تخطى إلى المحتوى

الجزائر دولة عظمى و لكن من ورق . 2024.

نعم.. الجزائر دولة عظمى و لكن من ورق
اسماعيل القاسمي الحسني

عن جريدة القدس العربي
الجيريا
إذا أردت أن تعاين مراحل التخلف، من عهده الأول حيث كان يزحف على بطنه، إلى تطوره حيث أصبح يمشي على أربع، ثم بلوغه تمام الكمال ليمشي على اثنين، فما عليك بكل بساطة إلا الوقوف على سياسة السلطة الجزائرية، أما إن كانت لك الجرأة بل الفضول الأحمق، و عزمت على أن تعيش حالة التخلف بذاتها، فعليك أن تحتك بها، لكن قبل خوض هذه المغامرة الغير محمودة العواقب، يجب أن تحذر من الحالة التي ستبدو عليها،و هي أقرب ما تكون وصفا إلى رجل مرمي في زاوية مظلمة بشارع ضيق على رصيف وسخ، جحظت عيناه بعد أن شد طرفيهما إلى أذنيه، و فغر فاه ليسيل منه اللعاب دون انقطاع، و تخرقت ثيابه حتى بدت عوراته من كل زاوية، و لك أن تتخيل بعد هذا الوصف ما شئت؛ أقول هذا الكلام ردا على دبلوماسي جزائري رفيع و ضابط طيار متقاعد و دكتور في الجامعة الجزائرية، كلهم أجمعوا عند قراءتهم لآخر مقال صدر في 28/06 بصحيفة ‘القدس العربي’ تحت عنوان’ الجزائر دولة عظمى عدوها الثاني المغرب الشقيق’. على أنني أجهل حقيقة عظمة سلطة الجزائر، بل و أتعامى عن حجمها الحقيقي على الصعيد الدولي و الإقليمي، فضلا عن غفلتي المقصودة عن الانجازات العملاقة و التي باتت محط اهتمام كبار المبدعين و الباحثين في العالم.
طبعا احتراما مني لعقل القارئ الكريم، و شفقة على قدراته، لا يمكنني ضرب أمثلة من التخلف الذي يمشي على قدمين بدءا برئاسة الجمهورية، التي لا يتورع رأسها على دهس كل الأعراف و ا لبروتوكولات الخاصة بمنصبه، فتجده مثلا يقف خلف سفير دولة اللوزوطو بعد استقباله، و هو يدلي بتصريح للصحافة الوطنية عند باب قصر الرئاسة، ليس تواضعا منه بقدر ما هو حبا للظهور على أي حال و إن كانت مهينة؛ و لا كيف طلب استقبال الفنانة ماجدة الرومي ليهدي لها باقة من زهور البلاستك و النايلون؛ مرورا بوزيره الأول الذي يبشرنا بعد تسلطه خمسة عشر عاما خسرت فيها الجزائر أكثر من تريليون و مأتي مليار دولار، بأنه سينجز خلال عامين مليوني سكن و يفتح خمسة ملايين منصب عمل، و هو الأمر الذي لم تدعه الولايات المتحدة و لا الاتحاد الأوربي، ذلك أنه يعد من علوم الميتافيزيقا و اللاهوت المغربل من الدرجة الأولى؛ و انتهاء عند وزرائه الذين قال أحدهم (وزير الصحة السابق) في رده على السفير الألماني :نحن لا نعتبر الأطباء الأخصايين أدمغة فليهاجروا حيث شاءوا. بالمناسبة هاجر بين عامي2017 و2017 أربعون ألف طبيب أخصائي منهم عشرة آلاف إلى فرنسا و البقية موزعة على التوالي كندا بريطانيا ألمانيا و قليل منهم إلى المشرق العربي. أو وزير الفلاحة الذي صرح مؤخرا بأنه يجب القضاء على أجود السهول الزراعية في الجزائر من سهل متيجة الى سهول مستغانم و غيليزان و سهل حمزة بمحافظة البويرة و سهول بجاية، و كلها كانت منذ الأزل الخزان الرئيسي للغذاء يغطي حاجة الجزائر و دول الاتحاد الأوربي، و السبب في نظر هذا العبقري الحاجة الماسة للبناء، لم تكفه ما يقارب الثلاثة ملايين كلم مربع، و تتجاوز عبقريته ذلكم الخط الفاصل بينها و بين الجنون ليقول: و نعوض هذه المجزرة بالاستصلاح في الهضاب العليا. و لا يفوتني هنا أن أذكر الأجهزة الأمنية من العسكرية إلى الاستخباراتية فقد ظهرت جميعها وهما كبيرا لا أثر له في مجال تخصصاتها، اللهم إلا في التعاون الفاحش مع المافيا المالية و السياسية لتدمير هذا البلد.
إنما احترم عقل القارئ و أضرب له مثلا بتجربة صديق جزائري مقيم في لندن منذ عقدين تقريبا، و هو رئيس تحرير قسم بجريدة دولية ذائعة الصيت، جاء في عطلة الصيف الماضي، اتصل بي هاتفيا مرتين لكن الثالثة لعنت عقبها مخترع جهاز الهاتف؛ يقول صديقي بتصرف لا يخل بأصل الموضوع: قبيل عودتي إلى لندن تذكرت أن لي مبلغا زهيدا في أحد البنوك الجزائرية، فعزمت على سحبه غدا، و اتجهت فعلا صباحا إلى البنك لأتذكر عند أول مشهد شيئا اسمه الطابور. وقف صديقي العزيز إلى أن حان دوره و وجد نفسه وجها لوجه مع ملك الشباك، سلمه الشيك، راجع الرجل بياناته، و هو من حين إلى آخر يسترق النظر إلى الطابور تلبية لشهوته بأنه ملك يقف على بابه هؤلاء المتسولين؛ البيانات صحيحة و المبلغ موجود أعطني بطاقة تعريفك، يدخل صديقي يده في جيبه و يستل بطاقة التعريف و بمجرد أن رآها الرجل أعادها مع الشيك قائلا: بطاقة تعريف وطنية يا أخينا، هنا لا نعترف ببطاقات تعريف أجنبية. لكنها بطاقة تعريفي الشخصية معترف بها دوليا بما فيها الجزائر، عليك فقط أن تتحقق من المعلومات المسجلة عليها يرد صديقي. أرجوك لا تعلمني شغلي هذه تعليمات، اترك المكان لغيرك. طيب و هل تعترفون بجواز سفر جزائري ؟ طبعا هاته إن كان معك. ادخل صديقي يده في جيبه ثم أخرج جواز سفر جزائري أخضر اللون، سلمه للرجل، بدأ في مراجعة بياناته و ما بلغ الصفحة الثالثة، حتى لاحظ صديقي تطورا مذهلا على خلقة الرجل، يسمونه أهل العلوم الميتامورفوز، تمدد الفكان و الأنف إلى الأمام شبرين، و اتسعت فتحتا المنخرين، و ارتفعت الأذنان بذات القدر لتتخذا شكلا مخروطيا حادا أعلاه، و قام من كرسيه واقفا على أربع ليرفع صوته في وجه صاحبي بقوة: أتضيع وقتي ألم أقل لك وثيقة صادرة عن الإدارة الجزائرية و هذا الجواز الذي أعطيتنيه صادر في لندن عن السفارة. و رمى بالشيك و جواز السفر على وجه صاحبي لينقلب إلى أهله في حالة من الذهول نادرا ما تعرض لها؛ يشير أحدهم على صديقي ألا يستسلم و يسترد ماله، عليه أن يبحث في الأرشيف على رخصته للسياقة الصادرة عن البلدية (الجزائرية) فهي كذلك وثيقة معتمده؛ الصباح الباكر كان صاحبي في أول الطابور ليصطبح به ملك الشباك، و دون كلام قدم شيكه و رخصة السياقة، قلبها بين يديه فعاودته حالة الميتامورفوز، إنها ميتة تنح عن الشباك. فاعل خير هناك أشفق لحال صاحبي و أعلمه بأن مدة صلاحية هذه الرخصة لا تتجاوز العشر سنوات و لكن الأمر بسيط فما عليه إلا العودة للبلدية ليقوم المكتب المختص بتمديد صلاحيتها، مجرد ختم فقط لا تأخذ العملية أكثر من دقيقتين؛ تحمل صديقي كل هذا الهراء بدم انجليزي معتق، و ذهب إلى البلدية فعلا ليجد المكتب المعني يتقدم لصاحبه بطلب التمديد، فيرد عليه بابتسامة طويلة طول الأفلام الهندية: و هل تعتقد أن الأمر بهذه البساطة يجب عليك تكوين ملف جديد معه طلب خطي بموضوع الطلب إضافة عن هذه النسخة الأصلية، و تقدمه لذلك الشباك للمصادقة عليه، و انتظر الرد بعد شهر. هناك عاد صديقي إلى حالته الطبيعية جزائريا حرا و رمى بالمنشفة و غادر المكان فورا إلى بيت أهله، و ما شرب كوب ماء و استعاد أنفاسه لم يتذكر من سوء حظي سواي، ليهبط علي بمكالمة زادت عن نصف ساعة يصف فيها معاناته هذه غافلا على أننا نعيشها يوميا، قلت له : و هل عرفت الوثائق المطلوبة في الملف ؟ قال: لا.
قلت له: إذا سأرد لك الصاع صاعين، أولها شهادة ميلادك، فقد يكون مذاك تغير تاريخ مولدك أو أحد والديك أو كليهما. مع أن ملفك القاعدي في البلدية يحتوي عليها و لكن نحن دولة عظمى تتحرى في أدق التفاصيل، و تذكر أن لك ثلاثة أنواع من شهادة الميلاد، الأولى تسمى 12 و الثانية 14 و الثالثة S، و لكل نوع من الملفات شهادته، و إياك أن تطلب الثالثة فانه مرفق بها ملحق من ست صفحات، كلها أسئلة من يوم دخولك للحضانة إلى الساعة التي تقدم فيها طلبك، حتى تشعر أنه قبض عليك في جبال تورا بورا و أنت الآن أمام محققي الآف بي آي بغوانتنامو. و هل أزيدك من الشعر بيتا؟ أليس مسجلا على رخصة السياقة فئة دمك بناء على شهادة مخبر طبي يتضمنها ملفك القاعدي ؟ قال: بلا.قلت: إذا سيطلبون منك شهادة أخرى من مخبر طبي تثبت بأن فئة دمك لم تتغير. يا رجل هذا جنون. قلت له بل عين المنطق فالسلطة بمثل هذه التعليمات لا تملك أصلا دما فمن أين لها أن تعرف بأن فئة الدم لن تتغير، أما إن أردت استخراج جواز سفر جديد ففضلا عما سبق ذكره و غيره من الوثائق، يطلب منك وثيقة ‘ الجنسية’، الملف القاعدي الأول ذهب إلى مكب النفايات، و جوازك الذي انتهت صلاحيته و يحمل جنسيتك لا قيمة له، و لتستخرج هذه الوثيقة من المحكمة لا تكفي شهادة ميلادك، بل عليك بشهادة ميلاد والدك تؤكد بأنه ولد في الجزائر، يضاف إليه صدق أو لا تصدق شهادة ميلاد جدك كذلك؛ في الدول المتخلفة مثل الولايات المتحدة إذا ولد المولود في الطائرة داخل الأجواء الأمريكية بمتر واحد أصبح من حقه الحصول على جنسية تلكم الدولة المتخلفة.. هل فهمت الآن لماذا أصبح تسعة أعشار الشعب الجزائري من ‘ البدون’ لا يحملون وثائق شخصية، و هل فهمت لماذا تشكو السلطة من شعبها الذي يدير حسب تقديرها 100 مليار دولار في السوق الموازية و يرفض التعامل مع بنوكها ؟.
لكن و في الختام، يتساءل القارئ و ما وراء هذه البرقراطية السريالية ما فائدة السلطة العظمى من هكذا مراسيم معقدة أشبه بالطلاسم؟ الجواب موجود في الجريدة الرسمية لهذه الدولة، و تحديدا في ميزانية حكومتها، التي يفيد أحد بنودها أنها تخصص مبلغا يقارب الأربع مليارات دولار لاستيراد الورق الموجه لإدارتها. و الأهم من هذه المعلومة العظيمة أن الورق يستورد حصرا من فرنسا، و الأعجب أن المطبعة التي تتولى نسخ الأوراق الرسمية فرنسية خالصة تنشط على أرض الجزائر، و مسك الختام أن من يتولى الاستيراد قطاع خاص بيد بضع رجال المافيا السياسية، تملي على الحكومة أوامر بزيادة الوثائق في الملفات حتى يزيد حجم الاستيراد…اللهم إني صائم و تقبل اللهم صيامكم…

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة لفردوسي الجيريا
نعم.. الجزائر دولة عظمى و لكن من ورق
اسماعيل القاسمي الحسني

عن جريدة القدس العربي
الجيريا
إذا أردت أن تعاين مراحل التخلف، من عهده الأول حيث كان يزحف على بطنه، إلى تطوره حيث أصبح يمشي على أربع، ثم بلوغه تمام الكمال ليمشي على اثنين، فما عليك بكل بساطة إلا الوقوف على سياسة السلطة الجزائرية، أما إن كانت لك الجرأة بل الفضول الأحمق، و عزمت على أن تعيش حالة التخلف بذاتها، فعليك أن تحتك بها، لكن قبل خوض هذه المغامرة الغير محمودة العواقب، يجب أن تحذر من الحالة التي ستبدو عليها،و هي أقرب ما تكون وصفا إلى رجل مرمي في زاوية مظلمة بشارع ضيق على رصيف وسخ، جحظت عيناه بعد أن شد طرفيهما إلى أذنيه، و فغر فاه ليسيل منه اللعاب دون انقطاع، و تخرقت ثيابه حتى بدت عوراته من كل زاوية، و لك أن تتخيل بعد هذا الوصف ما شئت؛ أقول هذا الكلام ردا على دبلوماسي جزائري رفيع و ضابط طيار متقاعد و دكتور في الجامعة الجزائرية، كلهم أجمعوا عند قراءتهم لآخر مقال صدر في 28/06 بصحيفة ‘القدس العربي’ تحت عنوان’ الجزائر دولة عظمى عدوها الثاني المغرب الشقيق’. على أنني أجهل حقيقة عظمة سلطة الجزائر، بل و أتعامى عن حجمها الحقيقي على الصعيد الدولي و الإقليمي، فضلا عن غفلتي المقصودة عن الانجازات العملاقة و التي باتت محط اهتمام كبار المبدعين و الباحثين في العالم.
طبعا احتراما مني لعقل القارئ الكريم، و شفقة على قدراته، لا يمكنني ضرب أمثلة من التخلف الذي يمشي على قدمين بدءا برئاسة الجمهورية، التي لا يتورع رأسها على دهس كل الأعراف و ا لبروتوكولات الخاصة بمنصبه، فتجده مثلا يقف خلف سفير دولة اللوزوطو بعد استقباله، و هو يدلي بتصريح للصحافة الوطنية عند باب قصر الرئاسة، ليس تواضعا منه بقدر ما هو حبا للظهور على أي حال و إن كانت مهينة؛ و لا كيف طلب استقبال الفنانة ماجدة الرومي ليهدي لها باقة من زهور البلاستك و النايلون؛ مرورا بوزيره الأول الذي يبشرنا بعد تسلطه خمسة عشر عاما خسرت فيها الجزائر أكثر من تريليون و مأتي مليار دولار، بأنه سينجز خلال عامين مليوني سكن و يفتح خمسة ملايين منصب عمل، و هو الأمر الذي لم تدعه الولايات المتحدة و لا الاتحاد الأوربي، ذلك أنه يعد من علوم الميتافيزيقا و اللاهوت المغربل من الدرجة الأولى؛ و انتهاء عند وزرائه الذين قال أحدهم (وزير الصحة السابق) في رده على السفير الألماني :نحن لا نعتبر الأطباء الأخصايين أدمغة فليهاجروا حيث شاءوا. بالمناسبة هاجر بين عامي2017 و2017 أربعون ألف طبيب أخصائي منهم عشرة آلاف إلى فرنسا و البقية موزعة على التوالي كندا بريطانيا ألمانيا و قليل منهم إلى المشرق العربي. أو وزير الفلاحة الذي صرح مؤخرا بأنه يجب القضاء على أجود السهول الزراعية في الجزائر من سهل متيجة الى سهول مستغانم و غيليزان و سهل حمزة بمحافظة البويرة و سهول بجاية، و كلها كانت منذ الأزل الخزان الرئيسي للغذاء يغطي حاجة الجزائر و دول الاتحاد الأوربي، و السبب في نظر هذا العبقري الحاجة الماسة للبناء، لم تكفه ما يقارب الثلاثة ملايين كلم مربع، و تتجاوز عبقريته ذلكم الخط الفاصل بينها و بين الجنون ليقول: و نعوض هذه المجزرة بالاستصلاح في الهضاب العليا. و لا يفوتني هنا أن أذكر الأجهزة الأمنية من العسكرية إلى الاستخباراتية فقد ظهرت جميعها وهما كبيرا لا أثر له في مجال تخصصاتها، اللهم إلا في التعاون الفاحش مع المافيا المالية و السياسية لتدمير هذا البلد.
إنما احترم عقل القارئ و أضرب له مثلا بتجربة صديق جزائري مقيم في لندن منذ عقدين تقريبا، و هو رئيس تحرير قسم بجريدة دولية ذائعة الصيت، جاء في عطلة الصيف الماضي، اتصل بي هاتفيا مرتين لكن الثالثة لعنت عقبها مخترع جهاز الهاتف؛ يقول صديقي بتصرف لا يخل بأصل الموضوع: قبيل عودتي إلى لندن تذكرت أن لي مبلغا زهيدا في أحد البنوك الجزائرية، فعزمت على سحبه غدا، و اتجهت فعلا صباحا إلى البنك لأتذكر عند أول مشهد شيئا اسمه الطابور. وقف صديقي العزيز إلى أن حان دوره و وجد نفسه وجها لوجه مع ملك الشباك، سلمه الشيك، راجع الرجل بياناته، و هو من حين إلى آخر يسترق النظر إلى الطابور تلبية لشهوته بأنه ملك يقف على بابه هؤلاء المتسولين؛ البيانات صحيحة و المبلغ موجود أعطني بطاقة تعريفك، يدخل صديقي يده في جيبه و يستل بطاقة التعريف و بمجرد أن رآها الرجل أعادها مع الشيك قائلا: بطاقة تعريف وطنية يا أخينا، هنا لا نعترف ببطاقات تعريف أجنبية. لكنها بطاقة تعريفي الشخصية معترف بها دوليا بما فيها الجزائر، عليك فقط أن تتحقق من المعلومات المسجلة عليها يرد صديقي. أرجوك لا تعلمني شغلي هذه تعليمات، اترك المكان لغيرك. طيب و هل تعترفون بجواز سفر جزائري ؟ طبعا هاته إن كان معك. ادخل صديقي يده في جيبه ثم أخرج جواز سفر جزائري أخضر اللون، سلمه للرجل، بدأ في مراجعة بياناته و ما بلغ الصفحة الثالثة، حتى لاحظ صديقي تطورا مذهلا على خلقة الرجل، يسمونه أهل العلوم الميتامورفوز، تمدد الفكان و الأنف إلى الأمام شبرين، و اتسعت فتحتا المنخرين، و ارتفعت الأذنان بذات القدر لتتخذا شكلا مخروطيا حادا أعلاه، و قام من كرسيه واقفا على أربع ليرفع صوته في وجه صاحبي بقوة: أتضيع وقتي ألم أقل لك وثيقة صادرة عن الإدارة الجزائرية و هذا الجواز الذي أعطيتنيه صادر في لندن عن السفارة. و رمى بالشيك و جواز السفر على وجه صاحبي لينقلب إلى أهله في حالة من الذهول نادرا ما تعرض لها؛ يشير أحدهم على صديقي ألا يستسلم و يسترد ماله، عليه أن يبحث في الأرشيف على رخصته للسياقة الصادرة عن البلدية (الجزائرية) فهي كذلك وثيقة معتمده؛ الصباح الباكر كان صاحبي في أول الطابور ليصطبح به ملك الشباك، و دون كلام قدم شيكه و رخصة السياقة، قلبها بين يديه فعاودته حالة الميتامورفوز، إنها ميتة تنح عن الشباك. فاعل خير هناك أشفق لحال صاحبي و أعلمه بأن مدة صلاحية هذه الرخصة لا تتجاوز العشر سنوات و لكن الأمر بسيط فما عليه إلا العودة للبلدية ليقوم المكتب المختص بتمديد صلاحيتها، مجرد ختم فقط لا تأخذ العملية أكثر من دقيقتين؛ تحمل صديقي كل هذا الهراء بدم انجليزي معتق، و ذهب إلى البلدية فعلا ليجد المكتب المعني يتقدم لصاحبه بطلب التمديد، فيرد عليه بابتسامة طويلة طول الأفلام الهندية: و هل تعتقد أن الأمر بهذه البساطة يجب عليك تكوين ملف جديد معه طلب خطي بموضوع الطلب إضافة عن هذه النسخة الأصلية، و تقدمه لذلك الشباك للمصادقة عليه، و انتظر الرد بعد شهر. هناك عاد صديقي إلى حالته الطبيعية جزائريا حرا و رمى بالمنشفة و غادر المكان فورا إلى بيت أهله، و ما شرب كوب ماء و استعاد أنفاسه لم يتذكر من سوء حظي سواي، ليهبط علي بمكالمة زادت عن نصف ساعة يصف فيها معاناته هذه غافلا على أننا نعيشها يوميا، قلت له : و هل عرفت الوثائق المطلوبة في الملف ؟ قال: لا.
قلت له: إذا سأرد لك الصاع صاعين، أولها شهادة ميلادك، فقد يكون مذاك تغير تاريخ مولدك أو أحد والديك أو كليهما. مع أن ملفك القاعدي في البلدية يحتوي عليها و لكن نحن دولة عظمى تتحرى في أدق التفاصيل، و تذكر أن لك ثلاثة أنواع من شهادة الميلاد، الأولى تسمى 12 و الثانية 14 و الثالثة s، و لكل نوع من الملفات شهادته، و إياك أن تطلب الثالثة فانه مرفق بها ملحق من ست صفحات، كلها أسئلة من يوم دخولك للحضانة إلى الساعة التي تقدم فيها طلبك، حتى تشعر أنه قبض عليك في جبال تورا بورا و أنت الآن أمام محققي الآف بي آي بغوانتنامو. و هل أزيدك من الشعر بيتا؟ أليس مسجلا على رخصة السياقة فئة دمك بناء على شهادة مخبر طبي يتضمنها ملفك القاعدي ؟ قال: بلا.قلت: إذا سيطلبون منك شهادة أخرى من مخبر طبي تثبت بأن فئة دمك لم تتغير. يا رجل هذا جنون. قلت له بل عين المنطق فالسلطة بمثل هذه التعليمات لا تملك أصلا دما فمن أين لها أن تعرف بأن فئة الدم لن تتغير، أما إن أردت استخراج جواز سفر جديد ففضلا عما سبق ذكره و غيره من الوثائق، يطلب منك وثيقة ‘ الجنسية’، الملف القاعدي الأول ذهب إلى مكب النفايات، و جوازك الذي انتهت صلاحيته و يحمل جنسيتك لا قيمة له، و لتستخرج هذه الوثيقة من المحكمة لا تكفي شهادة ميلادك، بل عليك بشهادة ميلاد والدك تؤكد بأنه ولد في الجزائر، يضاف إليه صدق أو لا تصدق شهادة ميلاد جدك كذلك؛ في الدول المتخلفة مثل الولايات المتحدة إذا ولد المولود في الطائرة داخل الأجواء الأمريكية بمتر واحد أصبح من حقه الحصول على جنسية تلكم الدولة المتخلفة.. هل فهمت الآن لماذا أصبح تسعة أعشار الشعب الجزائري من ‘ البدون’ لا يحملون وثائق شخصية، و هل فهمت لماذا تشكو السلطة من شعبها الذي يدير حسب تقديرها 100 مليار دولار في السوق الموازية و يرفض التعامل مع بنوكها ؟.
لكن و في الختام، يتساءل القارئ و ما وراء هذه البرقراطية السريالية ما فائدة السلطة العظمى من هكذا مراسيم معقدة أشبه بالطلاسم؟ الجواب موجود في الجريدة الرسمية لهذه الدولة، و تحديدا في ميزانية حكومتها، التي يفيد أحد بنودها أنها تخصص مبلغا يقارب الأربع مليارات دولار لاستيراد الورق الموجه لإدارتها. و الأهم من هذه المعلومة العظيمة أن الورق يستورد حصرا من فرنسا، و الأعجب أن المطبعة التي تتولى نسخ الأوراق الرسمية فرنسية خالصة تنشط على أرض الجزائر، و مسك الختام أن من يتولى الاستيراد قطاع خاص بيد بضع رجال المافيا السياسية، تملي على الحكومة أوامر بزيادة الوثائق في الملفات حتى يزيد حجم الاستيراد…اللهم إني صائم و تقبل اللهم صيامكم…

موضوع يشيب له الرضيع في رحم أمه وينطق الأخرس شعرا… فمتى تزول "بيروقراطية العهر"…,,,؟؟بارك الله فيك

سأبقى جزائريا يفتخر بجزائريته ولا يفتخر بحكومته…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.