليس متواتراً عند خالد وبكر؛ لما بينهما من الفرق في العلم واتساع العلم، وقد يروي زيد حديثاً من عشر طرق، أو من ثمان أو من سبع أو من خمس أو ست، ويقطع بأنه متواتر؛ لما اتصل به رواته من العدالة والحفظ والإتقان والجلالة، وقد يروي الآخر حديثاً من عشرين سنداً، ولا يحصل له ما حصل لذاك من العلم اليقيني القطعي بأنه عن الرسول صلى الله عليه وسلم، أو بأنه متواتر.
هذه أمور تختلف بحسب ما يحصل للناس من العلم بأحوال الرواة، وعدالتهم، ومنزلتهم في الإسلام، وصدقهم، وحفظهم، وغير ذلك، وهذا شيء يتفاوت فيه الرجال حسب ما أعطاهم الله من العلم بأحوال الحديث ورجاله، وصفاتهم، وطرق الحديث، إلى غير ذلك.
لكن أهل العلم أجمعوا على أنه متى صح السند وسلم من العلة وجب الأخذ به، وبينوا أن الإسناد الصحيح هو ما ينقله العدل الضابط عن مثله عن مثله عن مثله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، من غير شذوذ ولا علة ولا انقطاع هذا متى جاء الحديث بهذا المعنى، متصلاً لا شذوذ فيه ولا علة؛ وجب الأخذ به والاحتجاج به على المسائل التي يتنازع فيها الناس؛ سواء حكمنا عليه بأنه غريب، أو عزيز، أو مشهور، أو متواتر، أو غير ذلك؛ إذ الاعتبار والحجة في استقامة السند وصلاحه وسلامته، تعددت أسانيده أو لم تتعدد.

هذا وأسأل الله عز وجل أن يوفقنا وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح، وأن يمنحنا جميعاً الفقه في دينه، وأن يرزقنا الاستقامة على ما يرضيه، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، إنه جل وعلا جواد كريم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه.
*- المكتبة الشاملة -*

وقال الرسول يا ربي ان قومي اتخدوا هدا القران مهجورا

اقتبس من كلامك هذا فقط يكفي :

وقال أبو حنيفة رضي الله عنه ورحمه في هذا المعنى: إذا جاء الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام فعلى العين والرأس إلى آخر كلامه.

بارك الله فيك

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.